ربيع الأول 11 هـ
أيار 632 م
سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّ الرِّكَابُ الشَّرِيفُ النَّبَوِيُّ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، مَرْجِعَهُ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

وَقَدْ وَقَعَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُورٌ عِظَامٌ، مِنْ أَعْظَمِهَا خَطْبًا وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلكنه عَلَيْهِ السَّلَام نَقله الله عزوجل مِنْ هَذِهِ …

الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِلَى النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ رَفِيعَةٍ وَدَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا أَعْلَى مِنْهَا وَلَا أَسْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} [الضحى:4-5].
وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَكْمَلَ أَدَاءَ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِبْلَاغِهَا، وَنَصَحَ أُمَّتَهُ وَدَلَّهُمْ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة:3] يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَى، فَقِيلَ:مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النُّقْصَانُ.
وَكَأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ وَفَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَالَ لَنَا: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَلَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا».

وَقدمنَا مَا رَوَاهُ الْحَافِظَانِ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ} [النصر:1] فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِّلَتْ.
ثُمَّ ذَكَرَ خُطْبَتَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَحْضَرِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِيُرِيَهُمْ فَضْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَدُّمَهُ وَعِلْمَهُ، حِينَ لَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَقْدِيمِهِ وَإِجْلَاسِهِ لَهُ مَعَ مَشَايِخِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُونَ.
ثُمَّ سَأَلَهُمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ حَاضِرٌ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةُ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] فَقَالُوا: أُمِرْنَا إِذَا فُتِحَ لَنَا أَنْ نَذْكُرَ الله ونحمده وَنَسْتَغْفِرهُ.
فَقَالَ: «مَا تَقول يَابْنَ عَبَّاسٍ»؟ فَقَالَ هُوَ أَجَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى إِلَيْهِ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ، وَإِنْ كَانَ لَا ينافى مَا فسر بِهِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا حَجَّ بِنِسَائِهِ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ هَذِهِ الْحَجَّةُ ثُمَّ الْزَمْنَ ظُهُورَ الْحُصُرِ».
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ جَيِّدٍ.
وَالْمَقْصُود أَن النُّفُوس استشعرت بوفاته عَلَيْهِ السَّلَام فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ وَنُورِدُ مَا رُوِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ.
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَلْنُقَدِّمْ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَ الْوَفَاةِ، مِنْ تَعْدَادِ حِجَجِهِ وَغَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِلَى الْمُلُوكِ.
فَلْنَذْكُرْ ذَلِكَ مُلَخَّصًا مُخْتَصَرًا.
ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِالْوَفَاةِ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَحَجَّ بَعْدَ مَا هَاجَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَوَاحِدَةً بِمَكَّةَ.
كَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.
وَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ ثَلَاثَ حجات: حجَّتَيْنِ قبل أَن يُهَاجر، وَوَاحِدَة بَعْدَ مَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ، وَسَاقَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ بَدَنَةً وَجَاءَ عَلِيٌّ بِتَمَامِهَا مِنَ الْيَمَنِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، وَالْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَأَمَّا الْغَزَوَاتُ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.
قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَمَعَ زيد ابْن حَارِثَةَ تِسْعَ غَزَوَاتٍ يُؤَمِّرُهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ زيد، عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَفِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: غَزَا رَسُولُ الله خَمْسَ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عشرَة غَزْوَة وَشهد مَعَهُ مِنْهَا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوَّلُهَا الْعُشَيْرُ أَوِ الْعُسَيْرُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ.
أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَاتَلَ مِنْهَا فِي ثَمَانٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: وَبَعَثَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَرِيَّةً، قَاتل يَوْم بدر وَأحد والاحزاب والمريسيع وَخَيْبَرَ وَمَكَّةَ وَحُنَيْنٍ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، غَزَوْتُ مَعَهُ مِنْهَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَلَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا وَلَا أُحُدًا مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ أَتَخَلَّف عَن غزَاة غَزَاهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: غزا رَسُول الله ثمانى عشرَة غَزْوَة.
قَالَ: وسمعته مرّة يَقُولُ: أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ وَهْمًا أَوْ شَيْئًا سمعته بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ تِسْعَ عَشْرَةَ قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهَا، وَبَعَثَ مِنَ الْبُعُوثِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ.
فَجَمِيعُ غَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ.
وَقَدْ ذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ والزهرى ومُوسَى بن عقبَة وَمُحَمّد إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةٍ هَذَا الشَّأْن، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ فِي أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاث، ثمَّ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ فِي شَوَّالٍ أَيْضًا مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَقِيلَ:خَمْسٍ، ثُمَّ فِي بَنِي الْمُصْطَلِقِ بِالْمُرَيْسِيعِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، ثُمَّ فِي خَيْبَرَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَنَةَ سِتّ.
وَالتَّحْقِيق أَنَّهُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ وَآخِرِ سِنَةِ سِتٍّ، ثُمَّ قَاتَلَ أَهْلَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقَاتَلَ هَوَازِنَ، وَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَوَّال وَبَعض ذى الْحجَّة سَنَةَ ثَمَانٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
وَحَجَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بِالنَّاسِ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ نَائِبُ مَكَّةَ، ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ عَشْرٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَمِيعُ مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً: غَزْوَةَ وَدَّانَ وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةَ بُوَاطٍ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى، ثُمَّ غَزْوَةَ الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْأُولَى يَطْلُبُ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْعُظْمَى الَّتِي قَتَلَ اللَّهُ فِيهَا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي سُلَيْمٍ حَتَّى بَلَغَ الْكُدْرَ، ثُمَّ غَزْوَةَ السَّوِيقِ يَطْلُبُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ غَطَفَانَ وهى غَزْوَة ذى أَمر ثمَّ غَزْوَة بحران مَعْدِنٍ بِالْحِجَازِ، ثُمَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ، ثُمَّ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْآخِرَةِ، ثُمَّ غَزْوَةَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ ذِي قَرَدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ لَا يُرِيدُ قِتَالًا فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ غَزْوَةَ خَيْبَرَ، ثُمَّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْفَتْحِ، ثُمَّ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ الطَّائِفِ، ثُمَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: غَزْوَةِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَقُرَيْظَةَ وَالْمُصْطَلِقِ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَبْسُوطًا فِي أَمَاكِنِهِ بِشَوَاهِدِهِ وَأَدِلَّتِهِ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَت بعوثه عَلَيْهِ السَّلَام وَسَرَايَاهُ ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ مِنْ بَيْنِ بَعْثٍ وَسَرِيَّةٍ.
ثُمَّ شَرَعَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذِكْرِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعْثُ عُبَيْدَةَ بن الْحَارِث إِلَى أَسْفَل ثنية ذى الْمَرْوَة ثُمَّ بَعْثُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى السَّاحِلِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَدِّمُ هَذَا عَلَى بَعْثِ عُبَيْدَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَعْثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ، بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَة، بعث زيد ابْن حَارِثَةَ إِلَى الْقَرَدَةِ، بَعْثُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، بَعْثُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ إِلَى الرَّجِيعِ، بَعْثُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، بَعْثُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، بَعْثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى تُرْبَةَ فِي أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ، بَعْثُ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ.
بَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ إِلَى الْكَدِيدِ فَأَصَابَ بَنِي الْمُلَوَّحِ، وأغار عَلَيْهِم فِي اللَّيْل فَقتل طَائِفَة مِنْهُم فاستاق نعمهم فجَاء نفرهم فِي طَلَبِ النَّعَمِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا حَالَ بَيْنَهُمْ وَادٍ مِنَ السَّيْلِ، وَأَسَرُوا فِي مَسِيرِهِمْ هَذَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ.
وَقَدْ حَرَّرَ ابْن إِسْحَاق هَذَا هَاهُنَا وَقد تقدم بَيَانُهُ.
بَعْثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ فَدَكَ، بَعْثُ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ أُصِيبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، بَعْثُ عُكَّاشَةُ إِلَى الْغَمْرَةِ، بَعْثُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَى قَطَنٍ وَهُوَ مَاءٌ بِنَجْدٍ لِبَنِي أَسَدٍ، بَعْثُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى الْقُرَطَاءِ مِنْ هَوَازِنَ، بَعْثُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكَ، وَبَعْثُهُ أَيْضًا إِلَى نَاحِيَةِ حُنَيْنٍ، بَعْثُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْجَمُومِ مِنْ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ.
بَعْثُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى جُذَامٍ مِنْ أَرْضِ بَنِي خُشَيْنٍ.
قَالَ ابْن هِشَام: وهى من أَرْضِ حِسْمَى.
وَكَانَ سَبَبُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ وَقَدْ أَبْلَغَهُ كِتَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فَأَعْطَاهُ مِنْ عِنْدِهِ تُحَفًا وَهَدَايَا، فَلَمَّا بَلَغَ وَادِيًا فِي أَرْضِ بَنِي جُذَامٍ يُقَالُ لَهُ شَنَارٌ أَغَارَ عَلَيْهِ الْهُنَيْدُ بْنُ عوص وَابْنه عوص بن الهنيد الضليعيان، والضليع بَطْنٌ مِنْ جُذَامٍ، فَأَخَذَا مَا مَعَهُ فَنَفَرَ حَيٌّ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا فَاسْتَنْقَذُوا مَا كَانَ أَخذ لدحية فَردُّوهُ عَلَيْهِ.
فَلَا رَجَعَ دِحْيَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَاسْتَسْقَاهُ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ عَوْصٍ، فَبَعَثَ حِينَئِذٍ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ إِلَيْهِمْ فَسَارُوا إِلَيْهِمْ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَوْلَاجِ فَأَغَارَ بِالْمَاقِصِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ، فَجَمَعُوا مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ وَنَاسٍ وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ وَرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الْأَحْنَفِ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي خَصِيبٍ.
فَلَمَّا احْتَازَ زَيْدٌ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَّهِمُ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْهُمْ بِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ رِفَاعَةُ فَاسْتَجَابَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يكن زيد بن حَارِثَة يعلم ذَلِك فَرَكِبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَعْطَوْهُ الْكِتَابَ فَأَمَرَ بِقِرَاءَتِهِ جَهْرَةً عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: رَسُول الله: «كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى»؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو: أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ حَيًّا وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ.
فَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ زَيْدًا لَا يُطِيعُنِي.
فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ عَلَامَةً، فَسَارَ مَعَهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُمْ فَلَقُوا زَيْدًا وَجَيْشَهُ وَمَعَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالذَّرَارِيَّ بِفَيْفَاءِ الْفَحْلَتَيْنِ، فَسَلَّمَهُمْ عَلِيٌّ جَمِيع مَا كَانَ أخذلهم لَمْ يَفْقِدُوا مِنْهُ شَيْئًا بَعْثُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَيْضًا إِلَى بَنِي فَزَارَةَ بِوَادِي الْقُرَى.
فَقُتِلَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَارْتَثَّ هُوَ مِنْ بَين الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَجَعَ آلى أَلا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَهُمْ أَيْضا، فَلَمَّا اسْتَبَلَّ مِنْ جِرَاحِهِ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيًا فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَأَسَرَ أُمَّ قِرْفَةَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ وَكَانَتْ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، فَأَمَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحَّرِ الْيَعْمَرِيَّ فَقَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ وَاسْتَبْقَى ابْنَتَهَا وَكَانَتْ مِنْ بَيْتِ شَرَفٍ يُضْرَبُ بِأُمِّ قِرْفَةَ الْمَثَلُ فِي عِزِّهَا، وَكَانَتْ بِنْتُهَا مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ لِخَالِهِ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.
بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الَّتِي أَصَابَ فِيهَا الْيُسَيْرَ بْنَ رِزَامٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ غَطَفَانَ لِغَزْوِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ رَسُول الله عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي نَفَرٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَالُوا يُرَغِّبُونَهُ لِيُقْدِمُوهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَ مَعَهُمْ فَلَمَّا كَانُوا بِالْقَرْقَرَةِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ خَيْبَرَ نَدِمَ الْيُسَيْرُ عَلَى مَسِيرِهِ، فَفَطِنَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ – وَهُوَ يُرِيدُ السَّيْفَ – فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَطَنَّ قَدَمَهُ، وَضَرَبَهُ الْيُسَيْرِ بِمِخْرَشٍ مِنْ شَوْحَطٍ فِي رَأْسِهِ فَأَمَّهُ، وَمَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَقَتَلَهُ، إِلَّا رجلا وَاحِدًا أفلت على قَدَمَيْهِ.
فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ أُنَيْسٍ تَفَلَ فِي رَأْسِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقِحْ جُرْحُهُ وَلَمْ يُؤْذِهِ.
قُلْتُ: وَأَظُنُّ الْبَعْثَ الآخر إِلَى خَيْبَر لما بَعثه عَلَيْهِ السَّلَام خَارِصًا عَلَى نَخِيلِ خَيْبَرَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ وَأَصْحَابِهِ إِلَى خَيْبَرَ فَقَتَلُوا أَبَا رَافِعٍ الْيَهُودِيَّ.
بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ فَقَتَلَهُ بِعُرَنَةَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّتَهُ هَاهُنَا مُطَوَّلَةً.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَعْثُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَأُصِيبُوا كَمَا تَقَدَّمَ.
بَعْثُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَأُصِيبُوا جَمِيعًا أَيْضًا.
بَعْثُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ فَأَغَارَ عَلَيْهِم، فَأصَاب مِنْهُمْ أُنَاسًا ثُمَّ رَكِبَ وَفْدُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْرَاهُمْ فَأَعْتَقَ بَعْضًا وَفَدَى بَعْضًا.
بَعْثُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ فَأُصِيبَ بِهَا مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنَ الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَدْرَكَاهُ، فَلَمَّا شَهَرَا السِّلَاحَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
فَلَمَّا رَجَعَا لَامَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ اللَّوْمِ، فَاعْتَذَرَا بِأَنَّهُ مَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ.
فَقَالَ لِأُسَامَةَ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»؟ ! وَجَعَلَ يَقُولُ لِأُسَامَةَ: «من لَك بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَةِ»! قَالَ أُسَامَةُ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى لَوَدِدْت أَنْ لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ.
بَعْثُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ مِنْ أَرْضِ بَنِي عُذْرَةَ يستنفر الْعَرَب إِلَى الشَّامِ.
وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ كَانَتْ مِنْ بَلِيٍّ، فَلِذَلِكَ بَعَثَ عَمْرًا يَسْتَنْفِرُهُمْ لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِمْ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ السَّلْسَلُ خَافَهُمْ، فَبَعَثَ يَسْتَمِدُّ رَسُول الله، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ تَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ عَمْرٌو وَقَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مَدَدًا لِي».
فَلَمْ يُمَانِعْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ رجلا سهلا لينًا هينا عِنْد أَمْرُ الدُّنْيَا، فَسَلَّمَ لَهُ وَانْقَادَ مَعَهُ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلِّي بِهِمْ كُلِّهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ».
قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: «أَبُوهَا».
بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وفيهَا قصَّة مجلم بن حثامة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي سَنَةِ سَبْعٍ.
بَعْثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ أَيْضًا إِلَى الْغَابَةِ.
بَعْثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنِ إِرْسَالِ الْعِمَامَةِ مِنْ خَلْفِ الرَّجُلِ إِذَا اعْتَمَّ.
قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُخْبِرُكَ إِنْ شَاءَ الله عَن ذَلِك.
تعلم أَنى كُنْتُ عَاشِرَ عَشَرَةِ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ الله ثمَّ جلس، فَقَالَ: يارسول اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».
قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَحْسَنُهُمُ اسْتِعْدَادًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ».
ثُمَّ سَكَتَ الْفَتَى.
وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ إِذَا نَزَلْنَ بِكُمْ – وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ – إِنَّهُ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يغلبوا عَلَيْهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا الزَّكَاةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ مَا مُطِرُوا، وَمَا نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُوله إِلَّا سلط عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذَ بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَاب الله ويجبروا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمُ بَيْنَهُمْ».
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِسَرِيَّةٍ بَعَثَهُ عَلَيْهَا فَأَصْبَحَ وَقَدِ اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ مِنْ كَرَابِيسَ سَوْدَاءَ، فَأَدْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَقَضَهَا ثُمَّ عَمَّمَهُ بِهَا وَأَرْسَلَ مِنْ خَلْفِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا يَابْنَ عَوْفٍ فَاعْتَمَّ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ وَأَعْرَفُ».
ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى نَفْسِهِ ثمَّ قَالَ: «خُذْهُ يَابْنَ عَوْفٍ، اغْزُوا جَمِيعًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، فَهَذَا عَهْدُ الله وسيرة نَبِيكُم فِيكُمْ».
فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ اللِّوَاءَ.
قَالَ: ابْنُ هِشَامٍ: فَخَرَجَ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ.
بعث أَبى عُبَيْدَة بن الْجراح، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ إِلَى سِيفِ الْبَحْر، وزوده عَلَيْهِ السَّلَام جرابا من تمر وفِيهَا قِصَّةُ الْعَنْبَرِ وَهِيَ الْحُوتُ الْعَظِيمُ الَّذِي دَسَرَهُ الْبَحْرُ، وَأَكْلُهُمْ كُلِّهِمْ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ حَتَّى سَمِنُوا وَتَزَوَّدُوا مِنْهُ وَشَائِقَ أَيْ شَرَائِحَ، حَتَّى رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمُوهُ مِنْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ.
كَمَا تَقَدَّمَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنَ الْبُعُوثِ – يَعْنِي هَاهُنَا – بَعْثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ لِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ بَعْدَ مَقْتَلِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَكَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُمَا قَتْلُ أَبِي سُفْيَانَ بَلْ قَتَلَا رَجُلًا غَيْرَهُ وَأَنْزَلَا خُبَيْبًا عَنْ جِذْعِهِ.
وَبَعْثُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ أَحَدِ الْبَكَّائِينَ إِلَى أَبِي عَفَكٍ، أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ نَجَمَ نِفَاقُهُ حِين قتل رَسُول الله الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَقَالَ يَرْثِيهِ وَيَذُمُّ – قَبَّحَهُ اللَّهُ – الدُّخُولَ فِي الدِّينِ:

لَقَدْ عِشْتُ دَهْرًا وَمَا إِنْ أَرَى مِنَ النَّاسِ دَارًا وَلَا مَجْمَعَا
أَبَرَّ عُهُودًا وَأَوْفَى لِمَنْ يُعَاقِدُ فِيهِمْ إِذَا مَا دَعَا
مِنَ اوْلَادِ قَيْلَةَ فِي جَمْعِهِمْ يَهُدُّ الْجِبَالَ وَلم يخضعا 
فَصَدَّعَهُمْ رَاكِبٌ جَاءَهُمْ حَلَالٌ حَرَامٌ لَشَتَّى مَعَا
فَلَوْ أَنَّ بِالْعِزِّ صَدَّقْتُمُ أَوِ الْمُلْكِ تَابَعْتُمُ تُبَّعَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِي بِهَذَا الْخَبِيثِ»؟ فَانْتُدِبَ لَهُ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ هَذَا فَقَتَلَهُ، فَقَالَتْ أُمَامَةُ الْمُرَيْدِيَّةُ فِي ذَلِكَ:

تُكَذِّبُ دِينَ اللَّهِ وَالْمَرْءَ أحمدا لعَمْرو الَّذِي أَمْنَاكَ بِئْسَ الَّذِي يُمْنِي
حَبَاكَ حَنِيفٌ آخِرَ اللَّيْلَ طَعْنَةً أَبَا عَفَكٍ خُذْهَا عَلَى كِبَرِ السِّنِّ

وَبَعْثُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ الْخَطْمِيِّ لِقَتْلِ الْعَصْمَاءِ بِنْتِ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بن زيد، كَانَت تَهْجُو الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَلَمَّا قُتِلَ أَبُو عَفَكٍ الْمَذْكُورُ أَظْهَرَتِ النِّفَاقَ وَقَالَتْ فِي ذَلِكَ:

بِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ وَالنَّبِيتِ وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ
أَطَعْتُمْ أَتَاوِيَّ مِنْ غَيْرِكُمْ فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مذْحج
ترجونه بعد قتل الرؤوس كَمَا يرتجى ورق الْمُنْضَجِ
أَلَا أَنِفٌ يَبْتَغِي غِرَّةً فَيَقْطَعَ مِنْ أَمَلِ الْمُرْتَجِي

قَالَ: فَأَجَابَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ:

بَنُو وَائِلٍ وَبَنُو وَاقِفٍ وَخَطْمَةُ دُونَ بَنِي الْخَزْرَجِ
مَتَى مَا دَعَتْ سَفَهًا وَيْحَهَا بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي
فَهَزَّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ كَرِيمَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
فَضَرَّجَهَا مِنْ نَجِيعِ الدِّمَاء بعيد الْهُدُوِّ فَلَمْ يَحْرَجِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ: «أَلَا آخِذٌ لِي مِنَ ابْنَةِ مَرْوَانَ»؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ، فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ سَرَى عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا.
ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلْتُهَا.
فَقَالَ: «نَصَرْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَا عُمَيْرُ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَل على من شَأْنهَا؟ قَالَ: «لَا تنتطح فِيهَا عَنْزَانِ».
فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إِلَى قَوْمِهِ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي قَتلهَا وَكَانَ لَهَا خَمْسَة بنُون، فَقَالَ: «أَنَا قَتَلْتُهَا فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ».
فَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ عَزَّ الْإِسْلَامُ فِي بَنِي خَطْمَةَ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ لَمَّا رَأَوْا مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبَعْثَ الَّذِينَ أَسَرُوا ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي إِسْلَامِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ.
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَيً وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ».
لِمَا كَانَ مِنْ قِلَّةِ أَكْلِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا انْفَصَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ دَخَلَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا وَهُوَ يُلَبِّي، فَنَهَاهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْ ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِقَطْعِ الْمِيرَةِ عَنْهُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْيَمَامَةِ مَنَعَهُمُ الْمِيرَةَ، حَتَّى كَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادَهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُ بَنِي حَنِيفَةَ:

وَمِنَّا الَّذِي لَبَّى بِمَكَّةَ مُحْرِمَا بِرَغْمِ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرْمِ

وَبَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ أَخِيهِ وَقَّاصِ بْنِ مُجَزِّزٍ يَوْمَ قُتِلَ بِذِي قَرَدٍ، فَاسْتَأْذن رَسُول الله لِيَرْجِعَ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَأَذِنَ لَهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَفَلُوا أَذِنَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي التَّقَدُّمِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ، فَاسْتَوْقَدَ نَارًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا، فَلَمَّا عَزَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ قَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَضْحَكُ.
فَلَمَّا بلغ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ».
وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
وَبَعَثَ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ لِقَتْلِ أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَكَانُوا مِنْ قَيْسِ من بجيلة، فاستوخموا الْمَدِينَة واستوبؤوها فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَهَا وَهُوَ يَسَارٌ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحُوهُ وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي عَيْنَيْهِ، وَاسْتَاقُوا اللِّقَاحَ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ فِي نفر من الصَّحَابَة فَجَاءُوا بأولئك النَّفر من بجيلة مرجعه عَلَيْهِ السَّلَام من غَزْوَة ذى قرد، فَأمر فَقطعت أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ النَّفَرُ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمَذْكُورِينَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَرًا ثَمَانِيَةً مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، الْحَدِيثَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقَدْ تَقَدَّمَ قِصَّتُهُمْ مُطَوَّلَةً، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُمْ فَهَا قَدْ أَوْرَدْنَا عُيُونَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَغَزْوَةُ على بن أَبى طَالب الَّتِى غَزَاهَا مَرَّتَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ: بَعَثَ رَسُول الله عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ وَخَالِدًا فِي جُنْدٍ آخَرَ.
وَقَالَ إِنِ اجْتَمَعْتُمْ فَالْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْثَ خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي عَدَدِ الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا فَيَنْبَغِي أَن تكون الْعدة فِي قَوْله تسعا وَثَلَاثِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَطِّئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدَّارُومَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ آخِرُ بَعْثٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، حَدثنَا مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ».
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ.
وَقَدِ انْتَدَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْكِبَارِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارَ فِي جَيْشِهِ، فَكَانَ مِنْ أَكْبَرِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
وَمَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ فِيهِمْ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ وَجَيْشُ أُسَامَةَ مُخَيِّمٌ بِالْجُرْفِ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.
فَكَيْفَ يَكُونُ فِي الْجَيْشِ وَهُوَ إِمَامُ الْمُسلمين بِإِذن الرَّسُول مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ انْتُدِبَ مَعَهُمْ فَقَدِ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَطْلَقَ الصِّدِّيقُ مِنْ أُسَامَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْد الصّديق، وَنفذ الصّديق جَيش أُسَامَة.

فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُنْذِرَةِ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَيْفَ ابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ (31) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَلَاهَا الصِّدِّيقُ يَوْمَ وَفَاةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَمِعَهَا النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهَا قَبْلَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3].
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أجل رَسُول الله نُعِيَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً أَمَرَهُمْ فِيهَا وَنَهَاهُمْ، الْخُطْبَةُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ جَابِرٌ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَرْمِي الْجِمَارَ فَوَقَفَ وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَعَلِّي لَا أَحُجُّ بعد عامى هَذَا».
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ كَمَا سَيَأْتِي: «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سنة مرّة، وَإنَّهُ عارضنى بِهِ الْعَام مرَّتَيْنِ، وَمَا أرى ذَلِك إِلَّا اقتراب أَجَلِي».
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي كل رَمَضَان، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحِجَّةَ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّتَهُ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا.
وَبَعَثَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ.
فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ابْتُدِئَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشكواه الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ إِلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ أَوْ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله مِنْ ذَلِكَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَاسْتَغْفَرْ لَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْتُدِئَ بِوَجَعِهِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَر، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ هَذَا الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي».
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهَرِهِمْ قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى».
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ».
قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فَخُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ.
قَالَ: «لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ».
ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ بِرَسُولِ اللَّهِ وَجَعُهُ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ.
لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَحْمد عَن يَعْقُوب بن إِبْرَهِيمُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الحكم بن فُضَيْل، حَدثنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ، قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ثَلَاث مَرَّات، فَلَمَّا كَانَت الثَّالِثَةُ قَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ أَسْرِجْ لِي دَابَّتِي».
قَالَ: فَرَكِبَ وَمَشَيْتُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَمْسَكْتُ الدَّابَّةَ فَوَقَفَ.
أَوْ قَالَ – قَامَ عَلَيْهِمْ – فَقَالَ: «لِيَهْنِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ، أَتَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، الْآخِرَةُ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، فَلْيَهْنِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ».
ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي أُعْطِيتُ، أَوْ قَالَ: خُيِّرْتُ، بَيْنَ مَفَاتِيح مَا يفتح على أمتِي من بعدِي وَالْجَنَّةِ أَوْ لِقَاءِ رَبِّي».
قَالَ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَاخْتَرْنَا.
قَالَ: «لَأَنْ تُرَدَّ عَلَى عَقِبِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي».
فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا حَتَّى قُبِضَ.
وَقَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ الْخَزَائِنَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَين التَّعْجِيل، فاخترت التَّعْجِيل».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَهُوَ شَاهِدٌ لِحَدِيثِ أَبِي مُوَيْهِبَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله ابْن عتبَة، عَن ابْن مَسْعُودٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ.
فَقَالَ: «بَلْ أَنَا وَاللَّهِ يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ».
قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ»؟ قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ! قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونام بِهِ وَجَعُهُ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اسْتُعِزَّ بِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ.
قَالَت: فَخرج رَسُول الله بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَرَجُلٌ آخَرُ عَاصِبًا رَأْسَهُ تَخُطُّ قَدَمَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتِي.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الْآخَرُ؟ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ سَتَأْتِي قَرِيبًا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبد الْجَبَّار، عَن يُونُس ابْن بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يُصْدَعُ وَأَنَا أَشْتَكِي رَأْسِي، فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهْ.
فَقَالَ: «بَلْ أَنَا وَاللَّهِ يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ»! ثُمَّ قَالَ: «وَمَا عَلَيْكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَوَلِيتُ أَمْرَكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَوَارَيْتُكِ»؟ فَقلت:وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَدْ خَلَوْتَ بِبَعْضِ نِسَائِكَ فِي بَيْتِي مِنْ آخِرِ النَّهَار! فَضَحِك رَسُول الله.
ثُمَّ تَمَادَى بِهِ وَجَعُهُ فَاسْتُعِزَّ بِهِ وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنَّا لِنَرَى بِرَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَهَلُمُّوا فَلْنَلُدُّهُ، فَلَدُّوهُ، فَأَفَاقَ رَسُول الله.
فَقَالَ: «مَنْ فَعَلَ هَذَا»؟ فَقَالُوا: عَمُّكَ الْعَبَّاسُ تَخَوَّفَ أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ.
فَقَالَ رَسُول الله: «إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهُ عَلَيَّ، لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لَدَدْتُمُوهُ إِلَّا عَمِّي الْعَبَّاسَ».
فَلُدَّ أَهْلُ الْبَيْتِ كُلُّهُمْ حَتَّى مَيْمُونَةُ وَإِنَّهَا لِصَائِمَةٌ وَذَلِكَ بِعَيْنِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٌ آخَرُ – لَمْ تُسَمِّهِ – تَخُطُّ قَدَمَاهُ بِالْأَرْضِ.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجُلُ الْآخَرُ عَلِيُّ بن أَبى طَالب.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ تخط رِجْلَاهُ الارض بَين عَبَّاس.
قَالَ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ – يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ – بِالَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ.
فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَلِيٌّ.
فَكَانَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُ أَن رَسُول الله لما دخل بيتى وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ.
قَالَ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ».
فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيّ بِهِ.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، حَدثنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا»؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، وَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.
قَالَتْ: وَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ.
فَأَعْطَانِيهِ فَقَضَمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْند إِلَى صَدْرِي.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أخبرنَا عبد الله بن يُوسُف، حَدثنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْت لَاحَدَّ أبدا بعد النَّبِي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفُثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
وَالْفَلَّاس وَمُسلم عَن مُحَمَّد بن حَاتِم كلهم.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اجْتَمَعَ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَة، فَجَاءَت فَاطِمَة تمشى لَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِشْيَةَ أَبِيهَا، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِابْنَتِي».
فَأَقْعَدَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ.
ثُمَّ سَارَّهَا بشئ فَبَكَتْ، ثُمَّ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّرَارِ وَأَنت تبكين! فَلَمَّا أَن قَامَت قلت: أَخْبِرِينِي مَا سَارَّكِ.
فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا توفى.
قلت لَهَا: أَسأَلك لما لى عَلَيْك من الْحق لما أخبرتيني.
قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ.
قَالَتْ: سَارَّنِي فِي الاول قَالَ لى: «إِن جِبْرِيل كَانَ يعارضنى الْقُرْآن كل سنة مرّة، وَقد عَارَضَنِي فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا لِاقْتِرَابِ أَجَلِي، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ».
فَبَكَيْتُ.
ثُمَّ سَارَّنِي فَقَالَ: «أما ترضيني أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نسَاء هَذِه الامة»؟ فَضَحكت.
وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَن على بن عبد الله وَالْفَلَّاس، وَمُسلم بن مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بن أَبى عَائِشَة، عَن عبيد الله ابْن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَجعل يُشِير إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، قُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ.
فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: «ألم أنهكم أَلا تلدوني»؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَة الْمَرِيض الدَّوَاء فَقَالَ: «لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ».
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ».
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّد بن أَحْمد بْنِ يَحْيَى الْأَشْقَرِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود، قَالَ: لَئِن أَحْلِفَ تِسْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ قَتْلًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَذَلِكَ أَن الله اتَّخذهُ نَبيا واتخذه شَهِيدا.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ،حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ من عِنْد رَسُول الله فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا.
فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا! وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا، إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ الله فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ؟ إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيّ.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة، حَدثنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ.
فَقَالَ: «ائْتُونِي أَكْتُبْ لكم كتابا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا».
فَتَنَازَعُوا – وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نبى تنَازع – فَقَالُوا: مَا شَأْنه أَهجر؟ اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَنْهُ، فَقَالَ: «دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ».
فَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ».
وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ فَنَسِيتُهَا.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بن عُيَيْنَة.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمُّوا أَكْتُبْ لكم كتابا لَا تضلوا بعده أبدا».
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ.
فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا».
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَيُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا قَدْ تَوَهَّمَ بِهِ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيرهم، كل مُدع أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ فِي ذَلِكَ الْكتاب مَا يرْمونَ إِلَيْهِ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْمُتَشَابِهِ وَتَرْكُ الْمُحْكَمِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَأْخُذُونَ بِالْمُحْكَمِ وَيَرُدُّونَ مَا تَشَابَهَ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعلم كَمَا وَصفهم الله عزوجل فِي كِتَابِهِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا زَلَّ فِيهِ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ مَذْهَبٌ إِلَّا اتِّبَاعُ الْحَقِّ يَدُورُونَ مَعَهُ كَيْفَمَا دَارَ.
وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُرِيدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكْتُبَهُ قَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ التَّصْرِيحُ بِكَشْفِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدثنَا نَافِع، عَن ابْن عَمْرو، حَدثنَا ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: لما كَانَ وَجَعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ قَالَ: «ادْعُوا لِي أَبَا بكر وَابْنه لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ طامع وَلَا يتمناه مُتَمَنٍّ».
ثُمَّ قَالَ: «يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ».
مَرَّتَيْنِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ! انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، عَنِ ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: لما ثقل رَسُول الله قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: «ائْتِنِي بِكَتِفٍ أَوْ لَوْحٍ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كتابا لَا يخْتَلف عَلَيْهِ أحد» فَلَمَّا ذهب عبد الرَّحْمَن ليقوم.
قَالَ: «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُخْتَلَفَ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ».
انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ قَالَ رَسُول الله: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى متمنون».
فَقَالَ: «يَأْبَى الله، أَو يدْفع الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ».
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بن جُبَير ابْن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ.
فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ – قَالَ: «إِنْ لم تجديني فأت أَبَا بَكْرٍ».
وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا إِنَّمَا قَالَت ذَلِك لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامه عَلَيْهِ.
وَقَدْ خَطَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي يَوْمِ الْخَمِيس قبل أَن يقبض عَلَيْهِ السَّلَام بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَيَّنَ فِيهَا فَضْلَ الصِّدِّيقِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، مَعَ مَا كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَنْ يَؤُمَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعِينَ.
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مَعَ حُضُورِهِمْ كُلِّهِمْ.
وَلَعَلَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كَانَتْ عِوَضًا عَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَدِ اغْتَسَلَ عَلَيْهِ السَّلَام بَيْنَ يَدَيْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْكَرِيمَةِ فَصَبُّوا عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِشْفَاءِ بِالسَّبْعِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام اغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ خَطَبَهُمْ.
كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.