16 ق.هـ
607 م
ما أكرمه الله به قبل النبوّة

أول منحة من الله ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعاً فيهم، …

فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت غُنَيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبناً، ويرحم الله البوصيري حيث يقول في همزيته:
وإذا سخَّر الإله أُناساً ** لسعيدٍ فإنَّهم سُعداءُ
ثم أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظِّ الشيطان منه، وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر، لا يعرف من قوة الله شيئاً، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب.

ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام، حتى كانت تظله في اليوم الصائف لا يشترك معه أحد في القافلة، كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مُشاركاً له في سفره، وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها، وتيقنت أن له في المستقبل شأناً. ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيماناً به، ولم تنتظر آيةً أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق، وما سمعته من خوارق العادات.
ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار، فكان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى لا يرى بناء، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً، وقد حدَّث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير إشكال فقد سخّر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سَحَرَة فرعون بعد أن تحوّلت حيّة تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخّر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدلّ العقلاء على عظيم قدرهم وخَطَارة شأنهم.