9 ذو الحجة 10 هـ
6 آذار 632 م
يوميات حجّة الوداع: اليوم الرابع عشر

وهو يوم عرفة من حجة الوداع، وفي ليلته أمسى النبي صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ(((مِنَى))) …

فصلى بها المغرب والعشاء وبات بها، فلّما أصبح صلّى بها الصبح وانتظر حتى طلوع الشمس، ثم سار 10 كم قطعها في حوالي ساعتين ونصف حتى وصل عرفة وقت الضُحَى، فوجد القُبّة -الخيمة- قد نُصِبَت له بنَمِرَة، فنزل بها ومكث حتى دخل وقت الظهر بزوال الشمس فركب ناقته القصواء وسار بها 500 متر إلى بطن وادي عُرَنَة وقد اجتمع حوله مائة وأربعة وعشرون ألفا، وقيل مائة وأربعون ألفاً من المسلمين فخطبهم خطبة الوداع المشهورة وهو على ناقته القصواء، التي أقر فيها المبادئ العامة للإسلام، وأقر فيها ترتيب الشهور القمرية وأسماءها وأن الزمان قد استدار إلى هيئته الأولى التي خلقه الله عليها وحرّم النسيء، ونصّ على اكتمال شرائع الإسلام، ونصها :

 

«أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

 

 أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وإن كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه.

 

 أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.

 

 أيها الناس، إنّ النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلوا ما حرّم الله ويحرموا ما أحل الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان.

 

 اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله. إنّ لكم عليهنّ حقا ولهنّ عليكم حقا: لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرّح، ولهن عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.

 

 فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله.

 

يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.

 

 أرقاءكم أرقاءكم… أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، وإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه، فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم.

 

 أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أن كلّ مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟

 

 وستَلْقَونَ ربكم فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلّغ الشاهد الغائب، فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟

 

قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد».

 

ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة: 3] وقرأها صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، فبكى عُمر، فقال له النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما يُبكيك؟» قال يا رسول الله كنا في سعة من نزول الوحي فما كَمُل شيء إلا نقص، قال: «صدقت!»

 

وكان الذي يبلغ الناس بصوت عالٍ بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قل كذا فيقول.

 

وكان النّبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمل عتّاب بن أسيد واليًا على مكّة عام الفتح، فأرسل عتّاب إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن خارجة في حاجة -لم تذكر المصادر ما هي-، فبلغ عمرو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة فوقف تحت ناقته ولعابها يسيل على رأسه فسمعه عليه وآله الصلاة والسلام يقول : «أيها الناس إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

 

وبعثت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية زوجة عمه العباس -وهي أم عبدالله بن عباس- بإناء فيه لبن فشربه صلى الله عليه وآله وسلم وهو على بعيره فعلم الناس أنه لم يكن صائمًا هذا اليوم.

 

ولما انتهى صلى الله عليه وآله وسلم من خطبته الجامعة أمر بلالًا فأذن ثم أقام فصلى بالناس الظهر ثم أقام فصلى بهم العصر ولم يصل بينهما شيئا لكن صلاهما بالناس مجموعين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين قصراً ثم سار حوالي 500 متر إلى أن وقف بـ(((عَرَفَة))) -جبل المشاة- مستقبلا القبلة، وظلّ عليه واقفًا للدعاء حتى مغيب الشمس، وقال لما وقف على جبل عرفة «هذا الموقف وكل عرفة موقف» وقال «إن (((وادي عُرَنَة))) ليس من (((عرفة)))».

 

وهنالك سقط رجل من المسلمين عن ركوبته وهو مُحرِم في جملة الحجيج فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُكَفَّن في ثوبيه ولا يُمَس بطِيب ولا يُحَنَّط ولا يُغَطَّى رأسه ولا وجهه وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا.

 

وسأله قوم من أهل نجد هنالك عن الحج فأعلمهم صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الوقوف بعرفة ووقت الوقوف بها.

 

وفيه أيضًا أتم النّبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنين وستين عامًا هجريًا -62- وتسعة أشهر بالتمام والكمال، حيث كان مولده صلى الله عليه وآله وسلم يوم التاسع من ربيع الأنور عام 53 قبل الهجرة الشريفة.