6 ذو الحجة 10 هـ
3 آذار 632 م
يوميات حجّة الوداع: اليوم الحادي عشر

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـمنطقة (((النوارية: سَرِف)))، وفيها أمر الناس …

أن يُهِلّوا بعمرة إلا من ساق الهدي، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد ساق الهدي عن نفسه، ووقف لاستراحة يسيرة قبل إكمال المسير.

 

وفيها حاضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فدخل عليها صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي فقال «مالك ياعائشة لَعلَّكِ نَفِسْتِ؟» قالت : «نعم، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر» فقال : «لا تقولي ذلك، فإنكِ تقضين كل ما يقضي الحاج، إلا أنك لا تطوفين بالبيت».

 

ثم أكمل المسير حوالي 17 كم أخرى قطعهم في أربع ساعات إلا الربع تقريبًا إلى أن وصل ليلًا إلى (((ذي طوى))) على بعد 1.2 كم من البيت الحرام تقريبًا، فصلى بها المغرب والعشاء، واستراح أوّل الليل.

 

ولمّا أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الصبح واغتسل ثم دخل مكة نهارًا من أعلاها من (((كُدَاء))) من (((الثَنيَّة العليا))) حتى وصل عند الكعبة، فاستلم الحجر الأسود -لمسه بيده وقبَّله- وقال: «بسم الله والله أكبر»، وطاف بالكعبة سبعًا رَمَلَ منها ثلاثًا ومشى أربعًا يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة ولا يمس الركنين الآخرين اللذين في الحِجْر،  وقال بينهما «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعُمر بن الخطاب: «إنّك رجل قوي، إن وجدت الرُّكن خاليًا فاستلمه، وإلا فلا تُزاحِم الناس عليه فتُؤذِي وتُؤذَى»، وقال لعبدالرحمن بن عوف: «وكيف صنعت بالركن يا أبا محمد؟» قال: استلمت وتركت. قال : «أصبت».

 

ثم أتى عند مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام فقرأ قوله تعالى : {وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ثم صلى عند المقام ركعتين وقرأ فيهما مع الفاتحة “{قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و{قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]  جاعلًا المقام بينه وبين الكعبة ثم عاد للحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى جبل الصفا فقال: «أيها الناس، إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا»، ثم قرأ {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} [البقرة: 158] وبدأ السعي بين الصفا والمروة من عند الصفا بادئًا بما بدأ الله به، فسعى بينهما سبعًا راكبًا على بعيره يعدو ببعيره ثلاثًا ويمشي أربعًا وإذا رقى الصفا استقبل الكعبة ونظر إليها وقال: «لا إله إلا الله وكبّر»، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، ثم يدعو ثم يفعل عند الوصول للمروة كذلك إلى أن أنهى السبعة أشواط عند المروة، وبين الصفا والمروة يقول: «رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم».

 

ولما انتهى من الطواف والسعي أمر كل من لا هَدْي معه بالإحلال قارنًا كان أو مفردًا وأن يحلّوا الحل كله من مباشرة النساء والتطيب ولبس المخيط وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية وهو يوم الثامن من ذي الحجة، فيهلّوا حينئذ بالحج ويحرموا عند نهوضهم إلى (((منى)))، وأمر من معه الهَدْي بالبقاء على إحرامه، وقيل كان منهم أبوبكر وعمر وطلحة والزبير، ورجال من أهل المال الوفير ساقوا الهدي فلم يحلوا وثبتوا على إحرامهم، وقال لهم حينئذ إذ تردد بعضهم : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقتُ الهَدْي حتى أشتَرِيه ولجعلتُها عمرة ولأحللت كما أحللتم، ولكني سُقتُ الهَدْيَ فلا أحل حتى أنحر الهدي» وبقي على إحرامه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وكانت أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وابنته فاطمة عليها السلام وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كلهن لم يكن معهن هديًا فأحللن إلا عائشة رضي الله عنها فقد بقيت على إحرامها من أجل حيضها.

 

وسأله سُراقة بن مالك الكناني فقال يا رسول الله : مُتْعَتُنَا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ ولنا أم للأبد؟ فشبَّكَ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه وقال : «بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

 

وأمر من جاء إلى الحج على غير الطريق الذي أتى منه صلى الله عليه وآله وسلم وكان أَهَلَّ بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -أي قارناً- وليس معه هدي أن يحل، فكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه من أهل هذه الصفة.

 

وسألت أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم…

 

– قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟

– قال : «إني لبَّدت رأسي وقلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر».

 

 

ولحق عليّ رضي الله عنه بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أنهى طوافه وسعيه، وكان قد أرسله لليمن يأتيه بالهدي، وقيل إن عليًّا رضي الله عنه استخلف على جنده الذين معه رجلًا من أصحابه وسبقهم إلى مكّة، فكسا ذلك الرجل كل واحد من الجند ثوبًا من البز -لعله الكتان- من تلك التي أتوا بها من اليمن، فلما اقترب جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم تلك الثياب، فقال علي رضي الله عنه : ويلك! ما هذا؟، قال الرجل : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس؛ قال : ويلك! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال : فانتزع علي الثياب من الناس وردّها.

 

ثم وصل علي رضي الله عنه بعد أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمرة، فدخل أول ما دخل على فاطمة عليها السلام فوجدها قد حَلَّت من إحرامها وتهيَّأت، فقال : مالك يا بنت رسول الله؟ قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحل بعمرة فحللنا.

 

ثم دخل علي عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما كان منه في سفره، وأنه وجد فاطمة عليها السلام حَلَّت من إحرامها وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بهذا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صَدَقَت، صَدَقَت»، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «انطلق فطف بالبيت، وحل كما حل أصحابك» قال : «يا رسول الله إني أهللت كما أهللت -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم-» فقال : «ارجع فاحلل كما حل أصحابك»، قال علي : يا رسول الله إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «فهل معك هدي؟»، قال : لا، فأشركه صلى الله عليه وآله وسلم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ثم أظهر الجيش الذي كان مع علي شكواه لما صنع بهم من نزعه الثياب التي أخذوها، وبلغت شكواهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم خطيبا وقال : «أيها الناس لا تشكوا عليًّا، فوالله إنه لأخشن في سبيل الله من أن يُشكى».

 

 

ثم رجع إلى (((الحُجُون))) وهي على مسافة 500 – 1500 متر من البيت الحرام -بحسب مكان إقامته صلى الله عليه وآله وسلم فيها-.