24 ذو القعدة 6 هـ
5 نيسان 628 م
يوميات عُمرة الحُدَيبْيَة: اليوم الثالث والعشرون

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في #~~~الحُدَيبيَة~~~# وقد نزلها قادمًا للعُمرَة، …
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قد قبض على سُفهاء قُريش ممن تحرَّشوا بمعسكر المُسلمين، وكان المُشركون قد حبسوا عثمان بن عفان ومن معه بمكة، ونزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فأمره بالبيعة، فكانت بيعة الرضوان عند شجرة سَمُر خضراء، في رِحال بين مازن بن النَّجار، ثم جاء سُهيل ابن عمرو وتفاوض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على إطلاق أسرى قُريش، فاشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق عثمان ومن معه أوّلًا، ولمّا رجع سُهيل ومن معه إلى قُريش اتّفقوا على الصُّلح وأرسلوا عثمان ومن معه، فقدم عُثمان ومن معه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الليلة.

وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثمان عند الشجرة فبايعه، وكان قد بايع عنه أمس لمّا حُبِس في مَكَّة، وقال بعض المسلمون لعُثمان: “اشتفيت من البيت يا عبدالله!” -ظنًّا منهم أنَّه طاف بالبيت وهم محصورون بالحُدَيبيَة-، قال عُثمان: “بئس ما ظننتم بي!، لو كنت بها سنة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مقيمًا بالحُديبية ما طُفت!، ولقد دعتني قُريش أن أطوف بالبيت فأبيت عليها”، قالوا: “لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظنًّا”.

وفي صبيحته أرسلت قُريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سُهَيْل بن عمرو، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُقبلًا، قال: «سَهُلَ أمركم، قد أراد القوم الصُلح حين بعثوا هذا الرجل»، فلمّا وصل سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلم فأطال الكلام، وجرى بينهما الصُّلح، ثم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب بنود الصُّلح، فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: “لا أعرف الرحمن، ولكن اكتب باسمك اللهم”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «امحها يا علي، واكتب باسمك اللهم»، فكتبها علي،  ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: “لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «امحها يا علي، واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو…»، قال علي: “والله لا أمحك أبدًا”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أرنيها»، فأشار علي رضي الله عنها إلى مكانها في الكتاب، فمسحها صلى الله عليه وآله وسلم بريقه الشريف، وكتب باقي البنود، وهذا نص الوثيقة:
“هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قُرَيْش بغير إذن وليّه رَدَّه عليهم، ومن جاء قُريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه”، فأسرعت قبيلة خُزاعة في الدخول في جانب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من المُعاهدة، وأسرعت قبيلة بنو بكر للدخول في جانب قريش من المُعاهدة.

وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم يرجع ومعه المسلمون هذا العام ولا يدخلون مكة، فإذا كان العام القادم، خرجت قريش منها ثلاثة أيّام ودخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب لا ديخلها بغيرها فيقيم بها ثلاثة أيّام فيعتمر ومن معه ثم يخرجون.

وأشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الوثيقة رجالًا من المسلمين هم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف وعبدالله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، وعلي بن أبي طالب وكان هو كاتب الصحيفة، ومن المشركين مِكرِز بن حَفْص.

وبينما هم يكتبون الوثيقة إذ جاء أبو جندل بن سُهيل بن عمرو وقد هَرَب من مَكَّة والقُيود في يَده وكان قد أسلم وحُبِسَ في مكَّة، فأفلت منهم وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه وقال: “يا مُحمَّد قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا -يعني انتهى اتفاقنا قبل أن يأتي وستردّه معي-“، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: « صدقت!»، وسُهيل يجذب أبو جندل جذبًا شديدًا ويجرّه معه يرجع به إلى قُرَيش، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته: “يا معشر المسلمين، أُرَدُّ للمشركين يفتنونني في ديني!!!”، فزاد ذلك ما بالمسلمين من غمّ وضيق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا». إنَّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، والغدر لا يصلح لنا في ديننا”، فقفز عُمر بن الخطَّاب يمشي إلى جوار أبي جندل ويقول: “اصبر أبا جندل، فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب”، وعُمَر يُقَرِّب يد سيفه من أبي جندل لعلَّه يأخذ سيف عمر من غِمدِه فيضرب به أباه، لكنّ أبو جندل لم يفعل، قال عمر: “فضنّ الرجل بأبيه، وتفذت القضيّة!”.