17 ذو الحجة 6 هـ
1 أيار 628 م
يوميّات غزوة خيبر ووادي القُرى ومُصالحة أهل فَدَك وتَيْماء: اليوم الثاني عشر

غزوة خَيْبَر (الإقامة بالرَّجيع اليوم الخامس) (حصن الصعب بن معاذاليوم الثالث)
وفي ليلته أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ومعه المسلمون عائدين للمُعسكر خارج خيبر، فساروا حوالي 1.5 كم …

في ثلث ساعة تقريبًا حتى وصلوا #~~~الرّجيع~~~#، فصلوا المغرب والعشاء وأقاموا الليل وهي الليلة الخامسة، وذبحوا الغنمتين اللتان أتى بها أبو اليُسر رضي الله عنه، وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ومن معه.
وفي الصباح، صلّوا الصبح خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستخلف على من في المُعسكر عُثمان بن عفّان، ثم خرج بهم للقتال سائرين إلى خيبر، يحملون الرايات والسلاح ويلبسون الدّروع، سائرين حوالي 1.5 كم في ثلث ساعة تقريبًا حتى دخلوا خيبر من جهة #~~~النَّطاة~~~#، وأقاموا النّهار يقاتلون اليهود، وغربت الشَّمس وهم هناك.
وفي ليلته كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قد أعطى اللواء لرجُل آخر من المُهاجرين[^1] فقاتلوا معه أهل حصن الصعب بن معاذ بالأمس، وعادوا ولم يُفتَح لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إن مُحمدًا يُقاتلكم على أموالكم، نادوهم قولوا لا إله إلا الله، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم وحسابكم على الله، فنادوا المسلمين بذلك، فقالت اليهود: إنّا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لأعطينّ الراية غدًا رجلًا يحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرّار، أبشِر يا مُحمّد بن مسلَمَة غدًا، إن شاء الله يُقتل قاتِل أخيك وتَوَلَي عادية اليهود -هروب مقاتلتهم من العدّائين-».
وفي الصّباح وقبل الخروج للقتال، أرسلت قبيلة أسلَم -وهم في جيش المسلمين- أسماء بن حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقرئوه السلام ويشكون إليه الجوع والتعب، فجاءه فقال: “يا رسول الله، إنّ أسلم يقرئونك السلام ويقولون: إنّا قد جهدنا من الجوع والضعف، فادع الله لنا”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «والله ما بيدي ما أقريهم»، ثم صاح بالنّاس: «اللهم افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعامًا وأكثره ودكًا -الودك هو الدّسم الحيواني المخلتط باللحم-».
وتطلّع الصحابة الكرام إلى هذا الذي يحبّه الله ورسوله الذي سيعطيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الراية اليوم!، فتمنّاها أكثرهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يأتيه، وكان قد أصابه رمد في عينه لا يستطيع أن يفتحها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: “ما أُبصِر سهلًا ولا جبلًا”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «افتح عينيك»، ففتحهما فتفل فيهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، يقول عليّ عليه السلام: “فما رمدت بعدها أبدًا!”، ثم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الراية وقال: «امض ولا تلتفت، يفتح الله عليك»، فمشى قليلًا ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: “يا رسول الله، على ماذا أقاتل النّاس؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
ووصل علي رضي الله عنه إلى الحصن، فغرز الرّاية في أسفله، فرآه يهودي من فوق الحصن فقال: “من أنت؟” -متعجبًا من جرأته على الاقتراب وحده  هكذا من الحصن سابقًا الجيش-، قال علي رضي الله عنه: “عليّ بن أبي طالب”، قال اليهودي: “علوتم وحقّ ما أنزل على موسى!”، ثم خرج بعض مقاتلي اليهود الأشدّاء من أبطالهم من الحصن للمبارزة، فكان أوّل من خرج منهم الحارث أخو مرحب ومعه العدّائون، فتراجع المسلمون، وثبت علي رضي الله عنه وبعض من معه، فقاتل أبو دجانة الحارث أخو مرحب حتّى قتله، وتراجع مقاتلي اليهود إلى الحصن، فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى مواضعهم، ثم خرج مرحب اليهودي وهو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب
أضرب أحيانًا وحينًا أُضْرَب

فخرج له عامر بن سنان رضي الله عنه، ودار القتال بينهما حتى ارتطم سيف مرحب اليهودي بترس عامر -الدّرع المدوّر الذي يحمل في اليدّ-، فجاء عامر يضربه من الأسفل فأصاب نفسه بالسّيف فقطع أكحل -عِرق في وَسَط الذِّراع- نَفْسهُ، وحُمل إلى المُعسكر، ثم تقدّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال:

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السَّندَرَه

وقاتل مرحب حتى ضربه ضربة فلقت رأسه فقتله.
وخرج ياسر وكان من أشدّ مقاتليهم وفي يده حَرْبة طويلة يضرب بها في المسلمين، فتحرّك علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحوه، فقال الزبير بن العوّام رضي الله عنه: “أقسمت عليك الا خليت بيني وبينه”، فأقبل عليه الزبير، وكانت أمّه صفيّة بنت عبد المطلب رضي الله عنها -عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم- معهم في أرض المعركة فقالت: “يا رسول الله، واحزني، ابني يُقتَل!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بل ابنك يقتله»، واقتتلا قتالًا شديدًا فقتله الزّبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فداك عمّ وخال».
ولمّا قُتِل مرحب وياسر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أبشروا، ترحّبت خيبر وتيسّرت»، وخرج من آخر أبطالهم عامر -وكان ضخمًا طويلًا-، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أترونه خمسة أذرع؟» -حوالي مترين ورُبع، فالذراع حوالي 46 سم تقريبًا-، وهو مغطّى بالحديد ويصيح: “من يبارز”، فتقدّم إليه علي رضي الله عنه فضربه ضربات لم تصنع شيئًا ثم ضرب ساقيه فسقط على الأرض، ثم أجهز عليه.
واشتدّ القتال حتى قُتِل أكثر أبطال اليهود في حصن الصّعب بن معاذ، وخرج أحدهم يدعوا للمبارزة، فتقدّم له عُمارة بن عُقبة الغفاري فضربه ضربة فقتله وهو يقول له: “هذا وأنا الغُلام الغفاري”، فقال بعض النّاس يظنون هذا تكبّرًا في غير محلّه: “بطل جهاده!”، فلمّا عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما بأس به، يؤجر ويُحمَد»، وفتح الله عليهم الحِصن، فوجدوا به الطعام الكثير جدًا، واستجاب الله لدعوة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «كلوا واعلفوا -الدّواب والخيل-، ولا تحتملوا -لا تأخذوا معكم-»، فكانوا يأكلون ويعلفون منه مُدّة إقامتهم.
ووجدوا آنية نُحاسيّة وفخاريّة في الحصن كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عنها فقال: «اغسلوها، وأسخنوا فيها الماء، ثم اطبخوا بعدُ وكُلُوا واشربوا»، ووجدوا به الكثير من الغنم والبقر والحُمُر، وآلات الحرب، ومنجنيقًا ودبّابات، وكانوا قد تجهّزوا لحصار يطول زمنًا، فهزمهم الله.
ووجدوا في الحصن براميل كبيرة للخمر المعتّقة وهي ضخمة لا يمكن حملها، فكسروها وسالت الخمر على أرض الحصن، وشرب منها رجل من المسلمين كان مدمنًا للخمر ولم يستطع التغلّب على منظرها أمامه، فعلم به النّاس فأخذوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر النّاس أن يضربوه على رأسه بنعالهم، وكان قد ضُرِب مرّات قبل ذلك، فقال عُمر وقد غاظه الرّجل: “اللهم العنه، ما أكثر ما يُضرّب!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يا عُمر، إنّه يحب الله ورسوله»، ثم مشى الرّجل فجلس في مجلس النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كأنّ شيئًا لم يكن.

وفيه مات محمود بن مسلمة رضي الله عنه متأثرًا بجراحاته، وقد جاءه الخبر بمقتل مرحب اليهودي. ففاضت روحه، ولم يتعافى عامر بن سنان بن الأكوع -عمّ سلمة بن الأكوع- هو الآخر من أثر الضربة الخاطئة التي ضرب بها نفسه أثناء قتال مرحب اليهودي، فماتا رضي الله عنهما هذا اليوم، ودُفِنا في غار سويًا[^2]، فقال أُسيد بن حُضير عن عامر بن سنان -وقد ظنّ أنّه بقتل نفسه يدخل النّار-: “حبط عمله”، إلّا أنّ عامرًا لم يقصد قتل نفسه وإنّما كان ذلك خطأً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كذب من قال ذلك، إن له لأجرين، إنّه جاهد مجاهد، وإنّه ليعوم في الجنّة عوم الدعموص»، فقال محمد بن مسلمة: “يا رسول الله اقطع لي عند قبر أخي”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لك حضر الفرس فإن عملت فلك حضر فرسين».
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المسلمين بالتحرُّك إلى حصن قلعة الزّبير لمحاصرته، بعد أن فتحوا حصني ناعم والصعب بن معاذ، وجعل الحراسات عند الحصون المفتوحة حتى إذا خرج منها من كان مختبئًا قتلوه، وأقاموا يحاصرون الحصن ويقاتلون من فيه.

بعث مُحيصة بن مسعود إلى يهود فَدَك
وفيه استمرّت إقامة مُحيصة بن مسعود عند #~~~فدك~~~# يدعوا اليهود فيها للإسلام، وينتظر أن يجيبوه، وهم ينتظرون أخبار خيبر ولا يكلّموه، وغربت الشمس وهو هناك.

[^1]: قيل هو عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
[^2]: وهو من أدلّة جواز دفن الموتى في ما هو في حُكم الغُرَف إذا كانت الأرض لا تسمح باللّحد لأي سبب كان، كما يتمّ في مصر مثلًا بسبب المياه الجوفيّة ويُسمَّى في كُتُب الفقه دفن الفَسَاقي، وتفاصيل ذلك هناك.