1 هـ
622 م
يهود المدينة

هذا، وكما ابتلى الله المسلمين في مكة بمُشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها وهم: …

بنو قينقاع، وقريظة، والنضير، فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، وكانوا قبل مجيء الرسول يستفتحون على المشركين من العرب إذا شبّت الحرب بين الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، فلما جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون النبوّة في ولد إسماعيل، فكفروا بما أنزل الله بغياً، مع أنهم يرون أن رسول الله محمداً لم يأتِ إلاّ مصدقاً لما بين يديه من كتب الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين، مبيّناً ما أفسده التأويل منها، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومما عابوه على الإسلام نسخ الأحكام، وما دَرَوا أن القادر العليم يعلم ما يحتاج إليه الإنسان أكثر منهم، فإنه ميال بطبعه للترقّي، والرسول عليه الصلاة والسلام وجد بادىء بدء بين جماعة من العرب أُميين ليسوا على شيء من الاعتقادات الإلهية، فكانت الحكمة داعية لأن يكون التشريع لهم على التدريج، لأنه لو حرَّم الله عليهم شرب الخمر وأكل الربا، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وهكذا إلى آخر الأوامر والمناهي التي جاء بها الشرع الإسلامي لما أجابه أحد من هؤلاء النافرة قلوبهم، المختلفة أهواؤهم، الذين كانوا منغمسين في كثير من الأضاليل، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر شيئاً فشيئاً حتى رُوضت عقولهم، وهُذِّبت نفوسهم، وكانت الأحكام لا ينزلها الله عليه إلا عقب الحوادث التي تقتضيها، ليكون التأثير في النفوس أشد، ولكن اليهود أرادوا غَلَّ يد القدرة عن أن تفعل إلا ما يشتهون، وقد حجِّهم القرآن الشريف بما يدل على أنهم يعلمون من نفوسهم البُعد عن الحق، فقال في سورة البقرة: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] ثم حتَّم جلّ ذكره عدم إجابتهم بقوله: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} [البقرة: 95]. فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا عمّا طُلب منهم مع سهولته، وحرصهم على تكذيب الصادق الأمين، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو نُطْقاً باللسان. وقد تبّين الهدى لأحد رؤساء بني قينقاع وهو عبد اللهبن سَلام، فترك هواه وأسلم بعد أن سمع القرآن، وبعد أن كان اليهود يعدّونه من رؤسائهم، عدّوه من سفهائهم حينما بلغهم إسلامه، فـ{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90]، ولما استحكمت في قلوبهم عداوة الإسلام صاروا يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].