8 هـ
629 م
غزوة حنين

هوازن قبيلة عربية مشهورة من عرب الشمال، فهي مضرية عدنانية تفرعت منها فروع كثيرة منها ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة …

الطائف الحصينة وما حولها، في حين انتشرت بطون هوازن الأخرى في تهامة على ساحل البحر الأحمر من حدود بلاد الشام الجنوبية إلى حدود اليمن الشمالية.
وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية منها سوق عكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها سوق ذي المجاز قرب عرفت على بعد فرسخ منها من جهة الطائف، وسوق مَجَنَّة بمر الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة.
ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضراوات. أو في رقيهم الأدبي وتفتح مداركهم حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة، وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى.
وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكاً وثيقاً بحكم الجوار. فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما تسعون كيلا فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سميت الطائف “بستان قريش”، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن من صلات نسبية قديمة توثقها المصاهرات المتجددة فكلاهما من مضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش تبعاً لاختلاف النسابين.

وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبيلتين. ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولا لقريش إلى المسلمين في الحديبية.
فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإسلام بعد فتح مكة لتملأ الفراغ إثر سقوط زعامة قريش لمعسكر الشرك في الجزيرة العربية.
فمنذ أن لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يظهروا العداء الصريح وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة .. إن قريشا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية إسلام ثقيف، لمكانتها العسكرية والاقتصادية، ولعلاقاتها الوثيقة بقريش، وقد سعى إلى دعوة زعمائها للإسلام حتى بعد إخفاق رحلته إلى ثقيف، فالتقى بالعقبة وهو يعرض نفسه على زعماء القبائل بابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبه إلى الإسلام مما أهمَّه حتى انطلق بعيدا عن مكة لا يتعرف في طريقه إلى داره لفرط الهم.

وقد وقفت هوازن بعيدا عن الصراع الذي احتدم بين قريش والمسلمين بعد الهجرة، ولعلها كانت تظن أن قريشا تكفيها، وظلت ترقب المعارك في بدر وأحد والخندق دون أن تحرك ساكنا، بل إن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقنعها بالرجوع عن المشاركة ببدر ما دامت تجاراتها قد سلمت . وكان عروة بن مسعود الثقفي يطلب من قريش قبول الخطة التي عرضها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية. ولكن هذه المواقف الفردية تعبر عن حكمة بعض الثقفيين فقط، ولا تعبر عن موقف مسالم لثقيف وهوازن.
ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فتح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإسلامية. وليس معنى ذلك أن هوازن لم تشعر قط بخطر المسلمين قبيل فتح مكة، فقد كان موقف قريش مشعرا بضعفها أمام المسلمين منذ اعترافها بهم ومعاهدتها معهم في الحديبية، واستمر موقفها يضعف مع الأيام ويعلو صوت الإسلام، وكانت معنوية قريش ضعيفة وقت فتح مكة، فلا شك أن جيرانها الثقفيين كانوا على قدر من الوعي بذلك، وكان بعض رجالهم قريبا من الأحداث، ولعل عدم نجدة هوازن وثقيف لقريش يرجع إلى نجاح المسلمين في كتمان هدف تحركهم. كما كانت هوازن تخشى على ديارها منهم، لذلك لم تبادر للدفاع عن مكة، ويشير الواقدي إلى أنهم أرسلوا عينا لهم لمعرفة إن كان المسلمون سيتوجهون إلى قريش أم هوازن، بل إن هوازن اتخذت موقف الاستعداد للمواجهة بجمع جموعها منذ أن تحرك المسلمون من المدينة، وقد تصورت أنها المقصودة. وأعان على هذا التصور غموض موقف المسلمين من مصير صلح الحديبية.

فلما فتحت مكة وسقطت الزعامة القريشية، حملت هوازن راية الشرك، وتحركت بسرعة لمواجهة الموقف خاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوقف نشاط المسلمين العسكري بعد الفتح، بل أرسل السرايا منها سرية بقيادة خالد بن الوليد بثلاثين فارسا نحو نخلة لهدم العزى فهدمها ، وكانت بيتاً تعظمه العرب وهي من ديار ثقيف. وكان ذلك لخمس ليال بقين من رمضان كما أرسل سعد بن يزيد الأشهلي في عشرين فارسا لست بقين من شهر رمضان إلى مناة بالمشلَّل – وهي القديدية الآن- وكان صنماً يعظمه العرب وخاصة الأنصار قبل إسلامهم، فهدمه سعد الأشهلي، وعاد إلى مكة، وقيل إن علياً رضي الله عنه هو الذي هدم مناة أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى مكة قبل الفتح. والروايتان ضعيفتان من الناحية الحديثية فابن سعد ساقها دون إسناد ومصدره فيما يبدو شيخه الواقدي وهو ضعيف، وابن الكلبي ضعيف، وثمة رواية تفيد أن أبا سفيان بن حرب هو الذي تولى هدمها، وليست بأقوى من الروايتين . ولكن لا شك أن مناة قد هدمت فهذا الذي يثبت تاريخيا، وليس الحديث كالتاريخ من حيث الحاجة إلى قوة الأدلة.
وكذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد في شهر شوال من سنة ثمان للهجرة تضم ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار إلى بني جذيمة في يلملم جنوب مكة بثلاثين كيلا، داعيا لهم إلى الإسلام، فلما وصلهم دعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فقتل منهم وأسر، ثم أمر بعد حين بقتل الأسرى، وقد توقف عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وبعض الصحابة عن قتل الأسرى، حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم الذي تبرأ مما صنع خالد مرتين .

لقد تأول خالد بن الوليد قولهم “صبأنا” بأنهم لا يريدون إعلان إسلامهم أو أنهم ينتقصون الإسلام بذلك فلم يحقن دماءهم ، ورأى عبد الرحمن بن عوف وعبد الله أنهم عبروا عن إسلامهم بما يعرفون، ولم تكن المصطلحات الشرعية قد اتضحت لسائر العرب آنذاك، لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تبرأ من فعل خالد لعجلته وعدم تثبته فإنه لم يعاقبه ولم يعزله عن إمارة جنده، إذ أنه اجتهد فأخطأ.
وتقول رواية لا تصلح للاحتجاج بها لانقطاعها أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع ديات القتلى جميعا وزادهم فيها تطييبا لنفوسهم وبراءة من دمائهم .

وهذا يتفق مع أحكام الإسلام في قتل الخطأ، ولو اعتمدنا على الرواية المنقطعة فينبغي أن نقبلها جميعا وفيها أن خالد بن الوليد لما وصل بني جذيمة حملوا السلاح فأمرهم بإلقائه وذكرهم بأن الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح فكتفهم وقتل العديد منهم. وقد ساق هذه الرواية ابن إسحق وساق روايات أخرى تفيد أن عمل خالد كان ثأراً لعمه الفاكه بن المغيرة الذي قتلته بنو جذيمة في الجاهلية وقد عقب ابن كثير على روايات ابن إسحق بقوله: “وهذه مرسلات ومنقطعات” أي لا تقوم بها حجة . إن أعظم ما يبريء ساحة خالد ويفيد أنه اجتهد فأخطأ هو عدم معاقبة الرسول صلى الله عليه وسلم له واكتفاؤه بالبراءة من عمله.

وعلى أية حال فإن اثنتين من سرايا المسلمين كانت في ديار هوازن وثقيف. ولم تكن هذه السرايا لتخفى على هوازن التي بدأت تحشد قواها في حنين بعد نصف شهر فقط من فتح مكة لمواجهة المسلمين. وقد عزمت على مهاجمة المسلمين قبل أن يهاجموها، ومما يدل على أنهم أرادوها موقعة فاصلة حشدُهُم للأموال والنساء والأبناء، حتى لا يفر أحد دون ماله وأهله. وكان يقودهم مالك بن عوف النصري وقد انضمت إلى هوازن بعض القبائل الأخرى من غطفان وغيرها ، وتخلف عنه من هوازن كعب وكلاب.
ويلاحظ أن مالك بن عوف رتب قومه بشكل صفوف حسنة، وقد الخيل ثم الرجالة ثم النساء ثم الغنم ثم الإبل. وكان مالك النصري في الثلاثين من عمره، وقد عرف بالشجاعة وحسن البلاء في القتال، وقد وردت روايات تبين أن دريد بن الصَّمة أنكر على مالك النصري الخروج بالنساء والأطفال والأموال لأن المنهزم لا يرده شئ- في رأيه- لكن مالك النصري لم يعمل برأيه .
وقد انفرد الواقدي بتقدير عدد جيش هوازن فذكر انهم عشرون ألفا .
وقد مال الحافظ ابن حجر إلى قبول هذا التقدير فقال إنهم كانوا ضعف عدد المسلمين وأكثر.

وقدر أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حدرد الأسلمي للتعرف على أمرهم فمكث فيهم يوماً أو يومين ثم عاد إلى المسلمين بخبرهم. فأخذ المسلمون أهبتهم واستعدوا لمواجهتهم.
واستعار النبي صلى الله عليه وسلم مائة درع من صفوان بن أمية ، وكان لا يزال على الشرك، وقد سأله صفوان إن كان يأخذها غصباً أم عارية؟ فأخبره أنها عارية، وقد أعادها إليه بعد غزوة حنين شاكرا له صنيعه. وقد أورد عبد البر روايات دون أسانيد تذكر أنه صلى الله عليه وسلم استقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، وقبل عون نوفل بن الحارث بن عبد المطلب له بثلاثة آلاف رمح. ولا مانع من استعانته بهما إذ ثبت أنه استعان بصفوان وهو مشرك.
وخاصة أن كيان الإسلام كان راسخا وأن صبغة المعركة الإسلامية لا يؤثر فيها قبول معونة من سواهم ما دامت لا تفرض عليهم شروطا تخل بالتزاماتهم العقدية.
ولم يطل استعداد المسلمين فإن الجيش الذي فتح مكة لم يلق من الجهد والقتال سوى مناوشات يسيرة في الخندمة، فكان على استعداد لمواجهة هوازن، وخلال أيام تحرك المسلمون باتجاه حنين في اليوم الخامس من شوال – وقد مضى على مقامه بمكة بعد الفتح خمس عشرة ليلة وكان فتحها في التاسع عشر من رمضان- ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال . ويبدو من ذلك أنهم كلما اقتربوا من حنين ساروا ببطء وحذر فإنها لا تبعد عن مكة سوى عشرين كيلا شرقي مكة وتعرف الآن بالشرائع . أما في أول خروجهم من مكة فقط مضوا مسرعين . وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد أميرا على مكة عند خروجه . وكان عدد جيش المسلمين كبيرا إذا قورن بسائر الغزوات السابقة فقد انضم إلى الجيش الذي فتح مكة -وعدده عشرة آلاف مقاتل – ألفان من أهل مكة من مسلمة الفتح الذين سموا بالطلقاء، حيث أجمعت الروايات على ذلك رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية في عدد الطلقاء الذين انضموا إلى الجيش، ولكنها تكفي لاعتمادها تاريخياً. ولذلك تعتبر غزوة حنين أكبر المعارك التي خاضها المسلمون في عصر السيرة ومن أكثرها خطورة.

وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بحراسة جيشه حتى إذا حضرتهم صلاة العشاء وهم قريبون من العدو أمر أحد الصحابة بمراقبة عدوهم من أحد الجبال المطلة على وادي حنين وقد عبر عن ثقته الكبيرة بربه وبنصره عندما أخبره الصحابي بما رأى من جموع هوازن وأموالها بقوله “تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله” ثم تطوع انس بن أبي مرثد الغنوي بحراسة المسلمين حيث ناموا في المكان وأوصاه ألا يغفل عن الحراسة حتى الفجر، وقد أدى أنس مهمته خير أداء فوعده النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

لقد كان لوجود الطلقاء في جيش المسلمين آثار سلبية، فقد كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يتخلصوا من كل الرواسب الجاهلية المستقرة في أعماقهم وحياتهم، حتى إذا رأى بعضهم في الطريق إلى حنين شجرة تعرف بذات أنواط يعلق عليها المشركون أسلحتهم قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال: «سبحان الله، كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من قبلكم».

ولا شك أن طلبهم يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم لكن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك وحذرهم من ذلك، ولم يعاقبهم أو يعنفهم لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام.
ومن تلك الآثار السلبية ما أصاب المسلمين من إعجاب بكثرتهم حتى رد أحدهم ما سيحوزونه من نصر إلى أنهم “لن يغلبوا من قلة”. وعبر عن ذلك جهرة، في حين أصاب هذا الشعور آخرين سواه حتى استحقوا معاتبة القرآن الكريم لهم وتذكيرهم بعدم الاتكال إلا على الله وحده، وإلا وكلهم إلى أنفسهم {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25]. وقد انتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر،فأكد لهم بدعائه افتقاره لربه ولجوءه إليه وحده، فقال: «اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل»، وحكى لهم قصة نبي أعجبته كثرة أمته فسلط الله عليهم الموت . وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب المسلمين ويقِّوم ما يظهر من انحرافات في التصور أو السلوك حتى في أخطر ظروف المواجهة مع خصومه العتاة. لأن النصر معلق بشرط {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] ولكن هل تتم تربية الجموع وإزالة رواسب الجاهلية التي عاشوا فيها أعمارهم بين عشية وضحاها، لقد كان الشعور بالزهو لكثرتهم سبباً لإدبارهم في أول المواجهة، وكان إدبارهم وهول اللقاء قد أعادهم إلى التصور الصحيح والتوكل الخالص فكانت الجولة الثانية خالصة لهم من دون الكفارين.

ومن الآثار السلبية لوجود الطلقاء وبعض الأعراب في جيش المسلمين، أن معظمهم خرجوا للحصوص على الغنائم والنظر لمن تكون الغلبة، فلم يشعروا أنهم يدافعون عن قضية ومبدأ، إذ كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يتذوقوا طعم الإيمان ولا حب الجهاد في سبيل الله وكان منهم المقيم على الكفر -ومنهم بالطبع من كان حسن الإسلام- فلا غرابة أن ينهالوا على الغنائم، في بدء المعركة وينشغلوا بها ويشغلوا سواهم من الجند معهم، ولم يكن مصير المعركة يهم بعضهم كثيراً، فقد عبر أحدهم عن فرحته بإدبار المسلمين في الجولة الأولى، فقال كلدة بن أمية – أخو صفوان بن أمية الجمحي-: ألا بطل السحر اليوم!! فقال له صفوان -وكان مشركاً آنذاك- اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يَرُبَّني رجل من هوازن!!

وقد ذكر موسى بن عقبة أن أبا سفيان وصفوان وحكيم بن حزام وهم زعماء مكة كانوا يقفون في الخطوط الخلفية للمعركة ينظرون لمن يكون النصر!! وذكر عروة بن الزبير أن صفوان بن أمية كان يرسل غلاماً له للتعرف على أخبار القتال!! وذكر ابن إسحق أن أبا سفيان قال عندما رأى إدبار المسلمين في الجولة الأولى: “لا تنتهي هزيمتهم دون البحر” وكان يحمل الأزلام -وهي القداح- التي يستقسم بها في كنانته!! . ورغم أن ما رواه موسى بن عقبة وعروة وابن إسحق لا يصح من الناحية الحديثية لعلة الإرسال فيه، إلا أن الثلاثة أئمة المغازي ورواياتهم تتضافر لتعطي الصورة التاريخية لموقف زعماء مكة وفيهم صفوان المشرك وأبو سفيان مسلم جديد من المؤلفة قلوبهم آنذاك.

المعركة:
سبقت هوازن المسلمين إلى وادي حنين، واختاروا مواقعهم وبثوا كتائبهم في شعابه ومنعطفاته وأشجاره. وكانت خطتهم محكمة تتمثل في مباغتة المسلمين بالسهام أثناء تقدمهم في وادي حنين المنحدر ، وكانت معنويات هوازن عالية فقد أوضح لهم قائدهم مالك النصري ان المسلمين لم يلقوا مثلهم من قبل من حيث معرفتهم بالحرب وشجاعتهم وكثرتهم العددية. وقد تقدم المسلمون في الوادي قبل انبلاج الفجر، تتقدمهم الخيالة بقيادة خالد بن الوليد، وفي طليعتها بنو سليم، ثم بقية الجيش بشكل صفوف منتظمة .

وفي بداية القتال تراجعت طلائع هوازن أمام تقدم المسلمين تاركين بعض الغنائم التي أقبل على جمعها الجند، وكأنهم حسبوا أن هوازن قد هزمت هزيمة نهائية، ولكن هوازن فاجأتهم بالسهام الكثيفة تنهال عليهم من جنبات الوادي، وكان بعض المسلمين قد تعجلوا بالخروج دون استكمال عدة القتال، فكان بعضهم حاسري الرءوس، والبعض الآخر من الشبان لم يحملوا معهم السلاح الكافي  ولم يحسبوا للأمر حسابه، وأمام هول المفاجأة ودقة الرماة من هوازن حتى: “ما يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوه رشقاً ما يكادون يخطئون”  كما وصفهم البراء بن عازب أحد شهود المعركة من الصحابة – فانكشفت خيالة المسلمين ثم المشاة، وفر الطلقاء والأعراب، ثم بقية الجيش، حتى لم يصمد مع الرسول صلى الله عليه وسلم سوى فئة قليلة صمدت بصموده.

لقد استمر القتال في هذه الجولة الأولى من الفجر إلى العشاء ثم طيلة الليل ثم انكشف المسلمون وأدبروا، وكان الحر خلال النهار شديداً فكان المسلمون يأوون قبل المعركة إلى ظلال الأشجار في النهار، أما في وقت المعركة فكانوا معرضين للشمس الملتهبة، وكانت الأرض رملية فكان الغبار يرتفع في وجوههم، فيحد من قدرة المقاتلين على الرؤية كما عبر أحدهم: “فما منا أحد يبصر كفَّه” . في حين استفادت هوازن من كمائنها في المنعطفات والشعاب.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يركب بغلته دلدل رغم امتلاكه للخيل وبذلك يرسخ في أذهان المسلمين فكرة الصمود، فالبغلة لا تصلح للكر والفر ولا للإدبار خلافاً للخيل، وكان الرسول ينظر إلى إدبار المسلمين ويدعوهم للثبات وهو يدفع بغلته للأمام ويقول:«أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»والعباس عمه وأبو سفيان بن الحارث يمسكان بعنان بغلته لئلا تسرع به خلال العدو، وقد تراجع قليل من المسلمين يسيراً، في حين ابتعد معظمهم عن الميدان مدبرين ولم يصمد معه سوى عشرة أو اثني عشر من الصحابة كانوا يحيطون به فيهم العباس وأبو سفيان بن الحارث وأبو بكر وعمر وعلي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس – وكان جهوري الصوت – فنادى الناس للعودة ثم خص الأنصار وأصحاب الشجرة بالنداء ثم خص بني الحارث بن الخزرج بالنداء فتلاحقوا نحوه حتى صاروا ثمانين أو مائة، فقاتلوا هوازن، وبدأوا جولة جديدة مليئة بالشجاعة والصدق والعزيمة والإيمان وحسن التوكل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويسأله النصر، يقول:«إنك إن تشأ لا تبعد بعد اليوم». حتى إذا غشيه الأعداء نزل عن بغلته وترجل، وكان الصحابة إذا اشتد البأس والتحم القتال يتقون به لشجاعته وثباته، فلما رأى الفارون من المسلمين ذلك وسمعوا العباس يناديهم أخذوا يتلاحقون به ويرددون: لبيك لبيك. حتى أن من لم يستطع منهم أن يثني بعيره ويعود به أخذ سلاحه وتركه، فاشتد القتال من جديد وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «هذا حين حمي الوطيس» وأخذ تراباً أو حصيات فرمى بهن وجوه الكفار وهو يقول: «شاهت الوجوه انهزموا ورب محمد»، {ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [التوبة: 26] ولم تصمد هوازن وثقيف طويلاً في الجولة الثانية، بل فروا من الميدان وتعقبهم المسلمون بعيداً عن حنين تاركين وراءهم قتلى كثيرين وأموالاً عظيمة في الميدان. ولم يتمكنوا من الانسحاب المنظم حتى أنهم تركوا خلفهم شراذم من الجيش تمكن المسلمون من القضاء عليها بسهولة  فكانت خسارتهم في الأرواح خلال الهزيمة أعظم من خسارتهم خلال المعركة فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعقب الفارين وقتلهم لإضعاف شوكتهم حتى لا يعودوا إلى الاجتماع والقتال. وقد أباح سلب المشرك لقاتله ولكنه نهى عن قتل النساء عندما رأي امرأة مقتولة فقال: «ما كانت هذه تقاتل» . وكذلك نهي عن قتل الذراري لما بلغه أن بعض المسلمين يقتلونهم، فلما ذكروا: إنما هم أولاد المشركين؟ قال: «أو هل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يُعرب عنها لسانها».

ولم يعنَّف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا ممن فرَّ عنه، بل لما قالت له أم سليم الأنصارية أن يقتل الطلقاء لفرارهم قال: «إن الله قد كفى وأحسن» وكانت أم سليم تحمل خنجراً تدافع به عن نفسها في المعركة.
وقد بلغ قتلى هوازن خلال المعركة اثنين وسبعين قتيلاً من بني مالك من ثقيف وحدهم حسب رواية ابن إسحق، وقتيلين من الأحلاف من ثقيف لأنهم سارعوا إلى مغادرة ميدان المعركة. وخلال الهزيمة ثلثمائة قتيل من بني مالك فقط قتلهم المسلمون بقيادة الزبير بن العوام في أوطاسكما قتل عدد آخر في أوطاس  وقد قتل أبو طلحة وحده عشرين رجلاً منهم وأخذ أسلابهم ، كما قتل المئات من بني نصر بن معاوية ثم من بني رئاب حيث استحر فيهم القتل وهم من أهم فروع هوازن.

وهكذا كانت خسارة هوازن وثقيف في الأرواح جسيمة فضلا عن الجرحى وأما السبي فقد بلغ ستة آلاف في رواية سعيد بن المسيب. وقال عروة إن الستة آلاف من النساء والأبناء معاً ، وهو قول ابن إسحق أيضاً . ووصف الزهري كثرة السبي بقوله: “وملئت عُرُش مكة منهم” وأما الأموال فكانت أربعة آلاف أوقية فضة وأما الإبل فكانت أربعة وعشرين ألفاً ، وأما الشاة فكانت أكثر من أربعين ألف شاة . وكان معهم خيل وبقر وحمير لكن المصادر لم تذكر عدد ما غنمه المسلمون منها. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحبس الغنائم في الجعرانة لحين عودته من حصار الطائف.
وأما تضحيات المسلمين فتتمثل في استشهاد أربعة منهم سماهم ابن إسحق وإصابة عدد منهم بجروح منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن أبي أوفى وخالد بن الوليد.

ولعل خسارتهم الطفيفة هذه في الأرواح ترجع إلى أن الجولة الأولى التي أدبروا فيها كان القتال خلالها في الغالب تراشقاً بالسهام، وكان الالتحام في الجولة الثانية أكثر لكن الدائرة كانت على هوازن وثقيف فكانت معظم إصابات المسلمين جروحاً شفوا منها، ومما يدل على سلامة جيش المسلمين أنهم طاردوا المنهزمين في حنين إلى مسافات بعيدة كما أنهم اتجهوا إلى حصار الطائف مباشرة دون استجمام يزيل عنهم آثار هذه الموقعة الحاسمة. والتي تشبه في خطورتها غزوة بدر الكبرى فإن المسلمين قدموا كل جيشهم وكذلك فعلت هوازن، وكانت العرب والأعراب تنتظر مصير المعركة لتتخذ موقفها الأخير من الإسلام فلما هزمت هوازن أقبلت الوفود تعلن الدخول في الدين الجديد.

تعقب الفارين نحو نخلة وأوطاس:
انهزمت هوازن وتفرقت في الجبال والأودية، وتحصن مالك بن عوف النصري بالطائف في حين عسكر آخرون منهم بأوطاس – وهو واد بين الطائف وحنين – وعسكر بنو غيرة من ثقيف في نخلة بين سبواحة والشرائع (حنين).
وقد تبعت خيل المسلمين من سلك في نخلة من هوازن، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري إلى أوطاس فقاتلهم وقتل دريد بن الصمة،ثم أصيب بسهم وهو يقاتلهم فاستشهد بعد أن استخلف أبا موسى الأشعري وأوصاه بتبليغ السلام لرسول الله وأن يطلب منه أن يستغفر له، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لما أبلغه أبو موسى ذلك.
وممن وقع في الأسر الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة حيث تضافرت الأحاديث المرسلة من ابن إسحق وغيره على إكساب هذه الحادثة القوة التاريخية، وقد أكرمها الرسول بعد أن استدل على صحة ما تقول من عضة عضها لها أيام رضاعه في بني سعد، كما تدل روايات ليست قوية – لكنها تتضافر لإسناد الخبر التأريخي – على أن أمه من الرضاعة حليمة السعدية قدمت إليه فأكرمها وطوى لها ثوبه لتجلس عليه.