28 شوال 7 هـ
3 آذار 629 م
يوميَّات عُمرة القَضَاء: التجهيز لعُمرة القضاء: اليوم الأول

وفيه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثّ أصحابه على الخروج لقضاء عُمرتهم وكان قد نزل قوله تعالى: {ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}…

[البقرة 194] عودتهم من الحُديبية يقول: كما صدّوكم عن البيت الحرام فاعتمروا العام المُقبل.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتجهّزوا للخروج لقضاء عُمرتهم -عُمرة الحُديبيّة- والتي ردّهم المشركون فيها عن المسجد الحرام، وكان عقد الصُّلح من العام الماضي، وألا يتخلف أحد منهم شهد الحُديبيّة إلا من استُشهد أو مات، فقال بعض النّاس: “والله يا رسول الله ما لنا من زاد وما لنا من يُطعمنا”، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا، والّا يَكُفُّوا أيديهم فيهلكوا [^1]، قالوا: “يا رسول الله: بم نتصدّق وأحدنا لا يجد شيئًا؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بما كان، ولو بشقّ تمرة، ولو بمشقص -نصل السَّهم- يحمل به أحدكم في سبيل الله»، فأنزل الله غزّ وجل:  {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴿195﴾ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ} [البقرة 195-196].

وأمر النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بأخذ سلاح الحرب، وفيه الدروع والرّماح، واستعمل بشير بن سعد أمينًا عليه، وأخرج معهم مائة فرس يقودهم محمد بن مسلمة، وقدَّمهم مع القافلة التي تحمل السِّلاح بقيادة بشير بن سعد يسبقون على الطريق، فقال بعض النّاس: “يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: حملت السِّلاح وقد شرطوا علينا ألّا ندخلها عليهم إلا بسلاح المُسافر السُّيُوف في القرب؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّا لا ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريبًا منّا، فإن هاجنا هيج من القوم كان السّلاح قريبًا منّا»، فقيل: “يا رسول الله تخاف قُريشًا على ذلك؟”، فسكت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم.

[^1]: وهذه نصيحة نبويّة عالية، وخُلاصة اقتصاديّة باهرة بأدبيّات العصر الحديث، فقوله: “أنفقوا في سبيل الله وتصدّقوا، ولا تكفّوا أيديكم فتهلكوا”، يُرشدنا إلى عدّة معاني أهمّها: أنّ الإنفاق مُهم لبقاء المُجتمع وأنّ التوقف عن الإنفاق يؤدي لهلاك النّاس، فتكنيز الأموال يؤدي لكساد الأسواق وانتشار الفقر ودمار الاقتصاد، والإنفاق الرّشيد ومنه الإنفاق في سبيل الله -للعُمرة مثلًا كما هو الحال هُنا-، أو للصدقات -كما نصّ عليه حضرته صلى الله عليه وآله وسلم-، هو عين ما يؤدي لدوران الأموال وعدم كساد الاقتصاد في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، قوله: “فتهلكوا” جامعة لمعاني الهلاك سواء كساد الأحوال في الدنيا أو عقوبة ذلك في الآخرة، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة 34]، ودلّ على أنّ الإنفاق لا حدّ له في الصِّغَر، فإنّ كُل ما يُنفق مهما كان صغيرًا فهو مؤثر في النّجاة دُنيا وأُخرى، فقال: “ولو بِشِقّ تمرة، ولو بمِشْقَص”، وهذه عبارة جامعة أيضًا، فشقّ التمرة على قِلَّته وصِغره إلا أنّ تأثيره في عدم كساد الزّراعة والتجارة عظيم!، فالتمرة وراءها زارع وأرض زراعيّة وماء للريّ وتاجر تمور…إلخ، وهي جاهزة للأكل والاستهلاك، والمِشقص -وهو نصل السّهم- وراءه كذلك ما هو أعمق، فورائه مُزارع ثم صانع ثم تاجر، فجمع صلى الله عليه وآله وسلَّم الزراعة والصناعة والتجارة في عبارة سهلة، وهي من جوامع كلمه صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته.