7 محرم 7 هـ
20 أيار 628 م
غزوة خيبر

على وزن جعفر، سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال لها خيبر وهو أخو يثرب: أي الذي سميت باسمه المدينة كما تقدم …

وفي كلام بعضهم: الخيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل لها خيابر لاشتمالها على الحصون، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثيرة، بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد كما في سيرة الحافظ الدمياطي، ومعلوم أن البريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية أقام شهرا وبعض شهر: أي ذا الحجة ختام سنة ست. وأقام من المحرم افتتاح سنة سبع أياما؛ قيل عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، أي وهذا ما ذهب إليه الجمهور.
ونقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أن خيبر كانت سنة ست؛ وإليه ذهب الإمام ابن حزم. وفي التعليقة للشيخ أبي حامد أنها كانت سنة خمس. قال الحافظ ابن حجر: وهو وهم، ولعله انتقل من الخندق إلى خيبر.
قال: وقد استنفر صلى الله عليه وسلم من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا: أي لا تعطوا منها شيئا، ثم أمر مناديا ينادي بذلك فنادى به. قال أنس رضي الله عنه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة وهو زوج أم أنس كما تقدّم حين أراد الخروج إلى خيبر التمسوا غلاما من غلمانكم يخدمني، فخرج أبو طلحة مردفي وأنا غلام قد راهقت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل خدمته فسمعته كثيرا ما يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال اهـ.
أقول: وهذا السياق يدل على أن أوّل خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم حينئذ، وهو يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه وقالت: هذا ابني، وهو غلام كيس، وكان عمره عشر سنين، وقيل تسع سنين، وقيل ثمان سنين.
ففي مسلم عن أنس قال جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به ليخدمك فادع الله له فقال: «اللهم أكثر ماله وولده» .0000000000000
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما قال لأبي طلحة ما ذكر رجاء أن يأتي له بمن هو أقوى من أنس على السفر شفقة على أنس، ومن ثم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم معه.
وفيه أنه خرج معه في بدر، فقد جاء «أنه قيل لأنس رضي الله عنه: أشهدت بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أم لك، وأين غبت عن بدر؟» .
وقد يقال: جاز أن يكون عرض لأنس رضي الله عنه حين خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ما يقتضي الشفقة عليه في عدم إخراجه معه والله أعلم.
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة نميلة، وقيل سباع بن عرفطة، أي وصحح وكان الله وعده وهو بالحديبية: أي عند منصرفه منها في سورة الفتح بمغانم بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}[الفتح: 20] أي مغانم خيبر، وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقال صلى الله عليه وسلم في سيرة لعامر بن الأكوع عم سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهما: انزل فحدثنا من هناتك، وفي رواية: من هنيهاتك، وفي لفظ: من هنياتك بقلب الهاء الثانية ياء، أي من أراجيزك وأشعارك. وفي لفظ: انزل فحرك بنا الركاب، فقال: يا رسول الله قد تولى قولي: أي الشعر، فقال له عمر رضي الله عنه: اسمع وأطع، فنزل يرتجز بقوله رضي الله تعالى عنه:

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

الأبيات.
وفي مسلم «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» قيل وصوابه في الوزن لا هم، أو يا ألله، أو والله لكن في تلك الأبيات فاغفر فداء لك ما اقتفينا: أي فاغفر ما اكتسبنا، وأصل الاقتفاء الاتباع.
وفي خطاب الباري عز وجل بفداء لك ما لا ينبغي لأنه لا يقال للباري عز وجل فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه متوقع حلوله بالمفدي بالفتح، فيجعل المفدي بالكسر نفسه فداء له من ذلك، فيبذل نفسه عن نفسه.
وأجيب عن ذلك بأن الشاعر لم يرد ذلك، بل أراد أن يبذل نفسه في رضاه سبحانه وتعالى.
وعند إنشاده الأبيات المذكورة قال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك ربك، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله وجبت، أي الشهادة يا رسول الله، لولا: أي هلا أمتعتنا به؟ أي أبقيته لنا لنتمتع به، ومنه أمتعني الله ببقائك: أي هلا أخرت الدعاء له بذلك إلى وقت آخر، لأنه صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك لأحد في مثل هذا الموطن إلا واستشهد.
وفي لفظ أن القائل له أسمعنا رجل من القوم. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه صريحا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعه قال: من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال صلى الله عليه وسلم: «يرحمه الله»، فقتل في هذه الغزاة رجع إليه سيفه فقتله، فإنه أراد أن يضرب به ساق يهودي فجاءت ذبابته في ركبته فمات من ذلك رضي الله عنه فقال الناس: قتله سلاحه، وفي رواية: قتل نفسه أي فليس بشهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لشهيد» وصلى عليه صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وفي رواية قال سلمة بن الأكوع: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن أخي عامرا حبط عمله. وفي لفظ: يزعم أسيد بن حضير وجماعة من أصحابك أن عامرا حبط عمله إذ قتل بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كذب من قال»: أي أخطأ في قوله، وإن له أجرين وجمع بين أصبعيه، وفي رواية إنه لشهيد. وفي لفظ إنه لجاهد مجاهد. وفي لفظ مات جاهدا مجاهدا والجاهد الجادّ في أمره، فلما قام بوصفين كان له أجران، وقيل هو من باب: جاد مجد، وشعر شاعر، فهو تأكيد، وكون عامر أخا سلمة هو خلاف ما تقدم أنه عمه وهو الصحيح المشهور.
قال في النور: ويمكن الجمع بأن يكون عمه من النسب وأخاه من الرضاعة، أي وحينئذ يكون هذا محمل قول ابن الجوزي رحمه الله: من الإخوة الذين حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر وسلمة ابنا الأكوع.
وفي فتح الباري عن بعض الصحابة: فلما وصلنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب
إذ الحروب أقبلت تلتهب

فبرز له عامر رضي الله عنه يقول:

قد علمت خيبر أني عمار *** شاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر رضي الله عنه، فذهب عامر يسفل لمرحب، أي يضربه من أسفل فعاد سيفه على نفسه: أي أصاب عين ركبة عامر فمات من ذلك، الحديث.
وكون عامر ارتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي حدا به لا ينافي ما جاء أن البراء بن مالك كان حسن الصوت وكان يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره، لأن المراد في غالب أو في بعض أسفاره كما صرح به بعض الروايات.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أي للبراء: «إياك والقوارير»، وهو يدل على أنه كان يرتجز لنسائه صلى الله عليه وسلم، وهو يخالف أن البراء كان حادي الرجال وأنجشة حادي النساء، إلا أن يقال: جاز أن يكون البراء حدا للنساء في بعض الأسفار أو في بعض الأحيان، وأنجشة كان في الغالب.
قال بعضهم: كان أنجشة رضي الله تعالى عنه عبدا أسود، وكان حسن الصوت بالحداء إذا حدا أعنقت الإبل، أي سارت العنق وأسرعت، فلما حدا بأمهات المؤمنين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنجشة رويدك، رفقا بالقوارير».
ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر وكان وقت الصبح قال لأصحابه رضي الله عنهم «قفوا»، ثم قال، أي وفي لفظ قال لهم: قولوا «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، اقدموا بسم الله» أي وفي لفظ «ادخلوا على بركة الله تعالى» وكان صلى الله عليه وسلم يقولها لكل قرية دخلها.
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اربعوا على أنفسكم» أي ارفقوا بأنفسكم، لا تبالغوا في رفع أصواتكم «فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه: وكنت خلف دابته صلى الله عليه وسلم فسمعني أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال «يا عبد الله بن قيس»، قلت لبيك يا رسول الله، قال: «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟» قلت بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله» .
ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره صلى الله عليه وسلم بأن أصحابه يرفعون أصواتهم بالتلبية. وقد يقال: المنهي عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «اربعوا عن أنفسكم» أي ارفقوا بها كما تقدم، فلا منافاة.
ولما أبصر صلى الله عليه وسلم عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم قالوا: محمد والخميس: أي الجيش العظيم معه، قيل له الخميس لأنه خمسة أقسام المقدمة والساقة والميمنة والميسرة وهما الجناحين والقلب، وأدبروا هرابا.
قال: وذكر أنه كان بها عشرة آلاف مقاتل، وأنهم كانوا لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وهم يخرجون ويصطفون صفوفا ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات.
وذكر أن عبد الله بن أبي ابن سلول أرسل إليهم يخبرهم بأن محمدا سائر إليكم، فخذوا حذركم، وأدخلوا أموالكم حصونكم، واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل.
فلما كانت الليلة التي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحتها بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فأصبحوا: أي قاموا من نومهم وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم وغدوا إلى أعمالهم معهم الفؤوس ويقال لها الكرازين والمساحي ومعهم المكاتل، أي وهي القفف الكثيرة، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوا هاربين إلى حصونهم اهـ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر خربت خيبر»، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، أي وبذلك استدل على جواز الاقتباس من القرآن، وإنما قال صلى الله عليه وسلم خربت خيبر، لأنه لما رأى آلة الهدم التي هي الفؤوس والمساحي تفاءل صلى الله عليه وسلم بأن حصونهم ستخرب، أو أخذ ذلك من اسمها، أو أن ذلك دعاء بلفظ الخبر، قال الإمام النووي رحمه الله: والأصح أنه أعلمه الله بذلك ويوافقه ما في فتح الباري.
ويحتمل أن يكون قال ذلك بطريق الوحي ويؤيده قوله «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» أي لأنه نزل بساحتهم، وهي في الأصل الفضاء بين الأبينة.
وابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم بحصون النطاة قبل حصون الشق وقيل بحصون الكثيبة، أي لأنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، وجمعوا المقاتلة في حصون النطاة، وكان نزل قريبا من حصون النطاة، فجاءه صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم، وإن كان الرأي تكلمنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو الرأي»، فقال: يا رسول الله إن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى سهم منهم ولا أعدل رمية منهم، وهم مرتفعون علينا، وهو أسرع لانحطاط نبلهم، ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمرة النخل. أي النخل المجتمع بعضه على بعض، تحول يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «أشرت بالرأي إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا». ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال: «انظر لنا منزلا بعيدا»، فطاف محمد رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله وجدت لك منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على بركة الله» وتحول لما أمسى، وأمر الناس بالتحول.
أي وفي لفظ: إن راحلته صلى الله عليه وسلم قامت تجرّ بزمامها فأدركت لتردّ، فقال دعوها فإنها مأمورة، فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة وتحول الناس إليها واتخذوا ذلك الموضع معسكرا. وفي الأصل أنه نزل بذلك ليحول بين أهل خيبر وبين غطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال: لا مخالفة بين هذه الروايات الثلاث فليتأمل. وابتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك مسجدا صلى به طول مقامه بخيبر، أي وأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل أهل حصون النطاة فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا أربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها. قال: قيل وقاتل صلى الله عليه وسلم يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يقال له الظرب، وفي يده قناة وترس.
وما قيل إنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان على حمار مخطوم برسن من ليف وتحته إكاف من ليف. أي ففي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو متوجه إلى خيبر، جاز أن يكون ركب ذلك الحمار في الطريق وحال القتال ركب ذلك الفرس.
أقول: يرشد إلى هذا الجمع قوله متوجه إلى خيبر، وظاهر هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم باشر القتال بنفسه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال بنفسه إلا في أحد.
ويبعد أن يكون باشر القتال بنفسه ولم يقتل أحدا، إذ لو قتل أحدا لذكر لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقد يكون المراد بقولهم وقاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه: أي قاتل جيشه، ويدل لذلك ما في الإمتاع: وألح على حصن ناعم، أي وهو من حصون النطاة بالرمي، ويهود تقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال له الظرب وعليه درعان ومغفر وبيضة وفي يده قناة وترس.
وقد دفع صلى الله عليه وسلم لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، فدفعه إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، وخرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، فاشتد ذلك على رسول الله وأمسى مهموما والله أعلم.
وفي ذلك اليوم قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة رضي الله عنهما برحى ألقيت عليه من ذلك الحصن، ألقاها عليه مرحب، وقيل كنانة بن الربيع. وقد يجمع بأنهما اجتمعا على ذلك، وسيأتي ما يدل على أن قاتله غيرهما.
وقد يقال: لا مانع من أن يكونوا: أي الثلاثة تجمعوا على قتله، أي فإن محمود بن مسلمة رضي الله عنه كان قد حارب حتى أعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحر شديدا، فانحاز إلى ظل ذلك الحصن فألقى عليه حجر الرحى فهشم البيضة على رأسه ونزلت جلدة جبينه على وجهه أي وندرت عينه، فأدركه المسلمون، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فسوى الجلدة إلى مكانها وعصبه بخرقة فمات رضي الله عنه من شدة الجراحة، وجاء أخوه محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة فقال صلى الله عليه وسلم «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموه فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض جلوسا، فإذا غشوكم فانهضوا وكبروا» .
أي وفي سياق بعضهم ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة رضي الله عنه للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المحل، ومن جرح من المسلمين يحمل إلى ذلك المحل ليداوي جرحه، وكان صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فطاف عمر رضي الله عنه بأصحابه حول العسكر وفرقهم، فأتي برجل من يهود خيبر في جوف الليل، فأمر به عمر رضي الله عنه أن يضرب عنقه فقال: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي فسمع صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، فدخل باليهودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: «ما وراءك؟» فقال: تؤمنني يا أبا القاسم؟ فقال: «نعم»، قال خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة قال: «فأين يذهبون؟» قال: إلى الشق يجعلون فيه ذراريهم ويتهيؤون للقتال، ولعل المراد ما أبقوه من ذراريهم، فلا ينافي ما تقدم من أنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، أو أن ذلك المخبر أخبر بحسب ما فهم أنهم يجعلون ذراريهم في الشق والحال أنهم إنما يذهبون ليجعلوا ذراريهم في حصون الكثيبة فليتأمل.
وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، فإذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شاء الله»، قال اليهودي إن شاء الله أوقفتك عليه فإنه لا يعرفه غيري. وأخرى، قيل: ما هي؟ قال يستخرج المنجنيق، وينصب على الشق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فيحفروا الحصن، فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصون الكثيبة، ثم قال: يا أبا القاسم احقن دمي، قال: «أنت آمن»، قال: ولي زوجة فهبها لي، قال «هي لك»، ثم دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال أنظرني أياما، ثم قال صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه «لأعطين الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبانه» وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله لا يولي الدبر؛ يفتح الله عز وجل على يده فيمكنه الله من قاتل أخيك» وعند ذلك لم يكن من الصحابة رضي الله عنهم أحد له منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا يرجو أن يعطاها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم، ولعل ذلك لا ينافي ما جاء أن وفد ثقيف لما جاؤوه صلى الله عليه وسلم قال لهم «لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني»، وفي رواية: مثل نفسي فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم، قال عمر رضي الله عنه فو الله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب صدري له صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول هو هذا، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه فأخذه بيده وقال: «هو هذا، هو هذا» .
وقد يقال: لا يلزم من محبة الشي تمنيه بخلاف العكس. ففي هذه الغزاة أحب الإمارة وما تمناها، وفي وفد ثقيف المتأخر عن هذه الغزاة تمناها لأن الوصف في ذلك أبلغ من الوصف هنا فليتأمل.
ويروى «أن عليا كرم الله وجهه لما بلغه مقالته صلى الله عليه وسلم: أي في خيبر، قال: اللهم لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه وكان أرمد شديد الرمد»     أي وكان قد تخلف في المدينة ثم لحق بالقوم أي فقيل له: إنه يشتكي عينيه، فقال صلى الله عليه وسلم «من يأتيني به؟» فذهب إليه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأخذ بيده يقوده حتى أتي به النبي صلى الله عليه وسلم قد عصب عينيه فعقد له صلى الله عليه وسلم اللواء: أي لواءه الأبيض.
فعن ابن إسحاق وابن سعد: لم تكن الرايات إلا يوم خيبر، أي فإنه صلى الله عليه وسلم فرق الرايات يومئذ بين أبي بكر وعمر والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة رضي الله عنهم، وإنما كانت الألوية، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة رضي الله عنها تدعى العقاب.
وفي كلام المقريزي: لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ذكر أن العقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان، وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله: وكانت له صلى الله عليه وسلم راية سوداء مربعة من نمرة مخملة يقال لها العقاب، وكان له راية صفراء، ولواؤه أبيض دفعه إلى علي كرم الله وجهه وفيه أن ذلك اللواء يقال له العقاب.
وفي سيرة الدمياطي رحمه الله، وكانت ألويته صلى الله عليه وسلم بيضاء وربما جعل فيها الأسود ولعل السواد كان كتابة في ذلك العلم، ولعل هذا اللواء الذي فيه الأسود هو المعني بما جاء في بعض الروايات «كان له صلى الله عليه وسلم لواء أبيض مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله» أي بالسواد، ولعله محمل قول بعضهم: كان له صلى الله عليه وسلم لواء أغبر، وربما كان من خز بعض نسائه «فقال علي كرم الله وجهه: يا رسول الله إني أرمد كما ترى، لا أبصر موضع قدمي، فتفل صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: بصق في عينيه، أي بعد أن وضع رأسه في حجره» وفي لفظ «فتفل في كفه وفتح له عينيه فدلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع» قال علي رضي الله عنه فما رمدت بعد يومئذ: وفي لفظ فما رمدت ولا صدعت، وفي لفظ: فما اشتكيتهما حتى الساعة.
وفي هذا السياق لطيفة وهي: أن من طلب شيئا أو تعرض لطلبه يحرمه غالبا وأن من لم يطلب شيئا لم يتعرض لطلبه ربما وصل إليه، وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكن لأجل سؤاله إياه ذلك أخر عنه سنة» أي وبعد السنة دعاه الملك وتوجه ورداه وقلده بسيفه وأمر له بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وضرب له عليه حلة من استبرق وفوض إليه أمر مصر.
وقد قيل: لو وقعت قلنسوة من السماء لا تقع إلا على رأس من لا يريدها:
زاد في رواية عن علي كرم الله وجهه أنه صلى الله عليه وسلم دعا له بقوله: «اللهم اكفه الحر والبرد» قال علي كرم الله وجهه: فما وجدت بعد ذلك اليوم لا حرا ولا بردا ، أي فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين، ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين. وفي لفظ: الثوب الخفيف فلا يبالي بالبرد.
وقد يخالف ذلك ما حكاه بعضهم، قال: دخل رجل على عليّ كرم الله وجهه وهو يرعد تحت سمل قطيفة: أي قطيفة خلقة، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك في هذا المال نصيبا وأنت تصنع بنفسك هكذا؟ فقال: والله لا أرزؤكم من مالكم، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون رعدته رضي الله عنه ليست من البرد خلاف ما ظنه السائل لجواز أن تكون لحمّى أصابته في ذلك الوقت، وقد أشار إلى التفل صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله:

وعليّ لما تفلت بعيني *** هـ وكلتاهما معا رمداء
فغدا ناظرا بعيني عقاب *** في غزاة لها العقاب لواء

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: لأدفعن الراية، إطلاق الراية على اللواء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم الله وجهه: خذ هذه الراية، وتقدم أن الراية قد يطلق عليها لواء.
هذا، وفي كلام بعضهم أن أبا سفيان رضي الله عنه كانت إليه الراية المعروفة بالعقاب التي كانت لا يحبسها إلا رئيس إذا حميت الحرب، هذا كلامه، فلعل تسمية رايته صلى الله عليه وسلم بالعقاب لكونها كذلك فقال عليّ كرم الله وجهه: علام أقاتلهم يا رسول الله؟ قال: «أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم» .
وفي رواية لما أعطاه صلى الله عليه وسلم الراية قال له: «امش ولا تلتفت، فسار شيئا ثم وقف ولم يلتفت»، فصرخ: يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى» أي حساب بواطنهم وسرائرهم على الله، لأنه المطلع وحده على ما فيها من إيمان خالص أو نفاق وكفر. زاد في رواية «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» أي تتصدق بها في سبيل الله، فقد جعل صلى الله عليه وسلم عصمة الدم بالنطق بالشهادتين، لكنه لا يقرّ من نطق بهما على ترك الصلاة ولا على ترك الزكاة، ومن ثم قال له صلى الله عليه وسلم «وأخبرهم بما يجب عليهم» وفي لفظ «قال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك» .
أي وعن حذيفة رضي الله عنه لما تهيأ عليّ كرم الله وجهة يوم خيبر للحملة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي والذي نفسي بيده إنّ معك من لا يخذلك، هذا جبريل عليه السلام عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة، يا عليّ إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم» .
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الراية كل يوم واحدا من أصحابه ويبعثه، فبعث أبا بكر رضي الله عنه، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الغد: أي برايته، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث رجلا من الأنصار فقاتل ورجع ولم يكن فتح، فقال عليه الصلاة والسلام: «لأعطين الراية أي اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، وليس بفارّ»
وفي لفظ: كرار غير فرار، فدعا عليا كرم الله وجهه وهو أرمد فتفل في عينيه، ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك، أي ودعا له ولمن معه بالنصر.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم ألبسه درعه الحديد، وشدّ ذا الفقار، أي الذي هو سيفه في وسطه وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن، فخرج عليّ كرم الله وجهه بها يهرول حتى ركزها تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وحق ما أنزل على موسى، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج منهم إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفا بالشجاعة، فانكشف المسلمون وثبت علي كرم الله وجهه فتضاربا، فقتله علي وانهزم اليهود إلى الحصن، ثم خرج إليه مرحب، فحمل مرحب عليه وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول علي كرم الله وجهه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم ألقاه من يده: أي وراء ظهره ثمانين شبرا» .
قال الراوي: فجهدت أنا وسبعة نفر على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر. قال بعضهم: في هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر، قال: وقيل ولم يقدر على حمله أربعون رجلا، وقيل سبعون.
وفي رواية أن عليا كرم الله وجهه لما انتهى إلى باب الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا فكان جهدا أن أعادوه مكانه، وقيل حمل الباب على ظهره حتى صعد المسلمون عليه ودخلوا الحصن.
قال بعضهم: وطرق حديث الباب كلها واهية، وفي بعضها قال الذهبي: إنه منكر، وفي الإمتاع: وزعم بعضهم أن حمل عليّ كرم الله وجهه الباب لا أصل له، وإنما يروى عن رعاع الناس. وليس كذلك، ثم ذكر جملة ممن خرّجه من الحفاظ.
وجاء أن مرحبا لما رأى أن أخاه قد قتل خرج سريعا من الحصن في سلاحه، أي وقد كان لبس درعين وتقلد بسيفين واعتم بعمامتين ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان وهو يرتجز ويقول من أبيات:

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب

ومعنى شاكي السلاح: تام السلاح، ومعنى مجرب: أي معروف بالشجاعة وقهر الفرسان، ثم صار يقول: هل من مبارز؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذا؟» قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أنا له يا رسول الله، أنا الموتور: أي الذي قتل له قتيل فلم يؤخذ بثأره الثائر، قتل أخي بالأمس، قال صلى الله عليه وسلم: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه»، فقتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي: فإن مرحبا حمل على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيف مرحب فيها فغضت به وأمسكته، فضربه محمد رضي الله عنه فقتله. ويدل لذلك قول الإمام المزني رحمه الله في المختصر: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نفل محمد بن مسلمة سلب مرحب: سيفه ورمحه ومغفره وبيضته، ووجد على سيفه مكتوب: هذا سيف مرحب، من يصبه يعطب.
وقيل القاتل له عليّ كرم الله وجهه، وبه جزم مسلم رحمه الله في صحيحه.
قال بعضهم: والأخبار متواترة به. وقال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا كرم الله وجهه قاتله. وفي الاستيعاب: والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليا قاتله. ويروى أن عليا كرم الله وجهه ورضي الله عنه لما خرج إليه ارتجز بقوله:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة *** ضرغام آجام وليث قسوره

وقيل بدله:

كليث غابات كريه المنظره

أي فإن أم علي كرم الله وجهه سمته أسدا باسم أبيها وكان أبوه أبو طالب غائبا، فلما قدم كره ذلك وسماه عليا، أي ومن أسماء الأسد حيدرة، والحيدرة: الغليظ القوي. وقيل لقب بذلك في صغره لأنه كان عظيم البطن ممتلئا لحما، ومن كان كذلك يقال له حيدرة.
ويقال إن ذلك كان كشفا من علي كرم الله وجهه، فإن مرحبا كان رأى في تلك الليلة في المنام أن أسدا افترسه فذكره عليّ كرم الله وجهه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه.
ويروى أن عليا كرم الله وجهه ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقدّه وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف في الأضراس، وإلى ذلك يشير بعضهم، وقد أجاد بقوله:

وشادن أبصرته مقبلا *** فقلت من وجدي به مرحبا
قدّ فؤادي في الهوى قدة *** قدّ عليّ في الوغى مرحبا

أي وقد يجمع بين كون القاتل لمرحب عليا كرم الله وجهه، وكون القاتل له محمد بن مسلمة بأن محمد بن مسلمة أثبته، أي بعد أن شق علي كرم الله وجهه هامته، لجواز أن يكون شق هامته ولم يثبته فأثبته محمد بن مسلمة، ثم إن عليا كرم الله وجهه وقف عليه.
أي ويدل لذلك ما في بعض السير عن الواقدي رحمه الله لما قطع محمد بن مسلمة ساقي مرحب قال له مرحب: أجهز عليّ، فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه أخي. ومرّ به علي كرم الله وجهه فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد: يا رسول الله ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت، وكنت قادرا أن أجهز عليه، فقال علي كرم الله وجهه صدق، فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه، ولعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب فلا ينافي ما مر عن فتح الباري، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر أي وهو يرتجز بقوله:

قد علمت خيبر أني ياسر *** شاكي السلاح بطل مغادر

وكان أيضا من مشاهير فرسان يهود وشجعانهم، وهو يقول: من يبارز؟ فخرج له الزبير رضي الله عنه، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنه يقتل ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ابنك يقتله إن شاء الله، فقتله الزبير رضي الله عنه، أي وعند ذلك قال له صلى الله عليه وسلم «فداك عمّ وخال لكل نبي حواريّ، وحواري الزبير» .
وذكر الزمخشري أن هذه الواقعة للزبير كانت في بني قريظة، حيث قال: إنه يعني الزبير رضي الله عنه أوّل من استحق السلب، وكان ذلك في بني قريظة برز رجل من العدو، فقال رجل ورجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قم يا زبير»، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: واحدي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيهما علا صاحبه فقتله»، فعلاه الزبير رضي الله عنه فقتله، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «السلب للقاتل» هذا كلامه فليتأمل، فإني لم أقف في كلام أحد على أن بني قريظة وقعت منهم مقاتلة بالمبارزة.
وفي رواية أن القاتل لياسر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. أي ويمكن الجمع بمثل ما تقدم، وكان شعار المسلمين «أمت أمت» وفي رواية «يا منصور أمت أمت» .
ومن جملة من قتل من المسلمين الأسود الراعي، كان أجيرا لرجل من اليهود يرعى غنمه، وكان عبدا حبشيا يسمى أسلم، أي وفي الإمتاع اسمه يسار، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو محاصر خيبر، وقال: يا رسول الله اعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم.
وفي رواية أنه قال: إن أسلمت فماذا لي؟ قال: الجنة، فأسلم، فلما أسلم قال: يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم فكيف أصنع بها؟ وفي لفظ إنها أمانة وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم له: «اضرب في وجهها فإنها سترجع إلى ربها»، فقام الأسود فأخذ حفنة من حصباء فرمى بها في وجهها وقال ارجعي إلى صاحبك فو الله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم رضي الله عنه إلى ذلك الحصن فقاتل مع المسلمين فأصابه حجر. وفي رواية: سهم غرب بفتح الراء والإضافة، وبتسكين الراء بلا إضافة وهو ما لا يعرف راميه فقتله، ولم يسجد لله سجدة، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال: «إن معه الآن زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عن وجهه وتقولان له: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك»، زاد في لفظ: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام من نفسه حقا.
وفتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أوّل حصن فتح من حصون النطاة على يد علي كرم الله وجهه.
أي وعن عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة، أي وهي أوّل دار فتحت بخيبر وهي بالنطاة، وهي منزل ياسر أخي مرحب، وظاهر السياق أنها حصن ناعم.
ويروى أن عليا كرّم الله وجهه لما فتح الحصن أخذ الرجل الذي قتل أخا محمد بن مسلمة وسلمة إليه فقتله، وتقدّم أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قتل مرحبا لكونه قاتل أخيه على ما تقدم، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم دفع كنانة لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه، وهذا يؤيد ما تقدّم من أن الثلاثة: أي مرحب وكنانة وذلك الرجل الذي سلمه عليّ له اشتركوا في قتل أخي محمد بن مسلمة.
قال: وأصاب المسلمين رضي الله عنهم مجاعة وأرسلت أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بن حارثة، وأمرته أن يقول له صلى الله عليه وسلم: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون أجهدنا الجوع، فلامهم رجل وقال: «من بين العرب تصنعون هذا؟» فقال زيد بن حارثة أخو أسماء: والله إني لأرجو أن يكون البعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير، فجاءه صلى الله عليه وسلم أسماء وبلغه ما قالت أسلم، فدعا لهم فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليس بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، وقال: اللهم افتح أكثر الحصون طعاما وودكا»، ودفع اللواء للحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه وندب الناس، وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم بعد أن أقاموا على محاصرته يومين، وما بخيبر حصن أكثر طعاما منه: أي من شعير وتمر وودك، أي من سمن وزيت وشحم وماشية، ومتاعا منه، ولا يخالف هذا ما تقدم عائشة في وصف حصن ناعم من قولها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره ولا ما تقدّم من أنهم أدخلوا أموالهم حصون الكتيبة، لأنه يجوز أن يكون المراد بأموالهم النقود ونحوها دون ما ذكر هنا، وكان في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب خمسمائة مقاتل، وقبل فتحه خرج منه رجل يقال له يوشع مبارزا، فخرج له الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه فقتله، وخرج آخر مبارزا يقال له الديال فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري رضي الله تعالى عنه فضربه على هامته فقتله، وقال له: خذها وأنا الغلام الغفاري، فقال الناس حبط جهاده، فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: «يؤجر ويحمد»، أي وحملت يهود حملة منكرة.
فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف قد نزل عن فرسه، فثبت الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه، فحرض صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد، فأقبلوا وزحف بهم الحباب رضي الله تعالى عنه فانهزمت يهود وأغلقت الحصون عليهم.
ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير والتمر والسمن والعسل والسكر والزيت والودك شيئا كثيرا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحملوا: أي لا تخرجوا به إلى بلادكم..
وهذا دليل لما ذهب إليه إمامنا رضي الله تعالى عنه من أن للغانمين أخذ ما تعمّ الحاجة إليه من الطعام وما يؤكل غالبا من الفواكه وعلف الدواب من الغنيمة بدار الحرب إذا كان الجهاد بدار الحرب إلى أن يصلوا إلى غير دار الحرب مما يباع ذلك فيه، وليس لهم أخذ ما تندر الحاجة إليه كالفانيد والسكر، ولا ينافي ذلك ما ذكر هنا، لأنه يجوز أن يكون الاذن في أكل مجموع ما ذكر.
وفي السيرة الهشامية عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، قال: أصبت من فيء خيبر، أي من غنيمتها جراب شحم فاحتملته على عنقي أريد رحلي فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها، أي وهو أبو اليسر كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري رضي الله تعالى عنه فأخذ بناصيته، وقال: هلمّ بهذا حتى نقسمه بين المسلمين، فقلت: والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: لا أبا لك خلّ بينه وبينه، فأرسله، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وفي الإمتاع أنهم وجدوا في هذا الحصن الذي هو حصن الصعب آلة حرب:
دبابات ومنجنيقا، أي وذلك موافق لما تقدم عن ذلك المخبر له صلى الله عليه وسلم بأن في حصن في بيت منه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، ولعلّ وجود ذلك كان بدلالة ذلك الرجل عليه.
ولما فتح ذلك الحصن تحوّل من سلم من أهله إلى حصن قلة وهو حصن بقلة جبل، أي ويعبر عن هذا بقلة الزبير رضي الله تعالى عنه، أي الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك وهو آخر حصون النطاة، أي فحصون النطاة ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة.
فأقام المسلمون على حصار هذا الحصن الذي هو حصن قلة ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود وقال له صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم تؤّمني على أن أدلك على ما تستريح به، فإنك لو مكثت شهرا لا تقدر على فتح هذا الحصن، فإن به دبولا وهي الأنهار الصغيرة تحت الأرض يخرجون ليلا فيشربون منها، فإن قطعت عنهم شربهم أهلكتهم، فأمنه صلى الله عليه وسلم وسار إلى دبولهم فقطعها، فعند ذلك خرجوا وقاتلوا أشدّ القتال وفتح ذلك الحصن، ثم سار المسلمون إلى حصار حصون الشق بفتح الشين المعجمة وكسرها، والفتح أعرف عند أهل اللغة، فكان أوّل حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي فقاتل أهله قتالا شديدا، خرج رجل منهم يقال له غزوال يدعو إلى البراز، فبرز له الحباب رضي الله تعالى عنه، وحمل عليه فقطع يده اليمنى ونصف الذراع، فبادر راجعا منهزما إلى الحصن فتبعه الحباب فقطع عرقوبه فوقع فذفف عليه، فخرج آخر مبارزا فخرج له رجل من المسلمين فقتل ذلك الرجل وقام مكانه يدعو للبراز، فخرج له أبو دجانة رضي الله تعالى عنه، فضربه أبو دجانة رضي الله تعالى عنه فقطع رجله، ثم ذفف عليه.
وعند ذلك أحجمت يهود عن البراز، فكبر المسلمون وتحاملوا على الحصن، ودخلوه يقدمهم أبو دجانة رضي الله تعالى عنه، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء، وهو الحصن الثاني من حصني الشق فتمنعوا به أشدّ التمنع، وكان أهله أشد رميا للمسلمين بالنبل والحجارة حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ لهم صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فحصب به ذلك الحصن، فرجع بهم ثم ساخ في الأرض، وأخذ المسلمون من فيه أخذا ذريعا، أي فحصون الشق اثنان: حصن أبيّ، وحصن البريء.
وحينئذ يتأمل في قول الحافظ الدمياطي في سيرته: والشق وبه حصون منها حصن أبيّ، وحصن البريء.
أقول: وفي الإمتاع أنهم وجدوا في حصن الصعب الذي هو أحد حصون النطاة منجنيقا: أي كما أخبر بذلك اليهودي الذي جاء به عمر رضي الله تعالى عنه وأدخله عليه صلى الله عليه وسلم وأمنه كما تقدم، وأنهم نصبوا المنجنيق الذي وجدوه في حصن الصعب على هذا الحصن الذي هو حصن البريء من حصون الشق، أي وهو يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، إلا أن يقال. يجوز أن يكون المراد بعدم نصبه أنه لم يرم به إلا في غزوة الطائف. وأما هنا فنصب ولم يرم به فلا مخالفة.
ووجدوا في هذا الحصن آنية من نحاس وفخار كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فقال صلى الله عليه وسلم: «اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا». وفي رواية: سخنوا فيها الماء، ثم اطبخوا بعد وكلوا واشربوا. وحكمة تسخين الماء فيها لا تخفى، وهي أن الماء الحار أقوى في النظافة وإخراج الدسومة والله أعلم.
ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكثيبة، وهي ثلاثة حصون، القموص كصبور، والوطيح، وسلالم بضم السين المهملة، وكان أعظم حصون خيبر القموص، وكان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليّ كرم الله وجهه، ومنه سبيت صفية رضي الله تعالى عنها كما قاله الحافظ ابن حجر.
قال: وقيل كان اسمها قبل أن تسبى زينب، فلما صارت من الصفيّ سميت صفية. والصفي: ما كان يصطفيه صلى الله عليه وسلم لنفسه من الغنيمة قبل أن تقسم على ما تقدم، وكان في الجاهلية لأمير الجيش ربع الغنيمة. ومن ثم قيل له المرباع.
قال السهيلي رحمه الله: كانت أموال النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه: من الصفي، والهدية، وخمس الخمس هذا كلامه، ولا يخفى أنه يزاد على ذلك الفيء.
وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة، مأخوذ من الوطح: وهو في الأصل ما تعلق بمخالب الطير من الطين؛ سمي الوطيح باسم الوطيح بن مازن؛ رجل من ثمود. وحصن سلالم ويقال له السلاليم: وهو حصن بني الحقيق، آخر حصون خيبر.
ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهما، فهمّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم: أي على من فيهما المنجنيق: أي ينصبه عليهم ولم يرم به، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، وأن لا يصحب واحدا منهم إلا ثوب واحد على ظهره. وفي لفظ: تركوا ما لهم من مال وأرض من الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا، فصالحهم على ذلك، وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم أن يكتموه شيئا من متاعهم يسألهم عنه.
فعلم أن حصون خيبر فتحت عنوة إلا الحصنين المذكورين: وهما الوطيح وسلالم، فإنهما لم يفتحا عنوة بل صالحا، فكانا فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم لم يقاتلوا في حال حصارهم، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير مقاتلة، كذا قيل.
وظاهر إطلاق قول الروضة من الفيء ما صولح عليه أهل بلد من الكفار أنه وإن كان بعد محاصرتهم ومقاتلتهم للمسلمين في حال حصارهم برمي الحجارة أو النبل.
وفي فتح الباري نقلا عن ابن عبد البرّ أنه جزم بأن حصون خيبر فتحت عنوة، وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صالحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح؛ لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال هذا كلامه فليتأمل، فإن بالقتال يخرج عن كونه فيئا، ولعل المراد قتال بالنبل ورمي بالحجارة وإلا فقد تقدم أنه لم يخرج منهما أحد للمقاتلة فليتأمل، فإن كلامه يقتضي أن بالحصار وبالقتال بنحو النبل يخرج ذلك عن كونه فيئا له صلى الله عليه وسلم ويكون غنيمة، ولعله مذهب المالكية الذي هو مذهب ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
وفي الأصل عن ابن شهاب رحمه الله أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال هذا كلامه.
فظاهره أن القتال وقع من الذين جلوا في حال حصارهم، وإلا فقد علمت أن الذين جلوا لم يخرج أحد منهم للقتال في حال حصارهم، وسيأتي ما يصرح بأن ما جلوا عنه فيء لا غنيمة.
ووجدوا في الحصنين المذكورين: مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها، أي ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها، فأمر صلى الله عليه وسلم بدفعها إليهم.
وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التي يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن أو تمزق، وتجعل في الغنيمة فتباع، إلا أن يدعى أن تلك الصحف لم تكن مبدلة، وغيبوا الجلد الذي كان فيه حليّ بني النضير، أي وعقود الدر والجوهر الذي جلوا به، لأنهم لما جلوا كان سلام بن أبي الحقيق رافعا له ليراه الناس وهو يقول بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها كما تقدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعية بن عمرو: «أي وهو عمّ حيي بن أخطب». وفي لفظ: سعية بن سلام بن أبي الحقيق. وفي الإمتاع: وسأل صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق: أين مسك: أي جلد حيي بن أخطب، أي وإنما نسب إليه الجلد المذكور، فقيل كنز حيي، لأن حييا كان عظيم بني النضير، وإلا فهو لا يكون إلا عند بني الحقيق، فقال: أذهبته الحروب والنفقات، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية بن عمرو للزبير رضي الله تعالى عنه فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا إلى الخربة، ففتشوها فوجدوا ذلك الجلد.
قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتي بكنانة، وهو زوج صفية تزوجها بعد أن طلقها سلام بن مشكم، وبالربيع أخوه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة، أي لأن أعيان مكة إذا كان لأحدهم عرس ويرسلون فيستعيرون من ذلك الحلي انتهى، أي والآنية والكنز عبارة عن حلي كان أولا في جلد شاة، ثم كان لكثرته في جلد ثور، ثم كان لكثرته في جلد بعير كما تقدم فقالا: أذهبته النفقات والحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك، إنكما إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت دماءكما وذراريكما، فقالا: نعم، فأخبره الله بموضع ذلك الحلي، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: «اذهب إلى محل كذا وكذا، ثم ائت النخل، فانظر نخلة عن يمينك أو قال عن يسارك مرفوعة فائتني بما فيها» فانطلق فجاءه بالآنية.
ويمكن الجمع بين هذا وما تقدم وما يأتي أنهم فتشوا عليه في خربة حتى وجدوه، بأن التفتيش كان في أول الأمر، وإعلام الله تعالى له بذلك كان بعد، فجيء به فقوم بعشرة آلاف دينار؛ أي لأنه وجد فيه أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم الذهب، وعقود الجوهر والزمرد، وعقود أظفار مجزع بالذهب، فضرب أعناقهما وسبى أهلهما.
أي وفي لفظ آخر: لما فتحت خيبر أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع وفي لفظ: ابن ربيعة بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله صلى الله عليه وسلم عنه، فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، أي فإن كنانة حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم فتح حصن النطاة وتيقن ظهوره عليهم دفنه في خربة.
أي وفيه أن هذا لا يناسب ما سبق من أن حييا كان يطيف بتلك الخربة، إلا أن يقال جاز أن يكون دفنه في تلك الخربة في محل آخر غير الذي دفنه فيه حيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: «أرأيت إن وجدته عندك أقتلك؟» قال نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر به الزبير رضي الله تعالى عنه فقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير رضي الله تعالى عنه يقدح بزند، أي بالزناد الذي يستخرج به النار على صدره حتى أشرف على نفسه.
وأخذ منه جواز العقوبة لمن يتهم ليقر بالحق، فهو من السياسة الشرعية، ثم دفعه صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه فضرب عنقه بأخيه محمود. أي ولا مانع أن يكون السؤال وتعذيب الزبير وقع لسعية وكنانة أيضا.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم: أي التي غنمت قبل الصلح فجمعت، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا منها صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب، من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وجعلها عند أم سليم التي هي أم أنس خادمه صلى الله عليه وسلم حتى اهتدت وأسلمت، ثم أعتقها صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها صداقها: أي أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا في المآل: أي لم يجعل لها شيئا غير العتق.
وقد سئل أنس رضي الله تعالى عنه صفية، فقيل له: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها، وهذا يردّ ما استدلّ به بعض فقهائنا: على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نكاح الأمة الكتابية، وجواز وطئها بملك اليمين من أنه صلى الله عليه وسلم كان يطأ صفية قبل إسلامها بملك اليمين.
ويرد أيضا على من استدل من فقهائنا على استحباب الوليمة للسرية، بأنه صلى الله عليه وسلم أو لم على صفية كما علمت أنها زوجة لا سرية.
أي لكن ذكر بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم لما أو لم على صفية رضي الله تعالى عنها، قالوا: إن لم يحجبها فهي أم ولد، وإن حجبها فهي امرأته، وذلك دليل على استحباب الوليمة للسرية، إذ لو اختصت بالزوجة لم يترددوا في كونها زوجة أو سرية، وذلك بعد أن خيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله.
وذكر في الأصل أن جعل عتق الأمة صداقها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى. وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى عدم الخصوصية. وقال ابن حبان: لم ينقل دليل على أنه خاص به صلى الله عليه وسلم دون أمته.
وقيل إن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فوهبها له، وقيل وقعت في سهمه رضي الله تعالى عنه، ثم ابتاعها صلى الله عليه وسلم منه بتسعة أرؤس، أي وإطلاق الشراء في ذلك على سبيل المجاز، على أنه يخالف ما تقدّم أنها من صفية صلى الله عليه وسلم قبل القسمة.
وفي البخاري فجمع السبي فجاء دحية رضي الله تعالى عنه فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي، فقال: «اذهب فخذ جارية»، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، فقال: «ادعوه بها»، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ جارية من السبي غيرها» أي فأخذ غيرها.
أي والتي أخذها غيرها هي أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية كما في الأم لإمامنا الشافعي رضي الله عنه عن سيرة الواقدي، وقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله أعطيت دحية صفية يدل على أنه اسمها، وحينئذ يخالف ما قيل إن اسمها زينب فسماها صلى الله عليه وسلم صفية كما تقدم.
وفي رواية أن صفية سبيت هي وبنت عمّ لها، وأن بلالا جاء بهما فمرّ على قتلى يهود، فلما رأتهم بنت عم صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال: «اعزبوا عني هذه الشيطانة»، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟» ثم دفع صلى الله عليه وسلم بنت عمها لدحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وفي رواية: وأعطى دحية بنت عمها عوضا عنها.
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل بصفية رأى بأعلى عينها خضرة فقال: ما هذه الخضرة؟ قالت: كان رأسي في حجر بن أبي الحقيق- تعني زوجها، أي وهي عروس- وأنا نائمة، فرأيت كأن القمر وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تتمني ملك العرب، وفي لفظ: حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكنت عروسا رأت كأن الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها فقصت ذلك على زوجها قال: والله ما تتمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها. ولا مانع من تعدد الرؤية أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد، وسيأتي في الكلام على زوجاته صلى الله عليه وسلم أنها قصت ذلك على أبيها ففعل بها ذلك، وسيأتي أنه لا مانع من تعدد الواقعة وأنهما فعلا بها ذلك.
وتقدم أن جويرية رضي الله تعالى عنها رأت القمر أيضا وقع في حجرها، وكون صفية رضي الله تعالى عنها كانت عروسا عند مجيئه صلى الله عليه وسلم خيبر ربما يدل على أن سلام بن مشكم طلقها قبل الدخول بها، فقد تقدّم أن كنانة تزوّج بها بعد أن طلقها سلام بن مشكم فليتأمل.
وعن صفية رضي الله عنها أنها قالت انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من الناس أحد أكره إليّ منه قتل أبي وزوجي وقومي، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا صفية أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا، وقالوا فيّ كذا وكذا، وفي رواية: إن قومك صنعوا كذا وكذا»، وما زال صلى الله عليه وسلم يعتذر إليّ حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إليّ منه صلى الله عليه وسلم وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طهرت من الحيض في قبة بعد أن دفعها صلى الله عليه وسلم لأم سليم لتصلح من شأنها، وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى متوشحا سيفه يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى مكان أبي أيوب، فقال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر، فبت أحفظك، فقال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني».
قال السهيلي رحمه الله: فحرس الله أبا أيوب بهذه الدعوة، حتى إن الروم لتحرس قبره ويستشفون به فيستصحون، أي ويستسقون به فيسقون.
فإن غزا مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، فلما بلغوا القسطنطينية مات أبو أيوب رضي الله عنه هنالك، فأوصى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم، فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مكانا مساغا دفنوه، فسألتهم الروم عن شأنهم، فأخبروهم أنه كبير من أكابر الصحابة، فقالت الروم ليزيد: ما أحمقك وأحمق من أرسلك أأمنت أن ننبشه بعدك، فنحرق عظامه، فحلف لهم يزيد لئن فعلتم ذلك ليهدمن كل كنيسة بأرض العرب، وينبش قبورهم، فحينئذ حلفوا بدينهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا.
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قطع ستة أميال من خيبر وأراد أن يعرس بها فأبت، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، فلما سار ووصل الصهباء مال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال لها: «ما حملك على إبائك حين أردت المنزل الأول؟» قالت: يا رسول الله خشيت عليك قرب يهود، وهذا المحل الذي هو الصهباء هو الذي ردت فيه الشمس لعليّ بعد ما غربت كما تقدم.
وأقام صلى الله عليه وسلم بذلك المحل ثلاثة أيام، وجعل وليمتها حيسا في نطع صغير، والحيس: تمر وأقط وسمن. أي ففي البخاري فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسا، فقال: «من كان عنده شيء فليجيء به وبسط نطعا»، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، أي وجعل الرجل يجيء بالأقط، وذكر أيضا السويق .
ولا يخفى أن الحيس خلط السمن والتمر والأقط إلا أنه قد يخلط مع هذه الثلاثة السويق، وهذا يدل على أن الوليمة على صفية رضي الله تعالى عنها كانت نهارا.
وذهب ابن الصلاح من أئمتنا إلى أن الأفضل فعلها ليلا، قال بعضهم: وهو متجه إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها ليلا، أي لأحد من نسائه. وقد جاء «لا بد للعرس من وليمة» .
وقال لأنس: آذن من حولك: أي ليأكلوا من ذلك الحيس، وكان صلى الله عليه وسلم يضع لها ركبته لتركب، فتضع رجلها على ركبته الشريفة حتى تركب. وفي لفظ: لما وضع صلى الله عليه وسلم ركبته لتركب عليها أبت أن تضع قدمها على ركبته الشريفة ووضعت فخذها على ركبته، أي ولعل هذا الثاني منها كان في أول الأمر، فلا مخالفة.
وعن صفية رضي الله تعالى عنها: ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي في خيبر وأنا على عجز ناقته ليلا، فجعلت أنعس فتضرب رأسي مؤخرة الرحل فيمسني بيده ويقول: يا هذه مهلا.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن إتيان الحبالى من النساء اللاتي سبين، وأن لا يصيب أحد امرأة من السبي غير حامل حتى يستبرئها أي تحيض.
أي وفي لفظ: أمر صلى الله عليه وسلم مناديه ينادي أن من آمن بالله واليوم الآخر لا يسق بمائة زرع الغير، ولا يطأ امرأة حتى تنقضي عدتها: أي حتى تحيض.
وبلغه صلى الله عليه وسلم عن شخص أنه ألمّ بامرأة من السبي حبلى، فقال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره. ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم.
ورأيت في كلام بعضهم أن غالب اقتياتهم في خيبر كان أكل الثوم والكراث حتى تقرحت أشاقهم، أي وذلك قبل النهي.
ثم رأيت في الترغيب والترهيب عن أبي ثعلبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدوا في جنانها بصلا وثوما فأكلوا منه وهم جياع، فلما راح الناس إلى المسجد إذا ريح بصل وثوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا» وليس في ذلك نهي عن أكل الثوم والبصل: أي مطلقا، إنما النهي عن إتيان المسجد لمن أكلهما تأمل.
ومن ثم جاء أنه لما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال الناس حرم ذلك، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ما قالوا، قال: «أيها الناس؛ إنه ليس لنا تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها».
وعن فرقد السنجي «ما أكل نبي قط ثوما ولا بصلا» .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء. ففي مسلم عن علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر» .
قال بعضهم: والراجح أن النهي عن متعة النساء لم يكن في خيبر، فإنه شيء لم يعرفه أهل السير ولا رواه أهل الأثر، ويدل لذلك ما قيل إن ثنية الوداع إنما سميت بذلك، لأنهم فيها ودّعوا النساء اللاتي تمتعوا بهنّ في خيبر، أي وإنما كان تحريمها عام الفتح، أي ولا معارضة لأنه أحل بعد ذلك: أي بعد خيبر في عام الفتح، ثم حرم فيه بعد ثلاثة أيام كما سيأتي.
وقيل حرمت في حجة الوداع، وقيل في غزوة أوطاس، وهذا هو الصحيح، وسيأتي في غزوة الفتح الجمع بين هذه الأقوال.
قال السهيلي رحمه الله: وأغرب ما روي في ذلك رواية من قال إن ذلك كان في غزوة تبوك. وفي حديث خرجه أبو داود أن تحريم نكاح المتعة كان في حجة الوداع، ومن قال من الرواة إنه كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن يقول إنه كان عام الفتح، هذا كلامه.
وعن إمامنا الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، أي فقد حرمت مرتين.
ونقل السهيلي رحمه الله وغيره عن بعضهم أنها أبيحت وحرمت ثلاث مرات.
وعن بعضهم أنها أبيحت وحرمت أربع مرات، ولينظر هذا مع قول بعضهم إن أوّل من حرم المتعة سيدنا عمر رضي الله عنه.
وقيل لم يحرمها صلى الله عليه وسلم مطلقا، بل عند الاستغناء عنها. وأباحها عند الحاجة إليها: أي عند خوف الزنا، وبذلك كان يفتي ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي كلام فقهائنا: والنهي عن نكاح المتعة في خبر الصحيحين الذي لو بلغ ابن عباس رضي الله عنهما لم يستمرّ على القول بإباحتها لمن خاف الزنا مخالفا في ذلك لكافة العلماء.
وقد وقعت مناظرة في المتعة بين القاضي يحيى بن أكثم وأمير المؤمنين المأمون؛ فإن المأمون نادى بإباحة المتعة، فدخل عليه يحيى بن أكثم وهو متغير اللون بسبب ذلك وجلس عنده، فقال له المأمون: ما لي أراك متغيرا؟ قال: لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: المتعة زنا؟ قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب، فقد قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى قوله {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} * {إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} * {فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ} [المؤمنون:5- 7] يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: أفهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث ويلحق بها الولد؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين. وأما السنة، فقد روى الزهري بسنده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها» فالتفت المأمون للحاضرين وقال: أتحفظون هذا من حديث الزهري؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة.
ونهى صلى الله عليه وسلم في خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، أي فإنهم أصابهم جوع فجودوا الحمر الأهلية، أي ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون، وقيل لم يدخلوها الحصون، فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها في القدور والبرام، وجعلوا يطبخونها للأكل، فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عما في القدور والبرام، قالوا: لحوم الحمر الإنسية: أي المخالطة للإنس، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن أكلها حتى أن القدور أكفئت وإنها لتفور» .
أي وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيرانا توقد يوم خيبر، قال: «علام توقد هذه النيران؟» قالوا: على الحمر الإنسية، قال: «اكسروها وأهريقوها»، قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: «اغسلوها» .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذه النيران، على أي شيء توقد؟» قالوا: على لحم، قال: «على أي لحم؟» قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهريقوها واكسروها»، فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ فقال «أو ذاك» وعدوله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الثاني إما باجتهاد أو وحي.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم عند ذلك أمر عبد الله بن عوف أن ينادي في الناس أن لحوم الحمر الأهلية لا تحل لمن يشهد أن محمد رسول الله، وأمر أن تكفأ القدور ولا يأكلون من لحوم القدور شيئا» .
وفي مسلم «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس أو نجس» وهذا السياق كله يدل على أنهم لم يأكلوا منها شيئا.
وفي السيرة الهشامية: «وأكل المسلمون من لحوم الحمر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى الناس عن أمور سماها لهم» وهذا يرد القول بأنه إنما نهى عن أكلها للحاجة إليها، أو لأنها أخذت قبل القسمة.
وروى أبو داود بإسناد على شرط مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال، ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل» وفي رواية «ورخص في أكل الخيل» أي أباح أكلها.
وفي مسلم عن أسماء رضي الله عنها، قالت «نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» أي وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولم ينكره.
وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال والخيل» .
قال السهيلي رحمه الله: وحديث الإباحة أصح، وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحم الجلالة وعن ركوبها، حتى تعلف أربعين يوما» والجلالة: التي تأكل الجلة، وهي الروث والعذرة.
وذكر الهروي «أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الدجاج الجلالة حتى تقصر» أي تحبس ثلاثة أيام. وذكر فقهاؤنا أن الحمر الأهلية حللت بعد تحريمها، ثم حرمت فليتأمل.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، أي وذي مخلب من الطير وعن بيع المغانم حتى تقسم، وجعلت له صلى الله عليه وسلم مائدة فأكل متكئا وأطلى بالنورة، وكان ينوّره الرجل، فإذا بلغ عانته تولى ذلك صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة.
وروى ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ ابن كثير «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله» وحينئذ يكون المراد بعانته في الرواية السابقة العورة على أن تلك الرواية مرسلة فلا يحتج بذلك لمن يقول إن العورة ما عدا السوءتين.
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة، فلما فرغ منها قال: «يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهور، وإن الله تعالى يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم» أي فهو من نعيم الدنيا، ومن ثم كرهه عمر رضي الله عنه.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له وقد دخل الحمام: أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «طاب حمامكما» وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنوّر كل شهر، ويقلم أظفاره كل خمسة عشر يوما» وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتنور فهو ضعيف معارض بما هو أقوى منه وأكثر عددا، على أن المثبت مقدّم على النافي. أي وفي الينبوع: وقول أنس رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنوّر وكان يحلق محمول على الغالب من أمره صلى الله عليه وسلم.
وفي الخصائص الصغرى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما تنور نبي قط. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لقص الشارب وتقليم الأظفار أن لا يدع ذلك أربعين يوما» أي وكان صلى الله عليه وسلم يقص أظفاره كل خمسة عشر يوما كما تقدم.
وقد أستفيد من هذا كما قال بعضهم فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت للتنوّر وقص الأظفار. قال بعضهم: وفيه نظر، فإن بدنه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الاعتدال فلا يقاس به صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك، نظير ما قالوه فيما صح «أنه صلى الله عليه وسلم كان يوضئه المدّ، ويغسله الصاع» إن ذلك خاص ببدن من يكون بدنه كبدنه عليه الصلاة والسلام نعومة واعتدالا، وإلا زيد ونقص المتفاوت فكذلك هنا، ومن ثم قال الأئمة رحمهم الله في نحو حلق العانة ونتف الإبط والقلم للظفر وقص الشارب: إن ذلك لا يتقيد بمدة، بل يختلف باختلاف الأبدان والمحالّ، فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك.
وبهذا يردّ على من قال يكره التنور في أقل من شهر، وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بخيبر الأشعريون، أي ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، والدوسيون ومنهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فسأل صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا.
قال: وعن موسى بن عقبة رحمه الله أن أحد الأشعريين ومن ذكر معهم: أي وهم الدوسيون من هذين الحصنين اللذين فتحا صالحا، وتكون مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعطائهم ليست استنزالا لهم عن شيء من حقهم، وإنما هي المشورة العامة: أي المأمور بها في قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ} [آل عمران: 159].
أقول: وهذا صريح في أن ذلك كان فيئا له صلى الله عليه وسلم، فهما وما فيهما مما أفاء الله عليه صلى الله عليه وسلم، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير قتال؛ أي من غير مصافة للقتال.
والحاصل أن أرض خيبر ونخلها غنيمة، لأنه صلى الله عليه وسلم غلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى الحصون، وفتح جميع الحصون عنوة إلا الوطيح، والسلالم فإنهما فتحا صالحا على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم، بشرط أن لا يكتموه شيئا من أموالهم، وأن من كتم شيئا انقض ذلك الصلح له بالنسبة لدمه وذراريه.
وهذان الحصنان هما المرادان بالكثيبة في قول بعضهم: كان صلى الله عليه وسلم يطعم من الكثيبة أهله لما علمت أنهما من حصونها، وأنهما وما فيهما مما أفاء الله عليه.
وكونه صلى الله عليه وسلم كان يطعم أهله مما فيهما واضح. وأما إذا كان المراد يطعم من الأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فقد يتوقف فيه، لما تقدم أن أرض خيبر ونخلها غنيمة وذلك شامل للأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فليتأمل والله أعلم.
وفي لفظ: وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من أرض الحبشة ومعه الأشعريون، أبو موسى الأشعري وأخواه أبو رهم وأبو بردة رضي الله عنهم، وكان أبو موسى أصغرهم وأقواهم وكان قوم جعفر بالحبشة، أي لأنهم هاجروا إلى الحبشة من اليمن كما تقدم، وقبل قدومهم إليه صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» فقدم الأشعريون، وذكر أنهم عند مجيئهم صاروا يقولون:

غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه

وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قال في حقهم «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية» .
ولما أقبل عليه صلى الله عليه وسلم جعفر رضي الله عنه قام صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وقبله بين عينيه وفي رواية «قبل جبهته» .
أي وعن ابن عباس رضي الله عنهما «لما قدم جعفر رضي الله عنه من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه» وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة.
وقال بعضهم: إنها مكروهة، وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهي عنها، فإنه نهى عن المعاكمة وهي المعانقة، وحمل ذلك بعضهم على ما إذا كانت المعانقة من غير حائل.
أقول: لم يجب بذلك سيدنا مالك رضي الله عنه، فإنه لما قدم عليه سفيان بن عيينة رضي الله عنه صافحه مالك وقال له: لولا أنها بدعة لعانقتك، فقال له سفيان: قد عانق من هو خير منك ومني النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: تعني جعفر بن أبي طالب؟ قال نعم، قال: ذلك حبيب خاص ليس بعامّ، أي فذلك من خصوصياته، فقال له سفيان: ما عم جعفرا يعمنا، وما يخصه يخصنا، أي فالأصل عدم الخصوصية، ثم قال له سفيان: أتأذن لي أن أحدثك بحديثك. قال نعم، فقال: حدثني فلان عن فلان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر الحديث المتقدم عنه، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم التزم زيد بن حارثة رضي الله عنه حين قدم عليه من مكة.
وأما المصافحة، فقد جاء أن أهل اليمن لما قدموا المدينة صافحوا الناس بالسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل اليمن قد سنوا لكم المصافحة» وقال «من تمام محبتكم المصافحة» وقال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية لما قدم عليه «وإلى عدي بن حاتم» .
قال السهيلي: وليس هذا معارضا لحديث «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أن لا يقام له، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضي الله عنها وكانت تقوم له صلى الله عليه وسلم هذا كلامه، والله أعلم.
ولما رآه صلى الله عليه وسلم جعفر حجل: أي مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أهل الحبشة يفعلون ذلك للتعظيم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له «أشبهت خلقي وخلقي» وفي لفظ «جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا» وكان صلى الله عليه وسلم يسميه أبا المساكين، لأنه رضي الله عنه كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه.
وذكر بعضهم أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم «أشبهت خلقي وخلقي» رقص من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم رقصه، وجعل ذلك أصلا لجواز رقص الصوفية عند ما يجدونه من لذة المواجيد من مجالس الذكر والسماع، ثم قال صلى الله عليه وسلم «والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» رضي الله عنه.
وقيل قدم مع جعفر رضي الله عنه سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام.
وفي لفظ: قدم معه سبعون كافرا أصحاب الصوامع، وقيل كانوا أربعين رجلا:
اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام. وقيل كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه الصلاة والسلام.
أي ولعل هؤلاء الذين من الحبشة هم المرادون بقول بعضهم: ووفد إليه وفد النجاشي، فقام صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم». وفي لفظ: وقدم عليه أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وطائفة من قومه، وهم دوس كما تقدم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري، فأخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر: فزودنا سباع، ثم جئنا خيبر وهو محاصر الكثيبة فأقمنا حتى فتح الله: أي وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها: أي عقد عليها وهي بالحبشة، فإنها كانت ممن هاجر الهجرة الثانية للحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك، وبقيت هي على إسلامها كما تقدم. وقد أرسل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي ليزوجها منه صلى الله عليه وسلم، قالت أم حبيبة رضي الله عنها: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت، فأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني، قالت: فما شعرت إلا وقد دخلت عليّ جارية النجاشي، فقالت لي: إن الملك يقول لك: كتب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجك منه، فقلت لها: بشره الله بالخير، ويقول لك: وكلي من يزوجك، فأرسلت بالوكالة إلى خالد بن سعيد رضي الله عنه، أي وأعطت تلك الجارية سوارين وخدمتين، أي خلخالين وخواتيم فضة سرورا بما بشرت به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين فحضروا وخطب النجاشي رضي الله عنه، فقال «الحمد لله الملك القدوس» أي في لفظ بدل ذلك «المؤمن المهيمن، العزيز الجبار. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أما بعد- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبنا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار، أي وفي لفظ أربعمائة مثقال ذهب ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم» ، أي ودفع النجاشي الدنانير لخالد بن سعيد، فقبضها منه، وقيل إنه أنقدها لها النجاشي على يد جاريته التي بشرتها، فلما جاءتها بتلك الدنانير أعطتها خمسين دينارا.
وقد يقال: يجوز أن يكون النجاشي استردها من خالد ثم دفعها لتلك الجارية، أو أمر خالد بن سعيد بدفعها للجارية لتدفعها لأم حبيبة فلا مخالفة، وهذا السياق يدل على أن النجاشي كان هو الوكيل عنه صلى الله عليه وسلم. وفي كلام بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة.
وقد يقال: معنى توكيل عمرو إرساله بالوكالة للنجاشي، أي ثم لما أرادوا أن يقوموا بعد العقد قال لهم النجاشي: اجلسوا، فإن من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج؛ فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا، قالت أم حبيبة رضي الله عنها: فلما كان من الغد جاءتني جارية النجاشي فردت عليّ جميع ما أعطيتها وقالت: إن الملك عزم عليّ أن لا أرزأك شيئا، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر، فجاءت بورس وعنبر وزباد كثير، وقالت: حاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه، وكانت كلما دخلت عليّ تقول لا تنسي حاجتي إليك، ثم أرسل النجاشي أم حبيبة مع شرحبيل ابن حسنة، أي قالت أم حبيبة: ولما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت معي جارية النجاشي وأقرأته منها السلام، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «وعليها السلام ورحمة الله وبركاته».
وجاء أنه لما رجعت إليه صلى الله عليه وسلم مهاجرة الحبشة قال: «ألا تخبروني بأعجب شيء رأيتم بأرض الحبشة؟» فقال فتية منهم: يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم وعلى رأسها قلة فيها ماء، فمرت بصبي فدفعها فوقعت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت: أي قامت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، تعلم أمري وأمرك عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت كيف يقدس الله قوما لا يأخذ لضعيفهم من قويهم».
وذكر «أنه لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر ودنا منها بعث محيصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم، قال محيصة: فجئتهم فجعلوا يتربصون ويقولون إن بخيبر عشرة آلاف مقاتل فيهم عامر وياسر والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى أن محمدا يقرب إليه، فمكثت عندهم يومين، ثم أردت الرجوع، فقالوا: نحن نرسل معك رجالا منا يأخذون لنا الصلح، كل ذلك وهم يظنون أنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر على فتح خيبر، حتى جاءهم أناس من حصن ناعم، وأخبروهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحه فأرسلوا رجلا من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفر، يصالحون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم، ويخلوا بينه وبين الأموال، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وقيل تصالحوا معه على أن يكون لهم نصف الأرض ولرسول الله صلى الله عليه وسلم النصف الآخر، فكان فدك على الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الثاني كان له نصفها لأنها لم تؤخذ بمقاتلة، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم.
ولما مات صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعلها أو نصفها لها فأبى. وروى لها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» أي على المسلمين.
ومما يؤيد الثاني ما قيل إنه لما أجلاهم عمر رضي الله عنه مع يهود خيبر كما سيأتي اشترى منهم حصتهم التي هي النصف بمال بيت المال.
فلما صارت الخلافة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقيل له إن مروان اقتطعها: أي جعلها أقطاعا له، فقال: أرأيتم أمرا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة: أي بقوله صلى الله عليه وسلم «لا نورث ما تركناه صدقة» ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي صدقة على المسلمين. وطلب الصلح كان بعد أن أرادت غطفان وسيدهم عيينة بن حصن أن يعينوا أهل خيبر، أي وكانوا أربعة آلاف، فإن يهود خيبر لما سمعوا بمجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهودة بن قيس في أربعة عشر رجلا إلى غطفان ليستمدوا بهم، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن غلبوا على المسلمين، فجمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر.
أي ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم أن لا يعينوهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم، أي وهو نصف ثمارها فأبوا وقالوا جيراننا وحلفاؤنا، فلما ساروا قليلا سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوه القوم: أي ظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم، أي فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا على الصعب والذلول: أي مسرعين على أعقابهم فأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر، أي وفي رواية سمعوا صوتا: أيها الناس أهليكم خولفتم إليهم، فرجعوا فلم يروا لذلك نبأ.
ويدل للثاني أن غطفان لما قدموا صلى الله عليه وسلم خيبر، قال عيينة بن حصن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجده صلى الله عليه وسلم فتح حصونها: أعطنا الذي وعدتنا.
وفي رواية: أعطني مما غنمت من حلفائي، فإني امتنعت عنك وعن قتالك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفذك إلى أهلك ولكن لك ذو الرقيبة»، قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال الجبل الذي رأيت في منامك أنك أخذته.
أي فإن عيينة بن حصن لما سمع الصوت ورجع إلى أهله ولم يجد شيئا رجع بعد ذلك بمن معه إلى خيبر وأنهم بالقرب منها عرّسوا من الليل، فنام عيينة وانتبه وقال لقومه: أبشر فإني رأيت الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة وهو جبل بخيبر، لقد والله أخذت برقبة محمد، فلما قدم خيبر وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر الحديث. وقدم عليه صلى الله عليه وسلم حينئذ أيضا حجاج بن علاط السلمي وأسلم، والعلاط:
وسم في العنق، وهو أبو نصر بن حجاج الذي نفاه عمر رضي الله عنه لما سمع أم الحجاج بن يوسف الثقفي تهتف به وتقول الأبيات التي منها:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها *** أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

ومن ثم قال عروة بن الزبير يوما للحجاج: يا بن المتمنية يعيره بذلك، وكان الحجاج مكثرا من المال، فقال: يا رسول الله إن مالي عند امرأتي بمكة ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي فلا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا بد لي من أن أقول: أي أتقول وأذكر ما هو خلاف الواقع: أي ما أحتال به لما يوصل إلى أخذ مالي، قال: «قل»، قال: فخرجت حتى انتهيت إلى الحرم، فإذا رجال من قريش يتشممون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى خيبر: أي أهل القوة والمنعة بعد ما وقع بينهم من المراهنة على مائة بعير في أن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب أهل خيبر أولا، فقال حويطب بن عبد العزى وجماعة بالأول، وقال عباس بن مرداس وجماعة بالثاني، فقالوا: حجاج عنده والله الخبر، ولم يكونوا علموا بإسلامي: يا حجاج إنه قد بلغنا أن القاطع يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، فقلت: عندي من الخبر ما يسركم، فاجتمعوا عليّ يقولون: إيه يا حجاج؟ فقلت لهم: لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتل غير أهل خيبر، فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فنقلته بين أظهرهم.
وفي لفظ: يقتلونه بمن كان أصاب من رجالهم، فصاحوا وقالوا لأهل مكة: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال حجاج: وقلت لهم أعينوني على غرمائي، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هناك، فجمعوا لي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكة من المسلمين، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فجعل لا يستطيع أن يقوم، ثم بعث إلى حجاج غلاما وقال: قل له: يقول لك العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقا، فقال له حجاج: اقرىء على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام، فقال: أبشر أبا الفضل، فوثب العباس فرحا كأن لم يمسه شيء وأخبره بذلك فأعتقه العباس رضي الله تعالى عنه وقال: لله عليّ عتق عشر رقاب.
فلما كان ظهرا جاءه حجاج فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام، أي وقال إني أخشى الطلب، فإذا مضت ثلاث، فأظهر أمرك، فوافقه العباس على ذلك فقال: إني قد أسلمت، وإن لي مالا عند امرأتي ودينا على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوه إليّ، إني تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وجرت سهام الله وسهام رسوله فيها، وتركته عروسا بابنة ملكهم حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق.
فلما أمسى حجاج خرج وطالت على العباس تلك الليالي الثلاث، فلما مضى حجاج أي ومضت الثلاث عمد العباس رضي الله عنه إلى حلة فلبسها، وتخلق بخلوق وأخذ بيده قضيبا، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذ مرّ بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل، هذا والله التجلد بحرّ المصيبة، قال: كلا الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني حجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله وسهام رسول الله، واصطفى رسول الله صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب لنفسه، وأنه تركه عروسا بها، أي وإنما قال ذلك لكم ليخلص ماله، وإلا فهو ممن أسلم، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، فقال المشركون: ألا يا عباد الله انفلت عدو الله، يعنون حجاجا، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا إن جاءهم الخبر بذلك هذا.
وفي الدلائل للبيهقي رحمه الله: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال حجاج بن علاط: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا. وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء، فقال لامرأته حين قدم: أخفي عليّ، واجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، وأصيبت أموالهم، ففشا ذلك بمكة، فاشتد ذلك على المسلمين، وأظهر المشركون فرحا وسرورا، وبلغ العباس رضي الله تعالى عنه الخبر، فقعد وجعل لا يستطيع أن يقوم، فأرسل العباس رضي الله تعالى عنه غلاما له إلى الحجاج: ويلك ما تقول فالذي وعد الله خير مما جثت به، فقال حجاج: يا غلام اقرىء أبا الفضل السلام، وقل له: فليخل بي في بعض بيوته فآته بالخبر على ما يسره. فلما بلغ العبد باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباس فرحا حتى قبل ما بين عينيه، فأخبره بقول حجاج فأعتقه. ثم جاء حجاج، فأخبره بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم، وأن سهام الله قد جرت فيها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية بنت حيي لنفسه، وخيرها بين أن يعقتها وتكون له زوجة أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون له زوجة، ولكن جئت لمالي هاهنا أن أجمعه وأذهب به، وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول، فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف عليّ يا أبا الفضل ثلاثا ثم اذكر ما شئت. قال: فجمعت له امرأته متاعه، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس رضي الله تعالى عنه امرأة حجاج فقال: ما فعل زوجك؟ قالت: ذهب، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل، لقد شقّ علينا الذي بلغك، فقال: أجل، لا يحزنني الله، فلم يكن لمحمد إلا ما أحب، فتح الله على يد رسوله خيبر، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقا، قال: فإني والله صادق، والأمر على ما أقول. ثم ذهب حتى أتى مجلس قريش الحديث.
قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كان التمر أخضر، فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «برّدوا لها الماء في الشنان»: أي القرب، ثم صبوا عليكم منه بين أذاني الفجر، واذكروا اسم الله عليه، ففعلوا، فذهبت عنهم.
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أصابتني ضربة يوم خيبر، قال الناس: أصيب سلمة بن الأكوع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها ساعة.
وفي هذه الغزوة أراد صلى الله عليه وسلم أن يتبرز، فقال لابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يا عبد الله انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت فإذا شجرة واحدة فأخبرته، فقال لي: انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت شجرة أخرى متباعدة من صاحبتها، فأخبرته، فقال: قل لهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا، فقلت لهما ذلك فاجتمعا، فاستتر بهما، ثم قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها.
وفي الإمتاع عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطىء الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله تعالى، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها. فقال: انقادي عليّ بإذن الله تعالى، فانقادت معه كذلك، حتى كان صلى الله عليه وسلم بالنصف مما بينهما ولأم بينهما، وقال التئما، عليّ بإذن الله تعالى فالتأمتا، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فخلوت أحدّث نفسي، فحانت مني التفاتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا وذهبت كل واحدة إلى محلها الحديث، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ووقع له صلى الله عليه وسلم مجيء بعض الشجر إليه قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه، وقولهم له: تضلل آباءك وأجدادك يا محمد، ومن خضبهم له بالدماء، فقال: يا رب أرني اليوم آية اطمئن إليها ولا أبالي بمن آذاني بعدها، وكان ذلك الوادي به شجرة، فأمر أن يدعو شجرة من تلك الشجر. وفي لفظ: غصنا من أغصان شجرة فدعا ذلك فانتزع من مكانه وجاء إليه وسلم عليه، ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالعود فعاد إلى مكانه، فحمد الله وطابت نفسه، وعلم أنه على الحق وقال: لا أبالي بمن آذاني بعد هذا من قومي.
أقول: ووقع له صلى الله عليه وسلم إجابة الحجر. فعن تفسير الفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلم كان مع عكرمة بن أبي جهل بشط ماء، فقال عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر، لحجر كان في الجانب الآخر يسبح في الماء ويجيء إليك ولا يغرق، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم، فانقلع ذلك الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعكرمة: يكفيك هذا، فقال حتى يرجع إلى مكانه، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فرجع إليه مكانه، ولم يسلم عكرمة في ذلك الوقت، وإنما أسلم يوم فتح مكة، والله أعلم.
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة أمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي من كان مضيعا أو ضعيفا أو مصعبا، أي راكبا دابة صعبة فليرجع، فرجع ناس، وارتحل مع القوم رجل على بكر صعب أو ناقة صعبة، فنفر مركوبة فصرعه، فاندقت فخده، فمات، فلما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما شأن صاحبكم؟ فأخبروه، قال: يا بلال ما كنت أذنت في الناس من كان مصعبا: أي راكبا دابة صعبة فليرجع، قال: بلى، فأبى صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، وأمر صلى الله عليه وسلم بلالا فنادي في الناس: الجنة لا تحلّ لعاص ثلاثا، وفيها مات شخص من الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم»، وامتنع من الصلاة عليه، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
وفيها أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من المسلمين: «هذا من أهل النار»، فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا أشدّ القتال، فارتاب بعض الصحابة: أي كيف يكون من أهل النار مع هذه المقاتلة الشديدة، فلما كثرت الجراحات في ذلك الرجل ووجد ألمها أخرج سهما من كنانته ونحر نفسه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا بلال فأذن «لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» الحديث.
وفي رواية «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وتقدّم في غزوة أحد مثل ذلك. ولا بعد في التعدد إن لم يكن من الاشتباه على الراوي.
أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي: لما فتحت خيبر واطمأن الناس جعلت زينب ابنة الحارث أخي مرحب، وهي امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحبّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون الذراع، قيل: وإنما أحبّ صلى الله عليه وسلم الذراع لأنه هادي الشاة وأبعدها من الأذى، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يلبث أن يقتل من ساعته فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فلما غابت الشمس وصلى صلى الله عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله، فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها صلى الله عليه وسلم فأخذت منها فوضعت بين يديه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حضور أو من حضر منهم، وفيهم بشر بن البراء بن معرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادنوا فقعدوا»، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهش منه، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة ازدرد بشر ما في فيه وأكل القوم منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع أو الكتف تخبرني أنها مسمومة» فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي، أي لقمتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدردتها، فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان أي أسود، وماطله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حول ثم مات.
وقال بعضهم: فلم يقم بشر من مكانه حتى توفي. أي والمتبادر من المكان مكان الأكل، وربما يدل له عدم ذكر بشر في الحجامة، وطرح منها لكلب فمات اهـ، أي فلم يأكل إلا بشر رضي الله تعالى عنه.
وحينئذ يكون المراد بقوله: وأكل القوم منها: أي أرادوا الأكل، أي ووضعوا أيديهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «ارفعوا أيديكم» ويدل له ما يأتي عن الإمتاع. وفي الأصل أنها أهدتها لصفية رضي الله تعالى عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور فقدمت إليهما تلك الشاة، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف، وفي رواية الذراع، فانتهش منه قطعة فلاكها ثم ألقاها: أي ولم يبتلعها، أي وانتهش من الشاة بشر قطعة فابتلعها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناول شيء منها وقال إن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها، فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك فيما أكلته، فما منعني من لفظه إلا أني أعظمت أن أنغصك طعاما، فلم يقم بشر رضي الله تعالى عنه من مكانه حتى كان لا يتحول إلا إن حوّل، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله رحمه الله:

وأحييت عضو الشاة بعد مماتها *** فجاء بنطق موضح للنصيحة
وقال رسول الله لا تك آكلي *** فزينب سامتني الهوان وسمّت

وهذا يؤيد القول بأن كلام نحو الجماد يكون بعد أن يخلق الله فيه الحياة.
ومذهب الأشعري رحمه الله أن الله يخلق في نحو الجماد حروفا وصوتا يحدث ذلك فيه، أي وليس من لازم ذلك وجود الحياة.
واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله، أي حجمه أبو طيبة مولى بني بياضة وقيل أبو هند وهو مولى بني بياضة أيضا، أي وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم أي وهم كما في الإمتاع ثلاثة نفر، وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا. وفيه أنه لا معنى لاحتجام أصحابه إذا لم يأكلوا شيئا، ومن ثم قال في سفر السعادة:
واحتجم صلى الله عليه وسلم بين الكتفين في ثلاثة مواضع، وأمر من أكل أي من أراد أن يأكل معه بذلك، إلا أن يقال مجرد وضع اليد ربما سري بسببه السم إلى باقي الجسد، وقال صلى الله عليه وسلم «الحجامة في الرأس هي المعينة، أمرني بها جبريل عليه السلام حين أكلت طعام اليهودية» .
وقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذه الواقعة مرارا في محالّ مختلفة، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم احتجم على الأخدعين مرتين، واحتجم وسط رأسه الشريف، وكان يسميها منقذة أي وذلك لما سحر.
ففي «سفر السعادة» : لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة النبوية أمر صلى الله عليه وسلم بالحجامة على قبة رأسه المباركة. واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة، ومن لاحظ له في الدين والإيمان يستشكل هذا العلاج هذا كلامه.
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس وهو يحتجم في القمحذوة، فقال: يا بن أبي كبشة لم احتجمت وسط رأسك؟ فقال: يا ابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والجنون، أي وفي الحديث «الحجامة في الرأس شفاء من سبع: من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس وظلمة يجدها في عينيه» وفي الحديث «اجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد» وفي بعض الروايات «يوم الأحد شفاء» ويحتاج للجمع.
وجاء النهي عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي، وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم» وفي حديث بعض رواته واهي الحديث «احتجم صلى الله عليه وسلم ثلاثا في النقرة والكاهل وسط الرأس، وسمى واحدة الدافعة والأخرى المعينة والأخرى المنقذة» وقال صلى الله عليه وسلم «خير ما تداويتم به الحجامة، وما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة» .
قال في الهدى: والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد. والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء، والحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء» .
وتكره في الأربعاء والسبت، قيل ويوم الجمعة. وفي الحديث «من احتجم يوم الأربعاء أو السبت وحصل له برص لا يلومنّ إلا نفسه» وجاء أمره صلى الله عليه وسلم باجتناب الحجامة يوم الأربعاء فإنه اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه السلام بالبلاء، وما يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وليلة الأربعاء.
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك اليهودية فقال: «أسممت هذه الشاة؟» فقالت: من أخبرك؟ قال: «أخبرتني هذه التي في يدي وهي الذراع»، قالت: نعم، قال: «ما حملك على ما صنعت؟» قالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك. أي وفي لفظ: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:

ثم سمت له اليهودية الشا *** ة وكم سام الشقوة الأشقياء
فأذاع الذراع ما فيه من سم *** بنطق إخفاؤه إبداء
وبخلق من النبي كريم *** لم تقاصص بجرحها العجماء

أي ثم جعلت اليهودية السم القاتل لوقته في الشاة، ومرات كثيرة يطلب الشقوة ويتحلى بها الأشقياء الذين لا خلاق لهم، فأخبر ذلك الذراع النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بما فيه من السم، إخفاء ذلك النطق عن الحاضرين إبداء وإظهار له صلى الله عليه وسلم، وبسبب ما تحلى به صلى الله عليه وسلم من كمال الحلم والعفو لم يقاصص تلك المرأة بجرحها، أي بجرح سمها، لأن السم يجرح الباطن كما يجرح الحديد الظاهر.
فلما مات بشر رضي الله تعالى عنه أمر بها فقتلت، أي وقيل وصلبت كما في أبي داود وعبارة السهيلي رحمه الله: وقد روى أبو داود أنه قتلها، ووقع في كتاب «شرف المصطفى» أنه قتلها وصلبها هذا كلامه. وقيل إنما تركها لأنها أسلمت، فالعفو عنها: أي عدم مؤاخذتها كان قبل أن يموت بشر رضي الله تعالى عنه، فلما مات بشر دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر فقتلوها.
وفي الإمتاع: واختلفت الآثار في قتلها، ففي صحيح مسلم أنه لم يقتلها، وقال ابن إسحاق أجمع أهل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها، وقد علمت أنه لا مخالفة، لكن قتلها مشكل على ما عليه أئمتنا معاشر الشافعية من أن من ضيف بمسموم يقتل غالبا مميزا فمات كان شبه عمد لا قود فيه.
وفي كلام بعضهم أنها قالت: قد استبان لي الآن أنك صادق، وأني أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فانصرف عنها حين أسلمت، كذا في جامع معمر عن الزهري أنها أسلمت، قال معمر: هكذا قال الزهري إنها أسلمت والناس يقولون قتلها وإنها لم تسلم، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلك الشاة فأحرقت.
وفي رواية أنه بعد سؤال اليهودية واعترافها بسط صلى الله عليه وسلم يده إلى الشاة، وقال لأصحابه: كلوا باسم الله، فأكلوا وقد سموا الله فلم يضر ذلك أحدا منهم، قال ابن كثير: وفيه نكارة وغرابة شديدة، هذا كلامه.
ويذكر أن أخت بشر بن البراء دخلت عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، فقال لها: «هذا أوان انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر» والأبهر: العرق المتعلق بالقلب.
وقد قسم صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر؛ فأعطى الراجل سهما، والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء؛ ومن جملة من أعطاه صلى الله عليه وسلم أبو سبيعة بن المطلب بن عبد مناف واسمه علقمة، ولم يقسم صلى الله عليه وسلم لمن غاب من أهل الحديبية إلا لجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما. ورضخ صلى الله عليه وسلم للنساء، أي وكن عشرين امرأة، فيهن صفية عمته صلى الله عليه وسلم وأم سليم وأم عطية الأنصارية.
وعن بعضهم قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقلت: يا رسول الله قد أردنا الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا، فقال: «على بركة الله»، قالت فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضخ لنا وأخذ هذه القلادة ووضعها في عنقي، فو الله لا تفارقني أبدا، وأوصت أنها تدفن معها . زاد في السيرة الهشامية أنها قالت: وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: فلما كان الصبح وأناخ راحلته ونزلت عن حقيبة رحله، وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها. قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حالي قال: «ما لك؟ لعلك نفست»، قالت: قلت نعم، قال: «فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمرتحلك» قالت: فكنت لا أطهر من حيضة إلا جعلت في طهري ملحا، وأوصت أن يجعل ذلك في غسلها حين ماتت.
ثم دفع صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر الأرض لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: نحن أعلم بها منكم، وأعمرها بشرط ما يخرج منها من تمر أو زرع، وقال لهم: على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. أي وهذا يخاف ما عليه أئمتنا من أنه لا يجوز في عقد الجزية أن يقول الإمام أو نائبه: أقركم ما شئنا، بخلاف ما شئتم، لأنه تصريح بمقتضى العقد، لأن لهم نبذ العقد شاؤوا. وذكر أئمتنا أنه يجوز منه صلى الله عليه وسلم لا منا أن يقول:
أقررتكم ما شاء الله لأنه يعلم مشيئة الله دوننا، والشطر في هذا ظاهر في النصف، ولم أقف على تعيينه في رواية.
وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خارصا. قيل وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا؛ ثم مات، وهذا يخالفه قول بعضهم: كان عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه يأتيهم كل عام يخرصها يعني الثمار عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لقد جئتم من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، وكان يخرص عليهم بعده جبار بن صخر، وكان خارصا لأهل المدينة.
أقول: أي ساقاهم على النخل، وزارعهم على الأرض، هكذا استدل بذلك أئمتنا على ما ذكر: أي على جواز المساقاة، وجواز المزارعة تبعا لها، ويكون ذلك مخصصا للنهي عن المزارعة: أي ما لم تكن تبعا للمساقاة، وهو لا يتم إلا إن كانت أرض خيبر جميعها بين النخل بحيث يعسر سقيها بدون النخل، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذرا لأن في المزارعة يجب أن يكون البذر من المالك لا من العامل.
ولم أقف في شيء من الطرق على أنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذرا، بل ظاهر الروايات يدل على أن البذر معهم، وصرحت به رواية مسلم.
ويبعد أن تكون أراضي خيبر كلها كانت بين النخل بحيث يغسر سقيها بدون النخل، وحينئذ يكون الواقع في خيبر إنما هي المخابرة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل، وهي باطلة عندنا، بل قيل عند المذاهب الأربعة ولو تبعا للمساقاة، والله أعلم.
ثم إن الصديق رضي الله تعالى عنه أقرهم بعده صلى الله عليه وسلم، ثم أقرهم عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن خرج ولده عبد الله رضي الله تعالى عنهما في خلافة أبيه إلى خيبر، فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، فقام عمر رضي الله تعالى عنه خطيبا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل أهل خيبر على أموالهم: أي أرضهم ونخلهم، وقال لهم نقركم على ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ما له هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوّ غيرهم. وقد رأيت إجلاءهم أي ووافقه الصحابة على ذلك، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قام خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن يهود فعلوا بعبد الله بن عمر ما فعلوا، وفعلوا بمطهر بن رافع ما فعلوا مع عدوانهم على عبد الله بن سهيل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشك أنهم أصحابه، وأنا أريد أن أجلوا يهود، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقركم ما أقركم الله، وقد أذن الله في إجلائهم، فقام طلحة بن عبيد الله، فقال: قد والله أحسنت يا أمير المؤمنين ووفقت، فهم أهل سوء، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال المهاجرون جميعا والأنصار، فسرّ بذلك عمر رضي الله تعالى عنه.
وقوله وفعلوا بمطهر ما فعلوا، أي لأن مطهر بن رافع قدم خيبر بأعلاج من الشام عشرة عبيد له ليعملوا له بأرضه، فأقام بخيبر ثلاثة أيام، فقال لهم رجل من يهود: أنتم نصارى ونحن يهود، وهذا سيدكم من قوم عرب قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال وهو رجل واحد يسوقكم إلى الجهد والبؤس وتكونون في رق شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه، فقالوا له: ليس معنا سلاح، فدست اليهود لهم سكينتين أو ثلاثة، فلما خرجوا من خيبر أقبلوا على مطهر بسكاكينهم، فخرج مطهر يعدو إلى سيفه، وكان في قرابه على راحلته، فأدركوه قبل الوصول إليه وبعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعا حتى دخلوا خيبر على يهود فآووهم وزودوهم إلى الشام، وجاء عمر رضي الله تعالى عنه الخبر بقتل مطهر وما صنعت به يهود.
وقوله مع عدوانهم على عبد الله بن سهيل، أي فإنه وجد قتيلا في خيبر لأهل حصن الشق، فسألهم أخوه محيصة، فقالوا له: لا والله ما لنا به من علم، قال: فجئت أنا وأخي عبد الرحمن وأخي حويصة وهو أكبرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أخي عبد الرحمن يتكلم وهو أصغرنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبر كبر فسكت»، فأردت أن أتكلم، فقال: «كبر كبر فسكت»، فتكلم أخي حويصة، وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا بحرب»، وكتب صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، وكتبوا إليه: ما قتلناه، فقال صلى الله عليه وسلم لي ولأخوي: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟» فقلنا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، قال: «فتحلف لكم يهود؟» قلنا: يا رسول الله ليسوا بمسلمين، فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده بمائة ناقة: خمس وعشرين جذعة وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين ابنة لبون، وخمس وعشرين بنت مخاض.
وعن ابن المسيب رحمه الله: كانت القسامة في الجاهلية، ثم أقرها صلى الله عليه وسلم في الإسلام في الأنصاري الذي وجد قتيلا في جبّ من جباب يهود، فلما أجمع الصحابة على ذلك: أي على ما أراده سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، جاءه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على أموالنا وشرط ذلك لنا؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لك «كيف بك إذا أخرجت من خيبر يعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟» فقال: هذه كانت هزيلة من أبي القاسم، فقال كذبت يا عدو الله، ثم بلغه رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» وقوله «لأخرجن اليهود والنصارى» وفي لفظ «المشركين من جزيرة العرب» وفي رواية «آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا اليهود من الحجاز» وفي لفظ «إن عشت أخرجت اليهود والنصارى من الحجاز» أي وهو مكة والمدينة واليمامة وطرقها وقراها كالطائف لمكة، وخيبر للمدينة، والمراد بجزيرة العرب الحجاز المشتملة عليه، أي فالمراد بجزيرة العرب بعضها وهو الحجاز خاصة، لأن عمر لما أجلاهم ذهب بعضهم إلى تيما، وبعضهم إلى أريحا، وتيما من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز، وقيل له حجاز لأنه حجز بين نجد وتهامة. ففحص عمر رضي الله تعالى عنه عن ذلك حتى تيقنه وثلج صدره فأجلى يهود خيبر، أي وأعطاهم قيمة ما كان لهم من ثمر وغيره.
وأجلى يهود فدك ونصارى نجران، فلا يجوز إقامتهم بذلك أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولم يخرج يهود وادي القرى وتيما لأنهما من أرض الشام لا من الحجاز.
ثم ركب في المهاجرين والأنصار، وخرج معه جبار بن صخر ويزيد بن ثابت فقسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها كما قسمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر أصاب حمارا أسود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك؟» قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدّي ستين حمارا كلهم لا يركبهم إلا نبي، وقد كنت أتوقعك لتركبني لم يبق من نسل جدي غيري، ولم يبق من الأنبياء غيرك، قد كنت لرجل يهودي فكنت أتعثر به عمدا، وكان يجيع بطني ويضر بظهري، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فأنت يعفور»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى نفسه في بئر جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات: قال ابن حبان: هذا خبر لا أصل له وإسناده ليس بشيء. وقال ابن الجوزي: لعن الله واضعه فإنه لم يقصد إلا القدح في الإسلام والاستهزاء به. وقد قال شيخنا العماد بن كثير هذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف، وسألت شيخنا المزي رحمه الله فقال: ليس له أصل وهو ضحكة، وقد أودعه كتبهم جماعة منهم القاضي عياض في الشفاء والسهيلي في روضه، وكان الأولى ترك ذكره، ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغفر لنا وله وللمسلمين.