15 رمضان 2 هـ
14 آذار 624 م
غزوة بدر الكبرى وغزوة بني سُلَيْم الأولى بالكُدر إلى غزوة بني قَيْنُقَاع: اليوم الثاني عشر

غزوة بدر الكُبرى
وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند #~~~سَير إلى سرحة~~~# وقد قَسَّمَ غنائم بدر بعد أن أخرج منها الخُمس، …

فصلّى المغرب والعشاء عنده واستراح أوَّل الليل، ثم ارتحل ومعه الجيش المسلم فساروا حوالي 7 كم في ساعة ونصف تقريبًا إلى أن وصلوا #~~~النَّازِيَة~~~# بعد أن قطعوا #~~~وادي رحقان~~~# بعرضه، ثم أكملوا المسير جهة الشمال ثم يمينًا إلى الشرق حوالي 11 كم في ساعتين وثلث تقريبًا، إلى أن وصلوا عند #~~~بئر الروحاء~~~# فنزلوا عندها فجرًا فصلّوا بها الصبح أو قريبًا منها.

وفي الروحاء كان كبار المسلمين ممن لم يخرج في بدر قد خرجوا من المدينة بعد أن جائتهم البشارة، فواصلوا المسير حتى نزلوا الروحاء بعد نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فقابلوه بالتهنئة بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين بنصر الله، وكان فيهم أسيد بن حضير الذي قال: “يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت”، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صدقت»، ولمَّا سأل أسيد ومن معه عمَّا حدث في بدر، وأقاصيص الحرب، قال لهم سلمة بن سلامة بن وقش: “ما الذي تهنئونا به؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعًا كالبدن المعلقة فنحرناها!”، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: «أي ابن أخي، أولئك الملأ-يعني هؤلاء أكابر ورؤساء قريش من المشركين-، لو رأيتهم لَهِبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيّهم!»، فقال سلمة: “أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله؛ إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضًا منذ كنا بالروحاء في بدأتنا”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما قلت للأعرابي: وقعت على ناقتك فهي حبلى منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به!، وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهدها!»، فاعتذر سلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنّا بدر منه من إساءات، فقبل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم ارتحل صلى الله عليه وآله وسلم من الروحاء حوالي 5 كم في ساعة تقريبًا حتى وصل  #~~~عِرق الظُّبيَة~~~# فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ حكم الإعدام على مجرم الحرب “عقبة بن أبي معيط” والذي كان من أكابر مجرمي المشركين وقد كانت له جرائم في حق المسلمين قبل الهجرة كثيرة، منها محاولته قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بتنفيذ حكم الإعدام عليه، فتقدَّم عاصم بن ثابت ناحية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة: “يا معشر قريش علام أقتل من بين ههنا؟”، فقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: “عداوتك لله ورسوله”، قال عقبة: “أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ -يعني وقد تركت من تركت من الأسرى؟-”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم!، أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي، وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي»، قال عُقبة: “فمن للصبية يا محمد؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «النار»،  ونفَّذ عاصم بن ثابت حكم الإعدام على هذا المجرم.

ولم يُنفِّذ صلى الله عليه وآله وسلم حكم الإعدام إلا في النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط كما تقدم، فقُتِلَ الأوَّل عند #~~~قرية الصفراء~~~# يوم الاثنين كما ذكرنا، لأنهما مجرمي حرب، وترك باقي الأسرى وهم ما يزيد على الستين أسيرًا، فأمر المسلمين أن يعتني كل مجموعة بأسير من الأسرى، فقال: «استوصوا بالأسرى خيرًا»، حتى ان أبا عزيز بن عُمير وكان في الأسرى وكان هو صاحب لواء المشركين -بمنزلة نائب القائد العام للجيش- بعد النضر بن الحارث -وأسلم بعد ذلك- يحكي عن نفسه فيقول: “مر بي أخي مصعب بن عُمير ورجل من الأنصار يأسرني”، فقال مصعب: “شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك”، فقال أبو عزيز: “يا أخي هذه وصاتك بي؟”، فقال مصعب: “إنّه أخي دونك -يعني الأنصاري أقرب إلي منك-“، ويكمل أبا عزيز فيقول: “فكنت أسيرًا مع جماعة من الأنصار حين رجعوا من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر لوصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياهم بنا -الأسرى-، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا أعطاها لي، فأستحي فأردها على أحدهم، فيردّها علي لم يمسها”.

وارتحل صلى الله عليه وآله وسلم وقت الضحى من عِرق الظُّبيَة فاسر  ومن معه من المسلمين فمرَّوا بـ#~~~شَنُوكَة~~~# بعد حوالي 4 كم من عِرق الظُّبيَة تقريبًا بعد ساعة إلا الربع، وكان مالك بن الدُخشُم الأنصاري قد أسر سُهيل بن عمرو فكان معه، فلمّا كانوا عند شَنُوكَة، قال سُهيل لمالِك: اتركني أقضي حاجتي، فتركه مالك ووقف ينتظره، فقال سهيل: إني أستر نفسي وقت قضاء حاجتي فابتعد، فابتعد مالك ومكث قليلًا، ففرَّ سُهيل بن عمرو هاربًا إلى الجبال، وأخرج يداه من القيد، فلمّا تأخر على مالك، صاح مالك في النَّاس أن سهيل بن عمرو قد هرب، فخرجوا في الجبال يبحثون عنه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من وجده فليقتله!»، ولكنَّ الله أراد بسهيل خيرًا، فقد وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الشريفة، فلم يقتله!، وجده قد دفن نفسه بين سَمُرات -شجرات سَمُر-[^1]، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُربط يديه إلى عُنُقِه حتى لا يهرب، ثم ربطه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناقته القصواء بحبل حتى يتابعه بنفسه، فمشى إلى المدينة وهو مربوط بحبل في ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان سهيل بن عمرو من أعيان مشركي قريش وأكابرها وومن يسب المسلمين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في شِعرِه ويحاربهم بلسانه وكلامه قبل سيفه.

حتى إنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أراد أن ينتقم من سُهيل بن عمرو، ليكون عبرة لغيره من المشركين الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: “يا رسول الله، دعني أنزَع ثَنِيَّتَي سُهَيل بن عمرو يتدلَّه لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا[^2]”، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا أُمَثِّل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًا!، وإنَّه عسى أن يقوم مقامًا لاتذمّه -يعني لعل سهيل ابن عمرو يخطب خطبة تعجبك!-»، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقد علمنا ونهانا عن المُثَلَة وهي عمل عاهة لإنسان للاستهزاء به، وهذا أيضًا من دلائل نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم فإن سهيل بن عمرو أسلَم بعد فتح مكَّة وحَسُن إسلامه، حتى إنّه وقف خطيبًا في أهل مكّة بعد ما جاءه خبر انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، فقال ما قاله أبا بكر الصديّق في المدينة دون أن يعرفه ودعا المسلمين للتمسك بدينهم والثبات عليه وألا يتركوه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ارتدّ بعض العرب عن الدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَّا سمع بذلك عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وقتها قال: “أشهد إنك لرسول الله!”، وأفرحه ما قام به سُهيل بن عمرو في مكَّة وتثبيته المسلمين على الدين.

ثم أكمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه السير في وادي الروحاء شمالًا قاطعين حوالي 18 كم في ثلاث ساعات ونصف تقريبًا، حتى وصلوا إلى #~~~السَّيَالَة~~~# ووصلوها بعد وقت الظّهيرة فنزلوا بها وصلوا بها الصلوات وغربت الشمس وهم بها.

[^1]:  السَّمُر؛ شجر مُنتشر في شبه الجزيرة العربية ووادي النيل وشمال إفريقية، واسمه العلمي “السنط المُلتَو” Acacia Tortilis ، وهي شجرة كبيرة وضخمة قد تعيش قرنًا أو أكثر، وقد بويع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الحديبية تحت سَمُرة أيضًا؛ وهي الشجرة التي ذكرها المولى عزّ وجل عن تلك البيعة في قوله تعالى: “إذ يبيعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم”.

[^2]: الثَّنايا هي الأسنان العُليا القواطع في مُقدِّمة الفم، وبها يتم نطق بعض الحروف بشكل صحيح، ويتدلَّه لسانه؛ يعني يخرج من بين أسنانه فيفسد نطقه للحروف، فلا يصير خطيبًا مُفَوَّهًا، فلا يقوم عليك خطيبً؛ يعني يتوقف عن حربه الإعلاميَّة عليك -بالمصطلح الحديث- ويترك التحدّث في المواطن العامَّة لما به من عاهة تمنعه من النطق السليم.