3 هـ
624 م
في أعقاب أحد

وكان من نتائج غزوة أحد أن تجرأ الأعراب حول المدينة على المسلمين، وظهر ذلك في التجمعات التي قام بها بنو أسد بقيادة طليحة الأسدي …

وأخيه سليمة في نجد، وبنو هذيل بقيادة خالد بن سفيان الهذلي في عرفات، مستهدفين غزو المدينة طمعا في خيراتها وانتصارا لشركهم ومظاهرة لقريش وتقربا إليها، وكان ذلك في شهر محرم من السنة الرابعة للهجرة .
وتحرك المسلمون قبل أن يستفحل الأمر، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد بمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار إلى طليحة الأسدي الذي تفرق عنه أتباعه تاركين إبلهم وماشيتهم بيد المسلمين من هو المفاجأة .
وأرسل عبد الله بن أنيس الجهني إلى خالد بن سفيان الهذلي فقتله وهو يرتاد بماشيته في بطن عرنة – واد معروف قرب عرفات-.
وسعت هذي للثأر لسفيان الهذلي ولجأت إلى الغدر والخديعة، ففي صفر  سنة أربع قدم وفد من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل جمعا من أصحابه ليفقهوهم في الدين، فبعث عشرة من الصحابة – وقال ابن إسحق إنهم ستة، وقال موسى بن عقبة إنهم سبعة وذكرا أسماءهم – وجعل عليهم عاصم بن ثابت الأقلح أميرا، فلما وصل الوفد بين عسفان ومكة، أغار عليهم بنو لحيان (من هذيل) وهم قريب من مائتي مقاتل، فأحاطوا بهم وقد لجأ الوفد إلى مكان مرتفع، وأعطى الأعراب الأمان من القتل للوفد، لكن عاصم بن ثابت قال: “أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر” فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما وستة من أصحابه، وبقي ثلاثة فأعطاهم الأعراب الأمان من جديد فقبلوا، فلما نزلوا إليهم ربطوهم وغدروا بهم، فقاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة فباعوهما لقريش وهما خبيب وزيد.
فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاماً منهم. فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى. فكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزق رزقه الله, فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سَنَّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال اللهم أحصهم.
ثم قال:

ما أبالي حين أقتل مسلما .***على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ***يبارك على أوصال شلو ممزع

فقتل.
وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.

فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً .
ويرى الواقدي أن هذيلاً على اتفاق مع عضل والقارة في الترتيب لهذا الحادث  الذي عرف بحادثة الرجيع نسبة إلى الماء الذي جرت عنده. ورغم ما حدث في الرجيع فإن وفود المسلمين لدعوة الأعراب لم تنقطع إذ لا بد من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات.
فلما قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنَّة على المدينة دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد ووعد بإجارة وفد يرسله النبي صلى الله عليه وسلم لدعوة الأعراب في نجد، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم وفدا برئاسة المنذر بن عمرو الخزرجي  في شهر صفر من سنة أربع ومعه سبعون من القراء – وقال ابن إسحق أنهم أربعون فقط – فلما وصلوا بئر معونة من نجد على بعد 160 كيلاً عن المدينة  غدر بهم عامر بن الطفيل فقتل رسولهم إليه حرام بن ملحان طعنه رجل بأمره في ظهره برمح فصاح “الله أكبر فزت ورب الكعبة”!! وأحاط بهم الأعراب من رعل وذكوان (من بني سليم)، ودافع القراء عن أنفسهم فاستشهدوا سوى عمرو بن أمية الضمري كان قد تأخر عنهم، فعاد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر. فمكث يدعو على رعل وذكوان شهراً في صلاة الغداة وذلك بدء تشريع القنوت. وكان القراء السبعون هؤلاء من خيار المسلمين يحتطبون بالنهار ويتصدقون به على أهل الصفة ويصلون بالليل ويتدارسون القرآن .
وهكذا فقد المسلمون في شهر صفر من سنة أربع ثمانين من خيرة الدعاة فلم يكن تبليغ الدعوة الإسلامية سهلاً مأموناً في بوادي الأعراب بل كان محفوفاً بالأخطار والموت ولكن لم يحل شيء دون الدعاة وتبليغ دعوة الله.
وكان لابد من تأديب الأعراب الغادرين فقاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بني لحيان – الذين قتلوا القراء في الرجيع – في جمادي الأولى من سنة أربع فعلموا به وتفرقوا في الجبال وهذه رواية المدائني . وأما ابن إسحق فذكر أنها كنت سنة ست . ولعلهما يشيران إلى حادثتين مختلفتين.