نحو استخلاص يوميات مؤرخة ومفصلة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم من روايات السيرة النبوية

سعادة الأستاذ عبدالله باه

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين، وأصحابه الكرام البررة، وبعد:
اخترت هذا المحور المفرّع من الموضوع الرئيسي للمؤتمر وهو: «نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة النبوية» لأكتب فيه، وأنا أدرك أن المهمة عظيمة شأنها، وخطيرة الخوض فيها، لأنها تتعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حياة لها قدسيتها لدى جميع أفراد الأمة الإسلامية، فلا يجوز لنا أن نقول فيها إلا ونحن متأكدون من صحة ما نقول، حتى لا نكون عرضة لقوله صلى الله عليه وسلم: المروي عَنِ المُغِيرَةِ بن شعبة رَضَيَ الله عَنْهُ، حيث قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(1)، وأن نوثّق كل ما نقول بإرجاع المعلومات إلى مصادرها وربطها بمراجعها مع مراعاة الدقة في ذلك والتزام الأمانة العلمية، رافعين إلى العلي القدير أكف الضراعة، ليلهمنا الصبر، ويمنحنا التوفيق، ويهدينا إلى ما يحبه ويرضاه، إنه على ما يشاء قدير.

معنى يوميات:

لغة: وهي جمع المؤنث السالم ليومية، نسبة إلى يوم، وهو يتكون من جزئين الليل: يبدأ من غروب الشمس إلى طلوعها، والنهار: يبدأ من طلوع الشمس إلى غروبها، وهو يبدأ بالليل وينتهي بالنهار.
اصطلاحاً: هو أن يهتم الإنسان بمسير حياته أو حياة غيره، أيًّا كان مستواه الاجتماعي فيسجل كل ما تحمله إليه الأيام في كل مراحل حياته، من مواقف مفرحة، ومواقف محزنة، مواقف نجاح، ومواقف فشل، مواقف انتصار، ومواقف هزيمة، حتى يستطيع تذكر تاريخها، وتفاصيلها، وأسبابها، لأنها قد تكون في المستقبل القريب أو البعيد سبباً في تغيير شخصيته، أو تغيير نمط حياته برمته، ويستطيع الوقوف في الأمد البعيد على المنحنيات والمنعرجات التي تعرّضت لها شخصيّته بهزات عنيفة، ويستعيد بالدقة ذكرى الأشخاص الذين أثروا فيه إيجاباً، أو سلباً، والأحداث الاجتماعية التي غيّرت مسار حياته، فيوازن بين الحالة التي كان عليها قبل احتكاكه بالأشخاص المؤثرة، وبين الحالة التي أصبح عليها بعد الاحتكاك، ليرى إن كانت النتيجة تقدماً أو تقهقراً، تسلقاً إلى الأعلى، أو تدحرجاً إلى الأسفل، ويعرف أصدقاءه من أعدائه من الناس، من خلال تعامله معهم أثناء مسير حياته، فيوميات الإنسان قد يكون كاتبها هو نفسه، وقد يكون غيره، وهذا النوع الأخير هو الذي نحن بصدده.

أسباب كتابة اليوميات أو الدوافع إليها:

قد تختلف أسباب كتابة اليوميات أو دوافعها من شخص لآخر حسب اختلاف تكوينهم الثقافي وميولهم الاجتماعية، سواء في ذلك كتب هذه اليوميات عن نفسه أو عن غيره، وهي بالجملة قد لا تخرج عما يلي:

  1. الذكرى:
    فهي دافع قوي لمن يحب استعادة الذكريات والوقوف عندها واسترجاعها، فيعود من فين لآخر إلى سجل يومياته، ويقرأ فيه ويستعيد تلك اللحظات المؤثرة، كما كان الشعراء الجاهليون ينعرجون على الأطلال والدمن، فيستنطقونها عن الأحبة وعن ذكرياتهم الخالدة معهم، حتى أصبح ذلك تقليدًا ملزماً في مطلع قصائد الشعر الجاهلي الكلاسيكي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر معلقة امرؤ القيس التي مطلعها:
    قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل ** بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
    فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهاَ ** لما نسجتْها من جَنُوب وشمألِ
    تــــرى بَعَـــرَ الأرْآمِ في عَرَصاتِها ** وقيعانها كأنه حبَّ فلفل
    ومعلقة عنترة بن شدّاد، ومطلعها:
    هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم ** أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ
    يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمـــي ** وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
    فَوَقَفتُ فيها ناقَتي وَكَأَنَّهاَ    ** فَدَنٌ لأِقَضِيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ
  2. تنمية موهبة الكتابة:
    قد يكون الإنسان مستعدًا استعدادًا نفسياً للكتابة، بما منحه الله من ملكة كتابية، ممثلة في خصوبة الخيال والمقدرة اللغوية، ولكنّه في الوقت نفسه يشعر بشح شحيح في المعلومات وضحالة فاضحة في الخلفية الثقافية، فيعتمد على المواقف، والأحداث التي تمر عليه يومياً، ويقوم بتسجيلها بطريقة أو بأخرى على دفتره اليومي، ويكون بذلك قد جمع بين أمرين: كتابة تأريخ الأحداث اليومية، وتطّوير موهبته الكتابية، ليستخدمها في مجالات الكتابة الأخرى الاجتماعية أو الأدبية أو الثقافية أو غير ذلك من مجالات المعرفة الإنسانية.
  3. التنفيس وإراحة النفس:
    لا شك أن كل إنسان يحمل بين جوانحه كثيرًا من الأسرار عن مواقف سلبية، تتعلق بحياته الشخصية، غير قابلة للإفصاح عنها لأحد من الناس، فمنهم، حسب اختلاف الطبائع، من يستطيع هضمها وكتمها إلى الموت، ومنهم من لا يتحمل ذلك، فلا تقوى معدته لهضمها، فيجد متنفساً في دفتر يومياته ليفرز عنها في شكل حديث الإنسان مع نفسه عن نفسه بكل صراحة وبدون أدنى مواربة، ليريح نفسه من هذا الثقل، كما يريح الإنسان نفسه بالتقيؤ، لطرد ما أكله من الطعام الفاسد بعد فشل معدوي في عملية الهضم.
  4. تحديد إيجابيات الشخصية وسلبياتها:
    قد يكون السبب أو الدافع إلى كتابة يوميات الإنسان محاولة التعرف على إيجابيات شخصيته وسلبياتها، فيقوم بتسجيل الموقف أو الحدث الذي مر به، وبتشريح تصرفه الذي واجه به الحدث، وينقده، ليرى هل تصرف بالحكمة وبما يقتضيه الموقف من لين أو شدة، ومن اعتدال أو تفريط أو إفراط، ومن تصريح أو مؤاربة ومداهنة، ومن شجاعة أو جبن، ومن سخاء أو بخل، أو أنه تصرف بعكس مقتضى الحال، وما يستلزمه المقام، ومن خلال تكرار الصواب أو الخطأ في هذه التصرفات، يستطيع تحديد إيجابيات شخصيته وتحديد سلبياتها، وبالتالي يعد نفسه إعدادًا تاماً لتحسين أدائه في مواجهة المواقف، حتى لا يقع في المستقبل في الأخطاء التي وقع فيها بالفعل في الماضي، وهذا بلا شك مهم جدًا في حياة الإنسان، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسب نفسك قبل أن تحاسب، وهذه العملية أي النقد الذاتي، ليست سهلة، فإن الإنسان بطبيعته يرى عيوب غيره ويعمى عن أن يرى عيوب نفسه أو يتعامى على الأقل، وهذا مرض نفسي يجب علاجه والتخلص منه، كما قال الشاعر أبو الأسود الدؤلي على الراجح:
    وَإِذا عتِبتَ عَلى السَفيه وَلُمتَهُ ** في مِثلِ ما تأَتي فَأَنتَ ظَلومُ
    لاَ تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتَي مِثلَهُ     ** عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ
    ابدأ بِنَفسِكَ فانَهها عَن غِيِّها   **  فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَتاَ حَكيمُ
    فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى ** بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَعليمُ
  5. التوثيق:
    قد يكون السبب أو الدافع إلى كتابة يوميات الإنسان، الاهتمام بمعرفة تاريخ المواقف، وساعة حدوث الأحداث التي مرت عليه بالدقة، أي باليوم والشهر والسنة، وجعلته مهب رياح التأثر بالآخرين إيجاباً أو سلباً، وأعدته لكسب التجارب الإنسانية حلوها ومرها، فقد يصبح هذا الإنسان شخصية اجتماعية أو وطنية مثالية، وسيرة حياتها حافلة بمواقف بطولية، ومتميزة بتوجهات سياسية حكيمة، ومليئة بتضحيات فريدة بكل غال ونفيس، من أجل مصلحة دينه أو وطنه، فيكون بذلك قدوة يربّى أبناء الوطن على الاقتداء به في هذه المواقف، وتنسج البرامج التعليمية على منوال تاريخ حياته، حينئذ تظهر قيمة اليوميات المؤرخة، لربط كل حدث من أحداث حياته بزمانه ومكانه، وإرجاع كل معركة شرف خاض غمارها في حياته، إلى تاريخها المحدد باليوم والشهر والسنة بل وبالساعة، فالفرق كبير جدًا بين هذا النمط في سرد المعلومات، وبين أن تتحدث عن الأحداث التاريخية عائمة دون أن تربطها بزمنها ومكانها المحددين.

يوميات مؤرخة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم:

إذا كانت كتابة اليوميات لأفراد الناس العاديين، في هذه الدرجة من الأهمية القصوى، رغم أن فائدتها في غالب الأحوال شخصية، لا تتجاوزهم إلى غيرهم من الأفراد أو المجتمعات أو الدول، فما بالنا عن كتابة يوميات عمن اختاره الله سبحانه وتعالى نبياً، فأرسله إلى الأمة قاطبة، لينقذها من متاهات الضلال ومهاوي الطغيان بعد ما استحكم الشرك وعبادة الأوثان والأصنام، في المجتمعات البشرية، وساد الظلم في المعاملات الإنسانية، والفوضى في العلاقات الجنسية، وجعل قوله وفعله وتقريره تشريعاً ملزماً لأمته، وهو قدوة لها في كل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَىَريَ اخْتِلاَفَا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخلَُفَاءِ الرَّاشِدِينَ المُهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»(2)، من هنا أنطلق إلى كتابة شيء موجز وملخص من يوميات ميمونة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ملتزماً فيه بتسلسل الأحداث، مع ربط كل حدث بزمنه ومكانه المحددين، إذا أسعفتني المصادر والمراجع المتاحة لي في ذلك:

محمد صلى الله عليه وسلم:

  1. مولده صلى الله عليه وسلم:
    اتفق أهل السيرة والتاريخ على مكان ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مكة المكرمة، وعامه هو عام الفيل ويوافق السنة: 570 من ميلاد عيسى عليه السلام، يقول ابن القيم الجوزي رحمه الله في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: «أما العام: فقد كان عام الفيل لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكّة، وأن مولده كان عامَ الفيل»(3)، واختلفوا في تحديد يومه وشهره، يقول ابن كثير في سيرته في هذا الخصوص: « قيل ولد لليلتين خلتا من ربيع الأول، قاله ابن عبد البر في الاستيعاب، وقيل لثمان خلون منه، حكاه الحميدي عن ابن حزم و رواه مالك وعقيل، وقيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه و رواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، وقيل في رمضان نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار وهو قول غريب جدًا، وقيل في شهر صفر»(4).
    والراجح عند جمهور العلماء والمؤرخين ويؤيدهم بعض علماء الفلك، أن ميلاده المبارك كان يوم الاثنين لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزاماني عن أبي قتادة أن أعرابياً قال: «يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، و أنزل علي فيه».
    وفي الثاني عشر من ربيع الأول في عام الفيل، وليس بعده بعشر سنين، ولا بأربعين ولا بخمسين سنة كما يقول البعض، وهذا ما نص عليه محمد بن إسحاق في كتاب تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، حيث يقول: «وُلِدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاِثْنَيْنِ لاِثْنَتَيْ عَشْرَةَ ليَلْةًَ خَلتَْ مِنْ شَهْرِ رَبيِعٍ الْأَوِّلِ، عَامَ الفِْيلِ»(5)، كما ورد في كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي: «وروى يعقوب بن سفيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين».
    الخلاصة:
    رواية مسلم في صحيحه، ورواية محمد بن إسحاق، ورواية يعقوب بن سفيان، وغيرهم كثيرون تؤيّد ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن مولده كان يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل والموافق 20 أغسطس سنة 570 م، وهذا ما أرى الاعتماد عليه والعمل به.
  2. تسمية النبي بمحمد صلى الله عليه وسلم:
    أما عن تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، فيقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى: «أما أحمد الذي أتى في الكتب، وبَشّرت به الأنبياء، فمنع الله تعالى بحكمته أن يُسَمّى به أحد غيره، ولا يُدْعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لَبْس على ضعيف القلب أو شك، وكذلك محمّدًا أيضًا لم يُسَمّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قُبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده، أن نَبِيًّا يُبْعَث اسمه محمّد، فَسَمّى قَوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهم محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمي، لا سابع لهم»(6)، هكذا يقول الإمام القاضي عياض، وإن كان بعض المؤرخين قد أوصلوهم إلى خمسة عشر مسمى بهذا الاسم الكريم قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
    وجعل ابن قتيبة في كتابه أعلام النبوة، تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم من علامات نبوته حيث يقول: «من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم، أنّه لم يُسَمّ قبله أحد باسم محمد، صِيانة من الله لهذا الاسم، كما فعل مع يَحيى حيث لم يجعل له من قبل سَمِيًّا»، قال تعالى: {يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم: 7].
  3. من الذي سمى النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد؟:
    والذي سَمّى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم هو جدُّه عبد المطلب، يقول محمد بن يوسف الصالحي في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد «وروى البيهقي عن أبي الحسن التنوخي أنه لما كان يوم السابع من ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عنه جده ودعا قريشاً، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب: ما سميته؟ قال: سميته محمدا، قالوا: لم رغبت عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض»(7)، أما قصة رؤيا جده فقد ضربت عن ذكرها صفحًا، لأنها لم تثبت بطرق صحيحة.
  4. معنى كلمة محمد:
    كلمة محمّد اسم عربي قحّ، على وزن مفعّل وهو اسم المفعول من فعل حمّد الذي يستعمل للمبالغة، يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى: «ومحمّد، للمبالغة مِن كَثرة الْحَمْد، فهو صلى الله عليه وسلم أجَلّ مَن حَمِد، وأفضل مَن حمد، وأكثر الناس حَمْداً، فهو أحْمَد الُمحْمُودين، وأحمد الحامدين، ومعه لواء الحمد يوم القيامة، ولِيَتِمّ له كمال الحمد ويشتهر في تلك العرصات بِصِفة الحمد، ويبعثه ربه هناك مقاما محموداً، كما وَعَده، يَحْمده فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم، ويفتح عليه فيه مِن المُحَامِد، كما قال صلى الله عليه وسلم، ما لم يُعْط غيره»(8).
  5. نسب النبي صلى الله عليه وسلم الشريف:
    ولد النبي صلى الله عليه وسلم لأبوين شريفين: عبد الله بن عبد المطلب وهو هاشمي قرشي مكيّ، وآمنة بنت وهب وهي زهرية قرشية مكية، مات عنها زوجها عبد الله بن عبد المطلب والرسول ما يزال جنيناً في بطنها، وتوفيت هي الأخرى أثناء عودتها من يثرب لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أخوال جده عبد المطلب من بني عدي بن النجار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنوات، ودُفنت في الأبواء، وهي موضع بين مكة ويثرب على بعد ثلاثة وعشرين ميلاً من المدينة، وعادت به صلى الله عليه وسلم أم أيمن إلى جده عبد المطلب في مكة، وكان هذا الحدث المؤلم نحو سنة 576 م، أما نسبه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه أشرف نسب على الإطلاق، وفي هذا الصدد يقول ابن القيم الجوزي في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: «وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِا لْأَرْضِ نَسَبًا عَلَى الإِطْلاَقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَ لِهَذاَ شَهِدَ لَهُ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أبو سفيان بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرُّومِ، فَأَشْرَفُ الْقَوْمِ قَوْمُهُ، وَأَشَرَفُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ، وَأَشْرَفُ الْأَفْخَاذِ فَخِذُهُ، فَهُوَ مُحمََّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَناَفِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالبِِ بْنِ فهِْرِ بْنِ مَالكِِ بْنِ اَلنَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ»(9).
    ثم يقول الشيخ التزامًا بالدقة والأمانة العلميتين: «إِلَى هَاهُنَا مَعْلُومُ الصِّحَّةِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّسَّابِينَ، وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَمَا فَوْقَ «عدنان»، مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنِهِمْ أَنَّ «عدنان»، مِنْ وَلَدِ إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَإِسْمَاعِيلُ: هُوَ الذَّبِيحُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّوَابِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ»(10)، إذن أجداده بين عدنان وإسماعيل غير معروفين بالدقة، فمن قال فيهم فقد قال بالتخرص والتخمين.
    هذا من جهة أبيه عبد الله، أما من جهة أمه آمنة، فهي: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم ابن مرة، وحكيم هذا هو الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه آمنة، والخامس من جهة أبيه عبد الله، وهو ملتقى النسبين الشريفين، إلا أنه سمي في سلسلة نسب النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه بكلاب، ومن جهة أمه بحكيم، وهما اسمان على مسمى واحد، وعبد مناف بن زهرة جد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه غير عبد مناف بن قصي جده منجهة أبيه.
  6. رضاعته صلى الله عليه وسلم:
    وقد صح في التاريخ أن ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أول من أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه في مدة قصيرة، وقيل أربعة أشهر، وأرضعت قبله عمّه حمزة بن عبد المطلب، وبعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح، وكذك أرضعته صلى الله عليه وسلم هالة بنت وهيب أم حمزة بن عبد المطلب، ولكن الظئر التي اشتهرت برضاعته أكثر من غيرها، هي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وعاد عليها ذلك بالخير الوفير، والبركة العظيمة، وبالرخاء والسعة في رزقها، بعد أن عاشت في ضنك وشظف العيش، رغم أنها كانت كارهة أن تأخذه ليتمه، ثم اضطرت إلى ذلك حين لم تجد غيره، وقد صدق الله في قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
    وفي هذه البادية، بادية بني سعد المقحلة الجرداء، تربّى النبي صلى الله عليه وسلم ، في سنواته الأولى، على أتلالها وسهولها، وعلى هوائها الطلق، فتعلم الفصاحة، وتمرن على البلاغة، وكان أفصح خلق الله على الإطلاق بلغة الضاد، وفيها ظهرت عليه علامات النبوة، من شق صدره وغير ذلك، ثم أعيد إلى أمه في المرة الثانية نهائياً وهو في السنة الخامسة من عمره، فلنستمع إلى السيدة حليمة السعدية تحكي قصة رحلتها الميمونة مع المراضع إلى مكة، بحثاً عن رضعاء، وعزوفها في الوهلة الأولى عن محمد صلى الله عليه وسلم ليتمه، ثم عروجها عليه أخيرًا، وما ترتب على ذلك من بشائر السعادة الدنيوية والأخروية لها ولقبيلتها، يقول ابن هشام: «وَحَدّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبِ الْجّمَحِيّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ أُمّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ نسِْوَةٍ مِنْ بَنيِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ: وَذَلكِ سَنةٍَ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، قَالَتْ فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا، وَالله مَا تَبِضّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَناَ أَجْمَعَ مِنْ صَبيِّناَ الّذِي مَعَناَ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ، مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنيِهِ وَمَا فِي شَارِفنِاَ مَا يُغَدّيهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: يُغَذّيهِ، وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَاني تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلكَِ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ فَمَا مِنّا امْرَأَةٌ إلاَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قِيلَ لَهَا: إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِك أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو المُعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ: يَتِيمٌ! وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لذَِلكِ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلاَ أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْريِ، فَلَمّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلاَقَ قُلْت لِصَاحِبِي: وَالله إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَالله لَأَذْهَبَن إِلَى ذَلكَِ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ: عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى الله أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً، قَالَتْ فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْته، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلاّ أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ، قَالَتْ: فَلَمّا أَخَذْتُهُ رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمّا وَضَعْته حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرب حَتّى رَوِيَ وَ شَربَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلكَِ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تلِْكَ، فَإذَِا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ مِنهَْا مَا شَرِبَ وَ شَرِبْتُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَيْناَ رِيّا وَشِبَعًا، فَبتِْناَ بخَِيْر لَيْلَةٍ، قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تَعَلّمِي وَالله يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت: وَالله إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت أَنَا أَتَانِي وَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَ الله لَقَطَعَتْ بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت خَرَجْت عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنّ، بَلَى وَالله إنّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ وَالله إنّ لَهَا لَشَأْنًا، قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلاَدِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الله أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَ لاَ يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، فَترُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا، فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ الله الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْتُهُ وَكَانَ يَشِبّ شَبَابًا لاَ يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنتََيْهِ حَتّى كَانَ غُلاَمًا جَفْرًا، قَالَتْ فَقَدِمْنا بهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ مُكْثِهِ فِيِنا، لَمِا كُناّ نَرَى مِنْ بَرَكَتهِِ، فَكَلّمْناَ أُمّهُ وَقُلْت لَهَا: لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ مَكّةَ، قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ مَعَنَا»(11).

عهد طفولة محمد صلى الله عليه وسلم وشبابه

يبدأ هذا العهد من رجوع محمد من بادية بني سعد، وهو في الخامسة من عمره إلى أن قارب أربعين سنة من عمره، ومن أهم الأحداث التي مرت على محمد صلى الله عليه وسلم أو مرّ هو عليها في هذه الحقبة، وأثّرت في تكوين شخصيته المستقبلية، وكان يسترجع ذكراها بعد النبوة والرسالة، ويتحدث عنها لأصحابه بكل تأثر نفسي، حتى يبدو على وجهه الكريم علامات الفرح حيناً، والحزن حيناً آخر:

أ – سفره صلى الله عليه وسلم مع أمه إلى يثرب:

خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة وهو في السادسة من عمره لزيارة أخوال جده من بني عدي بن النجار في يثرب، وفي هذه الرحلة زار محمد صلى الله عليه وسلم لأول مرة قبر والده عبد الله، وقد كان توفي قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم في يثرب ودفن فيها، أثناء عودته مع شبان من قريش، في رحلة تجارية من بلاد الشام، وهاجت في نفس الطفل مشاعر حزن جياشة، لحرمانه من الحنان الأبوي، الذي كان في أمس حاجة إليه، فانطبعت في نفسه هذه الذكرى الأليمة طول شبابه.

ب- وفاة آمنة في طريق عودتهم إلى مكة:

وفي طريق الرجوع من المدينة إلى مكة، رأى محمد صلى الله عليه وسلم والدته آمنة بنت وهب تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتجود بروحها الطبية النقية الطاهرة، والطفل البريء ينظر إلى أمه دون أن يعرف للموت معنى، حتى عند ما غيّبت عن عينيه في أعماق الثرى، وتضاعف عليه صلى الله عليه وسلم معنى اليتم وآلامه، ولم يكن معه في هذا الموقف العصيب من يخفف عليه الألم، ويشاطره في حزنه العميق، إلا جاريته أم أيمن التي ورثها من أبيه عبد الله، فتسرع به الخطى، وتطوي به المفازة القفر، مدفوعة بخوفها على اليتيم، مما يمكن أن يتعرض له المسافرون في الصحارى من المخاطر، قد تودي بحياتهم، ورغبتها في سرعة وصول هذا الخبر المؤلم إلى جد محمد صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، وفي هذا الصدد: يقول محمد ابن إسحاق في سيرة ابن هشام:
«حَدّثَنيِ عَبْدُ الله بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنّ أُمّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم آمِنَةُ تُوُفّيَتْ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ابْنُ سِتّ سِنيِنَ باِلْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكّةَ وَالمُدِينَةِ، كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ بهِِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّار، تُزِيرُهُ إيّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إِلَى مَكّةَ»(12).

ج- وفاة جدّ محمد صلى الله عليه وسلم عبد المطّلب:

لقد وجد محمد صلى الله عليه وسلم في جدّه عبد المطّلب من العطف والحنان والرعاية ما عوضه عمّا فقده منها بموت والديه، فقد كان عبد المطلب يؤثر محمدًا صلى الله عليه وسلم على أعمامه، يقَولَ ابْنُ إسْحَاقَ في سيرة ابن هشام: «فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَعَ جَدّه عَبدِْ المُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَكَانَ يُوضَعُ لعَِبدِْ المُطّلِبِ فرَِاشٌ فِي ظلِّ الْكَعْبةَِ، فَكَانَ بَنوُهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فرَِاشِهِ ذَلكَِ حَتىّ يَخْرَجَ إلَيهِ لاَ يَجْلِسُ عَليَهِْ أحَدٌ مِنْ بَنيِهِ إجْلاَلاً لَهُ ؟ قَالَ فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَأتِي وَهُوَ غُلاَمٌ جَفْرٌ حَتىّ يَجْلِسَ عَليَهِ فَيَأْخُذَهُ أَعْمَامُهُ ليُؤَخّرُوهُ عَنهُ فَيَقُولُ عَبْدُ المُطّلِبِ، إذَا رَأَى ذَلكَِ مِنهُْمْ دَعُوا ابْنيِ، فَوَالله إنّ لَهُ لَشَأنًا، ثُمّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ وَيَمْسَحُ ظهْرَهُ بيِدَِه وَيَسُرّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنعَُ»(13).
إلاّ أن الأجل لم يمهل عبد المطلب، ولم يتأخر عنه كثيرًا، فأدركته المنية بعد عامين فقط من وفاة آمنة وما يزال محمد في الثامنة من عمره، فتأسف محمد صلى الله عليه وسلم لموت جدّه وفراقه، وامتلأت نفسه بالحزن العميق، وشارك في تشييع جنازته رغم حداثة سنه، يمشي خلفها مطرقاً رأسه شارداً فكره غارقاً في البكاء والتأمل.

د- ممارسته صلى الله عليه وسلم رعي الأغنام لأهل مكة على قراريط:

بعد وفاة عبد المطلب تحولت كفالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب، واسمه عبد مناف، وهو من زعماء قريش وصناديدها، وكان يلقب بسيد البطحاء، وسيد قريش، وسيد مكة، وزوجته فاطمة بنت أسد، ويقال: هو أول هاشمي تزوّج بهاشمية، فولدت له من الذكور: أكبرهم، وهو طالب وبه يكنى، وعقيل، وجعفر، وعليّ، ومن الإناث: أمّ هاني وجمانة، وكانت فاطمة بنت أسد بمنزلة الأم لمحمد صلى الله عليه وسلم، ترَبَّى في حضنها، فكان يسمّيها أمّي، وكانت تفضّله على أولادها في البرّ، إلاّ أن أبا طالب كان فقيراً وذا عيال كثير، مما جعله موضع شفقة محمد صلى الله عليه وسلم فأخذ يبحث عن وظيفة ليعين عمّه بأجره على تحمل أعباء النفقة، ويخفف عليه ثقلها، فهداه الله إلى مدرسة الأنبياء والمرسلين، ليتعلم فيها الصبر، والشجاعة، والرحمة والعطف، وحب الكسب من عرق الجبين إضافة إلى الاستفادة المادية، فرعى أغنام أهل مكة، يقول ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى:
«أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحمَّدٍ الأزَْرَقِيُّ المُكِّيُّ قَالا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحيَْى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْقُرَشِيُّ عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا بَعَثَ الله، عَزَّ وَجَلَّ. نَبيِّاً إلِا رَاعِيَ الْغَنمَِ قَالَ لَهُ أصَْحَابُهُ: وَأنَْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَنَا رَعَيْتُهَا لأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ»، ورواه البخاري في صحيحه في باب: رعي الغنم على قراريط»، والبيهقي في سننه الكبرى(14).

هـ- سفره إلى الشام في تجارة خديجة بنت خويلد وَمَا كَانَ مِنْ بَحِيرَى:

كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم في رعي أغنام أهل مكة، لمساعدة عمه أبي طالب على مواجهة تكاليف الحياة، عمل كذلك للغرض نفسه في التجارة، في مال خدية بنت خويلد، فسافر فيه إلى الشام، يقولَ ابْنُ إسْحَاقَ في سيرته:
«وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ في مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ إيّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجّاراً، فَلَمّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَلَغَهَا مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلاَقِهِ، بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التّجّارِ، مَعَ غُلاَمٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةَ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَخَرَجَ مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلاَمُهَا مَيْسَرَةُ حَتّى قَدِمَ الشّامَ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنْ الرّهْبَانِ، فَاطّلَعَ الرّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي نَزَلَ تَحتَْ هَذِهِ الشّجَرَةِ ؟ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرِمِ، فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ مَا نَزَلَ تَحتَْ هَذِهِ الشّجَرَةِ قَطّ إلاّ نَبِيّ»(15).
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السفر لخديجة بربحٍ عظيم، وضاعفت له هي الأخرى ما كانت تعطي لغيره من الأرباح أو الأجور، ولكن عندما استمعت إلى حديث غلامها ميسرة، عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته، وكلام الراهب عن نزوله تحت الشجرة، وإظلال الملكين له عندما تشتد حرارة الشمس، وهو يسير على بعيره، استشفت خديجة بفراستها وشدة توقد ذكائها وفطنتها وراء الحجب، ما تدّخره الأيام، وتخفيه الأقدار لهذا الشاب القرشي من المفاجآت الغريبة، وعظائم الأمور والمواقف الخطيرة، فاشتاقت نفسها إلى ما هو أعظم من الأموال والأرباح، وهو السعادة الدنيوية والأخروية التي تكمن في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها رضي الله عنها.

و- زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد.

تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أما خديجة فقد كان عندها أربعون سنة من العمر، وبذلك تحققت لها أمنيتها، وتم الزواج بحضور عمها عمرو بن أسد، وبعض أعمام النبي صلى الله عليه وسلم بزعامة أبي طالب، الذي خطب في هذه المناسبة خطبته المشهورة، يقول ابن هشام في سيرته وما بعدها: «وَكَانَتْ خديجةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً لَبِيبَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ، فَلَمَّا أخبرها ميسرة مما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ فِيمَا يزعمون: يابنَ عَمِّ، إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وسِطَتِكَ قومِك وَأَمَانَتِكَ، وحسنِ خُلقك، وَصِدْقِ حَدِيثِكَ، ثُمَّ عرضتْ عَلَيْهِ نفسَها، وَكَانَتْ خديجةُ يَوْمئِذٍ أوسطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعظمهنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالاً، كُلُّ قومِها كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ منها لو يقدُرُ عليه، فَخَطَبَهَا إليه، فتزوجها» (16).
بهذا الزواج افتتح النبي صلى الله عليه وسلم صفحة جديدة من حياته، وهي صفحة الزوجية السعيدة، والأبوة البرة الرحيمة، فرزق منها بأولاده جميعاً إلا إبراهيم، الذي كانت أمه مارية القبطية، يقول ابنُ إسْحَاقَ في سيرة ابن هشام: «فَوَلَدَتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولدَه كُلَّهم – إلاَّ إبْرَاهِيمَ-: القاسمَ وبه كَانَ يُكْنَى صلى الله عليه وسلم، والطاهرَ وَالطَّيِّبَ، وزينبَ ورقيّةَ، وأمَ كلثوم، وفاطمةَ، عليهم السلام … فَأَمَّا الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَمَّا بناتُه: فكلُّهنَّ أدركْنَ الإسلامَ، فَأَسْلَمْنَ وهاجرنَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم»(17).
أقول: إن بناته كنّ أكثر حظاً من أبنائه صلى الله عليه وسلم – لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى -، من طول العمر، والزواج الذي به تعدّى نسبه الشريف إلى من بعدهنّ، وسعدوا بشرف الانتماء إليه صلى الله عليه وسلم ، ومن الإسلام، والهجرة إلى المدينة المنوّرة، وكانت السيدة خديجة مثلاً أعلى لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة من الوفاء والإخلاص طوال الخمسة عشر سنة التي عاشتها معه صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة، ثم كانت أول من آمن به بعد الرسالة، وكانت له عونا على تحمل أذى قريش في تبليغ الرسالة، فهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

عهد كهولة النبي صلى الله عليه وسلم وشيخوخته:

يبدأ هذا العهد من بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة من عمره إلى وفاته، لقد صنعته يد الرعاية الإلهية في العهد الأول، عهد الطفولة والشباب، ودرّبته على تحمل الشدائد، ومواجهة المحن، وقهر أحزانه وآلامه، حتى اشتدت شكيمته، وقوي عوده وتصلب، وأصبح قادراً على تخاطب الملأ الأعلى، وعلى الصمود أمام صناديد قريش، فتجلى له المولى بأولى درجات المعرفة والوحي، وهي الرؤيا الصادقة، يقول ابن كثير في سيرته: «قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحيَْى بْنُ بُكَيْرٍ ،ْ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ،ْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصادقة فِي النّوم، وَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»(18).
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ستة أشهر، وبه اكتمل عمره أربعين ربيعاً.

أ-بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم:

ففي يوم الاثنين السابع عشر من رمضان الموافق السادس من شهر أغسطس سنة 610 ميلادية، نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وظهر أمامه جبريل عليه السلام في غار حراء حيث كان يتعبّد، فخاطبه مباشرة، أمّا عن الكلمات التي تبادلها مع النبي، فيقول ابن كثير في سيرته: «فَجَاءَهُ الْملََكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَ فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ»(19): {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ (3) ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] وبهذا الخطاب السماوي، أصبح محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا.
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ودخل على السيدة خديجة مضطرباً، وأخذ يقص عليها ما رأى في الغار، فأقبلت عليه بكل قلبها، تهدّئ من روعه وتقول: «الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر»، وقد أكّد ورقة بن نوفل هذا المعنى في حديثه مع خديجة، وشجعه على الثبات والمضي قدماً وعدم الاستسلام لشيء.

ب- الديانات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم:

  1.  دين العرب:
    كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وكان في جوف الكعبة ستون صنماً، ولم يمنع ذلك أن يكون لكل قبيلة صنم خاص بها تعبده وتتخذه وسيلة، وترجو شفاعته، فقد كان لكلب وأحياء قضاعة في دومة الجندل «ودّ» ولحمير وهمدان «نسر»، ولكنانة «سواع» ولغطفان «العزى»، ولثقيف بالطائف «اللات»، وللأوس والخزرج بفدك «مناة»، ولمذحج «يغوث»، هذا، إضافة إلى تشريعات افتروا بها على الله الكذب، منها: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وعاداتهم السيئة، منها: وأد البنات، إما خشية العار، أو الفرار من الإملاق، والخمر والميسر والأزلام، والجمع بين الأختين، وأن يخلف الرجل أباه على امرأته بعد موته، والاستبضاع، والمسافحة وغير ذلك كثير من صور الزيجات الفاسدة.
  2. اليهودية:
    هي شريعة موسى بن عمران عليه السلام، أرسله الله بها إلى فرعون وقومه في مصرفي أفريقيا، فكذبوه وأراد فرعون قتله، فخرج موسى مع بني إسرائيل حوالي سنة 491 ق.م، وعبروا البحر الأحمر في طريقهم إلى طور سيناء ثم أورشليم، وغرق فرعون وقومه، في البحر، ثم أخذت اليهودية تنتشر في الجزيرة العربية من خلال رحلات اليهود التجارية بين الشام واليمن وخاصة في عهد سليمان عليه السلام وسبأ، حتى أصبحت دين الدولة في اليمن، في عهد الملك ذي نواس، ودخلت أيضاً في يثرب، وكان فيها يهود بني نضير وبني قينقاع وبني قريظة، وأنشأ اليهود مستعمرات لهم في خيبر وفدك، إلا أن اليهودية قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد انحرفت، وأصبحت لا تخدم إلا أغراض اليهود المادية.
  3. النصرانية:
    وهي شريعة عيسى ابن مريم عليه السلام، التي ظهرت في مدينة الناصرة بفلسطين، واعتنقها كثير من العرب، ولما نشبت الخلافات الدينية بين المسيحيين في القرن الثالث والرابع الميلاديين، هاجر بعض النصارى من الشام إلى جزيرة العرب للإقامة فيها، فانتشرت المسيحية في نجران وبلاد اليمن، وفي المناذرة بالحيرة، وتنصّر قوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، ومنهم ورقة بن نوفل، وقوم من تميم وطيء ومذحج وبهراء إلخ، وهذه الاختلافات الداخلية بين النصارى أنفسهم، أدت إلى تعقيدات دينية، وظهور مذاهب مختلفة كالملكانية واليعقوبية والنسطورية، فأبعدت المسيحية عن أصولها التي نزلت بها من الله، وعن المبادئ الأساسية التي بنى عليها عيسى عليه السلام دعوته، فاختلطت بكثير من الخرافات والشركيات، فأفقدتها قيمتها كدين سماوي.

ج- بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام وأمره بدعوة الناس إليه:

في هذا الخضمّ من ناقضات اجتماعية، وفساد أخلاقي، وتحريف الأديان السماوية، بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام الخالدة، وأمره تدريجيًا بتبليغها إلى الناس كآفة، وقال تعالى:{يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ} [المدثر: 1 – 7]، وقال تعالى أيضا: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ (214) وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214 – 215]، ولم تكن مهمة محمد في تبليغ رسالته سهلة، وذلك لأسباب ذكرها المحققون، منها: ظهور دعوته في مكة وهي مركز دين العرب وبها سدنة الكعبة، فرأت قريش في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم خطرًا تهدد كيانها المادي والمعنوي، لأنها ستسلب من يدها البيت الحرام الذي كان زعماء قريش يستمدون من صلتهم به تفوقهم على سائر العرب في المجد والعظمة والشرف، ومنها التنافس المحموم الذي كان قائماً بين القبائل العربية بصفة عامة في الزعامة والسيادة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شعار دعوته شهادة ألاّ إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، فالجملة الأولى تعني إلغاء عبادة الأوثان والأصنام، وتحقيق توحيد الربوبية والألوهية لله وحده، وهذا لم يكن سهلاً لدى العرب في ذلك الوقت، وتعني الجملة الثانية الاعتراف لبني هاشم بالفوز بقصب السباق المحموم على السؤدد والمجد، وهذا ما ترفضه بقية القبائل القرشية لبني هاشم بن عبد مناف.
وقد ورد في عيون الأثر: «أن الزهري ذكر أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فلما سئل أبو جهل عن رأيه فيما سمع من محمد صلى الله عليه وسلم قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجازينا على الراكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه»(20)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك صعوبة الموقف، ويحسب له ألف حساب، ولذلك قسم مراحل دعوته إلى مرحلتين مرحلة السر، ومرحلة الجهر:

  1. المرحلة السرية:
    بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الدين الاسلامي سرًا، واستمر على ذلك ثلاث سنوات، وكان صلى الله عليه وسلم يتصل بأفراد محددين تربطه بهم علاقة قرابة أو صداقة، ويثق بأنهم لا يسببون له أية مشكلة حتى إن لم يقبلوا عرضه عليهم لاعتناق الدين الجديد، ولا يفشون أمره في قريش قبل الوقت المناسب لإعلانه، فاستجاب له عدد لا بأس به، وانضموا إليه في دعوة الآخرين، وأخذ عددهم يتكاثر يوماً بعد يوم، ومن هؤلاء السابقين إسلامًا: زوجته السيده خديجه بنت خويلد، وعلي بن ابي طالب، وزيد بن حارثة، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله، وأبو عبيدة ابن الجرّاح، وأبو سلمه، وعثمان بن مظعون، وقدامة بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبدالله بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان وغيرهم كثيرون، وقد أوصلهم ابن إسحاق في سيرته: إلى حوالي خمسة وأربعين رج وامرأة(21)، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيت ابن الأرقم مركزًا إسلاميًا للعبادة وتعليم مبادئ الإسلام، بعيدًا عن أعين قريش، ودخل الإسلام في هذا المركز: عمار بن ياسر وصهيب بن سنان الرومي، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بالدعوة، ويبدأ بإنذار عشيرته الأقربين فمن هنا انتهت المرحلة السرية، وتبدأ مرحلة الجهر.
  2. المرحلة الجهرية:
    بعد السنه الثالثه من الدعوة سرًا، تأتي مرحلة الجهر بها، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام وترك عبادة الأوثان والأصنام علنًا وبدون أدنى مواربة، رغم علمه ما يمكن أن يترتب على ذلك من أذيّة قريش له وللضعفاء من أتباعه، فأمر علي بن أبي طالب أن يعدّ طعاماً ويدعو إليه قريشاً، ففعل وجمع له أربعين رجلاً من سادة قريش وفيهم أعمامه، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا له، ثم صعد على الصفا ونادى القبائل القرشية ليجتمعوا إليه، فقد ورد في السيرة النبوية لابن كثير ما يلي: «قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَناَ عَبْدُ الله بْنُ نمير، عَن الأعمش، عَن عَمْرو بن مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَّما أَنْزَلَ الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: يَا صَبَاحَاه فَاجْتَمَعَ النَّاس إِلَيْهِ بَين رجل يجِئ إِلَيْهِ وَبَيَْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَا بَنيِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، يَا بَنيِ فهِْرٍ، يَا بَنيِ كَعْب، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَل تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟، قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبِ، لَعَنَهُ الله: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ! أَمَا دَعَوْتَنَا إِلاَّ لهَذَا»(22).
    أمام موقف قريش المتعنت، في إصرارهم على البقاء على دين آبائهم وأجدادهم، اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى تسفيه عقولهم، وتضليل آبائهم وأجدادهم، والنيل من أصنامهم، فزاد ذلك من حقد قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على التمادي في مناوأة دعوته، لإدراكهم أن هذا الدين الجديد، سيقطع مورد الثروة على سدنة الكعبة، ويقضي على ما كانوا يتمتعون به من نفوذ بين العرب، فأمعنوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين ليردوهم عن دينهم، وكان أشدهم إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم عمه أبو لهب، وزوجته أم جميل بنت حرب، فلم يزدهم ذلك إلا تمسكاً بدينهم، واستبسالاً في نشره، ثم طلبوا من عم النبي أبي طالب، أن يكف ابن أخيه عن عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، فردهم ردًا جميلاً ، ولم يغير النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من موقفه، ثم عادوا إليه مرة ثانية، عازمين على حسم الموقف، فخيروه بين أمرين: إما حرب طاحنة بينه وبين قومه، وإما تخلص ممقوت من ابن أخيه، وفي هذا الخصوص يقول ابن كثير في سيرته: « وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، للذي قالوا له، فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق»(23)، فجاء رد النبي أكثر صرامة من كل وتوقعاتهم كما أورده ابن كثير في سيرته حيث قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته، قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمتك لشيء أبدا»(24).
    لما علمت قريش أن أبا طالب لن يتخلى عن حماية ابن أخيه مهما كلفه ذلك، فكروا في مساومته على أن يأخذ عمارة بن الوليد ابناً له، وكان شاباً وسيم الطلعة، ويسلم إليهم محمدًا، فباءت محاولاتهم بالفشل، فرد عليهم أبو طالب قائلاً كما ورد في الرحيق المختوم «والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا»(25).
    ثم عرضوا على رسول الله، المال والجاه والملك، إن كان يريد شيئاً من ذلك، مقابل أن يتخلى عن دينه الجديد والدعوة إليه، فباءوا بالفشل وخيبة الأمل، فلما لم يجد في إثناء النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه كل وسائل الإغراء المتاحة لهم في ذلك الوقت، لجؤوا إلى وسائل الإرهاب والتخويف ولجّوا فيها، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين المستضعفين، بل حتى بعض الأشراف من قريش أمثال عثمان بن عفّان، والزبير بن العوّام، وفاطمة بنت الخطّاب فعذبتهم أشد تعذيب.

الهجرة من مكة فرارًا بالدين:

أ- هجرة الصحابة إلى الحبشة في أفريقيا:

لقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم أيما تأثر بما أصاب أتباعه على الإسلام، من الاضطهاد والتنكيل، وفكر في إبعاد الضعفاء منهم عن متناول أيدي قريش في مكة، ولكن إلى أين يأمرهم بالهجرة؟ وكانت اليمن ترزح تحت نير استعمار الفرس وهم لا يدينون بدين سماوي، والشام أو الحيرة في العراق؟، كلاهما بعيد عن مكة بعدًا شاسعاً، وجاليات أهل الكتاب: النصارى في نجران، واليهود في يثرب، بينهما تنافس محموم، فليس معقولاً أن يقبلا منافساً ثالثاً، ثم هداه الله خيراً إلى الحبشة لأن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، ودينه نصراني، وهو والإسلام يصدران من منبع واحد، فأمرهم بالهجرة إليها، وكان ذلك في سنة 615 م، يوافق السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وخرج منهم من مكة إلى الحبشة عشرة رجال وأربع نساء
يقول ابن هشام: «قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا يُصِيبُ أصحابَه مِنْ الْبَلاَءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ، بِمَكَانِهِ مِنْ الله وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وأنه لا يقدر أَنْ يمنعَهم مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلاَءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أرضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلكًا لاَ يُظْلَم عِنْدَهُ أحدٌ، وَهِيَ أرضُ صدقٍ، حَتَّى يجعلَ اللهُ لَكُمْ فرجًا مما أنتم؛ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الُمسْلِمُونَ مِنْ أصحابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلَى أرضِ الْحَبَشَةِ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إلَى الله بِدِينِهِمْ، فكانت أولَ هجرة في الإِسلام»(26).
ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط عادوا إلى مكة ظنا منهم أن وضع المسلمين فيها قد تحسن بعد إسلام عمر بن الخطّب، ثم ظهر لهم خلاف ذلك، فعادوا مرة ثانية إلى الملك النجاشي، وتتابع المسلمون إثرهم حتى بلغوا اثنين وثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة، فاحتضنهم النجاشي وأكرمهم غاية الإكرام.
بعد مؤتمر الصحيفة وقرار المقاطعة لبني هاشم، التي استمرت أكثر من سنتين، توفّيت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم في ديسمبر سنة 619 م الموافق للسنة العاشرة من البعثة، ثم تلتها وفاة عمه أبي طالب سنة 620 من البعثة، حزن النبي صلى الله عليه وسلم عليهما حزناً شديدًا، فلم تخفّ حدة وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإسراء والمعراج، الذي قال عنه ابْنُ هِشَامٍ في سيرته: حَدَّثَنَا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بْنِ إسْحَاقَ الُطَّلِبيِّ قَالَ: «ثُمَّ أسْري بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الُمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الُمسْجِدِ الْأقْصَى، وَهُوَ بَيْتُ الُمقْدِسِ مِنْ إيلِيَاء وَقَدْ فَشَا الْإِسْلاَمُ، بمَِكَّةَ فِي قُرَيْشٍ، وَفِي الْقَبَائلِِ كُلِّهَا»(27)، وبعد كل هذا، تأتي بيعة العقبة الأولى 621 م، ثم بيعة العقبة الثانية 622 م، بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد من زعماء الأوس والخزرج، تمهيدًا للهجرة المباركة إلى يثرب، ففي هذه البيعة أعطى اليثربيون النبي صلى الله عليه وسلم مواثيق غليظة أمام عمه العباس بن عبد المطلب، رغم أنه كان على دين قومه في ذلك الوقت، إلاّ أن حبه لابن أخيه حمله على أن يرافقه إلى هؤلاء القوم ليتوثّق له.

ب- هجرة الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً إلى المدينة:

ولم تمض على بيعة العقبة الثانية إلاّ أيام قليلة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى يثرب، وكان خروجهم في شهر المحرم الموافق شهر أبريل سنة 622 م، واستمرت نحو شهرين.
فقد ورد في صحيح البخاري تحت عنوان جوار أبي بكر الصديق في عهد رسول الله « فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ ،ْوَهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ إِلِى المَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَ تَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لي»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلكَِ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَِصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيِن كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»(28).

ج- هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة:

خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، واستقر بهم المقام في المدينة، وضاقت قريش ذرعاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأت خطراً محدقاً بها في خروجه إلى المدينة، وتقويه بأتباعه من المهاجرين والأنصار، فتآمرت في دار الندوة على قتله بطريقة تفرق دمه الطاهر على الجميع، ولا تتحمل قبيلة وحدها من القبائل القرشية مسؤولية قتله، فأنجاه الله من كيد أعدائه، وعن هذه المؤامرة يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فجاء الأمر الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فخرج تاركاً وراءه علياً بن أبي طالب لرد الودائع والأمانات إلى أهلها، وتوجّه إلى أبي بكر الصديق، وأخبره بما عقد العزم عليه، وسمح له بالخروج معه، يقول ابن هشام في سيرته:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَ لمّا رَأتْ قُرَيْشٌ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأصَْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْر بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ المُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ دَارِ النّدْوَةِ وَهِيَ دَارُ قُصَيّ بْنِ كِلاَبِ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لاَ تَقْضِي أَمْرًا إلاّ فِيهَا يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَيْنَ خَافُوهُ»(29).
اختفى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في غار حراء مدة ثلاثة أيام، فلما سكن عنهما الطلب، جاء دليلهما عبد الله بن أريقط براحلتين، وانطلق بهما نحو المدينة، سالكاً بهما الطريق الغربي المحاذي لساحل البحر الأحمر، يسير عن يمين الطريق مرة، وعن يساره مرة أخرى، تفادياً لفرسان قريش الذين أغرتهم جائزة مائة ناقة حمراء، التي وعدت بها قريش لمن يرد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر إليها، فلم يعثر على خبر لهما إلا سراقة بن مالك بن جعشم، فلما دنا منهما، كبى فرسه وألقى به على الأرض وساخت قوائمه في الرمال، فأدرك أنه معرض للخطر فناداهما وبذل لهما الأمان، وأخذ على نفسه أن يضلل المطاردين لهما من فرسان قريش.
يقول ابن هشام في سيرته: «قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَالكِِ بْنِ جُعْشُمٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبيِهِ عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالكِِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ:لمَّا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إلَى الُمدِينَةِ، جَعَلَتْ قُرَيْش فِيهِ مائَة نَاقَةٍ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ نَادِي قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَّا، – إلى أن قال -: فَلَمَّا بَدَا لي الْقَوْمُ وَرَأَيْتهمْ، عَثَرَ بِي فَرَسِي، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَقَطْتُ عَنْهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الاْرْضِ ، وَتَبعَِهُمَا دُخَانٌ كَالْإِعْصَارِ قَالَ: فَعَرَفْتُ حَيْنَ رَأَيْتُ ذَلكَِ أَنَّهُ قَدْ مُنعَِ مِنيِّ، وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ، قَالَ: فَناَدَيْتُ الْقَوْمَ: فَقُلْتُ: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: انظروني أكلمكم، فو الله لاَ تَكْرَهُونَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ: وَمَا تَبْتَغِي مِنَّا؟ قَالَ: فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ. قَالَ: اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ»(30).
فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قرية قباء لبني عمرو بن عوف ومعه صاحبه أبو بكر الصديق يوم الاثنين 12 من شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة الموافق 24 ديسمبر سنة 622 م، وبعد مضي يومين من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء لحق به علي بن أبي طالب، وقد أقام في مكة بعد أن غادرها النبي صلى الله عليه وسلم لرد الودائع إلى أصحابها مدة ثلاثة أيام، أقام النبي صلى الله عليه وسلم في قباء أربعة أيام فأسس فيها مسجدها، وتحقق خلالها أن مسلمي المدينة أقوياء وأن المقاومة والعداوة الموجودة بين اليهود والمسلمين ليست بالكبيرة، قرر أن يسير بمن معه إلى المدينة فدخل فيها في موكب عظيم، واستقبله أهل المدينة بكل حفاوة، يتدافعون على زمام ناقته لاستضافته، ويقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى بركت في المربد الذي بني فيه مسجده».
يقول ابن هشام في سيرة: قال ابن إسحاق: «حَتَّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِه – إلى أن قال -: وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ خَالدُِ بْن زَيْدٍ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَسَأَلَ عَنْ الْمِربَدِ لَمِنْ هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ مَعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ يَا رَسُولَ الله لسَِهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَ هُمَا يَتِيِمَانِ لِي،ِ وَسَأُرْضِيهِمَا مِنْهُ، فَاِتَّخِذْهُ مَسْجِدًا» (31).

إرساء قواعد الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة:

وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وهي موطن لطوائف من البشر مختلفة فاليهود كانت علاقتهم بجيرانهم العرب مشوبة بشيء من الحذر والتوقع، والأوس والخزرج كانتا في حروب دامية استمرت بينهما قرابة مائة وأربعين سنة، بدأت سلسلتها بحرب سمير، وانتهت بحرب بعاث التي وقعت قبل الهجرة بخمس سنوات، وهي أشهر وأشد ضراوة، وأكثر دموية من كل المعارك التي خاض غمارها اليثربيون ضد بعضهم. وصل النبي إلى يثرب وجروح هذه الحروب الطاحنة في القلوب لمّا تندمل بعد، ولكل طائفة نظامها وقيادتها الاجتماعية الخاصة في السلم والحرب، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني من هذه الشرائح الثلاثة، مجتمعاً إسلامياً سليماً تنصهر الطوائف كلها في بوتقته، ويحل محل القبائل وأنظمتها المتعصبة، ويضع له قوانين تنظم سلوكه ومعاملاته، ليكون نواة للدولة الإسلامية، وقام صلى الله عليه وسلم بالخطوات التالية:

أ- أبناء مسجد المدينة المنورة

بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة ليكون مصلى، يلتقي فيه المسلمون خمس مرات على الأقل في كل يوم للعبادة، فيحصل التعارف بينهم، والتآلف بين قلوبهم، ويطّلع بعضهم على أحوال البعض ليقوموا بزيارة المرضى منهم، وعلى حوائج المحتاجين منهم ليقدموا لهم المساعدة اللازمة، ويتشاوروا في الأمور المهمة السلمية أو الحربية، ويلتفوا حول المصطفى صلى الله عليه وسلم للاستماع إليه وأخذ مبادئ الدين الجديد منه مباشرة، ثم بنى حول المسجد بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ.
يقول ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَّما كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الُمسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ لَبِنَةً لَبِنَةً، ثم يقول: وَبُنِيَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حول مَسْجده الشريف حجر لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنَ قَصِيرَةَ الْبِنَاءِ قَرِيبَةَ الْفِنَاءِ قَالَ الْحَسَن بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ غُلاَمًا مَعَ أُمِّهِ خَيْرَةَ مُوْلاَةِ أُمِّ سَلَمَةَ: لَقَدْ كُنتُْ أَنَالُ أَطْوَلَ سقف فِي حجرَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي»(32).

ب- المؤخاة بين المهاجرين والأنصار:

فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم علاقات الأخوة بين أفراد من المهاجرين وآخرين من الأنصار، وكذلك بين بعض أفراد من الأوس وآخرين من الخزرج، وبين بعض من سادة العرب والموالي كحمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه زيد بن حارثة، وكان يراعي في ذلك، درجة شدة العداوة التي كانت قائمة بين بعض القبائل العربية قبيل الإسلام، نتيجة للحروب الطاحنة التي كانت تدور بينهم في الجاهلية وما ترتب عليها من ثارات، والتي اعتدنا على تسميتها بأيام العرب، ونظام الطبقات الاجتماعية الظالمة، وأثره السلبي في خلق الحواجز النفسية بين الطبقات العليا وأخرى دنيا، في هذا الخصوص يقول ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ مُحمََّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الُمهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: فِيمَا بَلَغَنَا وَنَعُوذُ بِالله أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ تآخوا الله أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: هَذَا أَخِي»(33).

ج- المعاهدة بين المسلمين واليهود في المدينة:

لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العمل من أن اليهود عنصر من عناصر التركيبة السكانية في المدينة، فمسؤولية الدفاع عنها، تقع على عاتق الجميع رغم اختلاف الدين، فعقد معهم معاهدة تضمن لليهود حرية الدين، وحق البقاء في المدينة، ومجاورة المسلمين فيها والتعامل معهم، وتلزمهم بالمساهمة بأموالهم في رد أي اعتداء خارجي عن المدينة، يقوم به المسلمون بأنفسهم وأموالهم، وما كان إجلاءهم عن المدينة فيما بعد إلا نتيجة لإخلالهم بنصوص هذه المعاهدة، التي ورد منها ما يلي كما نقل ابن كثير في سيرته: «وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى المُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْر لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلاَ آثِمٍ، وَإِنَّهُ لاَ تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهَا»(34)، وقد كشفت الأيام والمواقع بعد مضي مدة قصيرة من عمر هذه المعاهدة، أن تأثيرها في قلوب العرب من المهاجرين والأنصار، كان أعمق وأبعد منه في قلوب اليهود، وأنهم قوم مجبولون على الخيانة وكراهية الإسلام والمسلمين.
وقد أعطت خطة النبي صلى الله عليه وسلم المتكاملة أُكلها، وأزالت عن نفوس أصحابه ما كان فيها من الأحقاد والضغائن، والعصبيات، وانمحى عنها الترفع الطبقي، والأنفة الجاهلية، فأصبحوا متآلفين ومتواضعين ومتآزرين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الُمؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَِا اشْتَكَى مِنهُْ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائرُِ الْجَسَدِ باِلسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وقد وصل هذا التمازج والتآلف بين شرائح الصحابة المختلفة بعد تنافر شديد، إلى درجة أن توارثوا به ثم نسخ، وأن امتن الله به سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 ، 63].

السرايا والغزوات:

لم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أحدًا بقتال إلا بعد أن أذن الله له بذلك إذناً تدريجياً، فأذن له أولاً بقتال من يقاتلونهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، يقول الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله تعالى: {ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]،وقوله تعالى: {فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ} [المائدة: 13]، وما كان مثله مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أُمِرَ بقتال من يقاتلونه كما هو واضح في الآية السابقة.
ثم أذن له صلى الله عليه وسلم ثانياً بقتال المشركين كافة وذلك بقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
أما السبب في إذن الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالقتال فهو واضح في هذه الآية الآتية حيث يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ} [الحج: 39 – 40]، وأي ظلم أعظم من إخراج الإنسان من بلده وأهله ولا ذنب له إلا أن قال ربي الله، ومصادرة أمواله وكل ما كان يمتلكه، وتعذيب أولاده وأزواجه الضعفاء.
بناء على هذا الأمر الإلهي، قاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين دفاعاً عن النفس، بسراياه وغزواته: فالغزوة هي التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، سواء حارب فيها أم لم يحارب، أما السرية: فهي ما خرج فيها أحد قادته، وهذا ما درج عليه أصحاب السيرة، في التفريق بين السرية والغزوة، لا شك أن الغزوة أعظم من السرية لخروج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه فيها، ولأن عدد الجنود فيها أكثر منه في السرية في الغالب.

أ-عدد سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته

يقول ابن كثير في سيرته «وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غَزَا سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَقَاتَلَ فِي ثَمَانٍ، يَوْمَ بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، وَالْأَحْزَابِ، وَالمُرَيْسيعِ، وَقُدَيْدٍ وَخَيْبَرَ وَمَكَّةَ، وَحُنَيْنِ وَبَعَثَ أَرْبَعًا وَعِشْرينَ سَرِيَّة، وَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَن بُرَيْدَة قَالَ: غَزَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَ لُمِسْلِمٍ عَنْهُ: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً»(35).
والخلاف في عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم واسع وعميق، فمن أهل السير من قال إنها أربع وعشرون غزوة، ومنهم من قال إحدى وعشرون غزوة، ومنهم قال تسع عشرة غزوة، وفي سراياه أوسع وأعمق، فقد أوصلها بعض أهل السير إلى ثلاث وسبعين سرية والله أعلم بحقيقة الأمر.

ب- آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم:

وكان آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غزوة تبوك وكان ذلك في شهر رجب السنة التاسعة للهجرة، بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وهي التي أرست دعائم الدولة الإسلامية، ووجهت اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح بلاد الشام، فقام بإعداد جيش أسامة بعد معركة مؤتة التي قتل فيها قوّاد الجيش الإسلامي الثلاثة: زيد بن الحارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة واحدًا تلو آخر، إلا أن الرسول وافته منيّته ولمّا يزل الجيش في ضواحي المدينة، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه رغم معارضة عمر بن الخطاب، ثم أتبعه أبو بكر بعد حرب المرتدين عن الإسلام، ومن بعده عمر بجيوش الإسلام فخاضوا غمار حروب الفتوحات الإسلامية، نذكر منها على سبيل المثال: موقعة ذات السلاسل، وفتح الحيرة، وموقعة القراض، وموقعة اليرموك، وموقعة القادسية، وموقعة نهاوند، حتى تهاوت امبراطويات الفرس والروم، وخضعت بلاد الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا كلها لسلطة الدولة الإسلامية عاصمتها المدينة المنورة.

حجة الوداع أو حجة البلاغ، أو حجة الإسلام:

فبعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك السنة التاسعة من الهجرة، أرسل صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا ليحج بالمسلمين، يقول ابن كثير في سيرته: «ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجَّهُمْ، وَأَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهمْ مِنْ حَجِّهِمْ يُصَدُّوا بَعْدُ عَنِ الْبَيْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ أَمَدٍ»(36).
وبعد خروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه، نزلت أوائل سورة التوبة، فأرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم عليًا بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لينضم إلى وفد الحج تحت قيادة أبو بكر، ويتلو بنفسه الآيات على الناس نيابة عنه، وهي قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلى أن قال: {وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
وفي السنة العاشرة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع، يقول ابن كثير في سيرته: «قالَ مُحمَّدُ بْنُ إسِْحَاقَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ذُو الْقَعْدَة مِنْ سَنةَِ عَشْرٍ تَجَهَّزَ للِْحَجِّ، وَأَمَرَ النَّاسَ باِلْجِهَازِ لَهُ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَِى الْحَجِّ لخِمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذى الْقعدَة »(37) وهذا إسناد جيد.
وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم عرفات في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، السنة العاشرة من الهجرة، فألقى فيها خطبته المعروفة، وهو راكب على القصواء، وبيّن فيها للناس مناسك الحج، وكثيرًا من أحكام الشريعة الإسلامية، في الدماء والربا، وثارات الجاهلية، وفي حقوق النساء، وقد أورد ابن كثير جانباً منها، في سيرته حيث يقول: «وَقَالَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، شَهْرِكُمْ هَذَا، بلدكم هَذَا، أَلا كل شيء من أَمر الْجَاهِليَِّةِ مَوْضُوع تَحت قدميّ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإنَِّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائنِاَ، دَمُ ابْنِ رَبيِعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنيِ سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّة مَوْضُوع، وَأول رَبًّا أَضَع من رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الُمطَّلِبِ، فَإنَِّهُ مَوْضُوع كُله، وَاتَّقوا الله فِي النسَِّاء فَإنَِّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَِمَانَةِ الله، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَِلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدًا تَكْرَهُونهَُ، فَإنِْ فَعَلنَ ذَلكَِ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَليَكُْمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالُمْعُروف.وَقَدْ تَرَكْتُ فيِكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إنِِ اعْتَصَمْتُمْ بهِِ، كتَِابَ الله، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنيِّ فَمَا أنَْتمُْ قَائلُِونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأدَّيْتَ وَنَصَحْتَ»(38).

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الثالثة والستين من عمره، ولم يكن به مرض، بل قد جهز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد بن الحارثة، لمعاقبة القبائل الساكنة في أطراف بلاد العرب، لإظهار قوة الإسلام للغساسنة والروم، وكل من تحدثه نفسه بالانقضاض على الإسلام، فبينما كان الجيش يستعد للرحيل، فوجئ بمرض النبي صلى الله عليه وسلم، في اليوم الثامن عشر من شهر صفر، فتوقف الجيش عن المسير، انتظارًا لما ستسفر عنه وعكته فاشتدت العلة بالرسول صلى الله عليه وسلم فاستأذن نساءه ليمرّض في بيت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وأمر أبا بكر بأن يصلي بالناس، فصلى بهم سبع عشرة صلاة، وقيل ثلاثة أيام، وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشر، قبضت روحه الطاهرة، فالتحق بالرفيق الأعلى.
قال ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُحمََّدِ بْنِ سَعْدٍ: تُوُفِّيَ رَسُولُ الله يَوْمَ الاِثْنَيْنِ لثِنِتْيَْ عَشْرَةَ لَيلَْةً خَلَتْ مِنْ رَبيِعٍ الأَوَّلِ، وَدُفنَِ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ»(39)، وكاد الناس يفتتنون بوفاته، حتى أن البعض قد أنكروا موته، وقالوا بل ذهب يناجي ربه، كما ذهب موسى بن عمران لمناجاة ربه أربعين ليلة ثم رجع إلى قومه، ولم يعودوا إلى رشدهم إلا عندما ذكرّهم أبو بكر بهذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
فتولى غسله صلى الله عليه وسلم آل البيت وهم: علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد، وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان العباس وولداه يقلبانه، وأسامة وصالح يصبان الماء عليه، وعلي بن أبي طالب يغسله بيده فوق ثيابه.
يقول ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنِ ابْنِ إسِْحَاقَ، حَدَّثَنيِ حُسَيْنُ بْنُ عَبدِْ الله، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَباَّسٍ، قَالَ: اجْتمَعَ الْقَوْمُ لغَِسْلِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ إِلاَّ أَهْلُهُ، عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالبٍِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَالِحٌ مَوْلاَهُ »(40). ثم كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، أدرج فيها إدراجاً، يقول ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الله الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحمَّدُ بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا أَحْمد بن سَلمَة، حَدثنَا هناد بن السرى، حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ الله فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُوليَِّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ، فَأَمَّا الْحلَُّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا، إِنَّمَا اشْتُرِيَتْ لَهُ حلَّة ليكفن فِيهَا فَتركت، وَأَخذهَا عَبْدُ الله بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: لَأَحْبِسَنَّهَا لِنَفْسي حَتَّى أُكَفَّنَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا الله لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَفَّنَهُ فِيهَا فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا»(41).
فرفع فراشه صلى الله عليه وسلم وحفر له أبو طلحة الأنصاري تحته لحداً، يقول ابن كثير في سيرته: «عَنْ أَبَى كُرَيْبٍ، عَنْ أَبَى مُعَاوِيَةَ، عَنِ عَبدِْ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْملَُيكْيِِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَْةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَّما قُبِضَ رَسُولُ الله صَ الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفُوا دَفْنِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعت من رَسُول الله شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ مَا قَبَضَ الله نَبِيًّا إِلاَّ فِي المُوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ، ادْفِنُوهُ مَوْضِعِ فِرَاشِهِ»(42).
ثم دخل الناس يصلون عليه فرادى، الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ولما فرغوا من الصلاة عليه دفن وذلك ليلة الأربعاء الرابع عشر من ربيع الأول السنة الحادية عشر من الهجرة.
يقول ابن كثير في سيرته: «وَقَالَ مُحمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنيِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَّما مَاتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ الرِّجَالُ فَصَلَّوْا عَلَيهِْ بِغَيْرِ إمَِامٍ أرَْسَالاً حَتىَّ فَرَغُوا، ثُمَّ أدُْخِلَ النسَِّاءُ فَصَلَّيْنَ عَلَيهِْ، ثُمَّ أدُْخِلَ الصِّبْيَانُ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْعَبيِدُ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ أَرْسَالاً ،لَمْ يَؤُمَّهُمْ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ»(43).
والذين نزلوا في قبره صلى الله عليه وسلم واستلموا جسده الطاهر من الناس هم: علي بن أبي طالب والعباس والفضل.
يقول ابن كثير في سيرته: «وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلَ قَبْرَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَالْفَضْلُ وَسَوَّى لَحْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ الَّذِي سَوَّى لُحُودَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: صَوَابُهُ يَوْمَ أُحُدٍ»(44).

فلا يسعني إلا أن أختم بحثي هذا بجانب من أبيات القصيدة التي رثى بها حسان بن ثابت شاعر الإسلام الأول، النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:

بطيبة رسمٌ للرسولِ ومعهدُ        **    منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دارِ حرمة   **     بها مِنْبَرُ الهادي الذي كانَ يَصْعَدُ
ووَاضِحُ آياتٍ، وَبَاقي مَعَالمً،       **      وربعٌ لهُ فيهِ مصلى ومسجدُ
بها حجراتٌ كانَ ينزلُ وسطها       **    مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقَدُ
معالم لم تطمسْ على العهدِ آيها   **  أتَاهَا البِلَى، فالآيُ منها تَجدَّدُ
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ،   **   وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
ظللتُ بها أبكي الرسولَ، فأسعدتْ  **  عُيون، وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ
تذكرُ آلاءَ الرسولِ، ومــا أرى     **         لهَا مُحصِياً نَفْسي، فنَفسي تبلَّدُ
مفجعة قدْ شفها فقدُ أحمدٍ،       **    فظلتْ لآلاء الرسولِ تعددُ
وَمَا بَلَغَتْ منْ كلّ أمْرٍ عَشِيرَهُ     **     وَلكِنّ نَفسي بَعْضَ ما فيهِ تحمَدُ
أطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ جهدها   **    على طللِ القبرِ الذي فيهِ أحمدُ
فَبُورِكتَ، يا قبرَ الرّسولِ، وبورِكتْ    **  بِلاَدٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُسَدَّدُ
وبوركَ لحدٌ منكَ ضمنَ طيباً        **     عليهِ بناءٌ من صفيحٍ، منضدُ
تهيلُ عليهِ التربَ أيدٍ وأعينٌ       **      عليهِ، وقدْ غارتْ بذلكَ أسعدُ
لقد غَيّبوا حِلْماً وعِلْماً وَرَحمة     **     عشية علوهُ الثرى ، لا يوسدُ
وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ    **    وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ، وأعضُدُ
يبكونَ من تبكي السمواتُ يومهُ   **   ومن قدْ بكتهُ الأرضُ فالناس أكمدُ
وهلْ عدلتْ يوماً رزية هالكٍ      **      رزية يومٍ ماتَ فيهِ محمدُ
تَقَطَّعَ فيهِ منزِلُ الوَحْيِ عَنهُمُ    **     وَقَد كان ذا نورٍ، يَغورُ ويُنْجِدُ
يَدُلُّ على الرّحمنِ مَنْ يقتَدي بِهِ   **  وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِدُ

وفقنا الله إلى ما فيه خير الأمة الإسلامية وسعادتها،
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.