6 هـ
628 م
غزوة الحديبية

رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام امنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، …

فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذرا من أن تردّهم قريش عن عمرتهم ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألّا ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وتخلّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدتهم ألفا وخمسمائة وولى على المدينة ابن أم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهدي ليعلم الناس أنه لم يأت محاربا، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلّا السيوف في القراب، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يرض أن يحملوا السيوف مجرّدة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عسفان فجاءه عينه خبره أن قريشا أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكّة، وألايدخلوها عليهم عنوة أبدا، وتجهّزوا ليصدّوا المسلمين عن التقدّم، فقال عليه الصلاة والسلام: «هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستو سهل يملك مكّة من أسفلها. فلمّا رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المرار بركت ناقته. فزجرها فلم تقم، فقالوا: خلأت القصواء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفس محمّد بيده لا تدعوني قريش إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلّا أجبتهم إليها». مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم. ولكن كف الله أيدي المسلمين عن قريش. وكف أيدي قريش عن المسلمين كيلا تنتهك حرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرما امنا يوطّد المسلمون من جميع الأقطار دعائم أخواتهم فيه، ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي رسولا من قريش يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلمّا رجع بديل إلى قريش وأخبرهم بذلك، لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك لأجداده، وقالوا: أيريد محمّد أن يدخل علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبدا ومنّاعين تطرف! ثم أرسلوا حليس بن علقمة سيد الأحابيش- وهم حلفاء قريش، – فلمّا راه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا من قوم يعظمون الهدي ابعثوه في وجهه حتى يراه»، ففعلوا واستقبله الناس يلبّون، فلمّا رأى ذلك حليس رجع وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا، أتحجّ لخم وجذام وحمير، ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكت قريش ورب البيت إن القوم أتوا معتمرين.
فلمّا سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمّد قد جمعت أوباش الناس ثم جئت إلى أصلك وعشيرتك لتفضّها بهم! إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألّا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك، فنال منه أبو بكر وقال: نحن ننكشف عنه؟ ويحك!
وكان عروة يتكلّم وهو يمسّ لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك، ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، لا يتوضأ وضوا إلّا كادوا يقتتلون عليه يتمسّحون به، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه فقال: والله يا معشر قريش جئت كسرى في ملكه وقيصر في عظمته، فما رأيت ملكا في قومه مثل محمّد صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألّا تنصروا عليه. فقالت قريش: لا نتكلم بهذا، ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل. ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اختار عثمان بن عفّان رسولا من عنده إلى قريش حتى يعلمهم مقصده، فتوجّه وتوجّه معه عشرة أستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أقاربهم، وأمر عليه الصلاة والسلام عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكّة، فيبشرهم بقرب الفتح وأنّ الله مظهر دينه، فدخل عثمان مكّة في جوار أبان بن سعيد الأموي فبلّغ ما حمل، فقالوا: إن محمّدا لا يدخلها علينا عنوة أبدا. ثم طلبوا منه أن يطوف بالبيت، فقال: لا أطوف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممنوع، ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين أنّ عثمان قتل، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتى نناجزهم الحرب».