14 شوال 5 هـ
11 آذار 627 م
يوميّات غزوة الأحزاب: اليوم الثاني والعشرون

غزوة الأحزاب (حصار الأحزاب للمدينة المنورة – اليوم الحادي عشر)

وفي ليلته الشديدة البرودة، وكان المسلمون قد أصابهم الإجهاد الشديد والتعب لقلّة الطعام والبرد مع المجهود البدني المتواصل من حفر الخندق وقلّة النوم والاستيقاظ أكثر الليل للحراسة، مع شدّة الخوف من أن يهاجمهم المشركون أو بني قُريظة من الجهتين في نفس الوقت، وكان المُسلمون يجلسون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويريد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم استطلاع أخبار الأحزاب وما فعلوه لهدوءهم هذه الفترة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من رجل ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنة؟»، فبشّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يقوم بالرّجوع سالمًا وبأن يكون من أهل الجنّة، فما قام منهم أحد!!

فلمّا رأى منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، نادى وقال: «يا حُذيفة»، فلم يجد حُذيفة بن اليمان بُدًا من القيام حين ناداه باسمه، فجاء وقلبه يخفق بسرعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟»، فقال حُذيفة: “لا والذي بعثك بالحق، وإنما هو الجوع والبرد”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمين بسهم ولا بحجر ولاتطعن برمح ولا تضربن بسيف حتى ترجع إليّ»، قال حُذيفة: “يا رسول الله لا أخاف يقتلونني، ولكني أخاف أن يمثلوا بي!”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس عليك بأس» -أي انت محفوظ بإذن الله من ذلك-، يقول حذيفة: “فعرفت أنّه لا بأس عليّ مع كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأوّل -والذي وعد فيه بالسلامة والجنة لمن يقوم، فكان كلامه صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة تأكيدًا للسلامة-.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يقولون»، فانطلق حُذيفة لما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته»، يقول حذيفة: “فسرت كأنّي أمشي في حمّام!” -يعني يشعر بالدفء والانتعاش لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له-، فسار حُذيفة حوالي 3 كم في نصف ساعة تقريبًا حتى خرج من جهة الغرب جنوب جبل سَلْع من عند المزارع وبيوت المدينة حتى وصل #~~~وادي العقيق~~~# عند منازل قُريش ودخل مُعسكرهم، وإذا هم يتدفأون على نيرانهم والرّيح تفعل بهم الأفاعيل، تنزع خيامهم وتوقع أدواتهم على الأرض.

فذهب حذيفة فجلس على حلقة من حلقاتهم حول النيران وبعض قُريش يجلسون حولها، فقام أبو سفيان بن حرب فقال: “احذروا الجواسيس والعيون، ولينظر كل رجل جليسه، فالتفت حُذيفة إلى الرجل عن يمينه وقال: “من أنت؟”، قال: “عمرو بن العاص”، والتفت إلى الآخر عن شماله فقال: “من أنت؟”، فقال: “معاوية بن أبي سفيان”، ثم قال أبو سفيان: “إنكم والله لستم بمكان إقامة، لقد هلكت الدّواب والخيل، وأجدبت الأرض، وغدرت بنا بنو قُريظة، ولقد لقينا من الرّيح ما ترون، والله ما يثبت لنا بناء ولا تطمئن لنا قِدْر، فارتحلوا فإني مُرتحل”، وقام أبو سفيان وجلس على بعيره وهو مقعول -إحدى رجليه مربوطة في بعضها حتى لا يتحرك من مكانه- فضربه فقام يقفز على ثلاثة قوائم، ثم فكّ عقاله.

يقول حذيفة رضي الله عنه: “ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليّ ألا أُحدث شيئًا حتى آتيه لقتلته -يعني أبا سفيان بن حرب-” وكان قريبًا منه جدًا.

ونادى عكرمة بن أبي جهل أبا سفيان بن حرب فقال: “إنك رأس القوم وقائدهم، تمشي وتترك النّاس؟”، فاستحيا أبو سفيان، فأناخ جمله ونزل من عليه فأخذ بزمامه وهو يقوده وقال: “ارحلوا”، فجعل النّاس يرتحلون وأبو سفيان قائم حتى خفّ الناس، ثم قال لعمرو بن العاص: “يا أبا عبد الله، لابدّ لي ولك أن نُقيم في جريدة من خيل -كتيبة صغيرة- بإزاء محمد وأصحابه، فإنّا لا نأمن أن نُطلب حين ينفُذ العسكر. فقال عمرو: “أن أُقيم”، وقال لخالد بن الوليد: “ما ترى يا أبا سليمان؟”، فقال خالد: “أنا أيضًا أُقيم”، فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار العسكر إلا هذه الكتيبة الصغيرة من الفرسان.

وسار حُذيفة رضي الله عنه حوالي 3 كم أخرى شمالًا في نصف ساعة حتى وصل مُعسكر غطفان عند #~~~الغابة~~~# فوجدهم قد ارتحلوا عائدين لبلادهم، فسار حوالي 6 كم في ساعة وربع تقريبًا حتى رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وقت السَّحَر تقريبًا -حوالي الساعة الثالثة فجرًا- فأخبره برحيلهم، وعاد إليه الشعور بالبرد فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ينام عند رجليه وهو يصلي وغطّاه بعاءته، فنام حتى الصباح.

وأقامت كتيبة عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ومعهم الخيل حتى وقت السَّحَر، ثم ساروا خلف الجيش حتى وصلوا #~~~مَلَل~~~# مع ارتفاع النّهار، وقت الضُّحى تقريبًا، وكانت غطفان وسُلَيْم قد خافوا التفرّق، فساروا سويًّا حتى قريب من #~~~الطَّرَف~~~# ثم تفرّقت كل قبيلة إلى منازلها.

وفي صبيحته جاءت الأخبار المؤكدة برحيل الأحزاب وجلائهم التّام عن المدينة المنوّرة، فأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالانصراف إلى منازلهم، فخرجوا مسرورين مسرعين يبادرون للعودة لبيوتهم. وكره النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سرعة مبادرتهم للانصراف لئلا تكون لقريش أو بني قُريظة جواسيس تُخبرهم بانصراف المسلمين فيهجمون على المدينة، فأمر بردّهم وبعث عبد الله بن عُمر وجابر بن عبد الله وغيرهم يُنادون في أثرهم، فلم يرجع منهم أحد، فجاء عبد الله بن عُمر وقال: “جعلت أصيح في أثرهم في كل ناحية إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا، فما رجع منهم رجل واحد من الجوع والبرد”، وجاء جابر فوجد النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم منصرفًا من الخندق فأخبره فضحك صلى الله عليه وآله وسلَّم.

وصلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ودخل بيت عائشة رضي الله عنها، فاغتسل وأمر بالبخور ليتبخّر، فجاء جبريل عليه السلام على بغلة عليها سرج من جلد وعلى وجهه ووجه بغلته التُّراب، فوقف قريب من باب البيت ونادى: “عذيرك من مُحارِب”، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزعًا، فقال جبريل: “أو َقد وضعت السلاح يا رسول الله؟”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “نعم”، قال جبريل:”فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت من مُطاردة الأحزاب إلا الآن، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قُريظة، فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم حصونهم”، فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليًا عليه السلام، فأعطاه لواء الحرب وقد عادوا لتوهم به من الخندق، وأرسل بلالًا يؤذن في النّاس يطيف على المدينة: «من كان سامعًا مُطيعًا فلا يُصلّين العصر إلا في بني قُريظة».

ولبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلاح والدرع وركب فرسه، واجتمع إليه خاصّة أصحابه ولبسوا أسلحتهم ودروعهم وركبوا الخيل، وساروا حوالي 1.5 كم في حوالي عشر دقائق على الخيل، حتى وصلوا #~~~الصورين~~~#، فوجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الصحابة يتجهزون للحرب من الفرسان والمُشاة للحاق به وفيهم حارثة بن النّعمان رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «هل مر بكم أحد؟»، قالوا: “نعم، دحية الكلبي، مرّ على بغلة عليها برذعة من استبرق -حرير سميك مطرّز باللون الذهبي-، فأمرنا أن نلبس السلاح، فأخذنا سلاحنا وصففنا صَفَّين، وقال: “هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلع عليكم الآن”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم: «هذا جبريل» [^1].

ثم أكمل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم المسير حوالي 2 كم في ربع ساعة تقريبًا حتى وصل عند حصون بني قُريظة فجعل مُعسكره عند #~~~بئر أنا~~~#، وكان عليّ وأبو قتادة وأُسيد بن حُضير رضي الله عنهم قد سبقوا مع بعض المُهاجرين والأنصار، فلمّا رآهم بنو قُريظة أيقنوا بالشّر، وغرز عليّ عليه السلام الرّاية عند الحصن، وخرج اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه، فسكت علي وأبا قتادة وقالا: “بيننا وبينكم السيف”، وقال أُسيد بن حُضير: “يا أعداء الله، لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعًا، إنما أنتم ثعلب في جُحر”، قالوا: “يا ابن الحُضير، نحن مواليكم دون الخزرج”، وخافوا من كلامه، وقال لهم: “لا عهد بيني وبينكم ولا إِل -ميثاق-“، ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا رآه علي رضي الله عنه رجع إليه وأمر أبا قتادة أن يبقى بجوار الراية، وكَرِه عليّ أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذاهم وشتمهم، فقال: “يا رسول الله لا عليك أن تقترب من هؤلاء الأخابث”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟!»، قال عليّ: “نعم يا رسول الله”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا».

واقترب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حصنهم وقال: «يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت، هل أخزاكم الله وأنزل بكم النّقمة؟ أتشتمونني؟»، فأخذوا يحلفون بالتّوراة التي أُنزلت على موسى ما شتمناك، ويقولون: “يا أبا القاسم ما كنت جهولا”.

وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرُّماة من أصحابه -وهم خمسون رامٍ تقريبًا- أن يتقدموا يقودهم سعد بن أبي وقّاص فقال: «يا سعد تقدّم فارمهم»، فتقدّم سعد ومن معه حيث تصيبهم أسهمه ونبله ولا يؤذوه قدر الإمكان، واستمرّوا يرمونهم بوابل من السهام والحجارة، فاختبؤا في الحصن ولم يظهر منهم أحد، وخفف سعد وفرقته الرمي حتى لا يستنفذ ذخيرته كلها بلا داعٍ، فأخذوا يرمون ويتوقفون، وغربت الشّمس وهم يرمونهم.

[^1]: سيأتي رؤية حارثة بن النّعمان رضي الله عنه جبريل عليه السلام مرّة أُخرى، بالمسجد النّبوي الشريف يُكلّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الرّجوع من حُنين على هيئة دحية الكلبي أيضًا، فظنّه هو فلم يُلق السّلام، وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لو ألقى السلام لرددت عليه”.