وفاة سعد بن مُعاذ رضي الله عنه
وفي ليلته كان سعد بن مُعاذ رضي الله عنه نائمًا، وقد انفجر جُرحه ولا يُمكن كيّه مرّة أُخرى، وهو لا يشعُر، وفي الصّباح دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أصحابه يطمئنون عليه، وهو مُغطّى بملاءة بيضاء.
فجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رأسه ووضع رأسه في حجره ثم قال: «اللهم إن سعدًا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك، وقضى الذي عليه، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق»، ففتح سعد عينيه حين سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالته”، ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وسعد لم يمُت بعد فدخل بيته مُدَّة، فجاءه جبريل عليه السلام وعليه عِمامة يقول: “يا رسول الله من هذا الرجل الصالح الذي مات فيكم؟ فُتِحت له أبواب السماء واهتزّ له عرش الرحمن!”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عهدي بسعد بن مُعاذ وهو يموت»، ثم خرج صلى الله عليه وآله وسلم فزعًا من بيته يجُرّ ثوبه إلى خيمة رُفيدة فوجد سعدًا قد فاضت روحه، وجاء أقاربه من قبيلة بني عبد الأشهل فحملوه إلى منزله رضي الله عنه، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وراءهم، والنّاس وراءه مسرعون حتى دخل وقد وضعوه رضي الله عنه في بيته.
فتخطّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برِجلِه كأنه يتعدى أناسًا جالسين -وليس هناك أحد-، فقدم سلمة بن خريش رضي الله عنه، وسعد بن مُعاذ مُغطّى بالملاءة ولا أحد غيره في البيت، فلمّا رأى سلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخطّى هكذا وقف، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن: قِف، فوقف وأوقف من جاء خلفه مُسرعًا. وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مُدّة ثم خَرَج، فقال سلمة: “يا رسول الله ما رأيت أحدًا، وقد رأيتك تتخطى؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه فجلست»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هنيئًا لك أبا عمرو، هنيئًا لك أبا عمرو».
وجاءت أم سعد بن مُعاذ رضي الله عنها -وهي كبشة بنت عُبيد الخزرجيّة- تبكي وتذكر فضائل ابنها، فقال عُمر بن الخطّاب: “مهلا يا أم سعد لا تذكري سعدًا”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعها يا عُمر، فكُل باكية مُكثرة إلا أُم سعد، ما قالت من خير فلم تكذب».
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُغسَّل، فغسَّلَه الحارث بن أوس بن مُعاذ، وأُسيد بن حُضير، وسلمة بن سلامة بن وقش يصُبّ الماء عليه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضر، فغسّلوه مرّة بالماء، ومرّة بالماء والسِّدر، ومرّة بالماء والكافور، ثم كفّنوه في كفن من ثلاثة قطع صُحاريّة -من صُحارى باليمن-، وجاءوا بسرير يُحمل عليه الموتى فحملوه عليه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحمل معهم حتى خرج من داره، وسار صلى الله عليه وآله وسلَّم أمام الجنازة حتى وصل البقيع فقال: «خذوا في جهاز صاحبكم».
وأقبل أقاربه يحفرون قبره بالبقيع، فحفروا له لحدًا، وكان سعد بن مُعاذ رضي الله عنه تفوح منه رائحة المسك وهم يحفرون بجواره، حتى انتهوا من الحفر فوضعوه على جانب القبر ووقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فصلَّى عليه وخلفه المسلمون، ثم وضعوه في قبره.
ولمّا وضعوه تغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبّح ثلاثًا، فسبّح معه المسلمون ثلاثًا حتى ارتجّ البقيع، ثم كبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا فكبَّر المسلمون معه ثلاثًا فارتجّ البقيع بالتكبير، ثم جاءت أمّه رضي الله عنه تنظر إليه في اللّحد ولم يضعوا عليه التراب بعد، فمنعها النّاس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوها»، فنظرت إليه وقالت: “أحتسبك عند الله”، وعزّاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جانبًا حتى أهالوا على قبره التّراب ورشّوا عليه الماء ووضعو بعض الطوب اللبّن علامة على قبره، ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم فوقف ودعا له ثم انصرَف.
وجاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه، فقالوا: “يا رسول الله رأيناك تغير وجهك وسبحت ثلاثًا؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تضايق على صاحبكم قبره وضُمّ ضمَّة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد، ثم فرّج الله عنه»، وقالوا: “يا رسول الله لقد أسرعت بنا جدًا في جِهاز سعد وتغسيله وذهابك إليه وبالكاد نلحقك”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «خشينا أن سبقنا الملائكة إليه كما سبقتنا إلى غُسل حنظلة»، وقالوا: “يا رسول الله كان سعد رجلًا جسيمًا -ممتلئ الجسم-، فلم نر أخفّ منه!؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رأيت الملائكة تحمله»، قالوا: “يا رسول الله إن المنافقين يقولون: إنّما خف لأنه حكم في بني قُريظة”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «كذبوا، ولكنّه خف لحمل الملائكة له».