ربيع الأول 28 ق.هـ
تموز 595 م
زواج النبي من السيدة خديجة رضي الله عنها

وقت زواج النبي من خديجة

قال ابن إسحاق: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من
أهل العلم. وقال ابن عبد البر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة لخديجة سنة خمس وعشرين، وتزوج خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يومًا في عقب صفر سنة ست وعشرين، وذلك بعد خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام من يوم الفيل. وقال الزهري: كانت سن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تزوج خديجة إحدى وعشرين سنة، قال أبو عمر: وقال أبو بكر بن عثمان وغيره: كان يومئذ ابن ثلاثين سنة، قالوا: وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة. عن أبي عمرو بن العلاء، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة.

خديجة تستعين بالنبي في تجارتها لأمانته

عن نفيسة بنت منية، قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين؛ لما تكاملت فيه من خصال الخير، قال له أبو طالب: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عِير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث
رجالًا من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك، وفضلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بُدّا.

رغبة النبي للمتاجرة في مال خديجة

وكانت خديجة بنت خو يلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة، وتبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجارًا، ومن لم يكن تاجرًا من قريش فليس عندهم بشيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلعلها ترسل إليَّ في ذلك“.

خديجة تطلب النبي ليتاجر لها في مالها

فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرًا مدبراً، فافترقا، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلافه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه، فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك،
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي أبا طالب، فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.

خروج النبي وميسرة للشام وما رآه ميسرة

فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام، فنزلا في سوق بُصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب، يقال له: نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة، وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، ثم قال له: في عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه، قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، و يا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج.

الحبر يرى نور النبوة في شخص الحبيب

فوعى ذلك ميسرة، ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى، فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما حلفت بهما قط“، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة وخلا به: يا ميسرة، هذا نبي والذي نفسي بيده، وإنه لهو تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة، ثم انصرف أهل العير جميعاً، وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحرُ يّرى مَلَكَينْ يظلانه من الشمس وهو على بعيره، قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فكان كأنه عَبدٌْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية ، فرأت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع.

رجوع النبي إلى مكة وطلب خديجة الزواج منه

قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له ما سمَتّ له، فلما استقر عندها هذا وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالًا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو يقدر عليه، فعرضت عليه نفسها، فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، ووسطتك في قومك وأمانتك، وحسن خلقك وصدق حديثك، فلما قالت له ذلك ذكر ذلك
لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه فتزوجها، فقال أبو الربيع: هكذا ذكر ابن إسحاق. وذكر الواقدي وغيره من حديث نفيسة أن خديجة أرسلتها إليه دسيسًا فدعته إلى تزويجها.

عم خديجة يزوجها من النبي

عن نفيسة بنت منية، قالت:
كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جلَدِةَ شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالًا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسًا إلى محمد بعد أن رجع من عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوج؟ قال: “ما بيدي ما أتزوج به“، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: “فمن هي“؟ قلت: خديجة، قال: “فكيف لي بذلك“؟ قالت: قلت: عليَّ، قال: فأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا وكذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فزوجه أحدهم. فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يقدع أنفه . وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي يومئذ بنت أربعين سنة، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة.

القول إن أبا خديجة هو الذي زوجها

وذكر ابن إسحاق: أن أباها خويلد بن أسد هو الذي أنكحها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك وجدته عن الزهري وفيه: وكان خويلد أبوها سكران من الخمر، فلما كلم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حلَُةّ ، وضَمَخَّتهْ بُخلَوُقٍ ، فلما صحا من سكره، قال: ما هذه الحلَةُّ والطيب؟ فقيل له: أنكحت محمدًا خديجة، وقد ابتنى بها، فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه.
وقال محمد بن عمر: الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأيت ذلك عن غير الواقدي. وقد قيل: إن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي أنكحها منه. والله أعلم.

النبي يتاجر في مال خديجة وبروز أمانته

عن ابن شهاب الزهري، قال: فلما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده وليس له كبير مال استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة ، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً آخر من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها:
ما رأيت من صاحبة لأجير خيراً من خديجة، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا“.

ذكر أزواج خديجة قبل النبي

عن الزهري، قال: تزوجت خديجة بنت خويلد بن أسد قبَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين: الأول منهما: عتيق بن عايذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، فولدت له جارية وهي أم محمد بن صيفي المخزومي. ثم خلف على خديجة بعد عتيق بن عايذ أبو هالة التميمي ، وهو من بني أسد بن عمرو، فولدت له: هند بن هند . كذا وقع في هذه الرواية عتيق بن عايذ، والصواب عابد بالباء. قاله الزبير، وسمى الزبير الجارية التي ولدتها منه هندًا، واسم أبي هالة هند بن زرارة بن النباش بن عدي بن خبيب بن صرُدَ بن سلامة بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فيما رويناه عن قتادة بن دعامة… فذكره.

بشارة ورقة بن نوفل بنبوة الحبيب

قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزيز وكان ابن عمها، وكان نصرانًياّ قد ٺتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظُلَاّنه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقًّا يا خديجة: إن محمدًا لنبي هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن بهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه، أو كما قال، فجعل ورقة يستبطئ الأمر. وله في ذلك أشعار، منها ما رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق:

أتبُكَِّر أم أنت العشية رائح     …    وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم     …    كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد …   يخبرها عنه إذا غاب ناصح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل …    إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقاً … كما أرسل العبدان نوح وصالح

في أبيات ذكرها.