7 هـ
628 م
غزوة خيبر

وهى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، قال ابن إسحاق: خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- …


فى بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت فى آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناء على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقى وهو ربيع الأول.
وأغرب ابن سعد وابن أبى شيبة فرويا من حديث أبى سعيد الخدرى:
خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج فيها- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان جزما.
قال: وذكر الشيخ أبو حامد فى التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعلها انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه- صلى الله عليه وسلم- ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
وفى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبى إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اتقينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا *** إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصباح عولوا علينا

وفى رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد فى هذا الرجز من الزيادة:

إن الذين قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا

فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية البخارى- «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع، قال: «يرحمه الله» . قال رجل من القوم: وجبت يا نبى الله، لولا أمتعتنا به. الحديث.
وفى رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل فى السير ينزل بعضهم فيسوقها، ويحدو فى تلك الحال.
وقوله: «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» كذا الرواية، قالوا: وصوابه فى الوزن: لا هم، أو: تالله، كما فى الحديث الآخر.
وقوله: «فداء لك» قال المازرى: هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للبارى سبحانه: فديتك، لأن ذلك إنما يستعمل فى مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله- عليه السّلام-: تربت يداك، وتربت يمينك، وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادى مبالغ فى طلب رضا المفدى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أى أبذل نفسى فى رضاك. وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: «فداء لك» رجلا يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى.
وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبى- صلى الله عليه وسلم-. والمعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا فى حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: «اللهم» لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام.
والمخاطب بقول الشاعر: «لولا أنت» ، النبى، لكن يعكر عليه بعد ذلك:

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

فإنه دعاء لله تعالى.
ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت والله أعلم.
وقوله: «إذا صيح بنا أتينا» أى إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفى رواية أيضا بالموحدة بدل المثناة، أى أبينا الفرار.
وقوله: «وبالصياح عولوا علينا» أى استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشىء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.
وقوله: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر، قال: «يرحمه الله»، قال رجل من القوم وجبت» : أى ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، وكان معلوما عندهم أن من دعا له النبى- صلى الله عليه وسلم- هذا الدعاء فى هذا الموطن استشهد، فقالوا: هلا أمتعتنا به؟ أى: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفى البخارى من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى خيبر ليلا- وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
وفى رواية: فرفع يديه وقال «الله أكبر خربت خيبر».
والخميس: الجيش: سمى به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.
ومحمد: خبر مبتدأ، أى هذا محمد.
قال السهيلى: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى آلة الهدم عرف أن مدينتهم ستخرب.
ويحتمل- كما قاله فى فتح البارى- أن يكون قال: «خربت خيبر» بطريق الوحى، ويؤيده قوله بعد ذلك: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» .
وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
وقال مغلطاى وغيره: وفرق- صلى الله عليه وسلم- الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
وقال الدمياطى: وكانت راية النبى- صلى الله عليه وسلم- السوداء من برد لعائشة.
وفى البخارى: وكان على بن أبى طالب تخلف عن النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان رمدا.. فلحق فلما بتنا الليلة التى فتحت قال: لأعطين الراية غدا- أو ليأخذن الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله يفتح الله عليه.
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين على بن أبى طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرىء، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال على: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم». الحديث.
ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودى ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. فلما قفلوا، قال سلمة:
قلت يا رسول الله، فداك أبى وأمى، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال النبى صلى الله عليه وسلم- «كذب من قال، وإن له أجرين»، وجمع بين إصبعيه، «إنه لجاهد مجاهد». رواه البخارى أيضا.
وعن يزيد بن أبى عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة. أخرجه البخارى.
وعنده أيضا عن أبى هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرجل ممن معه يدعى الإسلام: «هذا من أهل النار»، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: «قم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
وفى رواية: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة- فيما يبدو للناس- وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار- فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة». الحديث.
وقاتل النبى- صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون.
وفتحها الله حصنا حصنا، وهى: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبى، وحصن البرىء، والقموس والوطيح والسلالم، وهو حصن بنى أبى الحقيق.
وأخذ كنز آل أبى الحقيق الذى كان فى مسك الحمار،، وكانوا قد غيبوه فى خربة، فدل الله ورسوله عليه فاستخرجه.
وقلع علىّ باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد.
وفى رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقى فى الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقى من جهة ليث بن أبى سليم عن أبى جعفر محمد بن على بن حسين عن جابر: أن عليّا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. وليث ضعيف.

وفى رواية البيهقى: أن عليّا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه.
قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء.
وفى البخارى: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيى بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وكانت عروسا، فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له- يعنى طهرت من الحيض- فبنى بها- صلى الله عليه وسلم- فصنع حيسا فى نطع صغير، ثم قال لأنس: «آذن من حولك»، فكانت تلك وليمته على صفية. قال: خرجنا إلى المدينة فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يحوى لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
وفى رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهى إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب.
وفى رواية أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان فى السبى صفية فصارت إلى دحية الكلبى ثم صارت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فجعل عتقها صداقها.
وفى رواية: فأعتقها وتزوجها.
وفى رواية: قال- صلى الله عليه وسلم- لدحية: «خذ جارية من السبى غيرها».
وفى رواية لمسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- اشترى صفية منه بسبعة أرؤس.
وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس فى قوله سبعة أرؤس ما ينافى قوله فى رواية البخارى: خذ جارية من السبى غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفى الزيادة والله أعلم.
وإنما أخذ- صلى الله عليه وسلم- صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان فى السبى مثل صفية فى نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بها، فإن فى ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع فى الهبة فى شىء.
قال مغلطاى وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط فى حجرها، فتؤول بذلك. قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.
وفى هذه الغزوة حرم- صلى الله عليه وسلم- لحوم الحمر الأهلية. كما فى البخارى ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذى فتحت عليهم- يعنى خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذه النيران، على أى شىء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال: «على أى لحم؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أهريقوها واكسروها» . فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال: «أو ذاك».
والمشهور فى الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم.
وحكى: ضم الهمزة، ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون أيضا، مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة.
وفى رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية.
وفى رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص فى الخيل.
قال ابن أبى أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.
قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمناه.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اكسروها» فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: «أو ذاك». فهذا محمول على أنه- صلى الله عليه وسلم- اجتهد فى ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحى إليه بغسلها.
وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء فى إباحتها:
فمذهب الشافعى والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبى بكر. وفى صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلناه ونحن بالمدينة، وفى رواية الدارقطنى: فأكلناه نحن وأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم-.
قال فى فتح البارى: ويستفاد من قولها: «ونحن بالمدينة» أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد.
وفى قولها: «وأهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-» الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بال أبى بكر أنهم يقدمون على فعل شىء فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به- صلى الله عليه وسلم- وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله- عليه السّلام- عن الأحكام.
ومن ثم كان الراجح أن الصحابى إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم- كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك فى مطلق الصحابة فكيف بال أبى بكر.
وقال الطحاوى: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما.
واحتجوا بالأخبار المتواترة فى حلها.
وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبى شيبة بسند صحيح- على شرط الشيخين- عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه.
قال ابن جريح: قلت له أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم.
وأما ما نقل فى ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين.
وقال أبو حنيفة فى الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازى على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلى، وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.
وقال القرطبى فى شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهانى:
المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
وقال ابن أبى جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا فى الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر استعماله لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذى وقع الأمر به فى قوله تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضى أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه.
وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها.
فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. وأما حديث خالد ابن الوليد عند أبى داود والنسائى: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد ابن الوليد أحمد والبخارى والدار قطنى والخطابى وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون.
وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله «رخص» لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التى أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق.
وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفى رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحمار الأهلى وعند الدار قطنى من حديث ابن عباس: نهانا- صلى الله عليه وسلم- عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل فدل على أن المراد بقوله: «رخص» أذن.
ونوقض أيضا بالإذن فى أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن فى أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة.
وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: {وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]. وقرروا ذلك بأوجه:
أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضى خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما فى حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل.
ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها فى الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل فى المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة.
وأجيب: بأن آية النحل [8] مكية اتفاقا، والإذن فى أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبى- صلى الله عليه وسلم- من الآية المنع لما أذن فى الأكل.
وأيضا: فاية النحل [8] ليست نصّا فى منع الأكل والحديث صريح فى جوازه.
وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر فى الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل فى غيرهما، وفى غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة المذكورة فى الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث، فإنه مع كونه أصرح فى الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهى تؤكد وينتفع بها فى أشياء غير الحرث اتفاقا.
وقال البيضاوى: واستدل بها أى باية النحل [8]- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا ألايقصد منه غيره أصلا.
وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هى دلالة اقتران وهى ضعيفة.
وأما أنها سيقت مساق الامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتهم فى بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها أكثر لحمل الأثقال والأكل، فاقتصر فى كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر فى هذا الشق لأضر.
وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها إلخ.
فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن فى أكلها أن تفنى، للزم مثله فى البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.
وإنما أطلت فى ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم.
وفى هذه الغزوة أيضا نهى- صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاتوطأ جارية حتى تستبرأ.
وفى هذه الغزوة أيضا سمت النبى- صلى الله عليه وسلم- زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة ولفظه: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«اجمعوا لى من كان هاهنا من اليهود»، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إنى سائلكم عن شىء، فهل أنتم صادقونى عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كذبتم، بل أبوكم فلان»، فقالوا: صدقت وبررت، فقال: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته فى أبينا. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أهل النار؟» فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اخسئوا فيها. والله لا نخلفكم فيها أبدا»، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم فى هذه الشاة سمّا؟» فقالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟» فقالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيّا لم يضرك.
وفى حديث جابر عند أبى داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم»، وأرسل إلى اليهود فقال: «سممت هذه الشاة؟» فقالت: من أخبرك؟ قال: «أخبرتنى هذه فى يدى»، للذراع. قالت: نعم، قلت: إن كان نبيّا فلن يضره، وإن لم يكن نبيّا استرحنا منه. فعفا عنها- صلى الله عليه وسلم- ولم يعاقبها، وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كاهله من أجل الذى أكل من الشاة.
وفى رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أى الشاة أحب إلى محمد فيقولون الذراع فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يبطىء- يعنى لا يلبث أن يقتل من ساعته- وقد شاورت يهود فى سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت فى الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول- صلى الله عليه وسلم- الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظاما آخر، فلما ازدرد- صلى الله عليه وسلم- لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما فى يده وأكل القوم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرنى أنها مسمومة». وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه أنه دفعها- صلى الله عليه وسلم- إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطى.

وقد اختلف هل عاقبها- صلى الله عليه وسلم-؟:
فعند البيهقى من حديث أبى هريرة: فأعرض عنها، ومن طريق أبى نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهرى: أسلمت فتركها.
قال البيهقى: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلى وزاد: أنه تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصا.
ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت. وإنما أخر قتلها حتى مات بشر، لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.
وفى مغازى سليمان التيمى: أنها قالت: إن كنت كذابا أرحت الناس منك. وقد استبان لى الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أنى على دينك وألاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهرى على إسلامها، فالله أعلم.
وفى هذه الغزوة أيضا: نام- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلته حتى أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل»، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحته، فلم يستيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولهم استيقاظا، فقال: «أى بلال!» فقال بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ- بأبى أنت وأمى يا رسول الله- بنفسك. قال: «اقتادوا» فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: «من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: أقم الصلاة لذكرى».
وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.

واختلف فى فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟
وفى حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال.
انتهى.
ثم فتح وادى القرى، فى جمادى الآخرة بعد ما أقام أربعا يحاصرهم، ويقال: أكثر من ذلك.
وأصاب «مدعما» مولاه سهم فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشملة التى غلها من خيبر لتشتعل عليه نارا».
وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاى.
ثم سرية عمر بن الخطاب – رضى الله عنه- إلى تربة فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا فخرج معه دليل من بنى هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا وجاء عمر بن الخطاب، إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة.
ثم سرية أبى بكر الصديق، – رضى الله عنه- إلى بنى كلاب بنجد ناحية ضربة، سنة سبع، ويقال إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين.
وفى صحيح مسلم: فزارة وهو الصواب.
ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مرة بفدك، فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل قد مات.
وقدم علبة بن زيد الحارثى بخبرهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قدم بعده بشير بن سعد.
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، فى شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، فى مائتين وثلاثين رجلا، فهجموا عليهم فى وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة.
قالوا: وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد ألاإله إلا الله.
وفى الإكليل: فعل ذلك أسامة فى سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان.
وفى البخارى: (عن أبى ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصارى عنه، وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم).
ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى أيضا إلى يمن وجبار- بفتح الجيم- وهى أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، فى شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا.
وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما إلى المدينة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلما.