7 هـ
628 م
فتح خيبر وبقية المعاقل اليهودية في الحجاز

خيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة وتبعد عنها بحوالي 165كم وترتفع عن سطح البحر بنحو 850 م، وهي من أعظم حرار بلاد العرب …

بعد حرة بني سليم وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرت مياهها فاشتهرت بكثرة نخيلها.
هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجلاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غطفان التي تعتبر خيبر ضمن أراضيها.
ونظراً لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف وكان فيها نشاط واسع للصيرفة.
وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة في عهد السيرة.
ولم يظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذين حز في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافياً لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال وخلفهم القيان يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر مارئي مثله في حي من الناس في زمانهم.
وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلما نزلوا دان لهم أهلها.
وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافيا في جرها إلى الصراع والتصدي للانتقام من المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة.
وكان أول تحرك قوي ما حدث في غزوة الأحزاب حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك، ثم سعيهم الناجح في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الأحزاب.
فلما رد الله الأحزاب عن المدينة خائبين، اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعالجة الموقف في خيبر التي صارت مصدر خطر كبير على المسلمين.
ويذكر ابن إسحق بإسناد فيه راو مجهول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام ويذكرهم بما في كتبهم من ذكر بعثته عليه الصلاة والسلام.ولم يستجب اليهود بالطبع لدعوته، ولم يعتذروا عما فعلوه في تأليب الأحزاب فكان أن عمد الرسول إلى القضاء على زعمائهم الذين لعبوا دورا في التأليب عليه، ومنهم سلام بن أبي الحقيق الذي وجبه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ومعه رجال من الأنصار فقتلوه.
وقد ساق البخاري قصة قتله مفصلة حيث احتال عبد الله بن عتيك في الدخول إلى بيت داخل حصنه وبين حرسه ورجاله حتى قتله في مخدعه، مما يدل على رباطة جأشه وعلو همته وعظم استعداده للتضحية من أجل عقيدته.
ولكن القضاء على بعض الزعماء لا يكفي لإزالة الخطر عن المسلمين، وكانت معاهدة الحديبية التي وقعت سنة ست من الهجرة بين المسلمين وقريش، قد أتاحت الفرصة أمام المسلمين ليتفرغوا لفتح خيبر. وقد ذهب كثير من المفسرين أن الله تعال وعد المسلمين بفتح خيبر وحيازة غنائمها في سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية، وذلك بقوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الفتح:18-21].

تاريخ الغزوة:
ذهب ابن إسحق إلى أنها في المحرم من السنة السابعة، وقال الواقدي إنها في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من الحديبية إلى المدينة في ذي الحجة سنة ست وذهب الإمامان الزهري ومالك إلى أنها وقعت في المحرم من السنة السادسة وقد تابع المؤرخون هؤلاء الرواد في تحديد تاريخ الغزوة فاختلفت أقوالهم تبعا لذلك، والخلاف بين ابن إسحق والواقدي يسير أقل من ثلاثة أشهر. وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى فمنهم من احتسب الأشهر التي سبقت ربيع أول وهو شهر الهجرة فأضاف سنة إلى تواريخ الحوادث التي في عصر السيرة ومنهم من أهملها واعتبر ربيع أول بداية التقويم فأسقط سنة من تواريخ الحوادث، ولا بد من التفطن لهذا الأمر عندما يكون الاختلاف بين كتاب السيرة في تاريخ الحادث سنة، واحدة، وقد رجح الحافظ ابن حجر قول ابن إسحق على قول الواقدي.

الطريق إلى خيبر:
ولما توجه المسلمون بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا يكبرون ويهللون رافعين أصواتهم فطلب منهم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً: «إنكم تدعون سمعياً قريباً وهو معكم» وهذه الصورة توضح الروح المهيمنة على الجيش الإسلامي ودوافعه الإيمانية القوية ومعنوياته القتالية العالية وهو يتوجه نحو قلاع وحصون ملئت رجالاً وسلاحاً ومؤونة ومتاعاً، ولكن هل يحول ذلك كله دون المؤمنين وبلوغهم أهدافهم السامية؟
وقد انفرد الواقدي بتحديد الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر بصورة مفصلة، والواقدي خبير بمسالك الطرق وتحديد الأماكن التي جرت فيها أحداث السيرة فقد كان يتتبعها ويسأل عنها، ويقف عليها بنفسه، وقد تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة فسلك ثنية الوداع فزغابة فنقمى فالمستناخ فالوطة فعصر فالصهباء فالخرصة ثم سلك بين الشق والنطاة ثم المنزلة ثم الرجيع حيث انطلق منها لفتح خبير. والملاحظ أن الرجيع تقع شمال شرق خيبر ويبدو أن النبي قصد من ذلك أن يفصل خيبر عن الشام وعن حلفائها من غطفان.

وصف فتح خيبر:
وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم منطقة النطاة أولا وسقط حصناها ناعم والصعب بيد المسلمين ثم منطقة الشق وسقط حصناها أبي والنزار، والنطاة والشق في الشمال الشرقي من خيبر ثم فتح منطقة الكتيبة وأسقط حصنها المنيع (القموص) وهو حصن ابن أبي الحقيق. ثم افتتح منطقة الوطيح ثم منطقة السلالم وأسقط حصنيها وهذا التسلسل في فتح مناطق خيبر معتمد على وصف الواقدي، ويختلف وصف ابن إسحق في التقديم والتأخير فهو يتفق مع الواقدي في أن بداية الفتح كانت لحصن ناعم من منطقة النطاة ويختلف في تقديم حصن القموص على حصن الصعب.
وتدل الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل خيبر قبل انبلاج الفجر وصلى الفجر قربها ثم هاجمها بعد أن بزغت الشمس، وقد فوجئ الفلاحون من يهود الذين خرجوا إلى أعمالهم ومعهم مواشيهم وفؤوسهم ومكاتلهم بوجود المسلمين فقالوا: محمد والخميس!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
فلجأ اليهود إلى حصونهم وحاصر المسلمون حصن ناعم، وسعت غطفان إلى نجدة يهود خيبر وكان حلفاءهم, ولكنهم لم يشتركوا في القتال فقد خافوا أن يهاجم المسلمون ديارهم، ويقرر الواقدي وصول غطفان إلى حصون خيبر، أما ابن إسحق فيقرر أنهم عادوا إلى ديارهم قبل وصولهم إلى خيبر، وينفرد الواقدي بأن النبي عرض على غطفان تمر خيبر لسنة مقابل انسحابهم وأنهم رفضوا ذلك ولا يصلح الاعتماد على هذه الرواية لضعف الواقدي مع تفرده بها.
وحمل راية المسلمين في حصار ناعم أبو بكر رضي الله عنه لليومين الأولين، ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له»، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دعا علياً رضي الله عنه ودفع إليه اللواء فحمله رضي الله عنه في اليوم الثالث فتم الفتح على يديه وتشير رواية إلى أن حامل الراية قبل على هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدل أبي بكر رضي الله عنه وهي رواية ضعيفة مدارها على ميمون البصري وهو ضعيف وكذلك وردت رواية تفيد أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم تعاقبوا في الأيام الثلاثة على حمل الراية، وهي رواية ضعيفة لضعف راويها بريدة بن سفيان.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يدعو يهود خيبر إلى الإسلام وما يجب عليهم من حق الله وقال له: «فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم». مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان حريصاً على غنائم خيبر بل كان همه نشر العقيدة وإزاحة العقبات من طريقها.
ولما سأله علي رضي الله عنه يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسباهم على الله».
وقد استشهد في حصار حصن ناعم محمود بن مسلمة الأنصاري حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن. وقد بارز على مرحباً هذا وقتله وكان مرحب من أبطال يهود فأثر مقتله في معنوياتهم.
ووردت عدة روايات تفيد تترس علي رضي الله عنه بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة وأطراحها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ما ثبت في ذلك وهو كثير.
وقد استغرق فتح حصن ناعم عشرة أيام. وتوجه المسلمون بعده إلى حصن الصعب بن معاذ في منطقة النطاة وكان فيه خمسمائة مقاتل وفيه الطعام والمتاع وكان المسلمون في ضائقة من قلة الطعام، وقد حمل الراية في فتحه الحباب ابن المنذر وأبلى بلاء حسناً، وقاوم اليهود مقاومة عنيفة واستغرق الفتح ثلاثة أيام، ثم فتح المسلمون حصن قلعة الزبير وهو آخر حصون النطاة، وقد اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، وكان حصن قلعة الزبير منيعا مرتفعا، وقد قطع المسلمون مجرى الماء عنهم واضطروهم إلى النزول للقتال وأصابوا منهم عشرة وفتح الحصن بعد حصار ثلاثة أيام، وانتقل المسلمون من الرجيع إلى المنزلة بعد أن تخلصوا من أهل النطاة وهم أشد اليهود.
ولا شك أن موقف المسلمين قوي كثيراً بعد هزيمة أهل النطاة وحيازتهم أطعمتهم ومتاعهم، بالإضافة إلى ما أصاب بقية يهود خيبر من رعب لسقوط منطقة النطاة.

وقد توجه المسلمون لفتح منطقة الشق وهي تحتوي على عدة حصون منها حصن أبي وحصن النزار، وقد بدأ المسلمون بفتح حصن أبي وجرت مبارزات فردية أما الحصن اصيب فيها مقاتلة يهود ثم اقتحم المسلمون الحصن وحازوا ما فيه من طعام ومتاع، وتمكن بعض مقاتلة يهود من التحول إلى حصن نزار وتحصنوا فيه وقاتلوا المسلمين بالنبل والحجارة ثم تهاوت مقاومتهم أمام حصار المسلمين حتى فتح الحصن وفر بقية أهل الشق من حصونهم إلى منطقة الكتيبة في الجنوب الغربي من خيبر وتحصنوا في حصن القموص المنيع، وتحصن بعض فلهم من أهل حصني الوطيح والسلالم فحاصرهم المسلمون أربعة عشر يوما حتى طلبوا الصلح دون أن يقع قتال إذ إن حصن نزار كان آخر حصن جرى فيه قتال وانهارت بعده مقاومة اليهود فاقتصروا على التحصن في حصونهم وانتهي التحصن دائما بطلب الصلح.
ووصف فتح حصون الصعب والزبير ومنطقتي الشق والكتيبة يعتمد على الواقدي. الذي انفرد بتقديم صورة واضحة عن أحداث فتح هذه المناطق، وهو إخباري غزير المعلومات رغم ضعفه عند المحدثين، ولكن مثل هذه الأخبار مما يتساهل فيه.
أما روايات ابن إسحق في وصف فتح خيبر فهي مضطربة وتنقصها الدقة إذا ما طوبقت مع مواقع حصون خيبر.
وقد ذكرت رواية صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة. ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر. وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فيه جلبهم.
قال: فقال لسعية أين مسك حيي بن أخطب؟.
قال: أذهبته الحروب والنفقات. فوجدوا المسك.
فقتل ابني أبي الحقيق، وسبي نساءهم وذراريهم.
ويذكر ابن إسحق دون إسناد أن الذي أخفى الكنز وسئل عنه هو كنانة بن الربيع ويذكر ابن سعد كنانة وأخوه الربيع، وفي إسناد ابن سعد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق سيىء الحفظ جداً.
والثابت أن يهود حسن القموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح ونكثوا العهد فحاز أموالهم.
أما أهل حصني الوطيح والسلالم فإنهم لما أيقنوا بعدم جدوى المقاومة بعد سقوط النطاة والشق والقموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم “أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ففعل”.
وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمال خيبر إلى طلب الصلح وأن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلوا له الأموال فوافق على طلبهم فكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي ثم استسلمت فغنم المسلمون أموالاً كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى.
وبذلك انهارت سائر المعاقل اليهودية أمام المسلمين. وخبر طلب الصلح من قبل أهل حصني الوطيح والسلالم وأهل فدك أورده ابن إسحق بسند منقطع لا يصلح للاحتجاج به في أحكام السياسة الشرعية، وصلح لوصف الوقائع التأريخية فرواية عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم مشهور بمعرفة المغازي.
وقد بلغ قتلى يهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلاً. وسبيت نساؤهم وذراريهم، ووقعت في السبي صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين رضي الله عنها فاعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.
واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحق، وأما الواقدي فذكر أنهم خمسة عشر رجلا وهذا من خذلان الله تعالى ليهود فإن قتلاهم وهم يدافعون في حصون منيعة أكثر بكثير من شهداء المسلمين المهاجمين في ساحات مكشوفة!! وقد صح أن امرأة يهودية أهدت النبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد سمتها، وأكثرت السم في الذراع عندما عرفت أنه يحبها، فلما أكل من الذراع أخبرته أنها مسمومة فلفظ اللقمة، واعترفت المرأة، فلم يعاقبها، وقد قتلها بعد ذلك عندما مات بشر بن معرور من أثر السم الذي ازدرده مع الطعام.
ومما أعان على فتح خيبر تفرغ المسلمين بعد صلح الحديبية لقتال يهود خيبر دون أن تنجدهم قريش، وتخاذل قبيلة غطفان حليفة يهود خيبر عن نجدتهم خوفاً على ديارهم من المسلمين. وقد أصابت الكآبة والغيظ قريشاً لما بلغها خبر انتصار المسلمين على يهود خيبر وهو أمر ما كانت تتوقعه لما هو مشهور من حصانة قلاع اليهود وحصونهم في خيبر وكثرة مقاتليهم وسلاحهم. وكذلك كان صدى فتح خيبر مدوياً في أوساط القبائل العربية الأخرى التي أدهشها الخبر وخذلها النصر، فكفكفت من عدائها، وجنحت إلى المسالمة والموادعة، ففتحت آفاق جديدة أمام انتشار الإسلام.

عدم إجلاء يهود خيبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبقى يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم ولهم نصف ثمارها. على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا وكان اليهود قد بادروا بعض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هم بإخراجهم منها.
وهمه بإخراجهم دليل على أن خيبر كلها فتحت عنوة لأن من صالح منهم صالح على حقن دمه وإجلائه منها.
فأقاموا فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث من قبله رجلاً لتقدير الثمار وقبض حصة المسلمين، وقد بعث الله عبد الله بن رواحة مرة فقدر الثمار بعشرين ألف وسق من تمر ثم خيرهم بين أخذها حسب تقديره أو تركها له وفق ذلك فقالوا متعجبين من عدالته: هذا الحق وبه تقوم السموات والأرض قد رضينا أن نأخذه بما قلت.
ولكن وردت رواية أخرى صحيحة تفيد أنه قدرها بأربعين ألف وسق فأخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق.
والجمع بين الروايتين الصحيحتين ممكن لأن المراد بالأربعين حصة اليهود والمسلمين، وبالعشرين حصة أحدهما فقط.

أثر فتح خيبر:
ولا شك أن فتح خيبر عاد على المسلمين بالخير الكثير وعزز إمكانياتهم الاقتصادية بدخل سنوي دائم حتى قالت عائشة رضي الله عنها معقبة على فتح خيبر: (الآن نشبع من التمر) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما شبعنا حتى فتحنا خيبر).
ولا شك أن هذه الأقوال كافية لتوضيح ما عاد به فتح خيبر من تعزيز لوضع المسلمين الاقتصادي ولإيضاح حقيقة الوضع الاقتصادي قبل الفتح، ومع شدة حاجة المسلمين قبل خيبر فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل إسلام يهود خيبر على كل غنيمة كما يتضح من وصيته لعلي رضي الله عنه، ولم يكن راغباً في إفناء يهود أو إجلائهم لذلك قبل الصلح لما عرض عليه يهود حصون القموص والوطيح والسلالم ذلك، كما قبل بعد الصلح – الذي وافق بموجبه اليهود على إجلائهم من خيبر – أن يبقيهم في خيبر بناء على طلبهم، وكل ذلك يدل على الروح السمحة والعدالة السامية، كما أن ذلك حقق للدولة الإسلامية مصالح عليا اقتصادية وعسكرية حيث تمت المحافظة على طاقات المسلمين العسكرية ووجهوا إلى الجهاد الدائم من أجل توحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام ولم يتحولوا إلى الفلاحة التي تحتاج إلى إدامة العمل في استصلاح الأرض ورعاية الزرع والنخل مما يستنفذ طاقتهم، وكذلك تمت الإفادة من خبرة وطاقة الفلاحين اليهود للحفاظ على مستوى الإنتاج الزراعي في خيبر لأنهم يمتلكون خبرة الأرض وزراعتها، مما يوفر للمسلمين حصة كبيرة يمكن الإفادة منها في تجهز الجيوش والقيام بالنفقات الأخرى التي تحتاجها الدولة.
وقد حاز المسلمون الأموال المنقولة، فكان الرجل يأخذ حاجته من الطعام دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس إذ كان قليلاً. خلافاً لما يذكره الواقدي من كثرته وأنه يكفي المسلمين يأكلون ويعلفون دوابهم شهراً أو أكثر.

كيفية توزيع غنائم خيبر:
وقد وردت آية قرآنية توضح أن غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين لا يشركهم فيها أحد وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الفتح:15].
وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أرض خيبر إلى نصفين، نصف لما ينزل به من النوائب والوفود ونصف للمسلمين من أهل الحديبية، وبلغ عدد الأسهم كلها ستة وثلاثين سهماً منها ثمانية عشر سهماً، قسمت على أهل الحديبية، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهماً. ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الحديبية أحد سوى جابر بن عبد الله ومع ذلك أعطى سهما مثل من حضر ولكن هذه الرواية ضعيفة وردت من طريق ابن إسحق دون إسناد.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ووصلوا خيبر بعد الفتح من غنائم خيبر، وكانوا ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً بقيادة جعفر بن أبي طالب، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم.
وربما يرجع استثناؤهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ولولا ذلك لشهدوها. ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم، كما أعطى أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضا الغانمين حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر، ولم يشتركوا في القتال.

نماذج من المجاهدين:
وقد صح أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة أن يقسم له قسماً وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قسم له فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا – وأشار إلى حلقه – بسهم فأدخل الجنة. قال: «إن تصدق الله يصدقك». فلبثوا قليلاً. ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه ودعا له، فكان مما قال: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، وأنا عليه شهيد».
إلا أن هذه الرواية شاهد قوي على ما يبلغه الإيمان من نفس أعرابي ألف حياة الغزو والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمناً لجهاده إلا الجنة فكيف يبلغ الإيمان إذاً من نفوس الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيقال إنهم فتحوا ديار يهود طمعاً في أرض ومال؟ أيتهمون بأن التعصب الديني دفعهم لطرد يهود وهم الذين دعوهم للإسلام قبل القتال وقبلوا أن يعطوهم الأمان بعد الحصار وأبقوهم في خيبر بعد الاستسلام فمكثوا فيها رغم قتلهم عبد الله بن سهل الأنصاري حيث اتهمه بقتله المسلمون، فحلفوا أنهم لم يقتلوه، فوداه الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قضية مقتله شرعت القسامة – وأقرهم بخيبر فاستقروا. حتى خلافة عمر رضي الله عنه فبدت منهم العداوة والبغضاء وغدروا بالمسلمين. ففدعوا يدي ورجلي عبد الله بن عمر وهو نائم في سهمه من خيبر. فأجلاهم عمر رضي الله عنه من خيبر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من التمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال. وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرفوا فيها.
وهكذا انتهى دور اليهود العسكري والاقتصادي في الحجاز وتفرغ المسلمون لإخضاع قبائل العرب المشركة ولتوحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام.