8 شوال 5 هـ
5 آذار 627 م
يوميّات غزوة الأحزاب: اليوم السادس عشر

غزوة الأحزاب (حصار الأحزاب للمدينة المنورة – اليوم الخامس)

وفيه أجمع رؤساء المشركين على أن يطيفوا جميعًا بالخندق يبحثون عن ثغرة متقاربة ينفذون منها، فخرج من قُريش: أبو سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وضِرار بن الخطّاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد ود، ونوفل بن معاوية الدّيلي، ومن غطفان: عُيينة بن حصن الفزاري، ومسعود بن رخيلة، والحارث بن عوف المُرّي، ومن بني أسد: طُليحة بن خويلد، ورؤساء بني سُلَيْم، وأخذوا يطوفون بالخندق جيئة وذهابًا على خيولهم، يبحثون عن موضع ضيّق ينفذون منه، فوجدوا مكانًا ضيّقًا قد أغفله المسلمون [^1]، فأخذوا يُكرهون خيلهم لتقفز منه ويقولون: “هذه المكيدة ما كانت العرب تصنعها ولا تعرفها!”، فقالوا لبعضهم: “إنّ معه رجلًا فارسيًّا، فهو الذي أشار عليهم بهذا”، فعَبَر من الثغرة عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضِرار بن الخطّاب، وهُبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد وُد، وتوقّف الباقون لا يعبرون، فقالوا لأبي سفيان: “ألا تعبُر؟”، قال: “قد عبرتم فإن احتجتم إلينا عبرنا”، وكان عمرو بن عبد وُد قد حضر بدرًا فجُرح جراحات شديدة فيها، فلم يحضر معركة أُحُد، وأقسم ألّا يتطيب حتى يأخذ بثأره من المسلمين فخرج في هذه الغزوة مع المشركين ووضع على رأسه علامة يعرفه بها النّاس وعليه الحديد، وكان عمرو شيخًا كبيرًا، فدخل المشركون بخيلهم في الأرض بين #~~~جبل سَلْع~~~# والخندق، وأسرع المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم للموضع الذي عبر منه المشركون، وعمرو بن عبد وُد يدعو إلى المبارزة يقول:

ولقد بُححت من الندا *** ء لجمعكم: هل من مُبارز

والمسلمون ساكتون لا يجيبه أحد لعلمهم بشجاعة عمرو بن عبد وُد وقوّته، فقام عليّ عليه السلام -وكان من شباب المهاجرين وعمره حوالي 28 عامًا تقريبًا- [^2]، فقال: “أنا أبارزه يا رسول الله”، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اجلس»، فكرّرها عليّ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرر عليه الجلوس، حتى إذا كانت المرّة الثالثة أعطاه النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سيفه ذا الفقار وربط له عمامته، ودعا له فقال: «اللهم أعنه عليه».

وتحرك عليّ رضي الله عنه يمشي على رجليه وعمرو بن عبد وُد على فرسه، فقال له عليّ: “إنك كنت تقول: لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلت منها ولو واحدة”، قال عمرو: “أجل”، قال عليّ: “فإني أدعوك أن تشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتُسلم لله رب العالمين”، قال عمرو: “يا ابن أخي، لا حاجة لي بذلك”، قال علي: “فأُخرى: ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمد صادقًا كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تُريد”، قال عمرو بن عبد وُد: “هذا ما لا تتحدّث به نساء قُريش أبدًا، وقد نذرت ما نذرت وحرّمت الدُّهن” -يعني حرّمت على نفسي التّطيب حتى آخذ بثأري بعد معركة بدر، وكان قد جُرح فيها فلم يحضر أُحُد-، قال عمرو: “فما الثّالثة؟”، قال علي رضي الله عنه: “أبارزك”، فضحك عمرو بن عبد وُد وقال: “إنّ هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحدًا من العرب يطلبها مني، إني لأكره أن أقتُل مثلك، وكان أبوك لي جليسًا وصاحبًا، فارجع فأنت غُلام صغير، إنّما أردت شيخي قُريش أبا بكر وعُمَر”، فقال علي رضي الله عنه : “فإني أدعوك للمبارزة، فأنا أُحب أن أقتلك”، فنزل عمرو من على فرسه وقد شعر بالمهانة وربط فرسه، واقترب بسيفه من عليّ، وثار الغُبار بالتحامهما فما يراهما أحد، وسمع النّاس التكبير فعلموا أنّ عليًا قتله، وفرّ الباقون هاربين لمّا رأوا من مقتل عمرو بن عبد وُد أشجعهم، فاستطاع أكثرهم أن يقفز من المنطقة الضيّقة بفرسه ويلوذوا بالفرار، إلا نوفل بن عبد الله وقع فرسه في الخندق، فرموه بالحجارة حتى كثرت جراحاته وأجهز عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسيفه، وخرج الزّبير بن العوّام وعُمر بن الخطّاب يلاحقوهم ويناوشوهم على فرسيهما، فلحق الزّبير بهبيرة بن أبي وهب فضرب سرج فرسه بالسّيف فقطعه، وسقط درعه فأخذه الزّبير وفرّ عكرمة وألقى رُمحه، ورجع ضِرار بن الخطّاب على عُمر بن الخطّاب بالرُّمح حتى إذا لمس الرُّمح عُمر رفعه عنه ضِرار وقال: “هذه نعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطّاب، إني كنت حلفت لا تمكنني يداي من رجل من قُريش أبدًا”، وانصرف ضِرار راجعًا لأبي سفيان ومن معه حتى وصلوا عند #~~~جبل بني عُبيد~~~#.

ولمّا اجتمعوا عند أبي سفيان بن حرب وجيوش المشركين عند جبل بني عُبيد، قال: “هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء، ارجعوا”، فرجعت قُريش وحلفائها إلى منازلها عند #~~~وادي العقيق~~~# ورجعت غطفان إلى منازلها عند #~~~الغابة~~~#، واتفقوا أن يأتوا جميعًا عند الخندق ليلة السبت قبل طلوع الشّمس ولا يتخلف منهم أحد.

وفيه أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى عُيينة بن حصن الفزاري الغطفاني والحارث بن عوف المرّي قائدا غطفان فقال: “أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكما وتخذلان بين الأعراب؟”، قالا: “تعطينا نصف تمر المدينة”، فرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيد على الثلث، فرضيا بذلك، وجاءا في عشرة من قادتهم، وأحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأحضر الصحيفة والدّواة وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الحصيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم وعبّاد بن بِشر قائم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقنّع في الحديد يحرسه، فجاء أُسيد بن حُضير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يدري بما كان من الكلام، فلمّا جاء وجد عيينة مادًّا رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلم ما يريدون فقال: “يا عين القرد اقبض رجليك، تمد رجليك بين يدي رسول الله؟”، ومعه الرّمح في يده فقال: “والله لولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنفذت الرمح في خصيتيك”، ثم اقترب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: “يا رسول الله إن كان أمرًا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نُعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟”، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا سعد بن عبادة وسعد بن مُعاذ سيدا الأنصار فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما يُخفي كلامه وأخبرهما بما أراد من الصلح، فقالا: “إن كان هذا أمرًا من السماء فامض له، وإن كان أمرًا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فامض لما كان لك فيه هوى، فسمعًا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف”.

وأمسك سعد بن مُعاذ الصحيفة يقرأها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر شوكتهم عنكم وأرضيهم ولا أقاتلهم»، فقالا: “يا رسول الله إنهم كانوا يأكلون العلهز -مخلوط الدم بأوبار الإبل- في الجاهليّة من المجاعة ما طمعوا بهذا منّا قط، أن يأخذوا تمرة إلا بشرى أو قِرى -ضيافة-، فحين أتانا الله تعالى بك، وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنيّة؟!، لا نُعطيهم أبدًا إلا السّيف”.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن معاذ: «شُقّ الكتاب»، فتفل سعد فيه ثم شقّه، وقال: “بيننا السيف”، فقام عيينة ومن معه وهو يقول: “أما والله للتي تركتم خير لكم من الخطة التي أخذتم، وما لكم بالقوم طاقة”، فقال عبّاد بن بشرك “يا عيينة أبالسيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع، وإلا فوالله لقد كنت أنت وقومك تأكلون العلهز والرِّمَة من الجوع فتأتون هاهنا ما تطعمون بهذا منّا إلا قِرى أو شِرى، ونحن لا نعبد شيئًا، فلما هدانا الله وأيّدنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم سألتمونا هذه الخُطّة؟، أما والله لولا مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وصلتم إلى قومكم”.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ارجعوا، بيننا السيف» رافعًا صوته، فرجع عيينة والحارث وهما يقولان: “والله ما نرى أن ندرك منهم شيئًا، والله ما حضرت إلا كرهًا لقوم غلبوني، وما مقامنا بشيء مع أنّ قريشًا إن علمت بما عرضنا على محمد عرفت أنّا قد خذلناها ولم ننصرها”، قال الحارث: “أما إنا أخطأنا بتعرضنا لنصر قُريش على محمد، والله لئن ظهرت قريش على محمد ليكونن الأمر فيها دون سائر العرب، مع أني أرى أمر محمد أمرًا ظاهرًا، والله لقد كان أحبار يهود خيبر يحدثون أنهم يجدون في كتبهم أنه يبعث نبي من الحرم على صفته”، قال عيينة: “إنا والله ما جئنا ننصر قريشًا، ولو استنصرنا قريشًا ما نصرتنا ولا خرجت معنا من حرمها، ولكني كنت أطمع أن نأخذ تمر المدينة فيكون لنا به ذِكر، مع ما لنا فيه من منفعة مع نصر حلفاءنا من اليهود، فهم جلبونا إلى ما هاهنا”، قال الحارث: “قد والله أبت الأوس والخزرج إلا السيف، والله لتقاتلن عن هذا السعف ما بقي منها رجل مقيم، وقد أجدبت الأرض التي نزلنا فيها وهلكت خيولنا ودوّابنا لا تجد المرعى”، فلمّا وصلا سألهم كبار غطفان: “ما رواءكم؟”، قالوا: “لم يتم الأمر، رأينا قومًا على بصيرة وتضحية بأنفسهم فداءًا لصحابهم -محمد صلى الله عليه وآله وسلم- وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريش تنصرف ولا تكلم محمدًا، ويحاصر محمد بني قريظة حتى ينزلوا على حكمه، قال الحارث: “بُعدًا وسُحقًا، محمد أحب إلينا من اليهود!”.


[^1]: الرّاجح أنّ الخندق لعدم خبرة المسلمين به كمكيدة حربيّة ولسرعة إنجازه فقد كانت به ثغرتان أو ثلاثة ومنها مواضع ربما يستحيل توسعتها لوجود صخور بركانيّة شديدة بها تم حفرها وتعميقها قدر المُستطاع، فهذه غير الثّغرة التي قام سلمان وأُسيد بن حُضير ومن معهما بترميمها، ولهذا كانت الحراسات عليه مُستمرّة لا تنام حتى لا تعبر منه خيل المشركين، والله أعلم.

[^2]: التقدير أنّ عليًا عليه السلام أسلم وهو ابن 10 سنوات في ثاني أيّام البعثة النبويّة الشريفة، فيكون عُمره في الهجرة 23 عامًا تقريبًا، وعُمره اليوم -شوّال في السنة الخامسة- 28 عامًا وعدّة أشهر، على اعتبار مولده في شهر رجب، والله أعلم.