نحو استخلاص يوميات نبوية مؤرخة ومفصلة من روايات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

فضيلة الشيخ أبوبكر أحمد مليباري

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه، وحَرَمَ عن التخلق بأخلاقه مَن أراد تخييبَه، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه القادة الناجحين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن مَظاهِر اليوميات النبوية مما ينبغي على كل مسلم وداعية وعالم بالشريعة أن يتدبرها ويجعلها نصب عينيه، فدراستُها متعةٌ روحيةٌ وعقليةٌ وتاريخيةٌ؛ فهي ضروريةٌ لعلماء الشريعة والدعاة إلى الله والمهتمين بالإصلاح الاجتماعي، ليَضْمَنُوا إبلاغَ الشريعة إلى الناس بأسلوب منتج.
وإن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أصح سيرة لتاريخِ نبيٍ مرسلٍ، أو عظيمٍ مُصلِحٍ مما لا يترك مجالاً للشك في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى ولا توجد هذه الصحة في سيرة رسول من رُسل الله السابقين، فموسى عليه السلام قد التبستْ عندنا وقائعُ سيرته بما
أَدخل عليها اليهودُ من زَيْفٍ وتحريف، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لِنَستخرج منها سيرةً صادقة لموسى عليه السلام، فقد أخَذ كثير من النقّاد الغربيين يشكُّون في بعض أسفارها فإنما كُتِب بعد زمنٍ بعيد من غير أن يُعرَف كاتبُها، وهذا وحده كافٍ للتشكيك في صحة سيرة موسى عليه السلام وكذا سيرة عيسى عليه السلام، فهذه الأناجيل المعترَف بها
رَسْميًّا لدى الكنائس المسيحية إنما أُقِر بها في عهدٍ متأخِّر عن السيد المسيح بمئات السنين، وقد اختِيرتْ – بدون مُسوِّغٍ عِلميٍّ – من بينِ مِئات الأناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ. ثم إن نسبة هذه الأناجيل لكاتِبيها لم يَثبت عن طريقٍ عِلميٍّ تطمئن النفسُ إليه، فهي لم تُروَ بسند متصل إلى كاتبيها وإذا كان هذا شأنَ سِير الرسلِ أصحابِ الديانات المنتشرة في العالَم، كان الشكُّ أقوى في سيرة أصحاب الديانات الأخرى في العالم كبُوذَا وغيرِه.
فسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم شاملة لكل النواحي الإنسانية فهي تحكَي لنا سيرةَ الشابِّ الأمين المستقيم قبل أن يُكرمه الله بالرسالة، وسيرةَ رسولِ الله الداعيةِ إلى الله المُتَلَمِّسِ أَجْدَى الوسائلِ لقبولِ دعوتِه، الباذلِ منتهى طاقتِه في إبلاغِ رسالتِه، كما تَحكي لنا سيرتَه كرئيسِ دولةٍ يَضعُ لدولتِه أقومَ النُّظُم، و يحَميها بيقظتِه وإخلاصِه وصِدقِه…، نعم تحَكي لنا سيرةَ الرسولِ الزوجِ والأبِ في حُسنِ المعاملة والملاطفة والقيامِ بالواجبات تُجاهَ الأُسْرة…، بل سيرةَ الرسول المُرَبِّي المرشِد الذي يُشْرِف على تربيةِ أصحابِه تربيةً مثاليةً يَنقُل فيها مِن رُوحه إلى أرواحهم، مما يَجعلهم يَقْتدُون به في دقيقِ الأمور وكبيرها…، سيرةَ الرسولِ الصَّدِيقِ الذي يَقوم بواجباتِ الصحبة وآدابِها…، سيرةَ المجاهِد الشُّجاع، والقائدِ المنتصِر، والسياسيِّ الناجِح المستبصِر.
فسيرته مِثالٌ أفضلُ لكلِّ داعية، وكلِّ أب، وكلِّ زوج، وكلِّ صَديق، وكلِّ مُربٍّ،
وكلِّ سياسيٍّ، وكلِّ رئيس دولة، وهكذا..
وحياتُه صلى الله عليه وسلم واضحةٌ كلَّ الوضوح في جميع مَراحلها، منذ زَوَاج أبيه عبدِ الله بأمه آمنة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، فنحن نعرف الشيء الكثير عن ولادته، وطفولته وشبابه، ومَكسَبِه قبل النبوة، ورحلاته خارجَ مكة، إلى أن بعثه الله رسولاً كريماً ، ثم نَعرف بشكلٍ أدقَّ وأوضحَ وأكملَ كلَّ أحواله سَنَةً فسَنة.

ولكن بيان ذلك يستغرق أيامًا بل شهورًا فنُركِّزُ بحثَنا على مَحاوِر أربعة:

  1. طهارة النسب الشريف.
  2. تدقيق حَوادثِ الولادة الشريفة وحِكَمُها.
  3. حياتُه الزوجية، وحِكَم تعدُّدِ أزواجِه، والردّ على شبهات.
  4. دعوته وتبليغه.

النسب الشريف:

فنبينا سيد المرسلين أبو القاسم محمّد صلى الله عليه وسلم هو ابن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، بن قصيّ، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤيّ بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس بن مضر، بن نزار، بن مَعَدِّ، بن عدنان.
وَالنّسب إِلَى عدنان مُتَّفق على صِحَّته وَمَا بعده مْختَلف فِيهِ إِلاَّ أَنهم اتَّفقُوا على أَن النّسَب يرجع إِلَى إِسْماعِيل بن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله تَعَالَى.

طهارة النسب الشريف:

مما يَجْمُلُ بنا أَنْ نَستَوعِبَ أنَّ والدَي المصطفى صلى الله عليه وسلم كسائر أصوله من الآباء والأمهات إلى آدم وحواء حائزون شرفَ التوحيد والمعرفةِ فلم يمَسّ أحدٌ منهم شركًا ولا كفرًا لا حينما كان النور المحمدي معهم ولا بعده هذا هو التحقيق العِلميُّ الذي تَشهد له الأصولُ والنصوص، وخُلُوُّ قلبٍ عن هذا الاعتقاد وإن لم يَضرَّ صاحبَه إلا أن اعتقادَ خلافِه يَضر
صاحبَه فإنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم، كما يؤدِّي إلى كونِ غيرِه صلى الله عليه وسلم أفضلَ منه من حيث الأصول ولا يقول به عاقلٌ.
ويشهد له قول حسان بن ثابت رضي الله عنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأحسن منك لم تر قطّ عيني ** وأجمل منك لم تلد النساء
خُلقت مــــبرّأ من كـــل عيب ** كأنك قد خُلقت كما تشاء
فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على قوله «مبرّأ من كل عيب» ولا يخفى على أحد أن كفر الآباء والأمهات عيب فإنه لا عيب أفظع من الكفر والشرك.
قال الشيخ العلامة ابن حجر الهيتمي في المنح المكيّة بشرح الهمزية: « لم يكن في أمهاته صلى الله عليه وسلم من لدن حواء إلى أمه آمنة ولا في آبائه من لدن آدم إلى أبيه عبد الله إلا من هو مصطفًى مختارٌ؛ وشاهدُ ذلك حديثُ البخاري:
«بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ »، وحديث مسلم: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ،وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ،» وحديث الترمذي بسند حسن: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَير فِرَقِهِمْ وَخَيْرِ الفَرِيقَيْنِ ، ثُمَّ تَخَيَّرَ القَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ تَخَيَّرَ البُيُوتَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا- أي روحاً-، وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» أي أصلاً، وحديث الطبراني: «إن الله اختار الخلق فاختار منهم بني آدم ثُمَّ اختار من بني آدم فاختار منهم العرب ثُمَّ اختارني من العرب فلم أزل خيارًا من خيار ألا مَن أَحَبَّ العَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُم وَمَن أَبغَضَ العَرَبَ فَبِبُغضِي أَبغَضَهُم».
ثُمَّ قال الهيتمي:(تنبيهٌ):… إن الأحاديث مصرحةٌ لفظًا في أكثره ومعنى في كله أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ الأنبياء وأمهاتِه إلى آدم وحواء ليس فيهم كافرٌ لأن الكافر لا يقال في حقه «إنه مختار » ولا «كريم » ولا «طاهر » بل نجسٌ كما في آية {آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقد صرحت الأحاديث السابقة بأنهم مختارون وأن الآباء كرامٌ والأمهات طاهراتٌ وأيضًا فهم من إسماعيل كانوا من أهل الفترة وهم في حكم المسلمين بنص الآية الآتية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وكذا مَن بين كل رسولين وأيضا قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218] على أحد التفاسير فيه أن المراد: تنقُّل نوره من ساجد إلى ساجد وحينئذ فهذا صريح في أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة وعبد الله من أهل الجنة لأنهما أقرب المختارين له
صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق بل في حديث صححه غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه أن الله تعالى أحياهما له فآمنا به خصوصيةً لهما وكرامةً له صلى الله عليه وسلم فقول ابن دحية: « يرده القرآن والإجماع » ليس في محله لأن ذلك ممكنٌ شرعًا وعقلاً على جهة الكرامة والخصوصية فلا يرده قرآن ولا إجماع وكون الإيمان به لا ينفع بعد الموت محله في غير الخصوصية والكرامة؛ وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم ردت عليه الشمسُ بعد مغيبها فعاد الوقتُ حتى صلَى عليٌّ رضي الله عنه العصر أداءً كرامةً له؛ فكذا هنا، وطَعَنَ بعضُهم في صحة هذا بما لا يُجدِي أيضًا. وخبرُ أنه تعالى لم يأذن لنبيه صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه إما كان قبل إحيائها له وإيمانها به أو أن المصلحة اقتضت تأخير الاستغفار لها عن ذلك الوقت فلم يأذن له فيه حينئذ.
فإن قلتَ: إذا قررتم أنهما من أهل الفترة وأنهم لا يعذبون فما فائدة الإحياء ؟ قلتُ: فائدته إتحافُهما بكمالٍ لم يحصل لأهل الفترة لأن غاية أمرهم أنهم أُلحقوا بالمسلمين في مجرد السلامة من العقاب وأما مراتبُ الثواب العلية فهم بمَعزِلٍ عنها فأُتحفا بمرتبة الإيمان زيادة في شرف كمالهما بحصول تلك المراتب لهما.
قال الشيخ الهيتمي: ولا يَرِد آزرُ أنه كافر مع أن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز أنه أبو إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أهل الكتابين أجمعوا على أنه لم يكن أباه حقيقة وإنما كان عمَّه والعرب تسمي العم أبًا بل في القرآن ذلك قال الله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] مع أن إِسْمَاعِيلَ عمُّ يعقوبَ بنِ إِسْحَاقَ، بل لو لم يُجمِعوا على ذلك وجب تأويله بهذا جمعًا بين الأحاديث، وأما من أخذ بظاهره كالبيضاوي وغيره فقد تساهَلَ واستروحَ.
وحديث مسلم: « قال رجل: يا رسول الله أين أبي ؟ قال في النار فلما قَفَّا دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار » يتعين تأويله وأظهر تأويل له عندي أنه أراد بأبيه عمَّه أبا طالب لمِا تقرر أن العرب تسمي العم أباً، وقرينةُ المجاز فيه الآيةُ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] الشاهدةُ على خلافِ حديثِ: إن أبي الخ، على أصح مَحاملها عند أهل السنة وأن عمَّه هو الذي كفله بعد جده عبد المطلب.
وأما قول النووي – رحمه الله تعالى – في حديث مسلم: «إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان.. فهو في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم و غيره عليه الصلاة و السلام» اهـ فبعيدٌ جدًا للاتفاق على أن إبراهيم ومن بعده لم يُرسَلوا للعرب، ورسالةُ إسماعيل انتهت بموته
إذ لم يُعلَم لغير نبينا صلى الله عليه وسلم عموم بعثه بعد الموت، وقد يُؤوَّل كلامُه بحمله على عُبَّاد الأوثان الذين ورد فيهم أنهم في النار، وبهذا يُرَد كلام الفخر الرازي القريب من كلام النووي.
قال الهيتمي:… وما أحسن قولَ بعض المتوقفين في هذه المسألة !: الحَذَرَ الحَذَرَ مِن ذكرهما بنقص فإن ذلك قد يُؤذيه صلى الله عليه وسلم اهـ.
وأما الذين صح تعذيبهم مع كونهم أهل الفترة فلا يَرِدُونَ نَقضًا على ما عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وسبب ذلك:
أننا عهدنا في الغلام الذي قتله الخضر أنه حكم بكفره مع صباه لأمر يعلمه الله ورسوله فكذا هؤلاء حكم بكفرهم بخصوصهم وإن لم تبلغهم الدعوة لأمر يعلمه الله ورسوله فلا يرد هؤلاء نقضًا على ما استفيد من الآية ومشى عليه أولئك الأئمة أن أهل الفترة لا يعذبون…
وقول أبي حيان: «إن الرافضة هم القائلون: إن آباء النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنون غيرُ معذَّبين مستدلين بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218] » فلك رده بأن مثل أبي حيان إنما يُرجع إليه
في علم النحو وما يتعلق به وأما المسائل الأصولية فهو عنها بمعزِلٍ كيف والأشاعرة ومَن ذُكر معهم آنفا على أنهم غير معذَّبين ؟! فنسبةُ ذلك للرافضة وحدهم مع أن هؤلاء الذين هم أئمةُ أهلِ السنة قائلون به قصورٌ أيُّ قصور وتساهلٌ أيُّ تساهل» اهـ ما في المنح.
وقال العلامة المحقق الفقيه الشافعي جعفر البرزنجي في الكوكب الأنور على عقد الجوهر شرح مولد البرزنجي: اعلم أنه لم يثبت لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس دليل على أن الأبوين الشريفين في النار ولم يذكر ذلك أحد من الأئمة المجتهدين المتبوعين من الأربعة ولا من غيرهم وليس هذا من المسائل التي تتعلق بالاعتقاد الواجب في الشرع بل الذي يجب اعتماده واعتقاده – وهو الذي ثبت به الأدلة وندين الله ونلقاه به – أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل التوحيد وأنهما ناجيان غير معذبين وأنهما من خيار أهل الجنة » اهـ وله كلامٌ طويلٌ عريضٌ يحَسُن مراجعته.
وقال العلامة السِّندي في حاشية ابن ماجه: «وَفِي رِوَايَة مُسلِم عَن أَنَس أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّار»، قَالَ السُّيُوطِي وَإِنَّما ذَكَرهَا حَمَّاد بن سَلَمَة عَن ثَابِت وَقَد خَالَفَهُ مَعمَر عَن ثَابِت فَلَم يَذكُرهُ وَلَكِن قَالَ: «إِذَا مَرَرت بِقَبرِ كَافِر فَبَشَّرهُ بِالنَّارِ» وَلا دَلاَلَة فِي هَذَا اللَّفظ عَلَى حَال الوَالِد وَهُوَ أَثبَتُ فَإِنَّ مَعمَرًا أَثبَتُ مِن حَمَّاد فَإِنَّ حَمَّادًا تُكُلِّمَ فِي حِفظه وَوَقَعَ فِي أَحَادِيثه مَنَاكِير وَلَم يُخرِِّج لَهُ البُخَارِيّ وَ لاَ خَرَّجَ لَهُ مُسلِم فِي الأُصُول إِلَاّ مِن رِوَايَته عَن ثَابِت وَأَمَّا مَعمَر فَلَم يُتَكَلَّم فِي حِفظه وَ لاَ استُنكِرَ شَيءٌ مِن حَدِيثه وَاتَّفَقَ عَلَى التَّخرِيج لَهُ الشَّيخَانِ فَكَانَ لَفظُه أَثبَتَ ثُمَّ وَجَدنَا الحَدِيث وَرَدَ مِن حَدِيث سَعد اِبن أَبِي وَقَاصّ بِمِثلِ لَفظ مَعمَر عَن ثَابِت عَن أَنَس أَخرَجَهُ البَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَالبَيهَقِيُّ وَكَذَا مِن حَدِيث ابن عُمَر رَوَاهُ ابن مَاجَه فَتَعَيَّنَ الاِعِتمَاد عَلَى هَذَا اللَّفظ وَتَقدِيمه عَلَى غَيره؛ فَعُلِمَ أَنَّ رِوَايَة مُسلِم مِن تَصَرُّف الرُّوَاة بِالمَعنَى عَلَى حَسَب فَهمهم، عَلَى أَنَّهُ لَو صَحَّ يُحمَل فِيهِ الأَبُ عَلَى العَمّ.َََََََُ
وَلِهَذاَ قَالَ السُّيُوطِي فِي حَاشِيَة الكِتَابِ هَذَا أَي سُنَن ابن مَاجَه: مِن محاَسِن الأَجوِبَة أَنَّهُ لَما وَجَدَ الأَعرَابِيّ فِي نَفسه لاَطَفَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَلَ إِلَى جَوَابٍ عَامّ فِي كُلّ مُشرِك وَ لَم يَتَعَرَّض إِلَى الجَوَاب عَن وَالِده صلى الله عليه وسلم بِنَفيٍ وَ لاَ إِثبَات.
وأما قول النووي – رحمه الله تعالى – في شرحِ حديثِ «إِنَّ أَبي وَأَبَاكَ» الخ: «فِيهِ: أَنَّ مَن مَاتَ عَلَى الكُفر فَهُوَ فِي النَّار وَ لاَ تَنفَعهُ قَرَابَة الأقربِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَن مَاتَ فِي الفَترَة عَلَى مَا كَانَت عَلَيهِ العَرَبُ مِن عِبَادَة الأَوثَان فَهُوَ مِن أَهل النَّار… » اهـ، فواضحٌ أنه إنما قاله نظرًا لحال أبي ذلك الأعرابي السائل لا لأبيه صلى الله عليه وسلم فهو ساكتٌ عنه، كما نقله الزُرقاني في شرح المواهب عن الجلال السيوطي.
وأما قول الهيتمي عنه إنه بعيدٌ جدًا فإنما استَبعد كونَ أهلِ الفَترَة المذكورين مِن أَهل النَّار فإن المعتمد كما قاله الهيتمي وغيره أن أهل الفَترَة غير معذبين وإن بَلَغَتهُم دَعوَةُ نبيٍّ بُعث إلى غيرهم أو بدَّلوا ما عليه من الشرع فالقول بتعذيب هؤلاء ضعيفٌ وعُذرُ الإمام النووي في القول به أنه إنما ذَكر أن ظاهر الحديث يدل عليه ولا يلزم منه كون ذلك معتمَدًا
عنده ونظائره كثيرة في شرحه كما هو عادة كثير من شر شراح الحديث لا سيما الفقهاء منهم كما صرح به الشيخ ابن علان في الفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية.
وأَوْلى الأجوبة عن أمثال هذا الحديث أن أبا السائل ممن ورد فيهم أنهم معذَّبون وإن كانوا من أهل الفترة وأنَّ قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] عامٌّ خصوصٌ.
لكن الإمامَ الأُبَِّي في شرحِ مسلم أنكر على الإمام النووي –رحمهما الله تعالى– إطلاقَ كلامِه وعدمَ استثنائه أبا المصطفى صلى الله عليه وسلم لإيهامه أنه أيضا من المعذَّبين.
وأما حديث مسلم أيضا: « زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبكَى مَن حَولَهُ فَقَالَ: «استَأذَنتُ رَبِّي أَن أَستَغفِر لأمُِّي فَلَم يَأذَن لِي وَاستَأذَنتُه أَن أَزُور قَبرهَا فَأَذِنَ لِي» (وقَوله فَبَكَى وَأَبكَى) هذا البكاء من رقة القلب التي قد يَشعُر بها مَن يزور قبر أمه كما قاله الجلال، أو على ما فاتها من إدراك أيامه وحيازة شرف الدخول في هذه الأمة كما قاله القاضي عياض.
ولا شك أن أحدًا من النساء لا تُدانيها في فضيلتها من حيث اصطفاء الله تعالى لها لحملها حبيبه وولادتها له فيكفيها هذا التسبب أن ترافق معه صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وفي حاشية السندي على ابن ماجه: لاَ يَلزَم مِن البُكَاء عِند الحُضُور فِي ذلك المَحَلّ العَذَابُ أَو الكُفرُ بَل يُمكِن تحَقُّقُه مَعَ النَّجَاة وَالإِسلاَم أَيضًا لَكِن مَن يَقُول بِنَجَاةِ الوَالِدَينِ لَهُم ثَلاثَة مسَالك فِي ذَلِكَ مَسلَك أَنَّهُمَا مَا بَلَغَتهُما الدَّعوَة، وَ لا عَذَابَ عَلَى مَن لَم تَبلُغهُ الدَّعوَة لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء: 15] إِلَخ فَلَعَلَّ مَن سَلَكَ هَذَا المَسلَك يَقُول فِي تَأوِيل الحَدِيث إِنَّ الاِستِغفَار فَرع تَصَوُّر الذَّنب وَذَلِكَ فِي أَوَان التَّكلِيف ولاَ يُعقَل ذلّك فِيمَن لَم تَبلُغهُ الدَّعوَة فَلاَ حَاجَةإِلَى الاِستِغفَار لَهُم فَيُمكِن أَنَّهُ مَا شر شِرعَ الاِستِغفَار إِلاَّ لأَِهَلِ الدَّعوَة لاَ لِغَيرِهِم وَإِن كَانُوا نَاجِينَ وَأَمَّا مَن يَقُول بِأَنَّهُمَا أُحيِيَا لَهُ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَا بِهِ فَيَحمِل هَذَا الحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبل الإِحياء… » اهـ.
وأما قول النووي – رحمه الله تعالى – في شرح حديث مسلم أيضا: فِيهِ جَوَاز زِيَارَة المُشرِكِينَ فِيالحَيَاة وَقُبُورهم بَعد الوَفَاة لأِنََّهُ إِذَا جَازَت زِيَارَتهم بَعد الوَفَاة فَفِي الحَيَاة أَولَى وَقَد قَالَ الله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]، وَفِيهِ النَّهيُ عَن الاِستِغفَار لِلكُفَّارِ» اهـ.
فهذا القول لا يُوهِمنَّك أنه قائلٌ بكُفر الوالدين أو أحدِهما فحاشاه أن يقع في مثل هذا السُّخف الوَخيم والخِذلان المبين فإنه إنما قَاسَ حُكمَ المُشرِكِينَ على حُكم أمِه الموحِّدة وإن لم تَحُزْ حظ الإيمان به حينئذٍ بجامع أن كلا من المقيس والمقيس عليه ممن لم يؤذن له في الاستغفار له إلا أنه مِن قياس الأدنى على الأعلى، ولم يدَّعِ أن الدلالة قوية حتى يُعترض
عليه به، كما أن في قوله: «وَفِيهِ: النَّهي عَن الاِستِغفَار لِلكُفَّارِ» قياسَ الأعلى على الأدنى فإنه صلى الله عليه وسلم إن لم يأذن له في الاستغفار لأمه الموحِّدة الخالية حينئذٍ عن الإيمان به صلى الله عليه وسلم فالكفار والمشركون أولى بعدم الإذن بل بالمنع فتأمل.
وأما معنى استغفارِه صلى الله عليه وسلم لها فكأنه طلبُه صلى الله عليه وسلم لرفع درجاتها حيث لم تَّحُز خيريةَ هذه الأمة ودرجاتِها العاليةَ التي تَغبِطها سائرُ الأمم، وأما الاستئذان فيه فلأنَّ كُمَّل الأولياء لا يَفعلون شيئًا ولا يَذَرونه إلا بإلهامٍ منه تعالى؛ فما ظنُّك بسيد الأصفياء الذي لا ينطق عن
الهوى ؟ وإِنما لم يأذن الله له صلى الله عليه وسلم فيه لأنه أراد أن يَكفيَه كُلفةَ الاستغفار بأعظمَ منه كرامةً وهي إحياؤُه لها في حجَّة الوَدَاعِ كما فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالمَنسُوخِ من حديث عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها فآمنت به صلى الله عليه وسلم وكذلك أبوه صلى الله عليه وسلم فوقعت بذلك بَعدَ نعمةِ الإيمان به صلى الله عليه وسلم نعمةُ الملاقاة بعد طول الفِراق والاشتياق.
وأما ما رَوى الحاكم عن ابن مسعود والطبراني عن ابن عباس من أن قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ} [التوبة: 113] نزل حينما استأذن صلى الله عليه وسلم ربه في الدعاء لأمه فلم يصح فجميع طرقه معلولة كما نقله الزرقاني في شرح المواهب عن الحافظ ن السيوطي، ويؤيده ما رواه الشيخان أن الآية نزلت حين قال صلى الله عليه وسلم لأَبي طَالِبٍ إذ حَضَرَتهُ الوَفَاةُ: «لأسَتَغفِرَنَّ لَكَ مَا لَم أُنهَ عَنهُ»، واحتمالُ تكرُّرِ نزولِها غيرُ مسلَّم وإلا لكان صلى الله عليه وسلم فاعلاً لما نُهِيَ عنه أوَّلًا فيُقاصِمُ ذلك ما قرره الأئمة المحققون بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، من عصمته صلى الله عليه وسلم حتى من خلاف الأولى سهوًا كما أشار إليه الحلبي.
وفي مسالك الحنفا: «حصل مما أوردناه أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم من عهد إبراهيم إلى كعب بن لؤي كانوا كلهم على دين إبراهيم وولد كعبٍ مُرة الظاهر أنه كذلك لأن أباه أوصاه بالإيمان وبقي بينه وبين عبد المطلب أربعة آباء وهم كلاب وقصي وعبد مناف وهاشم ولم أظفر فيهم بنقل لا بهذا ولا بهذا. وأما عبد المطلب ففيه أقوال: أحدها وهو الأشبه أنه لم تبلغه الدعوى لأجل الحديث الذي في البخاري وغيره. والثاني أنه كان على التوحيد وملة إبراهيم الخ.
وعبد مناف اسمُه المُغِيرة وكان يقال له: «قمر البطحاء » لحسنه وجماله، ومما يدل على توحيده ما وُجِد عنه مكتوبًا في حَجَرٍ – كما في السيرة الحلبية –: «أَنَا المغِيرةُ بنُ قُصَيَّ، أُوصِي قُريشًا بتقوى الله جل وعلا وصلةِ الرحم.
قال العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد عُلَيش المصري [1217 هـ /1299] مفتي المالكية في القول المنجي على مولد البرزنجي: «مناف بفتح الميم مخفف النون من الإنافة بمعنى الارتفاع أو الإشراف أو الزيادة لقب به لمشابهته لعبد مناف بن كنانة» اهـ.
ولم يثبت أن منافاً اسم صنم وإن تساهل فيه السهيلي وغيره وعلى فرض ثبوته فلعل نحوَ خالاتِه أو أعمامِه لَقَّبته به في طفولته كما كان بعض الصحابة في الجاهلية سُمُّوا بأسماءٍ منهيٍّ عنها فمنهم من غَيَّر بعد إسلامه ومنهم مَن أبقى ولا يدل ذلك أنه كان يخدُم صنماً؛ وعلى كل لا يُشكل في حقهم قادحٌ إلا إذا صح ولم يصح شيءٌ من القوادح فوجب التمسكُ بما تَوفر من الأدلة على توحيدهم، فالضعيفُ وإن قُبلَ في المناقب لا يُقبل في المثالب.
ووقع في نسخة للفقه الأكبر المنسوب للإمام الأعظم ما هو بَريئٌ منه وهو: «ووالدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر» وقد فتشنا نُسَخًا لهذا الكتاب فلم نجد فيها المسألة أصلاً؛ ولذا قال الإمام الباجوري: إنه مدسوسٌ عليه.
وعفا الله تعالى عن الملا علي القاري الحنفي حيث وجد في نسخته تلك الكلمة الشنيعة فأعماه تعصُّبُه المذهبيُّ وشغَفُه بتوجيه كلِّ ما حكى عن الإمام الأعظم قبل تصحيح النقل عنه حتى حَدٰا بِه إلى إفرادِه رسالةً في إثبات موتهما على الكفر وهي المعروفة ب «أدلة معتقَد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه السلام» ظنًّا منه أن إمامه عليه وقد وجدناه قد غلِط في تأصيله وتفريعه غلطًا فادحًا.
لكن الظاهر أن الملا القاري رجع عن مضمون هذه الرسالة فقد صحَّح في شرح الشفا إسلامَهما فقال في آخِرِ فصلِ معجزاتِ تفجيرِ الماء ببركته صلى الله عليه وسلم: «وأبو طالب لم يصح إسلامه وأما إسلام أبويه ففيه أقوالٌ والأصح إسلامُهما على ما اتفق عليه الأَجِلَّةُ من الأمة كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة» اهـ.
ورسالتُه الخاطئة قبل شرح الشفا فإنه قال في أواخِر هذا الشرح في الفصل السادس من الباب الأول من القسم الرابع أثناء كلام: قال إمامُنا في الفقه الأكبر: «إن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر » وقد كتبتُ في هذه المسألة رسالةً مستقلة ودفعتُ فيها ما ذكره السيوطي من الأدلة على خلاف ذلك في رسائله الثلاث» اهـ.
إلا أن يكون تأليفُ رسالتِه خِلالَ هذا وذاك التصحيحِ السابق، وقد نقل الشيخ عبد الرحمن المليباري في تأليف النقول عن الشيخ عابد السندي في طوالع الأنوار شرح الدر المختار ما نصه: «لما توفي الشيخ علي القاري وجده الغَسَّالُ مقطوعَ اللسان فاهتم الغَسَّالُ لذلك حيث يكون مثل هذا العالم النحرير المتفنن حاله هكذا فرأى في منامه عقيب دفنه أن الشيخ علي القاري يقول له: «لا تهتم فإني جُوزِيتُ على رسالتي التي ألفتُها في تحقيق كفر والدي النبي صلى الله عليه وسلم بقطع اللسان ففي هذا عِبرة لمن اعتبر» اهـ، ولعل هذا على رجوعه إما لنحوِ تفريطٍ في التحسُّر والتوبة، فينبغي وِفاقُ التوبة لعِظَم الحوبة، أو لأن فيه عبرة لمن يتكلم في حق الوالدين بالريبة.
وفي روح البيان في تفسير قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ}  [الشعراء: 218]: «حق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام ويصونه عما يتبادر منه النقصان خصوصًا إلى وهم العامة. فإن قلت: كيف نعتقد في حق آباء النبي عليه السلام؟ قلتُ: هذه المسألة ليست من الاعتقاديات فلا حظ للقلب منها وأما حظ اللسان فقد
ذكرنا»اهـ.
وفي روح المعاني هنا: «واستدل بالآية على إيمان أبويه صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه كثير من أجلة أهل السنة وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما – رضي الله تعالى عنهما على رغم أنف على القارىء وأضرابه – بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية الآية على هذا المطلب» اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ}[البقرة: 119] «والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحِّدين في زمن الكفر وعليه حمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أَكَاد أقول: إنهما أفضل مِن عَلِيّ القاري وأضرابه»اهـ.
وعفا الله تعالى أيضا عن جمع من العلماء زلّوا في هذه المسألة وصرّحوا بشرك الأبوين وغيرهما وخلودهما في النار فإن جلالتهم تستوقفنا أن نسيئ فيهم الظنون.

تدقيق حوادثِ الولادة وحِكَمها:

كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، ولما نجا من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة من الإبل، زوجه من أشرف نساء مكة نسبًا، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
ولم يلبث أبوه أن توفي بعد أن حملت به آمنة، ودُفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار , فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، وكأن القَدْرَ الإلهي يقول له: قد انتهتْ مهمتُك في الحياة وهذا الجنين الطاهر يتولى الله -عز وجل- بحكمته ورحمتِه تربيتَه وتأديبَه وإعدادَه لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
وولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل في العشرين من أَبرِيل الشهر الرومي الميلادي الموافق 20 نَيسان الشهر السابع اليوناني. سنة إحدى وسبعين وخمسمائة [571] ميلادية.
وُلِدَ بِمَكَّةَ شَرقَ الكعبة المشرفة فِي دٰار أَبِيهِ بِسُوقِ اللَّيلِ الَّتِي سَكَنَهَا الوالدانِ بِآخِرِ شِعبِ بَنِي هٰاشِمٍ بِزُقٰاقٍ مَعرُوفٍ بِزُقٰاقِ المَولِدِ وَ لّما هٰاجَرَ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهٰا عَقِيلُ بنُ أَبِي طٰالبٍِ ثُمَّ بٰاعَهٰا أولادُهُ محمََّدَ بنَ يوسف أَخَا الحَجّٰاجِّ فَبَنَى حَولَ المَولِدِ دٰارَهُ «البَيضٰاءَ» ثُمَّ اشترَتهَا الخَيزُرٰان أُمُّ هٰارُونَ الرَّشِيدِ فَأَفرَزَتهُ مِنَ «البَيضٰاءَ» وَبَنَتهُ مَسجِدًا شُهِرَ بِمَسجِدِ المَولِدِ وَتَعَهَّدَهُ بِالتَّجدِيدِ خلفاءُ وَحُفَّ مَسقَطُهُ صلى الله عليه وسلم بِالفِضَّةِ وَكان المَسجِدُ مُرَصَّعًا بِالذهب وَكٰانَ أَهلُ مَكَّةَ يَزُورُونَهُ كُلَّ سَنَةٍ يَومَ المِيلادِ وَهُوَ اليَومَ مَكتَبَة جِهَةَ بٰابِ السَّلامِ بَنٰاهٰا الشيخُ عباسُ بن يوسف القَطَّانُ أمينُ عاصمة مكة في عهد الملك عبد العزيز السعودي إِذ خٰافَ عليه مَعٰاوِل العُدوٰان.
وقد روَى كبار المؤلّفين في السيرة والحديث ما ظهر حين الولادة من الخوارق خارجةً من التأثير البشريّ، مسترعيةً للانتباه ممن رُزق قوةَ الاعتبار، لافِتةً إلى استئناف العالم والحياة البشرية دَورًا جديدًا في الدينِ والأخلاقِ، ومسيرةِ الرَّكْب الإنسانيّ، ومصيره.
منها أن أمه صلى الله عليه وسلم آمنة أَبصَرَت يخرُجُ مِن رَ حِمِها نُورٌ كَالشُّهبٰان إلىبُصرَى الشّٰامِ لاَ بَصرى بَغدٰادَ أَشرَقَت مِنهُ قُصُورُهٰا فَأَبصَرَتهٰا وَكٰانَت بُصرَى الشّٰامِ مَتجَرَ العَرَبِ مِن أَعمالِ دِمِشقَ قَصَبَةِ الشّٰامِ تَحتَ النَّصٰارَى الرُّومِ، وَالشّٰامُ هُنٰا: «سُورِيَةُ القَدِيمَةُ » أَكبَرُ مِن «سُورِيَةِ » الآنَ شٰامِلَةٌ عِدَّةَ بلاد: دِمِشقَ وَالأُردُنَّ وَفِلَسطِينَ وَقِنَّسرِينَ وَ حِمصَ وَلُبنَان كَما رَأَت حِينَ الحَملِ مِثلَهُ مَنٰامًا.
وَفِي رُؤيَةِ خُرُوجِ النُّورِ ثَماني حِكَمٍ وَإِشٰارٰات:
اَلأُولى: إِلى أَنَّ بُصرى أَوَّلُ مَدِينَةٍ تُفتَحُ مِنَ الشّٰامِ الحٰاوِي عَلى عدة بُلدٰان.
وَالثّٰانِيَةُ: إلى مٰا صَحَّ أَنَّ بِالشّٰامِ مُلكَهُ وَالسُّلطٰان.ٰٰ
وَالثّٰالِثَةُ: إِلى مٰا صَحَّ أَنَّ بهٰا صَفوَةَ عِبٰادِ الله تَعٰالى الأعيان.
وَالرّٰابِعَةُ: إِلى مٰا صَحَّ أَنَّهَا الَمشَرُ يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّماءُ الحٰالِيَّتٰان.
وَالخٰامِسَةُ: إِلى أَنَّ إِلَيهَا الإِسرٰاءَ فَالعُرُوجَ إِلَى السِّدرَةِ وَالجِنٰان.
وَالسّٰادِسَةُ: إِلى مٰا صَحَّ أَنَّها مَنٰارُ آخِرِ الزَّمٰان.
وَالسّٰابِعَةُ: إِلى مٰا صَحَّ أَنَّ عَلى مَنٰارَةِ شرقِيِّ دِمِشقَ يَنزِلُ عِيسٰى عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ الدائمان.
وَالثّٰامِنَةُ:إِلى أَنَّهُ سَتَكُونُ لِلنُّورِ صلى الله عليه وسلم إِلى بُصرَى الشّٰامِ رِحلَتٰان، لِتَظهَرَ فِي الرِّحلَتَينِ آيٰاتُ نُبُوَّتِهِ فَيَعرَفَهُ الرُّهبٰان، فَرَحَلَ إِلَيهٰا وَهُوَ ابنُ الثّٰانِيَ عَشَرَ مَعَ أَبِي طٰالِبٍ فَكُلَّما مَرَّ بِشَجَرٍ أَوحَجَرٍ خَرّٰا لَهُ يَسجُدٰان، وَوَصٰى بَحِيرٰا الراهبُ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ وَكَشَفَ عَن خٰاتَمِهِ بإذعٰان، ثُمَّ مَعَ مَيسَرَةَ وَهُوَ ابنُ خَمسٍ وعِشرِينَ فَعَرَّفَ بِهِ نَسطُورَا الراهبُ وقد أسفر عن إرهاصاتٍ هذانِ السَّفَران.
وَمِنهٰا: انشِقٰاقُ إِيوٰانِ مَلِكِ الفُرسِ كِسرٰى أَنُو شر شروٰان الذي شِيدَ بِعٰاصِمَتِهِ «مَدٰائِنِ » العِرٰاقِ حتى سقَطَ مِن شَُرفِ الإِيوٰان أَربَعَ عَشرَةَ شُرفَةً بَعدَ أَن سُمِعَ لَهُ صَوتُ الرَّعدِ. وكان له اثنَتٰان وعِشرُونَ شُرفَةً عَدَدُ سنوات عيش أَنُو شروٰانَ بَعدَ ولادته صلى الله عليه وسلم كُلُّ شُرفَةٍ خَمسَة عشر ذراعًا.ََ
وَقَد شٰادَهُ سٰابُورُ مَلِكُ بَنِي سٰاسٰان طَوٰالَ نَيفٍ وَعِشرِينَ عٰامًا بِالطُّوبِ وَالجِصِّ وَالحجارة بِطِلاءِ الذَّهَبِ وَنُقُوشِ الجَوٰاهِرِ وَالزَّبَرجَدِ وَاللؤلؤ سَمكُهُ وَطُولُهُ مِئَة ذراع وَعَرضُهُ خَمسُونَ ذِرٰاعًا لا تُضعِفُهُ فُؤُوس وَ لا أَزمٰان ثُمَّ جَدَّدَ فِيهِ أَنُو شروٰانَ مَزِيدَ الإِتقٰان.
والحكمة في سقوط أربعة عشر أنه ما مَلَكَ مِنهُم بعد هذا إِلٰا أَربَعَةَ عَشَرَ ماتوا فِي أَربَعِ سِنِينَ إِلٰا أَربَعَةً مّنهُم فَبَقُوا إِلِى خِلافَةِ سَيِّدِنٰا عُثمان.
وَمنها أَنه غاضت بُحَيرَتُهم بِسٰاوَةَ بِكُردِستٰان إِقلِيمِ إِيرٰانَ فِي نَحوِ خَمسِينَ كِيلُومِترًا طُولاً وَعَرضًا تُركَبُ فِيهَا السُّفُنُ إِلِى بِلادِ فٰارِسَ فَيَبِسَت تِلكَ اللَّيلَةَ ثُمَّ عٰادَت مَدِينَةَ سُوقٍ كَما أَنَّ مِن أَشرٰاطِ السّٰاعَةِ غَيضَ بُحَيرَةِ طَبَرِيَّةَ المَلأَىٰ حتى الآن.ََٰٰ
وَمنها: انخِرٰاقُ سَدِّهِم عَلى دِجلةِ البَصرَة مَعَ إِحكٰامِ البُنيٰان.
وَمنها: إِهمٰادُ مٰا يُوقِدُونَهاٰ مُنذُ أَلفِ عٰامٍ مِنَ النِّيرٰان وَلَم يَزٰالُوا يَعبُدُونهاٰ وَيَرمُونَ إِلَيهَا المِسكَ وَالرَّيحٰان.
وفي هذه الحوادث حِكمٌ ثلاثٌ: الأولى: إِذلالُ المجوس عبدة النار.
والثانية: إخضاعُ مَملَكَةِ كِسرى الذي كٰانَ نَحوُ الحِجٰازِ مِن أَعمالِه وَعٰامِلُهُ النُّعمان.
والثالثة: شيوع نَبَأِ الوِلادَةِ العجيبة في أصقاع الأرض؛ ليَعَلمَ الكُلُّ بِوِلادَةِ صبي سيصير نَبِيّا يبث في الكون العلم والنور.
فَما أَعظَمَ هٰذِهِ الآيٰاتِ أَصٰابَت دُنيٰاهُم وَدِينَهُم وَعَمَّتِ الرَّعِيَّةَ وَالسلطان كَسَرَت تِيهَ المَلِك وَالوُزَرٰاء وَالجُنُود حتى اجتَمَعوا فِي الدِّيوٰان، فَتَشَتَّتَ شَملُهُم فِي جَزَعٍ وَهَوٰان.
وَمِنهٰا: أَنَّ وٰادِيًا جٰافًّا بِالسَّماوَةِ القَفرَةِ سٰالَ بِفَيَضٰان وَهِيَ: بَينَ كُوفَةِ العِرٰاقِ وَالشّٰامِ، وَاليَومَ: مَدِينَةٌ جَنُوبَ العِرٰاقِ لِيَعلَمَ الفُرسُ أَنَّ المَفٰاوِزَ لا تَفِيضُ كَالوُديٰان إِلا بِمَن لَهُ التَّصرِيفُ فِي الأَكوٰان.

حياتُه الزوجية، وحِكَم تعدُّدِ أزواجِه، والرد على شبهات

وَأَزوٰاجُهُ اللّاتيّ دَخَلَ بِهِنَّ وَلَم يُطَلِّقهُنَّ اثنَتٰا عَشرَةَ:

  1. خَدِيجَةُ بنت خويلد رضي الله عنها: كانت خديجة رضي الله عنها أرملة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صلى الله عليه وسلم صدقُ حديثه، وعِظَمُ أمانتِه، وكرمُ أخلاقه، عَرَضتْ عليه أن يَخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتُعطيه أفضلَ ما تعطي غيره من التجار، فقَبِلَ وسافر معه غلامُها ميسرة، وقدِمَا الشام، وباع محمد صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعتْ خديجةُ ما أحضَره لها تَضاعَفَ مالُها، ورأت خديجة في مالها من البركة ما لم تَر قبل هذا وأُخبرت بشمائله الكريمة، ووجدت ضالتها المنشودة, فتحدثتْ بما في نفسها إلى صديقتِها نَفِيسةَ بنتِ مُنْية، وهذه هي التي ذَهبت إليه صلى الله عليه وسلم تُفاتحِه أن يتزوج خديجة فرضي بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب فخطبها إليه، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها
    عشرين بَكرة. والصحيح أن عمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة.
    إن أول ما يدركه الإنسان من هذا الزَّوَاج – كغيره – هو عدمُ اهتمامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجَسدية، بدليل أنها كانت أكبر منه سناً بخمس عشرة سنة،
    وكانت ثيباً عندما تزوجها، إذ تزوجت بعتيق ابن عائذ المخزومي فولدت له بنتاً، وتزوجت بعده أبا هالة بن النباش التميمي، فولدت له ابنها هنداً وبنتاً. ثم إنها كانت هي التي سَعَتْ للزَّواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وخديجة مَثلٌ أطيب للمرأة التي تُكَمِّل حياة الرجل العظيم، فإن أصحاب الرسالات يُقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فَرْضَه، وفي تغيير الواقع الذي يعاينونه فهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال فَكٰانَت بِحَزمِهٰا خَيرَ مُسَلِّيَةٍ لَهُ مُقَوِّيَةً لِلجَنٰان إِذ ثٰارَ عَلَيهِ أَهلُ مَكَّةَ حِينَ بَلَّغَ التَّوحِيدَ إِلَى الآذٰان وَتُوُفِّيَت إِذ بَقِيَت لِلهِجرَةِ ثَلاث أَو سَنَتٰان. ولم يتزوج عليها إلا بعد وفاتها عن خمس وستين سنة، وكان عمره حين وفاتها خمسين عاماً، فَيٰا وَيحَ مَن يَزعَمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كٰانَ رجلا
    شَهوٰانيا ! ومن تأمل حقيقة أنكحته صلى الله عليه وسلم أدرك أن فِي كُلِّ نِكٰاحِهِ حِكَما ما تَعلِيمِيَّةً [أي كون أزواجه صلى الله عليه وسلم معلمات أحكام الدين نتيجةَ اطلاعهن من أحواله على ما لا يطلع عليه غير أهل بيته] وَتَشرِيعِيَّة وَسِيٰاسِيَّة وَاجتِماعِيَّة وَسِيكُولِيجِيَّة أَو حِكمَتين وَمٰا كٰانَ لِغَرَضٍ شَهوٰانِيِّ كَما يَزعَمُهُ الأَفّٰاكُونَ.ٰ
  2. فَسَودَةُ بِنتُ زَمعَةَ كٰانَت مِنَ المُهٰاجِرٰاتِ إِلَى الحَبَشَةِ مَعَ زَوجِهَا «السَّكرٰان» فَلَما تُوُفِّي عَنهٰا تَزَوَّجَهٰا وَبَنٰى بِها بِمَكَّةَ إِذ كانت يُخشٰى عَلَيهٰا مِن قَومِهَا العُدوٰان.
  3. فَعٰائِشَةُ بِنتُ أَبِي بَكرٍ أَخَصِّ أصدقائه صلى الله عليه وسلم نَكَحَهٰا وَهِيَ ابنَةُ سِتٍّ طَعَنَت فِي السابعة كَما رَوٰاهُ الشَّيخٰان وَبَنٰى بهٰا بِطَيبَةَ وَهِيَ ابنَةُ تِسعٍ زَفَّتهٰا إِلَيهِ أُمُّهٰا أُمُّ رُومٰان فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَفَرَّسَ فِيهٰا غٰايَةَ اللُّبِّ وَالنَّجٰابَةِ فإنهُما نٰافِعٰان لِلدِّينِ حتى تَكُون لَنٰا خَيرَ مُعَلِّمَةٍ أَسرٰارَهُ وَحَيٰاتَهُ الزَّوجِيَّةَ وَأَحكٰامَ النِّسوٰان فَنَكَحَهٰا فِي الصِّغَرِ كَيلا يخطُبَهٰا من لا يستخدم نجابتها لِلدِّينِ الحق. وَفِيهِ أيضا تَفرِيحُ قَلبِ أَبِي بَكرٍ وَتَشرِيعُ نِكٰاحِ الصَّبِيَّةِ أَوٰانَ تُلاعِبُ الأَخدٰان.ٰٰ
  4. فَحَفصَةُ بِنتُ عُمَرَ فَاستُشهِدَ نتيجة جراح غزوة أُحُدٍ زَوجُهٰا خُنَيس بن حذافة البدري صاحب الهجرتين، فحَزِنَ والدُها لحزنها، فعرضها والدُها عمر رضي الله عنه على صاحبيه أ بي بكر وعثمان رضي الله عنهما، فاعتذر الثاني وسكت الأول لعلمه برغبة النبي صلى الله عليه وسلم في مواساتها بالاقتران بها تقديرا لخدمات أبيها الجليلة لِلدِّينِ.
  5. فَزَينَبُ بِنتُ خُزَيمَةَ فَاستُشهِدَ زَوجُهٰا بِبَدرٍ أَو أُحُدٍ فَتَزَوَّجَهٰا بَعدَمٰا تَعٰاقَبَ عَلَيهٰا بَعلان فَسُلِّيَت عَنِ الهَمِّ وَتُوُفِّيَت بَعدَ مُضي شَهرين. ودعيت في الجاهلية بأم المساكين لرحمتها بهم.
  6. فَأُمُّ سَلَمَةَ بِنتُ أَبِي أُمَيَّةَ صاحبة الهجرتين، فَاستُشهِدَ زَوجُهٰا بِأُحُدٍ عَن أَربَعَةِ أَولادٍ كُلُّهُم أيتام فَتَزَوَّجَهٰا جَبرًا لخِاٰطِرِهٰا وَكفالة لِلوِلدٰان.
  7. فَزَينَبُ بِنتُ جَحشٍ ابنةُ أُميمةَ بنتِ عبد المطلب، عمتِه صلى الله عليه وسلم، زوَّجَها رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه ومُتَبَنّٰاهُ زيد بن حارثة فطَلَّقَهٰا زَيد كَما قٰالَ تَعٰالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] أي تَشرِيعًا لِنِكٰاحِ مُطَلَّقَةِ المُتَبَنّٰى وَقَد حَرَّمَهُ أَهلُ الجٰاهِلِيَّةِ، وَكٰانَ تَعٰالى أَعلَمَهُ أَنَّها زَوجُهُ إِذٰا فٰارَقَهٰا زَيدٌ فَأَخفٰاهُ كَما جٰاءَ فِي القُرآن: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي بِالإِيمان وَهُوَ مولاه زَيدُ بنُ حٰارِثَةَ كٰانَ عبدا صبيا وَهَبَتهُ خَدِيجَةُ لَهُ صلى الله عليه وسلم إِذ تَزَوَّجَهٰا {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي فِي الجٰاهِلِيَّةِ بِالإِعتٰاقِ وَالتَّبَنِّي وَهُوَ ابنُ ثَمان {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] مِن كَونِهاٰ زَوجَكَ إِذٰا طلَّقها زَيدٌ {وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ} [الأحزاب: 37] أي أَن يَقُولُوا: تَزَوَّجتَ زَوجَ ابنِكَ! فَيَهلِكَ به الضُّعَفٰاءُ {وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أَي لا تَخشَهُم وَامضِ إِلى مٰا أُمِرتَ مِن تَزَوُّجِهٰا بِإِعلان. فَلَيسَ فِي الآيَةِ عَلَيهِ لومٌ ولا عِتْبان.
  8. فَجُوَيرِيَةُ بِنتُ الحٰارِثِ سُبِيَت فِي غَزوَةِ بَنِي المُصطَلِقِ وَقُتِلَ فِيهٰا زَوجُهَا ابنُ صَفوٰان وَمَلَكَهٰا ثٰابِت فَكٰاتَبَتهُ وَاستَعٰانَتهُ صلى الله عليه وسلم فَأَدّٰى عَنهٰا وَتَزَوَّجَهٰا لِكَونِها بِنتَ سَيِّدِ قَومِهٰا ذٰاتَ بَهٰاءٍ فَلا يَلِيقُ أَن تَكُونَ تَحتَ غَيرِهِ مِنَ الصّحابة فَأَعتَقَ المُسلِمُونَ جَمِيعَ السَّبٰايٰا إِكرٰامًا لِصِهرِهِ فَكٰانَت مباركة وَرُوِيَ: أَنَّهُ أَسلَمَ أَبُوهٰا وَنٰاسٌ مِنَ القَومِ وَأَخَوٰان.
  9. فَرَيحٰانَةُ بِنتُ شَمعُونَ اليَهُودِيِّ قُتِلَ زَوجُهَا وَسُبِيَت فَأَعتَقَهٰا وَتَزَوَّجَهٰا بَعدَ الإِيمان.
    وَفِيهِ تَرغِيبُ اليَهُودِ فِي الإِسلامِ وَتُوُفِّيَت مَرجِعَهُ مِن حَجَّةِ الوَدٰاعِ.
  10. فَرَملَةُ أُمُّ حَبِيبَةَ بنت أَبي سُفيٰان ابنِ حَربٍ هٰاجَرَت مَعَ زَوجِهٰا إِلَى الحَبَشَةِ فَارتَدَّ وَمٰاتَ بِهٰا وَهُوَ نَصرٰانيٌّ فَفِي نِكٰاحِهٰا إِكرٰامُهٰا لِثَبٰاتِها  عَلَى الدِّينِ وَالإِحسٰان.
  11. فَصَفِيَّةُ بِنتُ حُيَيٍّ إِسرٰائِيلِيَّة نَضِيرِيَّة سُبِيَت فِي خَيبَرَ فَأَسلَمَت فَأَعتَقَهٰا وَتَزَوَّجَهٰا وَقَد تَّعٰاقَبَ عَلَيهٰا رَجُلان، وَكٰانَتبَهِيَّةً سَيِّدَةَ قُرَيظَةَ وَالنَّضِيرِ فَلَولاهُ مٰا يَصلُحُ لَها إِنسٰان.
  12. فَمَيمُونَةُ بِنتُ الحٰارِثِ أُختُ زَوجَةِ عَمِّهِ العَبّٰاسِ تَأَيَّمَت وكان عمه العباس حريصاً على هذا الزَّواج، لمعرفته بتقواها، فَحَثَّهُ عَلى نِكٰاحِهٰا؛ ومما يدل على تقواها قول عائشة رضي الله عنها: «أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم» وَهِيَ آخِرُ مَن تُوُفِّيَت مِنَ أزوٰاجِه أمهات المؤمنين وَتُوُفَّيَ عَن تِسعٍ رَضِيَ الله تَعٰالَى عَنهُنَّ.
    كما أن في تَسَرِّيهِ صلى الله عليه وسلم مارية القبطية التي أهداه إياها مقوقس مصَر، تشريعَ الأحكام الفقهية المرتبطة بأمهات الأولاد.

دعوته وتبليغه:

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بَلَغَ الأربعين من عمره وقبيل النبوة حُبب إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة؛ لينقطع عن مشاغل الحياة و خالطة الخلق، استجماعًا لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية،
وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، فاتخذ من غار حراء متعبدًا يناجي فيه مبدع الكون وخالق الوجود ليتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه… فحينما كان يخلو في غار حراء بنفسه – وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ أخرى-، جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء فَقَالَ: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ}
[العلق:1- 3] وذلك في يوم الإثنين من شهر رمضان.
فعرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أصبح نبيّا لله العظيم، وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، وأنزل الله عليه قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ 1) قُمْ فَأَنذِرْ  (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1-4] إيذانًا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الماضي قد انتهى وأن أمامه عملاً عظيما ما, يستدعي اليقظة والاستبصار، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس.. وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، وقد أشارت إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والتي بني
عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية, والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه؛ كما جاء التنبيه عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فكان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أول مَن تلا القرآن بعد أن سمِعته منه صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أول مَن تَعلَّم الصلاةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أولُ وحي نَزل به جبريلُ على قلب المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم بعد غار حراء. وكان أول شيء فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة.
وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الإسلام، فهو أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال.
وكان أول من آمن بالدعوة من الموالي حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومُتَبنَّاه: زيد بن حارثة الكلبي, الذي آثر رسولَ الله على والده وأهله.
وكان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال الأحرار وكان أخص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.
فظل النبي صلى الله عليه وسلم يُواصِل دعوتَه السرية, ويَستقطب عددًا من الأتباع والأنصار من  أقاربه وأصدقائه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظَّم و يَحْسُب لكل خطوة حِسابها، وكان مُدرِكًا تمامًا أنه سيأتي اليومُ الذي يؤمر فيه بالدعوة عَلَنًا وجَهرًا، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتُها وقوتها، فحاجةُ الجماعة المؤمنة المنظَّمة تقتضي أن يلتقي الرسولُ المربي مع أصحابه، فكان لا بد من مَقَرٍّ لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيتُ خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وصحبُه دارَ الأرقم بن أبي الأرقم مقرًّا
للقاء، إذ أدرك صلى الله عليه وسلم أن الأمر يحتاج إلى وجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان آمِنٍ بعيدٍ عن الأنظار فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول مدرسة رسمية للتربية والتعليم التقى فيها النبي المربي بالصفوة المختارة من الرَّعِيل الأول.
فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى مُتدرِّجةً، تَسير بالناس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة التنظيم والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يُمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا وقع العجز الكلي.
وكان في تصور الصحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة قصورٌ ونقص، ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته قال تعالى {وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] وقال: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]؛ وبالتالي عُنِيَ القرآنُ المكيُّ وبيانُه النبوي في الفترة الأولى التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكّة منذ بعثته إلى أن هاجر إلى المدينة بإصلاح العقيدة من شوائب الوثنية وشعائر الكفر والشرك وبإصلاح النفوس من الهَمَجِيَّة وأصول الرذائل وآثار الجاهلية، وبتعميق الإيمان في النفوس وبيان أبعاده القلْبية والقولية ووشَيْءٍ من العَمَلية والتركيز على مقتضيات لا إله إلا الله.
وكان من الحكمة الإلهية أن جَعل لترسيخ هذه العقيدة وأصول الأخلاق الكريمة مدةً كافية وهي فترة نزول الوحي بمكة ثلاثة عشر عامًا.
ولم يَعْرِض التشريعُ القرآنيُّ ولا النبويُّ في هذه الفترة شيئًا من العمليات إلا ما له ارتباطٌ بالعقيدة كتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أو ما له كبير دَورٍ في الربط بالله تعالى {وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَٱتَّقُوهُ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 72].
كما احتفلَ القرآنُ المكي ببيان سائر أصول الإيمان من الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر والحشر والحساب والجنة والنار.
فلقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه القرآني بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه.
وأما في الفترة الثانية وهي المَدنية فقد تتابَعَ التشريعُ الديني لأحكام العبادات والمعاملات التفصيلية المنظِّمَة لحياة المسلم وتوالَى التنبيهُ على فضائل الأعمال والمكْرُمات حتى تكامل الدين بكل معناه.
كما يشير إلى هذه الميزة التشريعية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
ومن هذا المنطلَق أدركنا أهمِّيةَ تقديم الدعوة إلى تصحيح العقائد على الدعوة إلى تكميل العمليات، وتطبيق القانون الرباني {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لمواصلة النشاطات البَنَّاءَة الدعَوِية، ولِدَعْمِ الملّة السمحاء المحمدية، بكل ما نملك من قُوًى بَدَنِية وفكرية. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.