22 ذو القعدة 6 هـ
4 نيسان 628 م
يوميات عُمرة الحُدَيبْيَة: اليوم الثاني والعشرون

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في …

#~~~الحُدَيبيَة~~~# وقد نزلها قادمًا للعُمرَة، وكانت الرُّسل بينه وبين قُريش ليُعلمهم بما جاء له، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل من يومين عثمان بن عفان إلى قريش يخبرهم بما جاء له، فاستبطأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان، وكان بعض سُفهاء قُريش قد أرسلوا مجموعة ليلة أوّل أمس عليها مكرز بن حفص، فقبض عليهم محمد بن مسلمة وأتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقيدين، فعفا عنهم وأمر بحبسهم حتى يرى ما تفعل قُريش، وخرج من سُفهاء قُريش لمّا علموا بقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكرز ومجموعته فقذفوا المسلمين بالحجارة والنِّبال، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبض عليهم أيضًا وحبسهم حتى يرى ما يصل إليه الأمر مع قُريش، وهو ما يدل على حِلْم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبره عليهم وعلى جرائمهم حتى يتمكن من موادعتهم مدّة يأمن فيها الناس وتتمكن دعوة الإسلام من الانتشار.

وفي ليلته أمطرت السماء مطرًا شديدًا غزيرًا، فلمّا أصبح المسلمون قال أحد النّاس في الرَّكب : “مُطِرنا بنوء السمَّاك الأعزل”، فبلغت مقالته النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فجمع الناس بعد صلاة الصُّبح وخطب فيهم فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم!، قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».

 ولمّا أكثرت قُريش من سفاهتها، فبلغ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ عُثمان ومن معه قد قُتِل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نبرح حتى نناجز -نقاتل- القوم» ، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم النَّاس إلى البيعة، وقال: «إنِّي أمرت بالبيعة»، وجلس في رِحال بني مازن بن النَّجار تحت شجرة سَمُر -وهي الشجرة التي قصدها المولى عز وجل في سورة الفتح-، وتقلّد المُسلمون السلاح وهو معهم قليل، فإنهم خرجوا للعمرة لا للحرب، وبايعهم صلى الله عليه وآله وسلم على ألّا يفروا، على النصر أو الشهادة، وقيل بايعهم على الموت وكان أوّل من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي، وقال لهم صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنتم خير أهل الأرض »، حتى إنّ أم عِمارة -وهي من نساء الأنصار- وكانت من أربع نسوة خرجن في ركب المسلمين منهم السيّدة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تقول واصفة هذا المشهد: “فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تدارك الناس، فما بقي لنا متاع إلا وُطيء!، وكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبّسوا السلاح وهو معنا قليل، إنما خرجنا عمارًا، فأنا أنظر إلى غزيّة ابن عمرو -زوجها- وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمود كنّا نستظل به، فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحد رجوت أن أقتله!، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يبايع الناس وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه آخذ بيده، فبايعهم على ألّا يَفِرُّوا”.

وبايع النّاس كلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أحد المنافقين كان قد خرج معهم فلم يُبايع، واسمه جَدّ بن قَيْس، وقد وقف متخفيًا من الناس ملتصقًا بناقته.

وبايع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عُثمان رضي الله عنه، فضرب بيد نفسه اليمنى الشريفة على اليسرى وقال: «إنّ عثمان قد خرج في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له، فهذه عن عُثمان».

واستمرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يبايع الناس طيلة اليوم من صبيحته، فقد بايعه ألف وأربعمائة وبضعة عشر إنسان، ومنهم من بايع مرّتان، فقد استمرّت البيعة خمس ساعات على أقل تقدير.

وأرسلت قُريش سُهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العُزّى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يُبايع النّاس وقد أرسل المُنادي يُنادي في المسلمين: “إنَّ روح القُدُس قد نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا”، وكان ممن يُنادي في الناس بالبيعة عبد الله بن عُمر بن الخطَّاب وكان ممن بايع مرتين، فلمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُهيلًا مقبلًا قال: «سَهُلَ أمرُكُم!»، قال سُهيل: من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منّا، بل كنّا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا!، فابعث إلينا بأصحابنا اللذين أسرت أول مرة اللذين أسرت آخر مرة!، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي»، قال سُهيل: “أنصفتنا”!، فبعث سُهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العُزَّى ومكرز بن حفص إلى قُريش الشُّتيم بن عبد مناف التيمي يبلغهم رسالة سُهيل: “إنكم حبستم رجالًا من أصحاب محمد بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين!، وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمدًا يطلق لكم أصحابكم”.

وتنحى سُهيل ابن عمرو ومن معه، وجعلوا ينظرون وعيون قُريش حولهم في الحُديبية ومن حضر من قُريش ممن قُبض عليه منهم إلى إسراع المُسلمين إلى بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشميرهم للقتال إذ أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

وأرسلت قُريش إلى عبد الله بن أبي بن سلول وكان مع المُسلمين في الحُدَيبية وابنه جالس عنده، فقالوا لابن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل، فقال ابنه عبد الله: يا أبتِ، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛ تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟، فرفض عبد الله بن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كلامه ذلك فسُرَّ به.

ورجع سُهيل بن عمرو ومن معه إلى قُريش، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيعة، وما بايعوا عليه، فاشتدّ رُعبهم وخوفهم، فأرسلوا عُثمان ومن معه وفاءًا بالاتفاق مع سُهيل بن عمرو ومن معه، فقال أهل الرأي من قُريش: “ليس خير من أن نصالح محمدًا، على أن ينصرف عنَّا عامه هذا ويرجع قابل، فيقيم ثلاثًا وينحر هديه وينصرف، ويُقيم ببلدنا ولا يدخل علينا”، فأجمعوا على ذلك، وأرسلوا سُهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العُزَّى، وقالوا: ائت محمدًا فصالحه، وليكن في صُلحِك أن لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوة”.

وكان المسلمون في غيظ من مُضايقات قُريش وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، فقال من قال “هذا نوء الصيف، مُطرنا بنوء السماك الأعزل”، وهو تعبير عن التشاؤم والغيظ الذي حلّ بهم، فنوء السمّاك الأعزل كان معروفًا عند العَرَب أنَّه نوء نحس، إذ يهبط فيه المطر على نبات الأرض المتهيج الذي جففه دفء الربيع، فينبت مرّة أخرى فتأكله الإبل فتمرض ويسمون هذا النَّبات “نشرًا”، فعلَّمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم التفاؤل والخير، وأن المطر من فضل الله ورحمته، وأنّ النّجوم والكواكب لا دخل لها بأقدار الخلق والكون، وإنّما هي مواقيت يظهر الله فيها ما شاء من قُدرته ورحمته بخلقه، وأنّ الإسلام دين التفاؤل بالخير، وأنّ عقلية الخُرافة عقليّة جاهليّة، لا ترى الله في أحداث الكون، وإنما ترى أسباب الكون فاعلة بذاتها، للمزيد انظر ملحق (أ).

وتقدير ذلك أن بيعة كل إنسان استغرقت حوالي عشرة ثوانٍ، مقدار ما وضع يده في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وانصرَف، ولعلّ منهم من أطال، فهذه 10 × 1400 = 14000 ثانية، نقسمها على 3600 ثانية في الساعة الواحدة فهذه تقريبًا ثلاث ساعات وخمسة وخمسون دقيقة بإهمال الكسور، وباعتبار أن هناك من بايع مرتين، فأقلها 5 ساعات تقديرًا والله أعلم.