5 هـ
627 م
غزوة الخندق

وهى الأحزاب: جمع حزب، أى طائفة. فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذى حفر حول المدينة بأمره صلى الله عليه وسلم-، …

ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس.
وكان الذى أشار بذلك سلمان، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن معهم. وقد أنزل الله تعالى فى هذه القصة صدرا من سورة الأحزاب.

واختلف فى تاريخها:
فقال موسى بن عقبة: كانت فى شوال سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: كانت فى شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازى.
ومال البخارى إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع.
ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر. فى أحد كان أول ما طعن فى الرابعة عشر، وكان فى الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقى.
وقال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والمشهور أنها فى السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفرا من يهود قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه- عليه الصلاة والسلام-، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى فزارة، والحارث بن عوف المرى فى مرة.
وكان عدتهم- فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة آلاف. والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا.
ولما سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه- صلى الله عليه وسلم- ترغيبا للمسلمين فى الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا.
وأبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين فى عملهم ذاك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل.
وفى البخارى: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار».
والأكتاد: – بالمثناة الفوقية- جمع كتد- بفتح أوله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفى بعض نسخ البخارى: أكبادنا بالموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به مما يلى الكبد من الجنب.
وفى البخارى أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

اللهم إن العيش عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا

قال ابن بطال: وقوله اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة تمثل به- صلى الله عليه وسلم-. وعند الحارث بن أبى أسامة من مرسل طاووس زيادة فى آخر الرجز:

والعن عضلا والقارة *** هم كلفونا نقل الحجارة

وفى البخارى من حديث البراء قال: (لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا
إن الألى قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

قال: يمد بها صوته.. وفى رواية له أيضا:

إن الألى قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا

وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه- صلى الله عليه وسلم- حين ضرب فى الخندق قال:

بسم الإله وبه بدينا *** ولو عبدنا غيره شقينا
فحبذا ربا وحب دينا

قال فى النهاية: يقال بديت بالشىء- بكسر الدال- أى بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء.
انتهى.
وقد وقع فى حفر الخندق آيات من أعلام نبوته- صلى الله عليه وسلم-. منها ما فى الصحيح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة- وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهى القطعة الصلبة- فجاؤا النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبى- صلى الله عليه وسلم- المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم.
كذا بالشك من الراوى، وفى رواية الإسماعيلى باللام من غير شك، والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك.
وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل فى قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ} [الواقعة:55]. المراد: الرمال التى لا يرويها الماء.
وقد وقع عند أحمد والنسائى فى هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، عرضت لنا فى بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله»، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصار قصورها الحمر الساعة»، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وإنى والله لأبصار قصر المدائن الأبيض الآن» ، ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصار أبواب صنعاء من مكانى الساعة».
ومن أعلام نبوته ما ثبت فى الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- مستوفى فى مقصد المعجزات مع غيره.
وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة.
وعند الواقدى: أربعا وعشرين.
وفى الروضة للنووى: خمسة عشر يوما.
وفى الهدى النبوى لابن القيم: أقاموا شهرا.
ولما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وتهامة.
ونزل عيينة بن حصن فى غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل. فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد ابن عبادة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم- على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيى، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، فإنى لم أر منه إلا وفاء وصدقا.
فقال: ويلك افتح، ولم يزل به حتى فتح له، فقال: ويلك يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدونى على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبى سلمة مع النساء فى أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال:
رأيتنى يا بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من يأت بنى قريظة فيأتينى بخبرهم» فانطلقت، فلما رجعت جمع لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبويه فقال: «فداك أبى وأمى». أخرجه الشيخان والترمذى وقال: حديث حسن.
وفى رواية أصحاب المغازى: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- وتبرؤا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: عضل والقارة، أى كغدرهما بأصحاب الرجيع.
فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.
ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب:12] الآيات.
وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس ابن قيظى: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة.
وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى على فرس له ليوثبه الخندق فوقع فى الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنا نعطيك الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبى صلى الله عليه وسلم-: «إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب لنا فى ديته».
قال ابن إسحاق: وأقام- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبد ود العامرى اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه على فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله على، ورجعت بقية الخيول منهزمة.
ورمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل- وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق فى وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الأكحل وفى الظهر الأبهر وفى الفخذ النسا، إذا قطع لم يرفأ الدم.
وكان الذى رمى سعدا، ابن عرقة، أحد بنى عامر بن لؤى، قال:
خذها منى وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار. ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إلىّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه.
وأقام- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم ابن مسعود الأشجعى- وهو مخف إسلامه- فثبط قومه عن قوم وأوقع بينهم شرّا لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الحرب خدعة» فاختلفت كلمتهم.
وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا جاث على ركبتى، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: «اذهب فائتنى بخبر القوم»، ودعا لى، فأذهب الله عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس فى طريقى فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.
وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله- صلى الله عليه وسلم- ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإنى مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم.
ووقع فى البخارى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: «من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم» ، فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟» قالها ثلاثا.
وقد استشكل ذكر الزبير فى هذه.
فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذى ذهب والمشهور أنه حذيفة ابن اليمان.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التى ذهب لكشفها غير القصة التى ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بنى قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الآخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه السّلام- من يأتيه بخبر قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته فى ذلك مشهورة لما دخل بين قريش فى الليل وعرف قصتهم.
وفى البخارى من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم».
وروى أحمد عن أبى سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شىء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: «نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا». قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح.
وفى «ينبوع الحياة» لابن ظفر: قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- دعا فقال: «يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همى وغمى وكربى فإنك ترى ما نزل بى وبأصحابى». فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: «شكرا شكرا»، وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصي، وسمعوا فى أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا فى ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9].
وفى البخارى عن على أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الخندق: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس.
ويعارضه ما فى صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية.
قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أى الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب انتهى.
وفى البخارى عن عمر بن الخطاب: أنه جاء يوم الخندق وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلى حتى كادت الشمس أن تغرب فقال- صلى الله عليه وسلم-: «والله ما صليتها» ، فنزلنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب .
وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر.
وفى الموطأ: الظهر والعصر.
وفى الترمذى عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أربع صلوات يوم الخندق. وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربى إلى الترجيح وقال: الصحيح أن التى اشتغل عنها- صلى الله عليه وسلم- واحدة وهى العصر.
وقال النووى: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا فى بعض الأيام وهذا فى بعضها. قال: وأما تأخيره- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف.
قال العلماء: يحتمل أن يكون أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب فى النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل يصلى صلاة الخوف على حسب الحال.
وقد اختلف فى المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطى فى ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهى: الصبح أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلاة وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضى حسين فى صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر فى الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف انتهى.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذى القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا».
وفى ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر فى السنة التى صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال- عليه الصلاة والسلام-. وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى-.
وقد أخرج البراز من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا ولفظه: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: «لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم».