1 هـ
622 م
هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر، وأعلمه أن الله قد أذِنَ له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ، …

فقال: نعم، ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدَّتين لذلك، فجهزهما أحثّ الجهاز، وصُنعت لهما سُفْرَة في جِرَاب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها، وربطت به على فم الجراب، واستأجرا عبد اللهبن أُرَيقط من بني الدِّيلبن بكر، وكان هادياً ماهراً، وهو على دين كفار قريش فأمِنَاه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ. ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلاً خارج مكة، وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه، فاجتمعوا حول باب الدار، ورسول الله داخله، فلما جاء ميعاد الخروج، أمر ابن عمه عليّاً بالمبيت مكانه كيلا يقع الشك في وجوده أثناء الليل، فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده، ثم سجَّى عليَّاً ببرده، وخرج على القوم وهو يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]. فألقى الله النوم عليهم حتى لم يره أحد، ولم يزل عليه الصلاة والسلام سائراً حتى تقابل مع الصدّيق، وسارا حتى بلغا غار ثور فاختفيا فيه.

أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون عليبن أبي طالب لا محمدبن عبد الله، هاجت عواطفهم، فأرسلوا الطلب من كل جهة، وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طِلْبَتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما، حتى أبكى ذلك أبا بكر، فقال له عليه الصلاة والسلام: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يَحِنْ لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى الأعداء أميةبن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار. فأقاما فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب. وكان يبيتُ عندهم عبد الله بن أبي بكر وهو شاب ثقفٌ ولَقِنٌ فَيُدْلِج من عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، فلا يسمع أمراً يكتادون به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان عامربن فُهَيرة يروح عليهما بقطعة من غنم يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء، ويغدو بها عليهما، فإذا خرج من عندهما عبد الله تَبع أثره عامر بالغنم كيلا يظهر لقدميه أثر. ولما انقطع الطلب خرجا بعد أن جاءهما الدليل بالراحلتين صبح ثلاث، وسارا متبعين طريق الساحل.

وفي الطريق لحقهم طالباً، سُراقةبن مالك المُدْلِجي، وكان قد رأى رُسُلَ مشركي قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما مئة ناقة لمن قتله أو أسره. فبينما هو في مجلس من مجالس قومهبن مُدلِج إذ أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال: يا سُراقة إني رأيت آنفاً أَسْودَةً بالساحل أراها محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراد أن يثني عزم مُخبره عن طلبهم، فقال: إنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا يبتغون ضَالَّةً لهم، ثم لبث في المجلس ساعة، وقام وركب فرسه، ثم سار، حتى دنا من الرسول ومن معه، فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانياً وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثِر الالتفات فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخرّ عنها، ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تُخرج يديها حتى سَطَع لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فعلِمَ سراقة أن عمله ضائع سُدًى، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان فوقف عليه الصلاة والسلام ومَنْ معه حتى جاءهم، ويقول سُراقة: وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهما بما يريد بهما الناس، وعرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً بل قالا له: أخفِ عنّا، فسأله سراقة أن يكتب له كتابَ أمنٍ، فأمر أبا بكر فكتب. وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر الله فيها عنايته برسوله.

وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله وقدومه عليهم يخرجون إلى الحَرَّة حتى يردّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم أخرى، فقال اليهودي بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جَدُّكُم ــــ أي حظكم ــــ الذي تنتظرون، فثاروا إلى السلاح فتلقَّوا رسول الله بظهر الحَرَّة.