6 ق.هـ
616 م
مساومات وتنازلات

ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد والترهيب، …

وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك، تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى الله عليه وسلم على باطل، بل كانوا ـ كما قال الله تعالى ‏{ ‏لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏ }‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏‏. فرأوا أن يساوموه صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم حقًا‏.‏
روى ابن إسحاق بسنده، قال‏:‏ اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي ـ وكانوا ذوي أسنان في قومهم ـ فقالوا‏:‏ يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد؛ كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد؛ كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏ }‏ [الكافرون: 1-2] السورة كلها‏.‏
وأخرج عَبْدُ بن حُمَـيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشًا قالت‏:‏ لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك‏.‏ فأنزل الله ‏:‏ ‏{‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }‏ [الكافرون: 1] السورة كلها.
وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فأنزل الله ‏:‏‏{ قُلْ أَفَغَيْرَ الله ِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏ }‏ ‏[‏الزمر‏: ‏64‏]‏.
ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى الله عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا‏:‏ ‏{ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ }‏ [يونس: 15]، فقطع الله هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال‏:‏ ‏{ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏ }‏ ‏[‏يونس‏: ‏15‏]‏ ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله‏:‏‏ { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا }‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏- 75‏]‏‏.