20 رمضان 8 هـ
14 كانون الثاني 630 م
غزوة الفتح الأعظم

إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، …

ولا تنقاد البلاد حتى تنقاد مكّة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشا في الحديبية، وهو سيد من وفّى. ولكن إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، فقد علمت أن قبيلة خزاعة دخلت في عهد رسول الله، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور الإسلام، فلمّا حصلت الهدنة، وقف رجل من بني بكر يتغنّى بهجاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على مسمع من رجل خزاعي، فقام هذا وضربه فحرّك ذلك كامن الأحقاد، وتذكّر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم، واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرا بالعدّة والرجال، ثم توجّهوا إلى خزاعة وهم امنون، فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفدا برياسة عمرو بن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلمّا حلّوا بين يديه، وأخبروه قال: «والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه».
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد ويزيد في المدة، فركب راحلته – وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة، نزل على أمّ المؤمنين أم حبيبة بنته، وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه، فقال يا بنيّة:
أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج من عندها، وأتى النبي في المسجد، وعرض عليه ما جاء له فقال له عليه الصلاة والسلام: هل كان من حدث؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: «فنحن على مدتنا وصلحنا»، ولم يزد عن ذلك. فقام أبو سفيان ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده، فلم يجد منهم معينا وكلهم قالوا: جوارنا في جوار رسول الله فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئا، فاتهموه بأنه خانهم واتّبع الإسلام، فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتجهّز للسفر، وأمر أصحابه بذلك، وأخبر الصدّيق بالوجهة فقال له: يا رسول الله أوليس بينك وبين قريش عهد؟ قال: «نعم ولكن غدروا ونقضوا». ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحضر رمضان بالمدينة» ، فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهنية، وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر، فتعلّم قريش فتستعد للحرب، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يقيم حربا بمكّة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحرمتها، فدعا مولاه جلّ ذكره وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها» فقام حاطب بن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدرا، وكتب كتابا لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جعل، فأعلم الله رسوله ذلك، فأرسل في أثرها عليا والزبير والمقداد وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها»، فانطلقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب! فقالوا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتوا به رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: «يا حاطب ما هذا؟»
قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت حليفا لقريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما أنه قد صدقكم»، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدرا وما يدر بك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم» ، وفي ذلك أنزل الله سورة الممتحنة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابن أم مكتوم وكانت عدّة الجيش عدّة الجيش عشرة الاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه: وهما ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شقيق عبيدة بن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة شقيق زوجه أم سلمة وكانا يريدان الإسلام فقبلهما عليه الصلاة والسلام وفرح بهما شديد الفرح وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام الكديد رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضا، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباس ابن عبد المطلب مهاجرا بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكّة ويرسل عياله إلى المدينة.
ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة الاف نار، وكانت قريش قد بلغهم أن محمّدا زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فراهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله، فأسلم أبو سفيان، فلمّا سار قال للعباس: «احبس أبا سفيان عند خطم الخيل، حتى ينظر إلى المسلمين»، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، وهو يسأل، ويقول مالي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامل رايتها سعد بن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبّذا يوم الذّمار ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبير بن العوّام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد، فقال عليه الصلاة والسلام «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة» ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحجون وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكّة من كديّ ودخل هو من أعلاها من كداء، ونادى مناديه: «من دخل داره وأغلق بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو امن» ، وهذه أعظم منّة له، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، واذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي أسلم وكتب لرسول الله الوحي ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمّدا كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول: كل جيد،! ومنهم عكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبار بن الأسود، والحارث بن هشام، وزهير بن أمية وكعب بن زهير ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان وقليل غيرهم، ونهى عن قتل واحد سوى هؤلاء إلّا من قاتل، فأما جيش خالد بن الوليد فقابله الذعر من قريش يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقتل من جيشه اثنان، ودخلها عنوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يصادف مانعا، وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحن على الرحل، تواضعا لله، وشكرا له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تمسّ الرحل، وأسامة بن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل إلى الحجون موضع رايته، وقد نصبت له هناك قبة فيها أمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلا، ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح حتى بلغ البيت، وطاف سبعا على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذ ذاك ثلاثمائه وستون صنما، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل وما يبدىء الباطل وما يعيد» ، ثم أمر بالالهة فأخرجت من البيت وفيها صورة اسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قطّ» وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة، وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب، باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلّا قليلا. ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء اثارها ومحو عبادتها بالكلية.