قراءة لليوم النبوي

فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تصفحت عدداً من المراجع في السيرة النبوية قديمها وحديثها فوجدت عرض الأحداث الكبرى، وخاصة المغازي هو السائد، بينما حاجة المسلم اليوم وكل يوم هي للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجريات حياته اليومية وأخلاقه وعلاقاته وعباداته ..
ورأيت الكتاب المسدد الذي سطرته يراعة أخي وصديقي الشيخ الدكتور عبد الوهاب بن ناصر الطريري بعنوان (اليوم النبوي) فوجدته امتداداً لقدرة كاتبه المبدع على اكتشاف وتدوين جوانب ذات أهمية كبيرة في حياتنا ومشكلاتنا القائمة لا يتفطن لها الكثيرون.
والكتاب يقع في (176 صفحة) وطبعته (دار الإسلام اليوم للنشر).
وهذه عصارة لا تغني عن الرجوع للكتاب الأصل:
اليومُ النبويُّ يشكِّل مَقْطَعًا أُفقيًّا للحياة النبوية العريضة، يتجلَّى لنا من خلاله باقة من الدِّلالات العميقة:

  1. أن هذا اليوم النبوي هو الوعاء الزماني للإنجازات الكبرى التي تحقَّقت على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يَعرفِ التاريخ إنجازًا تحقَّق على يد بشر كالإنجاز الذي تحقَّق على يد هذا الرسول الكريم العظيم صلى الله عليه وآله وسلم.
  2. ألم يلفتْ نظرَك شدَّةُ الوضوح إلى درجة السُّطوع في حياته صلى الله عليه وآله وسلم اليومية؛ فليس في حياته زوايا مظلمة أو حلقات مفقودة، بل كل حاله جَِيلٌّ ظاهر باهر، حتى إنا نعلم حاله في بيته إذا أغلق بابه، وحاله على فراشه إذا نام مع أهله، وصوت نَفَسِه إذا نام، وأول ما يقول إذا استيقظ!
    لقد شعرتُ وأنا أتتبَّع برنامج اليوم النبوي أني أعرفُ عن نبيي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما أعرف عن أبي الذي ولدني، ففدًى له نفسي وأمي وأبي؛ فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مُشْرَقَ الحياة، كان نبيًّا يمشي تحت الشمس.ْْ
  3. ترى في هذا اليوم تحقيق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وجُعلتْ قُرَةُ عيني في الصلاة» (275). فالصلوات منتشرة في مساحة يومه؛ فرائضَ وسُننًا وقيامَ ليل، فهي منازل الاستراحة النفسية في مسيرة اليوم، وكأنما يتلقَى في صلاته تلك مَدَدَ ربه وفتوحه عليه؛ ليتجدَد له بعد كل صلاة: قوة وعزم ومَضاء، لقد كانت الصلاة قُرَة عينه وراحة نفسه، حتى كأنما يستبطئ الصلاةَ وقد حان وقتها، فيقول من شدَة شوقه إليها: «أرحنا بها يا بلالُ» (276). ولا أفصح ولا أدقَ في تصوير أشواق روحه العالية من قوله: «أرحنا بها» فهذا كمال الاتصال بينه وبين خالقه (277).
    وذكر ابن القيم أن مجموع وِرْده صلى الله عليه وآله وسلم الرَاتب بالليل والنهار أربعونَ ركعةً، كان يحافظُ عليها دائمًا؛ سبعةَ عَشَرَ فرضًا، وعشرُ ركعات أو ثنتا عشرةَ سُنةًَ راتبةً، وإحدى عشرةَ أو ثلاثَ عشرةَ ركعةً قيامه بالليل، والمجموع أربعونَ ركعة، وما زاد
    على ذلك فعارضٌ غير راتب، كصلاة الضحى، وصلاته عند مَن يزوره، وتحية المسجد ونحو ذلك، فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات، فما أسرعَ الإجابةَ وأعجلَ فتْحَ الباب لمَن يَقْرَعُهُ كلَ يوم وليلة أربعينَ مرَةً (278 ).
  4. صلاته بالليل هي أعمق صلاته حضورًا واستغراقًا وتلذُّذًا بالمناجاة؛ بل هي حالة من حالات التجلِّي الروحي والاستغراق التعبُّدي.ّ
  5. يلفت نظرَك إلى حد الإدهاش، أن هذا النبيَ الذي تلقَى بشائر الله له أنه قد غُفِرَ له ما تقدَم من ذنبه وما تأخَر، هو أكثرُ الناس استغفارًا؛ فهو يَستقبل صَبِيحةَ كل يوم بالاستغفار مائةَ مرة، ويُعَدُّ له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة: «ربِّ اغفرْ لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التَوَاب الغفور» (279). ثم يستغفر ربَه بضراعة وخشوع في صلاته الليلية: «اللهمَ اغفرْ لي ما قدَمتُ وما أخَرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنتَ المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت» (280).
    يستغفرُ هذا الاستغفار، وهو الذي غُفِرَ له ما تقدَم من ذنبه وما تأخَر، وهو المعصوم أن يقارف ذنبًا أو يكسب إثماً، ماذا نقول نحن، وأوقات حياتنا لا تكاد تفلت من وقوع في خطأ، أو مقارفة لخطيئة، اللهمَ غَفْرًا!ّ
  6. لَهَجُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالذِّكر؛ بحيث تستشعر أن هذا النبي الكريم يعيش حالة من الحب والشوق لله عز وجل، وكأنه يتراءى جلالَ ربه، فلا يفتُر لسانه عن ذكره، فهو أول ما ينطق به إذا استيقظ، وآخر ما تتحرَك به شفتاه إذا نام، يستقبل بالذكر صَبَاحات نهاره، ومَسَاءات ليله، ولا يزال لسانه رَطْبًا بذكر الله فيما بين ذلك كله، إنه الاستحضار العميق لمعاني العبودية والحب والإجلال لله عز وجل.
  7. تبكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أداء الصلوات في أول وقتها، إِلاَّ العِشاء، فربما تراخى فيها قليلا.ً
  8. حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه يكون عقب الصلوات، فكثيرًا ما يكون بعد الفجر والظهر؛ لأن الناسَ في حال نشاط وراحة، فهاتان الصلاتان مسبوقتان بنوم الليل وقيلولة الضحى، ويتحدَث نادرًا بعد العصر والعِشاء؛ لأن الناسَ في حال كلال وحاجة إلى الراحة، ولم يُنقل أنه تحدَث بعد المغرب؛ لأن الناس بعدها بحاجة إلى عَشائهم؛ فلذا يبادر بها في أول وقتها، ولا يطيل القراءة فيها، ولا يتحدَث بعدها.ّ
  9. التوازن في أداء الحقوق، والتوازن في استيعاب مناشط الحياة؛ فأداؤه لعباداته، وبلاغه لرسالاته، وقيامه بحقوق أهله، وعشرته لأصحابه، ومراعاة حق نفسه، وغير ذلك من متطلباته؛ كل ذلك يسير متوازيًا متوازنًا، من غير أن تَرَى تقصيرًا في حقٍّ أو إخلالً بواجب، وإنما الاستيعاب المتوازن للحقوق الخاصة والعامة، بحيث ترى في حياته التطبيق العملي لوُصاته يوم قال: «إنَ لجسدكَ عليك حقًّا، وإنَ لعينكَ عليكَ حقًّا، وإنَ لزوجكَ عليك حقًّا، وإنَ لضَيفكَ عليك حقًّا، وإنَ لولدكَ عليك حقًّا، وإنَ لصديقكَ عليك حقًّا» (281).  وقد أَعطى صلى الله عليه وآله وسلم كلَ ذي حقٍّ حقَه.ّّ
  10. حياته صلى الله عليه وآله وسلم مزدحمة وحافلة، ولكنها ليست متوتِّرة ولا مرتبكة؛ فبرغم كثرة المشاغل وازدحامها، فإن نفْسَه هادئة مسترخية، فلا تجد اضطرابًا ولا توتُّرًا، وإذا نظرت إليه في حالٍ ظننتَ أن ليس له عمل قبلها ولا بعدها، فحاله في بيته لا
    تدل على أن أعباء الحياة ومشاغلها تنتظره في الخارج، وجلوسه مع أصحابه لا يَدُلُّكَ أنه في حال تحفُّز أو قلق لعمل آخر ينتظره؛ فهو مقبل عليهم بكلِّه، مسترخٍ بنفسه معهم، يَسَعُهُم جميعًا حسنُ خلقه، وكأن عمله الوحيد هو هذا المجلس الذي هو فيه، إن هذه حالة استواء نفسي تستوعب الأعمال دون أن تتوتَر أو ترتبك.
  11. حياته صلى الله عليه وآله وسلم حياة مُرَتَبة وليست رَتِيبة، فهي مرتَبة، ولكنها أيضًا مَرِنَة، بحيث تسمح بالتموُّج تبعًا لمقتضيات الحال؛ فليس في حياته فوضى أو ارتباك، وليس في حياته رَتَابة وصَرَامة، ولكن ترتيب ومرونة؛ فوقت الصلوات وقت محدَد يرتِّب ما بينها، ومجلسُه صلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن يطول ويقصُر، بحسب مستجدات الأحوال، وبذلك تحقَقت في حياته إيجابيات التنظيم، وتخلَص من سلبيات الرَتَابة وحَدِّيَة الصرامة.
  12. في حياته صلى الله عليه وآله وسلم عَفْوية الحياة وبساطتها، فحياته صلى الله عليه وآله وسلم بعيدة عن التواقر المتكلَف والجِديَة الصارمة.ّّ
    ولكن للعَفْوية والبساطة حضورها، فهو الذي يبتهج مع البهجة، ويأنس مع الأُنس، ويتوثَب في نشوة الفرح، حتى يسقط رداؤه ليتلقَى حبيبًا جاء بعد طول غياب (282)، ويسير في طريقه ثم يحيد إلى شاب يسلخ شاة، فيَحْسِرُ عن ذراعه؛ ليُرِيَه كيف يُحْسِنُ السَلْخ، ويمرُّ برجل يطبخ لحماً في بُرْمة، فيقول: «أطابتْ بُرمَتُك؟». ثم يتناول منها بَضْعَةً فيأكلها (283).
    إن هذه العَفْويَة في التعامل مع الناس حَطَمت كل الحواجز؛ بحيث أفضى إليهم بقلبه، وأَفْضَوْا بقلوبهم إليه، وشعروا أنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبناءٌ مع أبٍ لهم.
  13. الأُنْس والبهجة حاضرةٌ في بيته؛ فقد كان في بيته ضَحُوكًا بَسَامًا، حاضرةٌ في مجلسه؛ ففيه فُسحة للطُّرْفَة الجميلة والمداعبة المُؤْنِسة، وحاضرةٌ في حياته؛ فهو الذي يخرج
    وينظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فيستمتع بمنظر لهوهم، ويدعو زوجته لتشاركه أُنْس المنظر، ثم يقول مؤصِّلاً لهذا الهَدْي: «العبوا بني أَرْفِدة؛ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فُسحة، إني أُرسلتُ بحنيفيَة سَمْحة» (284). لقد كان في دينه سَعة، وفي حياته سَعة للأُنْس والبهجة.
  14. قوة العلاقة العاطفية الزوجية، وإشباع هذه العاطفة، التي تظهر في مناولة قدح الماء، ومناولة لقمة الطعام، والمؤانسة في الحديث الليلي، والتعاهد بالزيارة النهارية، والمشاركة في مِهْنة البيت، والتواصل الزوجي الحميم على فراش الزوجية وتحت لحافها.
  15. تفهُّمه لفِطَر الناس وحاجاتهم ومشاغلهم، حتى في أدائه للعبادة، فكان أقصر الناس صلاة إذا صلَّى بالناس، مع أنه كان أطولهم صلاة إذا صلَّى لنفسه، وكان يدخل الصلاة وهو يريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبيِّ فيخفِّفها؛ لِمَا يعلم من وَجْدِ أُمِّه (285).
  16. يتَضح من هذا اليوم أن أعمق عباداته صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرها استغراقًا، هي عبادات السر التي كان يفعلها في بيته وفي سكون الليل، والتي لزمها وداوم عليها حتى لقي ربه.
    وتلك دلالة من دلالات النبوة؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا التبتُّل المستغرق المنتظم، والذي استمر عليه عمره كله، صنيعًا لمُدَعٍ ولا مُتقوِّلٍ- وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم- لكنه دلالة على يقين صادق وإيمان عميق بما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم ويبلِّغه.
  17. يمكن تقسيم فترات النشاط إلى ثلاث فترات:
    – فترة النشاط والحيوية والصفاء في قيام الليل؛ لأن قيامه للتهجد هو بعد أطول فترة نوم ينامها في نصف الليل الأول، فكأنما كان يستجمع صفو نشاطه لهذا الحال؛ إذ صلاته هي راحته وقُرَة عينه.ّ
    – ثم بعد الفجر؛ إذ هي تَعقب إغفاءة السَحَر، فيصلِّي الفجر ويذكر ربه، ثم يجلس لأصحابه وعظًا وتعليماً وتربية.
    – ثم بعد صلاة الظهر؛ إذ هي تعقب القيلولة، فيصلِّي الظهر ويخطب إن كان قد حدث أمر، أو يجلس لأصحابه يحدِّثهم ويقضي حوائجهم.
  18. يلاحظ أن الصلوات هي فواصل الأوقات، فالوقت يقسَم إلى
    وحدات زمنية تفصلها الصلوات.
    ويمكن تقسيم برنامج اليوم النبوي تقسيماً تقريبيًّا على النحو التالي:
    أ- الفجر: يستيقظ لصلاة الفجر بعد نومة السَحَر، فيصلِّيالفجر، ويمكث في مصلَّاه مع أصحابه إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بجولة صباحية على زوجاته، ثم يجلس في أول الضحى مع أصحابه في المسجد، وهذا مجلس ذكر وعلم وتربية، ثم يقوم أحيانًا بزيارات بعد هذا المجلس، فربما زار بُنَيَاته، أو زار بعض أصحابه، وربما ذهب لقضاء بعض شأنه الخاص.
    فإذا تعالى الضحى، فإنه وقت النوم والقيلولة، فيَقِيل قبل صلاة الظهر، وهذه النومة إراحة للبدن، ومَدَد لقيام الليل.
    ب- الظهر: يستيقظ لصلاة الظهر، فيصلَّي الظهرَ، فإن كان حدَثَ أمرٌ خَطَبَ بعد صلاة الظهر، وأكثرُ خطبِه في هذا الوقت، ثم يعود إلى بيته فيصلِّي السُّنة الراتبة، ثم يخرج فيجلس إلى أصحابه، أو يذهب لقضاء بعض شأنه، فقد كان ما بين الظهر والعصر وقت
    عمل وقضاء حاجات.
    ج- العصر: يصلِّي العصر في أول وقتها، ثم يقوم بعد صلاة العصر بجولة مسائية على زوجاته، وربما اجتمعن له في بيت التي هو عندها، وكأنما ما بين العصر والمغرب وقت استرخاء أُسَري في الغالب.
    د- المغرب: يصلِّي المغرب في أول وقتها، ثم يتعشَى، ويبقى في بيته، وهذا هو وقت تناول الوجبة الرئيسة، وهي وجبة العَشاء.
    هـ- العِشاء: يصلِّي العِشاء، ثم يعودُ إلى بيته، فيسمُر مع أهله، وربما ذهبَ في زيارات لبعض الأنصار، أو سَمَر مع أبي بكر وعمرَ في بيت أبي بكر رضي الله عنهما؛ للتشاور في شؤون الدولة وقضايا المسلمين، ثم يعود بعد سمره إلى بيته، فينام إلى منتصف الليل، ويستيقظ إذا انتصف الليل ليصلِّي صلاة الليل، وهو في ذِروة نشاطه بعد أطول نومة، فيستمر في حاله هذه من الصلاة والمناجاة بقدر ثلث الليل، حتى إذا لم يبق إِلاَّ سدس الليل عاد إلى فراشه؛ ليستريح ويغفي إغفاءة السَحَر إلى صلاة الفجر.ّ
  19. كانت وقائع حياته صلى الله عليه وآله وسلم اليومية مشهدًا من مشاهد دلائل نبوته، لا يمكن أن يراها أحدٌ إِلَّا علم أن هذا حال نبيٍّ مرسلٍ من الله، يتنزَل عليه وحيه، ليس بمتقوِّل في دعواه، ولا طالب حظٍّ لنفسه، وهذا ما أدركه ثُمامة بن أُثال الذي أُتي به
    إلى المدينة أسيرًا، وما أحدٌ أبغض إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يُربط إلى سارية من سواري المسجد، فلما رأى ثمامةُ حالَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يومه وليلته، ورأى مدخله ومخرجه، وحاله مع الناس حوله؛ علم أن هذا نبيٌّ مرسلٌ، وليس بمَلِك ولا جبَار، فلما أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بإطلاقه، انطلق فاغتسل، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أشهدُ أن لا إله إِ لا لَا الله، وأشهدُ أنَ محمدًا رسولُ الله، يا محمدُ، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغَضَ إليَ من وجهكَ، فقد أصبح وجهُكَ أحبَ الوجوه إليَ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَ من دينكَ، فأصبح دينُكَ أحبَ الدِّين إليَ، والله ما كان من بلد أبغضُ إليَ من بلدكَ، فأصبحَ بلدُكَ أحبَ البلاد إليَ» (286).
    وكذلك كان حال عدي بن حاتم لما أتى النبيَ صلى الله عليه وآله وسلم وهو على نصرانيته، فسار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق، فاستوقفته امرأةٌ معها غلامٌ، فوقف لهما صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قال عديٌّ: «حتى أَوَيْتُ له من طول القيام».
    ثم قال عديٌّ: «قلتُ في نفسي: أشهدُ أنك بَرِيءٌ من ديني ودين النعمان بن المنذر، وأنك لو كنتَ مَلِكًا، لم يَقُمْ معه صبيٌّ وامرأة طولَ ما أرى. فَقَذَفَ اللهُ في قلبي له حُبًّا». ثم أسلم
    عديٌّ بعد ذلك المشهد (287).
  20. يظهر من هذا البرنامج اليومي أن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش حياة طيبة سعيدة.
    أما سعادته الإيمانية؛ فأُفُقٌ عالٍ لم يصل إليه بشر قبله؛ فهو أعرف الخلق بالله وأعظمهم إيمانًا وأصدقهم يقينًا.
    وما ظنُّك بمَن رُفع فوق السَبع الطِّباق إلى مستوى يسمع فيه صِريف الأقلام، ورأى الجنةَ رأي عين، حتى هَمَ أن يتناول منها قِطْفًا، ورأى الكوثرَ الذي أعطاه ربُّه، فإذا طينُه المسك الأَذْفَرُ، وإذا رَضَراضُهُ اللُّؤْلُؤُ (288).
    كيف سيكون حال نبي قُرِّب هذا القرب ورُفِع إلى تلك المنزلة حينما يناجي ربَه ويدعوه ويمجِّده ويُثني عليه!: «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» (289).
    إن تلذذه بالعبادة وتذوقه لحلاوة الإيمان لا يمكن أن يقرِّبه أو يصوِّره مقارنته بأي لذة من لذائذ الحياة الدنيا.
    وهو أيضًا سعيد في حياته الدنيوية، وهذه السعادة تجدها في لفتات حياته كلها، وتستشعر تذوقه لهذه السعادة وعميق امتنانه لربه بها؛ فقد أجاره ربه من الهم والحزن، وأعاذه من سيِّئ الأَسْقام، فعاش في عافية بدنية وعافية نفسية وعافية أُسرية، عاش في عفو وعافية ومعافاة دائمة:
    فله صلى الله عليه وآله وسلم الزوجة الوَضِيئة التي يحبها وتحبه، يقاسمها أجمل عواطف المودة والحب.
    وله الابنة الطاهرة وابناها ريحانتا دنياه، يُغْدِقُ عليهم أعذب مشاعر الأُبوَة.ّ
    وله الأصدقاء الصادقون: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يقاسمهما أعباء الحياة، فيُسمع كثيرًا يقول: «دخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، وذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر» (290).
    وله الصِّهر والنسَيب القريب في نسبه وداره الذي يحبه ويعلم أن الله في ملئه الأعلى يحبه: أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
    وله أصهارُ برٍّ ووفاء، حدَثوه فصَدَقوه ووعدوه فوَفَوْا له: عثمان بن عفان وأبو العاص بن الرَبِيع رضي الله عنهما.ّ
    وله الأصحاب المرضيُّون الذي ينزل عليه وحي ربه في تزكية سرائرهم وما في قلوبهم: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18].
    فكان سعيدًا بمَن حوله ومَن معه.
    ثم عاش حياةً تتدافع الإنجازات الكبار فيها، وأعظم السعادات في الحياة تحقيق الإنجازات، ثم تحقيق الهدف الأكبر له في الحياة، وهو بلاغ رسالات الله، ودخول الناس في دين الله أفواجًا.
    لا أستطيع أن أتخيَل تلك السعادات على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يرى هذه الجموع في مسجده تكثر، ومساحة الإسلام تتَسع، والناس يدخلون في دين الله أفواجًا.
    بل لا أستطيع أن أُصوِّر مشاعري لمجرد تخيل مشاعره صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في حَجَة الوداع يسمع تلك الجموع حوله من كل أنحاء الجزيرة، تقول بفم واحد: نشهد أنك قد بلَغت ونصحت وأدَيت الذي عليك.ّّ إن هذا كله بعض عطاء الله الغامر له يوم قال :{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} [الضحى: 5].
  21. تجد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم تذوُّق لذائذ الحياة، واستشعار جمال ما يرى، ولذة ما يتذوَق، والامتنان لله بالنعمة عليه بذلك، ففي الشَربَة يشربها واللُّقمة يأكلها يتذوق لذَة ذلك بامتنان عظيم لله: «الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، الحمدُ لله الذي كفانا وأَرْوَانا، غيرَ مَكْفِيٍّ، ولا مَكْفُورٍ، ولا مُوَدَعٍ، ولا مُسْتَغْنىً عنه ربَناَ، اللهمَ إنك أَطْعَمْتَ وأَسْقيتَ وأَغْنيتَ وأَقْنَيتَ وهَدَيْتَ وأَحْييتَ، اللهمَ فلك الحمدُ على ما أعطيتَ» (291).
    في يقظته من نومه يستشعر فضل الله عليه بنومة تتمناَها عيون مُؤرَقة، ثم استيقاظه بعافية وحيويَة، فيتذكَر فضل واهب الفضل: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور» (292).
    إذا كان هذا في الأَكْلة المعتادة والنومة المعتادة التي يذهب الاعتياد استشعار نعيمها، فكيف بالنعم المتجدِّدة والأَفضال المتتابعة، إنك تستشعر أنه يقف عند كلِّ نعمة، فيتذوقها
    كاملة، ثم يستشعر فضل الله عليه بها، حتى لكأنك تسمعه يهاتف ربه قائلاً: «الحمد لله الذي مَنَ عَلَيَّ فأَفْضَل، الحمد لله الذي أعطاني فأَجْزَل، الحمد لله على كل حال» (293).
    وإذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يلفت أبصار بصائرنا إلى ما نألفه حتى لا نكاد نحس به؛ المبيت الآمن، مع طعام ليلة وعافية بدن، فيقول: «مَن أصبحَ آمنًا في سِرْبه، معافَّى في جسده، عنده طعامُ يومه، فكأنَما حِيزَتْ له الدنيا» (294).
    فكيف كان تذوقه هو صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وما هو أكثر من ذلك؟!
    إن استشعار النعم وتذوقها وتعظيمها في النفس يزيد مساحة السعادة بها، ويجعل الحياة أكثر بهجة ورُواءً، والنفس أعظم ما تكون سكينة ورضًا وامتنانًا للوهَاب الذي هذه هبته، والكريم الذي هذا فضله، فتثمر النعمة نعماً، وتزداد الحياة اتِّساعًا وتجدُّدًا وتوهُّجًا.ًً
  22. عندما ترى من خلال هذا اليوم هذه الحياة النبوية الحافلة، وهذا التفاعل الحي مع الحياة، فَتَذَكَر كَمَ الآلام والأحزان التي استقبلها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ثم تجاوزها، لقد تلقَاه في أول إقباله على الحياة؛ اليُتم المتكرِّر في الطفولة، ثم الأَذَى البالغ بعد البعثة، وفجيعته بزوجته خَدِيجة أحب الناس إليه، ثم ثكله ببنيه وبناته في حياته، وفراق بلده التي هي أحب البلاد إليه، ومهاجره عنها، ومصابه في قرابته وأصحابه في أُحُد، وآلام حادثة الإفك، وغير ذلك من أوصاب حياته وبلاءاتها.
    ولكنه مع ذلك كله كان يتمتَع بقدرة عظيمة عجيبة على تجاوز المشاعر السلبية، ولياقة فائقة على استئناف الحياة، والتفاعل الإيجابي مع كل لحظاتها!
    إنك وأنت ترى هذا الزَخَم العظيم في كل يوم من أيام حياته، لتكاد تقول: هذه سيرة مَن لم تمر به شدَةٌ قطُّ، ولم يَعْرِض له بلاءٌ قطُّ.ّ
    وما كان بأبي هو وأمي كذلك، ولكنه يتجاوز هذه الآلام ولا يستصحب آلامها، فلكل لحظة في عمره مشروعها وإنجازها وبهجتها؛ إنها الحياة المتدفِّقة المتجدِّدة، إنها الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة.
  23. تعجبُ لهذا الحضور العَمِيق لحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حيوات أصحابه، وتفاعله بحيويَة معهم، حتى لتكاد تجزم أنه لكل واحد منهم معه موقِفٌ أو حدثٌ أو قصةٌ:
    يستقبل أطفالهم في أول طريق الحياة، فيتدلَونَ في حِجره، ويرشُفونَ أول ما يرشُفونَ ريقته وبركته (295).
    ويتزاحم خدمُهم في مصلاَّه مع أول أنوار الصباح، فيغمس يده المباركة في آنيتهم (296).
    ويتلقَاه صبيتهم وبُنيَاتهم في الطريق، فيمسح وجوههم ويعلن الحبَّ لهم (297).
    يَمُجُّ الماء في وجه صبي (298)، ويُلْبِس طفلةً الكساءَ بيديه (299)، ويضيء حياة كلٍّ منهم بذكرى مبهجة جميلة.
    إذا لقوه تشرق لهم ابتسامته، وتتلقَى أيديهم بركة يده وطِيبها (300).
    خطواته دفَت إلى بيوتهم، ويده شركتهم في طعامهم (301).
    عاش أفراحهم، فكبرت أفراحهم الصغيرة بحُبُوره وحضوره.
    يدعونه ليشركهم الفرحة بذبح جزور، فيأتي وينظر معهم وينتظر (302).
    يشرف إلى لهو الحبشة وهم يرقصون في المسجد، فيمد ابتهاجهم ببهجته: «العبوا بني أَرْفِدة» (303).
    عاد مرضاهم، فإذا أفاقوا إذا هو ينظر إليهم، وإذا بَرْدُ يده يمسح آلامهم(304).
    صحب جنائزهم، ووقف على قبور أهليهم وأحبائهم، وذرف الدمع في أحزانهم.
    وإذا غابوا عنه، بلغهم سؤاله عنهم وتفقُّده لحالهم، فتفرَقت حياته في حياتهم، وتنوَرت حياتهم بحياته بحضور عَمِيق وتفاعل عَجِيب.ّ
    ثم تُوفِّي صلى الله عليه وآله وسلم، وبقي حيًّا في نفوسهم، حاضرًا في قلوبهم، مُشِْرقًا في عيونهم؛ فلكل واحد منهم معه ذكرى لا تُمْحَى ولا تُنْسَى، فإذا تحدَثوا عنه فكأنما لا يزال يتراءى طيفُه لهم، ولا تزال تنظر إليه عيونُهم:
    «كأنِّي أنظرُ إلى وَبِيص ساقَيْه..».
    «كأنِّي أنظرُ إلى وَبِيص خاتمه..» .
    «كأنِّي أنظرُ إلى وَبِيص الطِّيب في مَفْرِق رأسه..».
    «ما زلتُ أجد برد يده..».
    «فإذا يده أبرد من الثلج، وأطيب من المسك..».
    «يخيل إليَ الساعة أني أجد بَرْدَ قدمه على كفِّي..» (305).
  24. الرحلة مع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في يومه النبوي مددٌ لحبه العظيم في قلوبنا؛ ولذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشدَ الناس له حبًّا وأكملَ الخلق له تعظيماً ؛ لأن كل ما يرونه من لفتات حياته يَتْرَعُ قلوبهم حبًّا له وتعظيماً، فحياته صلى الله عليه وآله وسلم بكل تفاصيلها حياة جاذبة، ولئن فاتنا أن نرى ما رأوه، فلن يفوتنا أن نعلمَ به ونتعلَمه، ولا تَزَال تتروَى مما رآه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما سمعوه، حتى يعمُرَ قلبَك من حُبِّه ما عَمَرَ قلوبَهم، وإن صحبةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفاصيل يومه الكامل مددٌ وِجداني لخزائن الحب النبوي في قلوبنا؛ فهو الذي كلما ازددت به معرفة ازددت له حبًّا، وكلما ازددت صحبةً لخبره ازددت شوقًا إلى رؤيته.
    ويا لَكَمْ طوت لي حُجُبَ الزمن أخبارٌ أَتَرَوَاها، حتى لكأني أعيشُ الخبرَ رأي عين، فأستشعر الدُّنو إليه، وأكاد أنغمرُ في أنواره، وأستنشق عطر أنفاسه، وأَهُمُّ أن أدنو منه أَلْثَمُ يديه وأجد بَرْدَ كفَيه، وأهتف في مسامعه من كل قلبي: والله يا رسولَ الله، لأ لأنَْتَ أَحَبُّ إليَ من نفسي.
    اللهمَ إنَا آمنا بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأحببناه واتَبعناه وما رأيناه، اللهمَ فلا تحرمنا رؤيته يوم القيامة، احشرنا في زمرته، وأنلنا شفاعته، وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في جنات الفردوس الأعلى مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
    ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
    اللهمَ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.