ذو القعدة 6 هـ
آذار 628 م
غزوة الحديبية

بالتخفيف تصغير حدباء وعلى التشديد عامة الفقهاء والمحدثين؛ وأشار بعضهم إلى أنه لم يسمع من فصيح، ومن ثم قال النحاس: …

سألت كل من لقيت ممن أثق بعلمه عن الحديبية، فلم يختلفوا في أنها بالتخفيف.
وفي كلام بعضهم: أهل الحديث يشددون، وأهل العربية يخففون. وفي كلام بعض آخر: أهل العراق يشددون؛ وأهل الحجاز يخففون، وهي بئر، وقيل شجرة سمي المكان باسمها، وقيل قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
قال: وسببها أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر؛ وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وعرّف مع المعرفين انتهى، أي وطاف هو وأصحابه؛ واعتمر وأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، ثم أخبر أصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر، فخرج صلى الله عليه وسلم معتمرا ليأمن الناس: أي أهل مكة ومن حولهم من حربه، وليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج زائر للبيت ومعظما له.
وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم بالعمرة من ذي الحليفة، أي بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين وركب من باب المسجد وانبعثت به راحلته مستقبل القبلة؛ أحرم وأحرم معه غالب أصحابه، ومنهم من لم يحرم إلا بالجحفة، أي وكان خروجه في ذي القعدة، وقيل كان خروجه في رمضان وهو غريب، ولفظ تلبيته صلى الله عليه وسلم «لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» .
واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة الشريفة نميلة بن عبد الله الليثي، أي وقيل ابن أم مكتوم، وقيل أبارهم كلثوم بن الحصين. أي وقيل استخلف أبارهم مع ابن أم مكتوم جميعا، فكان ابن أم مكتوم على الصلاة، وكان أبو رهم حافظا للمدينة، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بعد أن استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، ممن أسلم غفار ومزينة وجهينة وأسلم- القبيلة المعروفة- خشية من قريش أن يحاربوه وأن يصدّوه عن البيت كما صنعوا فتثاقل كثير منهم وقالوا أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم، واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنه ليس لهم من يقوم بذلك، فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}[الفتح:11] .
وخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل ببيته، ولبس ثوبين، وركب راحلته القصوى من عند بابه، وخرج معه أم سلمة وأم عمارة وأم منيع وأم عامر الأشهلية رضي الله عنهن، ومعه المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وأبطأ عليه كثير منهم كما تقدم، وساق معه الهدي سبعين بدنة، أي وقد جللها، أي في ذي الحليفة بعد أن صلى بها الظهر، ثم أشعر منها عدة وهي موجهات للقبلة في الشق الأيمن: أي من سنامها. ثم أمر صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب وكان اسمه ذكوان فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه ناجية لما أنه نجا من قريش. فأشعر ما بقي وقلدهن نعلا نعلا، وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها. والإشعار جرح بصفحة سنامها. والتقليد أن تقلد في عنقها قطعة جلد أو نعل بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه، وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة، وقيل كانوا أربع عشرة مائة، وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة، وقيل كانوا ألفا وثلاثمائة، وقيل وأربعمائة، وقيل وخمسمائة وخمسة وعشرين، أي وقيل ألف وسبعمائة أي وليس معهم سلاح إلا السيوف في القرب، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتخشى يا رسول الله من أبي سفيان وأصحابه ولم تأخذ للحرب عدتها؟ فقال: «لست أحب أن أحمل السلاح معتمرا» وكان معهم مائتا فرس فأقبلوا نحوه صلى الله عليه وسلم أي في بعض المحالّ، وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها، فقال: «ما لكم؟» قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نشربه ولا ماء نتوضأ منه إلا ما في ركوتك، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون، أي وفي لفظ: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه الشريفة. وفي لفظ آخر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه وفي لفظ آخر «فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه» واستدل به بعضهم على أن الماء خرج من نفس بشرته الشريفة صلى الله عليه وسلم. قال أبو نعيم في الحلية: وهو أعجب من نبع الماء لموسى صلى الله عليه وسلم من الحجر، فإن نبعه من الحجر متعارف معهود، وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد.
قال بعضهم: وإنما لم يخرجه صلى الله عليه وسلم بغير ملابسة ماء في إناء تأدبا مع الله تعالى، لأنه المنفرد بابتداع المعدومات من غير أصل. قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضأنا ولو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
فلما كانوا بعسفان جاء إليه صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان العتكي، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة عينا له، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش؛ وأجلبت ثقيف معهم ومعهم النساء والصبيان. وفي لفظ:
يخرجون ومعهم العوذ المطافيل، أي النياق ذوات اللبن التي معها أولادها ليتزودوا بذلك، ولا يرجعون خوف الجوع.
قال السهيلي: أو العوذ جمع عائذ وهي الناقة التي معها ولدها وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها، لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها لأنها في معنى نامية وزاكية، هذا كلامه: أو العوذ المطافيل النساء معهن أطفالهن، أي أنهم خرجوا بنسائهم معهن أولادهن ليكون أدعى لعدم الفرار.
أي ويجوز أن يكونوا خرجوا بذلك جميعه وقد لبسوا جلود النمر: أي أظهروا العداوة والحقد، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا يدخلها عليهم عنوة أبدا، وهذا خالد بن الوليد- أي رضي الله عنه لأنه أسلم بعد ذلك- في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم، أي وكانت مائتي فرس، أي وقد صفت إلى جهة القبلة، فأمر صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر رضي الله عنه فتقدم في خيله، فقام بازاء خالد وصف أصحابه رضي الله عنهم، أي وحانت صلاة الظهر، فأذن بلال رضي الله عنه وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه فركع بهم وسجد ثم سلم، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟.
وفي لفظ قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم: أي التي هي صلاة العصر، وبهذا استدل على أنها الصلاة الوسطى، واستدل له أيضا بأنه كان في أول ما أنزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ثم نسخ ذلك أي تلاوته بقوله تعالى: {وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ} [البقرة: 238] فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ} [النّساء:102] الآيات، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم جميعا حتى عباد بن بشر وأصحابه جميعا الذين قاموا بازاء خالد رضي الله عنهم، وحانت صلاة العصر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف: أي على ما ذكره الله تعالى، فلما جعل المسلمون يسجد بعضهم وبعضهم قائم ينظر إليهم، قال المشركون: لقد أخبروا بما أردناه بهم، ولعل الصلاة هي صلاة عسفان، لأن كراع الغميم بالقرب منه كما تقدّم، وهي على ما رواه مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم صفهم صفين وأنه أحرم بهم وركع واعتدل بهم جميعا ثم لما سجد سجد معه الصف الأول سجدتيه وتخلف الصف الثاني في اعتداله للحراسة، فلما قام وقام معه من سجد سجد الصف الثاني ولحقه في القيام وتقدم الصف الثاني وتأخر الصف الأول ثم ركع واعتدل بهم جميعا ثم سجد وسجد معه الصف الثاني الذي تقدم، واستمر الصف الأول الذي تأخر على الحراسة في اعتداله، فلما جلس للتشهد أتموا بقية صلاتهم وجلسوا معه للتشهد، فتشهد وسلم بهم جميعا» وعلى هذه الصلاة حمل أئمتنا ما جاء:
«فرضت الصلاة في الخوف ركعة» أي أنها ركعة مع الإمام ويضم إليها أخرى.
ثم رأيت في الدر المنثور التصريح بأن هذه الصلاة هي صلاة عسفان. عن ابن عياش الزرقي قال «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حالة غرة» الحديث المتقدّم.
واشترط أئمتنا في هذه الصلاة، وهي إذا كان العدو في جهة القبلة ولا ساتر أن يكون كل صف مقاوما للعدو وأن كل واحد لاثنين وإلا لم تصح الصلاة لما فيه من التغرير بالمسلمين ولعل صلاته صلى الله عليه وسلم بالصفين كانت كذلك، وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن كصلاة بطن نخل، فعلم أن القرآن لم ينزل إلا بصلاة ذات الرقاع وبصلاة شدة الخوف، ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة شدة الخوف وهي أن يلتحم القتال أو لم يأمنوا هجوم العدو.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قريشا تريد منعه عن البيت قال: أشيروا عليّ أيها الناس، أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، أي وفي الإمتاع: فقال المقداد رضي الله عنه يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والله يا رسول الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فامضوا على اسم الله فساروا؛ ثم قال: يا ويح قريش نهكتهم الحرب: أي أضعفتهم. وفي لفظ: أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين: أي كاملين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذين بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفر هذه السالفة»: أي وهي صفحة العنق، فهو كناية عن القتل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، أي ويقال إنه ناجية بن جندب رضي الله عنه، فسلك بهم طريقا وعرا. فلما خرجوا منه وقد شق عليهم ذلك وأفضوا إلى أرض سهلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه»، فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها: أي قول أستغفر الله للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».
ثم إن خالدا رضي الله عنه لم يشعر بهم إلا وقد نزلوا بذلك المحل، فانطلق نذيرا لقريش.
وقد جاء في تفسير الحطة أنها المغفرة: أي طلب المغفرة: أي اللهم حط عنا ذنوبنا، وهذا هو المناسب لقوله صلى الله عليه وسلم «قولوا نستغفر الله» إلى آخره.
وجاء في تفسيرها أيضا أنها لا إله إلا الله، فلم يقولوا حطة؛ بل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة سوداء استهزاء وجراءة على الله تعالى.
وفي البخاري: فقيل لبني إسرائيل {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58] فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم، أي أطيازهم وقالوا حطة في شعيرة، وقد جاء «أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له الذنوب» أي المذكورة في قوله تعالى: {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ} [البقرة: 58] أي باب أريحاء بلد الجبارين سُجَّداً: أي خاضعين متواضعين {وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ} [البقرة:58] أي حط عنا خطايانا.
قال بعضهم: فكما جعل الله لبني إسرائيل دخولهم الباب على الوجه المذكور سببا للغفران، فكذا حب أهل البيت سبب للغفران.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا طريقا تخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق، فلما كانوا به: أي بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته صلى الله عليه وسلم، أي القصوى، فقال الناس: حل حل، فألحت: أي تمادت واستمرت على عدم القيام، فقالوا: خلأت القصوى: أي حرنت، يقال خلأت الناقة وألخ الجمل بالخاء المعجمة فيهما، وحرن الفرس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما خلأت وما هو لها بخلق» وفي لفظ: «ما ذاك لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة: أي منعها الله عن دخول مكة: أي علم صلى الله عليه وسلم أن ذلك صدّ له من الله عن مكة أن يدخلها قهرا والذي نفس محمد بيده لا تدعني قريش اليوم إلى حطة» أي خصلة «يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» أي وفي رواية «فيها تعظيم حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها» أي من ترك القتال في الحرم، والكفّ  عن إراقة الدم ثم زجرها صلى الله عليه وسلم فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه، ثم قال للناس: «انزلوا» فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه ناجية بن جندب رضي الله عنه سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو البراء بن عازب رضي الله عنه، أو خالد بن عبادة الغفاري فنزل في قليب فغرزه في جوفه، فجاش: أي علا وارتفع بالرواء: أي الماء العذب حتى ضرب الناس عليه بعطن» وفي لفظ «حتى صدروا عنها بعطن» : أي حتى رووا ورويت إبلهم حتى بركت حول الماء لأن عطن الإبل مباركها.
قال: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى الحديبية على ثمد: وهو حفرة فيها ماء من ثمادها قليل الماء يتربضه الناس تربضا أي يأخذونه قليلا قليلا، ثم لم يلبث الناس حتى نزحوه فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء. وفي لفظ: العطش أي وكان الحر شديدا، فنزع صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته ودفعه للبراء فقال: اغرز هذا السهم في بعض قليب الحديبية ففعل، والقليب جافّ، فجاش الماء، وقيل دفعه لناجية بن الأعجم.
فعنه رضي الله عنه، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ، ودعا بدلو من ماء البئر فجئت به، فتوضأ فمضمض ثم مج الماء في الدلو. ثم قال: «انزل بالدلو في البئر وأثر ماءها بالسهم» ففعلت، فو الذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني الماء، وفارت كما يفور القدر حتى طمت واستوت بشفيرها، يغترفون من جوانبها حتى نهلوا عن آخرهم، وعلى البئر نفر من المنافقين منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال له أوس بن خولي رضي الله عنه: ويحك يا أبا الحباب، ما آن لك تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيء؟
فقال: إني رأيت مثل هذا فقال له أوس رضي الله عنه: قبحك الله وقبح رأيك، ثم أقبل: أي عبد الله المذكور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الحباب أني رأيت؟ أي كيف رأيت مثل ما رأيت اليوم؟» قال: ما رأيت مثله قط، قال: «فلم قلت ما قلت؟» فقال: يا رسول الله استغفر لي، وقال ابنه عبد الله: يا رسول الله استغفر له فاستغفر له. وفي لفظ: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر نتبرضها من البرض: هو الماء الذي يقطر قليلا قليلا «فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ماشيتنا وركابنا. وفي لفظ: فرفعت إليه الدلو فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول: ثم صب الدلو فيها، فلقد لقيت آخرنا أخرج بثوب خشية الغرق ثم ساحت نهرا» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها.
وقد يقال: لا مانع من وقوع جميع ذلك، لكن يبعد أن يكون ذلك في قليب واحد، قال بعضهم: فلما ارتحلوا أخذ البراء رضي الله عنه السهم فجف الماء كأن لم يكن هناك شيء.
وفي كلام هذا البعض: أن أبا سفيان قال لسهيل بن عمرو رضي الله عنهما: قد بلغنا أنه ظهر بالحديبية قليب فيه ماء فقم بنا ننظر إلى ما فعل محمد، فأشرفنا على القليب والعين تنبع تحت السهم، فقال: ما رأينا كاليوم قط، وهذا من سحر محمد قليل.
وفيه أنا أبا سفيان رضي الله عنه لم يكن حاضرا في الحديبية، وحمل ذلك على أن ذلك كان من أبي سفيان بعد ارتحاله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ينافيه ما قدمه هذا البعض أن عند ارتحالهم من الحديبية رفع السهم وجف القليب، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، فكان من كبار مسلمة الفتح في رجال من خزاعة وكانت خزاعة، مسلمها ومشركها لا يخفون عليه صلى الله عليه وسلم شيئا كان بمكة، بل يخبرونه به وهو بالمدينة، وكانت قريش ربما تفطن لذلك، فسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا؛ وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
وفي المواهب أنه صلى الله عليه وسلم قال لبديل ما تقدم من قوله «وإن قريشا قد نهكتهم الحرب إلى آخره» وإن بديلا رضي الله عنه قال له سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا: فحدثهم بما قال، هذا كلامه.
والرواية المشهورة أن بديلا ومن معه من خزاعة لما رجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم: أي قابلوهم بما يكرهون، وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة: أي قهرا أبدا، ولا تتحدث بذلك عنا العرب.
أي وفي لفظ أنهم قالوا: أيريد محمد أن يدخلها علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، والله لا كان هذا أبدا ومنا عين تطرف، ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قال: هذا الرجل غادر، أي وفي رواية فاجر، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش يومئذ، وتقدم عن الأصل أن الأحابيش هم بنو الهون بن خزيمة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزيمة، أي وأنه قيل لهم ذلك، لأنهم تحالفوا تحت جبل بأسفل مكة يقال له حبشي هم وقريش على أنهم يد واحدة على من عاداهم ما سجا ليل، ووضح نهار، وما سار حبشي، فسموا «أحابيش قريش» .
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، أي يتعبدون ويعظمون أمر الإله. وفي لفظ: يعظمون البدن. وفي لفظ: يعظمون الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي بضم المهملة أي ناحيته، وأما ضد الطول فبفتح المهملة؛ قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله بكسر الحاء المهلمة، موضعه الذي ينحر فيه من الحرم: أي يرجع الحنين، واستقبله الناس يلبون قد شعثوا؛ صاح وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت أبى الله أن يحج لخم وجذام ونهد وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، هلكت قريش ورب الكعبة، إنما القوم أتوا عمارا أي معتمرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل يا أخا بني كنانة».
وقيل إنه بمجرد أن رأى هذا الأمر رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم في ذلك، أي قال إني رأيت ما لا يحل منعه، رأيت الهدي في قلائده، قد أكل أوباره، أي معكوفا عن محله، والرجال قد شعثوا وقملوا، فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي ولا علم لك، أي فما رأيت من محمد مكيدة، فعند ذلك غضب الحليس وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما، والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له: مه: أي كف يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهذا هو الذي شبهه صلى الله عليه وسلم بعيسى ابن مريم عليه السلام، ولما قتله قومه قال صلى الله عليه وسلم «مثله في قومه كصاحب يس» كما سيأتي ذلك، فقال: يا معشر قريش إني رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، فقالوا صدقت. وهذا يدل على أن ذهاب عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه إنما كان بعد تكرر الرسل من قريش إليه صلى الله عليه وسلم.
وبه يعلم ما في المواهب أن عروة لما سمع قريشا توبخ بديلا ومن معه من خزاعة، قال: أي قوم، ألستم بالوالد إلى آخره. وفي لفظ: ألستم كالوالد، أي كل واحد منكم كالوالد لي وأنا كالولد له، وقيل أنتم حي قد ولدني، لأن أمه سبيعة بنت عبد شمس، قالوا بلى قال: أو لست بالولد؟ قالوا بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد جمعت أوباش: أي أخلاط الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك، أي أصلك وعشيرتك لتفضها بهم، إنها قريش، قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمر يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك؛ أي انهزموا غدا. وفي لفظ والله لا أرى وجوها أي عظماء، وإني أرى أسرابا من الناس، خليقا أي حقيقا أن يفرو ويدعوك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه جالس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: اعضض بظر اللات. والبظر. قطعة تبقى في فرج المرأة بعد الختان، وقيل التي تقطعها الخاتنة، أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة، فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، أي على هذه الكلمة التي خاطبتني بها ولكن هذه بها. وفي رواية: والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك بها، وتلك اليد التي كانت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه عند عروة، هي أن عروة استعان في حمل دية فأعانه الرجل بالواحد من الإبل والرجل بالاثنين. وأعانه أبو بكر رضي الله عنه بعشرة إبل شواب، ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، أي وهذه عادة العرب أن الرجل يتناول لحية من يكلمه خصوصا عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يمنعه من ذلك استمالة وتأليفا له، والمغيرة بضم الميم وكسرها ابن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد وعليه المغفر، فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بنعل السيف: وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، ويقول: اكفف يدك عن وجه، وفي رواية: عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك فإنه لا ينبغي لمشرك ذلك؛ وإنما فعل ذلك المغيرة رضي الله عنه إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينظر لما هو عادة العرب، فيقول للمغيرة: ويحك ما أفظك وما أغلظك، أي وما أشدّ قولك.
وفي رواية: فلما أكثر عليه غضب عروة وقال: ويحك ما أفظك وما أغلظك، ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك، والله إني لا أحسب فيكم ألأم منه ولا شرّ منزلة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة»، أي لأن عروة كان عم والد المغيرة، فالمغيرة يقول له يا عم، لأن كل قريب من جهة الأب يقال له عم، وليس في الصحيح لفظ ابن أخيك فقال: أي غدر: أي يا غادر، وهل غسلت غدرتك. وفي لفظ سوأتك وفي لفظ: ألست أسعى في غدرتك إلا بالأمس، وفي لفظ: يا غدر، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلا بالأمس، وقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر.
قيل أراد عروة بذلك أنه الذي ستر غدر المغيرة بالأمس، لأن المغيرة رضي الله عنه قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، وفد هو وإياهم مصر على المقوقس بهدايا قال وكنا سدنة اللات: أي خدامها، واستشرت عمي عروة في مرافقتهم فأشار عليّ بعدم ذلك، قال: فلم أطع رأيه، فأنزلنا المقوقس في كنيسة للضيافة ثم أدخلنا عليه، فقدموا الهدية له، فاستخبر كبير القوم عني، فقال ليس منا، بل من الأحلاف فكنت أهون القوم عليه، فأكرمهم وقصر في حقي، فلما خرجوا لم يعرض عليّ أحد منهم مواساة فكرهت أن يخبروا أهلنا بإكرامهم وازدراء الملك بي، فأجمعت قتلهم، ونزلنا محلا فعصبت رأسي، فعرضوا عليّ الخمر فقلت رأسي تصدع، ولكن أسقيكم فسقيتهم وأكثرت لهم بغير مزج حتى همدوا، فوثبت عليهم فقتلتهم جميعا، وأخذت كل ما معهم، وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فسلمت عليه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك للإسلام يا مغيرة»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: من مصر قدمت؟ قلت نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ لأنهم من بني مالك، فقلت: كان بيني وبينهم ما يكون بين العرب وقتلتهم، وجئت بأسلابهم ليخمسها النبي صلى الله عليه وسلم أو يرى فيها رأيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إسلامك فقبلته ولا آخذ من أموالهم شيئا ولا أخمسه، فإنه غدر والغدر لا خير فيه»، فقلت: يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجبّ ما قبله» .
قال: وبلغ ذلك ثقيفا، فتداعوا للقتال واصطلحوا على أن يحمل عمي عروة ثلاث عشرة دية.
وفي رواية لما وردوا على المقوقس أعطى كل واحد منهم جائزة ولم يعط المغيرة شيئا فحقد عليهم، فلما رجعوا نزلوا منزلا وشربوا خمرا، ولما سكروا وناموا وثب عليهم المغيرة فقتلهم وأخذ أموالهم وجاء وأسلم، فاختصم بنو مالك مع رهط المغيرة، وشرعوا في المحاربة، فسعى عروة في إطفاء نار الحرب وصالح بني مالك على ثلاث عشرة دية ودفعها عروة.
ولما أسلم المغيرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء» وفيه أن هذا مال حربي قصد أخذه والتغلب عليهم، إلا أن يقال هؤلاء مؤمنون منه، لأنهم اطمأنوا إليه.
أي ويذكر أن المغيرة بن شعبة هذا رضي الله عنه كان من دهاة العرب، وأحصن في الإسلام ثمانين امرأة، ويقال ثلاثمائة امرأة، وقيل ألف امرأة.
قيل لإحدى نساء المغيرة إنه لدميم أعور، فقالت: هو والله عسيلة يمانية في ظرف سوء.
ولما ولي رضي الله عنه الكوفة أرسل يخطب بنت النعمان بن المنذر، فقالت لرسوله: قل له ما قصدت إلا أن يقال تزوّج المغيرة الثقفي بنت النعمان بن المنذر، وإلا فأيّ حظ لشيخ أعور في عجوز عمياء، وهذه هي القائلة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما وفدت عليه وهو والي الكوفة وأكرمها في دعائها له: ملكتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك السبب في عودها إليه، إنما يكرم الكريم الكريم. والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه أوّل من حيا سيدنا عمر رضي الله عنه بأمير المؤمنين.
وعند مجيء عروة أخبر صلى الله عليه وسلم عروة بما أخبر به من تقدّم من أنه لم يأت لحرب، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه. لا يتوضأ: أي يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه؛ أي كادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه: أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه أي وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه تعظيما له صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف أن لا تنصروا عليه، فقالت له قريش: لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور، ولكن نرده عامنا هذا ويرجع إلى قابل، فقال: ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف.
وعروة هذا هو ابن مسعود الثقفي، وهو عظيم القريتين الذي عنته قريش بقولها {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزّخرف:31] وقيل المعنيّ بذلك الوليد بن المغيرة.
ويقال إن عروة هذا كان جدا للحجاج لأمه. ويدل لذلك كما يدل للأوّل ما حكى عن الشعبي أنه سأل الحجاج وهو والي العراق حاجة فاعتل عليه فيها، فكتب إليه: والله لا أعذرك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه، فبعثه إلى قريش، وحمله صلى الله عليه وسلم على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عقره عكرمة بن أبي جهل، وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما لقي. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وما بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه، أي فإن بني عمه يمنعونه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه لم يأت إلا زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته، أي ولعل ذكر أبي سفيان من غلط بعض الرواة، لما تقدّم أنه لم يكن حاضرا بالحديبية: أي صلحها، وأمر صلى الله عليه وسلم عثمان أن يأتي رجالا مسلمين بمكة ونساء مسلمات ويدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله وشيك: أي قريب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان.
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان رضي الله عنه بكتاب لقريش: أي قيل فيه إنه ما جاء لحرب أحد، وإنما جاء معتمرا بدليل ما يأتي في ردّهم عليه. وقيل فيه ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمر، وليقع الصلح بينهم على أن يرجع في هذه السنة الحديث، وأنهم لما احتبسوه أمسك صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو عنده كذا في شرح الهمزية لابن حجر، وقدمه على الأوّل فليتأمل.
فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة، ودخل مكة من الصحابة عشرة أيضا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ليزوروا أهاليهم لم أقف على أسمائهم، ولم أقف على أنهم هل دخلوا مع عثمان أم لا فلقيه قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك قبل خيبر، فأجاره حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله بين يديه، فجاء إلى أبي سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، أي وهم يردّون عليه إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا، فلما فرغ عثمان من تبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. وفي رواية:
قال له أبان إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقال المسلمون: قد خلص عثمان إلى البيت فطاف به دوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون، وقال: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه، قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف، لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف به حتى أطوف، فلما رجع عثمان وقالوا له في ذلك: أي قالوا له طفت بالبيت، قال بئسما ظننتم بي، دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت، والذي نفسي بيده لو مكثت بها معتمرا سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ.
وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل، أي وكذا قتل معه العشرة رجال الذين دخلوا مكة أيضا؛ فقال صلى الله عليه وسلم عند بلوغه ذلك: لا نبرح حتى نناجز القوم: أي نقاتلهم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، أي بعد أن قال لهم: إن الله أمرني بالبيعة. فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: بينما نحن جلوس قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وهو عمر بن الخطاب: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله، فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة فبايعناه، أي وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة، وهذا هو المراد بما جاء في بعض الروايات، فبايعناه على الموت ولم يتخلف منا أحد إلا الجدّ بن قيس، قال: لكأني أنظر إليه لا صقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس. وقد قيل إنه كان يرمي بالنفاق، وقد نزل في حقه في غزوة: أي غزوة تبوك من الآيات ما يدل على ذلك كما سيأتي، وهو ابن عمة البراء بن معرور رضي الله عنه، وكان سيد بني سلمة بكسر اللام في الجاهلية، وقد قال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: «من سيدكم؟» قالوا الجدّ بن قيس: أي على بخل فيه قال: «وأيّ داء أدوأ من البخل»؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بل سيدكم عمرو بن الجموح» وقيل قالوا: يا رسول الله من سيدنا؟ قال: سيدكم بشر بن البراء بن معرور وهذا قال ابن عبد البر إن النفس إليه أميل.
ومما يدل للأوّل ما أنشده شاعر الأنصار رضي الله عنهم من قوله:

وقال رسول الله والحق قوله *** لمن قال منا من تسموه سيدا
فقالوا له جد بن قيس على التي *** نبخله فيها وإن كان أسودا
فتى ما يخطي خطوة لدنيئة *** ولا مد يوما ما إلى سوأة يدا
فسود عمرو بن الجموح لجوده *** وحق لعمرو بالندى أن يسودا
إذا جاءه السؤال أنهب ماله *** وقال خذوه إنه عائد غدا
ولو كنت يا جد بن قيس على التي *** على مثلها عمرو لكنت المسوّدا

أي وبايع صلى الله عليه وسلم عن عثمان فوضع يده على يده: أي وضع يده اليمنى على يده اليسرى، وقال: «اللهم إن هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك». أي وفي لفظ قال: «اللهم إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله فأنا أبايع عنه»، فضرب بيمينه شماله، وما ذاك إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم بعدم صحة القول بأن عثمان قد قتل أو أن ذلك كان بعد مجيء الخبر له صلى الله عليه وسلم بأن القول بقتل عثمان رضي الله عنه باطل.
وفيه أنه حيث علم صلى الله عليه وسلم أن عثمان لم يقتل لا معنى للبيعة، لأن سببها كما علمت بلوغه الخبر أن عثمان قد قتل.
إلا أن يقال: سببها ما ذكر، وقتل العشرة من الصحابة، ويدل لذلك ما يأتي قريبا أن عثمان رضي الله عنه بايع بعد مجيئه من مكة فليتأمل، أي وبهذا يرد ما تمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي كرم الله وجهه على عثمان رضي الله عنه، لأن عليا كان من جملة من بايع تحت الشجرة، وقد خوطبوا بقوله صلى الله عليه وسلم «أنتم خير أهل الأرض» فإنه صريح في تفضيل أهل الشجرة على غيرهم.
وأيضا عليّ حضر بدرا دون عثمان، وقد جاء مرفوعا «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» .
وحاصل الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عن عثمان مع الاعتذار عنه بأنه في حاجة الله وحاجة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه عن بدر لتمريض بنته صلى الله عليه وسلم، وأسهم له كما تقدم، فهو في حكم من حضرها، على أنه سيأتي أنه رضي الله عنه بايع تحت تلك الشجرة بعد مجيئه من مكة، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «أنتم خير أهل الأرض» على عدم حياة الخضر عليه الصلاة والسلام حينئذ، لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه، وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، وقد أشار إلى امتناع عثمان رضي الله تعالى عنه من الطواف وإلى عدم صحة القول بأن عثمان قتل وإلى مبايعته صلى الله عليه وسلم عنه صاحب الهمزية بقوله رحمه الله:

وأبى أن يطوف بالبيت إذ لم *** يدن منه إلى النبي فناء
فجزته عنها بيعة رضوا ***ن يد من نبيه بيضاء
أدب عنده تضاعفت الأع *** مال بالترك حبذا الأدباء

أي وامتنع رضي الله عنه أن يطوف بالبيت لأجل أنه لم يقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البيت جانب، فجزته عن تلك الفعلة، وهي ذهابه إليهم وامتناعه من الطواف يد من نبيه عليه الصلاة والسلام تلك اليد البالغة في الكرم، وذلك في بيعة الرضوان، وذلك أدب عظيم عند عثمان رضي الله تعالى عنه حصل منه أمر عظيم مستغرب هو تضاعف ثواب الأعمال التي تركها بسبب تركها، وهي الطواف.
وذكر أن قريشا بعثت إلى عبد الله بن أبي ابن سلول إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل، فقال له ابنه عبد الله رضي الله عنه: يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن، تطوف ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى حينئذ، وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله.
وفي لفظ قال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم امتناعه رضي الله عنه أثنى عليه بذلك.
وكانت البيعة تحت شجرة هناك، أي من أشجار السمر. أي ولما جاء عثمان رضي الله تعالى عنه بايع تحت تلك الشجرة، وقيل لها بيعة الرضوان، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» رواه مسلم وكانوا ألفا وأربعمائة على الصحيح.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية» وتقدم أن الواو بمعنى أو في حديث «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» بدليل رواية مسلم هذه.
ومن ثم قال ابن عبد البر رحمه الله: ليس في غزواته صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية. والراجح تقديم غزوة أحد على غزوة الحديبية، وأنها التي تلي بدرا في الفضيلة. وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم سنان بن أبي سنان الأسدي، كذا في الأصل أنه الصواب بعد أن حكي أن أول من بايع أبو سنان، أي وهو ما ذهب إليه في الاستيعاب حيث قال: الأكثر الأشهر أن أبا سنان أول من بايع بيعة الرضوان، أي لا ابنه سنان، وأبو سنان هذا هو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنه، وكان أكبر من أخيه عكاشة بعشرين سنة. وضعفه في الأصل بأن أبا سنان رضي الله عنه مات في حصار بني قريظة ودفن بمقبرتهم، أي كما تقدم.
ولما بايعه سنان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل، وصار الناس يقولون له صلى الله عليه وسلم: نبايعك على ما بايعك عليه سنان.
وقيل أول من بايع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقيل سلمة بن الأكوع.
قال: وذكر أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بايع ثلاث مرات: أول الناس، ووسط الناس، وآخر الناس بأمره له صلى الله عليه وسلم في الثانية والثالثة بعد قول سلمة له: قد بايعت، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيضا، وذلك ليكون له في ذلك فضيلة، أي لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد بيعته لعلمه بشجاعته وعنايته بالإسلام وشهرته في الثبات، أي بدليل ما وقع له رضي الله عنه في غزوة ذي قرد بناء على تقدمها على ما هنا أو تفرس فيه صلى الله عليه وسلم ذلك بناء على تأخرها وبايع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرتين.
أي وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ} [المائدة:2] الآية أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية، مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله تعالى الآية: أي لا تصدوا هؤلاء العمار أن صدكم أصحابهم.
قال: وكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت قريش أربعين، وقيل خمسين رجلا عليهم مكرز بن حفص، أي وهو الذي بعثته قريش له صلى الله عليه وسلم ليسأله فيما جاء، وقال صلى الله عليه وسلم في حقه: هذا رجل غادر، وفي لفظ: رجل فاجر، ليطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يجدوا منهم غرة: أي غفلة، فأخذهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلا مكرزا فإنه أفلت، وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه رجل فاجر أو غادر كما تقدم، وأتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا، وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة، وقتل من المسلمين ابن زنيم رضي الله عنه، رمي بسهم.
فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.
وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا، منهم سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: سهيل أمركم، فقال سهيل: يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك، أي عثمان والعشرة رجال وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولا وثانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي»، فقالوا نفعل، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم وهو عثمان والعشرة رجال، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم.
ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا، وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل، فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس، فبعثوا سهيل بن عمرو أي ثانيا ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالحوه على أن يرجع في عامه هذا، لئلا تتحدث العرب بأنه دخل عنوة أي وأنه يعود من قابل، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل، أي ثانيا فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جثا على ركبتيه بين يديه صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله جلوس وتكلم فأطال، ثم تراجعا، أي ومن جملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به»، فقال له سهيل: والله لا تتحدث العرب بنا أنا أخذنا ضغطة بالضم: أي بالشدة والإكراه، ولكن ذلك من العام القابل، ثم التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال إلى آخر ما يأتي، ولم يبق إلا الكتاب بذلك.
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى أبا بكر رضي الله عنه، فقال له يا أبا بكر أليس هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال بلى؛ قال: فعلام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء: النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا؛ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر الزم غرزة: أي ركابه، وفي رواية أنه قال له: أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره، استمسك بغرزه حتى تموت، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولم يضيعني».
ولقي عمر رضي الله عنه من ذلك الشروط الآتي ذكرها أمرا عظيما، وجعل يردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: ألا تسمع يا بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر إني رضيت وتأبى؟» فكان عمر رضي الله عنه يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون هذا خيرا.
هذا، والذي في الإمتاع عكس ما هنا: أي أنه قال ما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، ثم لأبي بكر ثانيا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أي بعد أن كان أمر أوس بن خولة أن يكتب، فقال له سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ أو عثمان بن عفان، فأمر عليا كرم الله وجهه، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا: أي الرحمن الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها لأن قريشا كانت تقولها. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، ومنه تعلموها، وتعلمها هو من رجل من الجن في خبر ذكره المسعودي، أي وإنما كتبها بعد أن قال المسلمون: والله لا يكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فضج المسلمون.
وعن الشعبي رحمه الله: كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فكتب النبي أول ما كتب باسمك اللهم، وتقدم أنه كتب ذلك في أربع كتب حتى نزلت {بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فكتب بسم الله، ثم نزلت {ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ} [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} [النّمل: 30] أي فكتبها وهذا السياق يدل على تأخر نزول الفاتحة عن هذه الآيات، لأن البسملة نزلت أولها، وتقدم الخلاف في وقت نزولها فليتأمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت، ولكن اكتب باسمك واسم أبيك» أي وفي لفظ  لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: «امحه» وفي لفظ «امح رسول الله»، فقال علي كرم الله وجهه: ما أنا بالذي أمحاه، وفي لفظ: لا أمحوك، وفي لفظ: والله لا أمحوك أبدا، فقال: «أرنيه»، فأراه إياه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، وقال «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، وقال: أنا والله رسول الله وإن كذبتموني، وأنا محمد بن عبد الله» وفي لفظ فجعل عليّ يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد» : أي مقهور.
وهو إشارة منه صلى الله عليه وسلم لما سيقع بين عليّ ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فإنهما في حرب صفين وقعت بينهما المصالحة على ترك القتال إلى رأس الحول. وكان القتال في صفر دام مائة يوم وعشرة أيام، قتل فيه سبعون ألفا خمسة وعشرون ألفا من جيش علي كرم الله وجهه من جملة تسعين ألفا وخمسة وأربعون ألفا من جيش معاوية من جملة مائة وعشرين ألفا.
فلما كتب الكاتب في الصلح: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، قال عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي هو أحد الحكمين: اكتب اسمه واسم أبيه، وأرسل معاوية يقول لعمرو: لا تكتب أن عليا أمير المؤمنين، لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته، فبئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم أقاتله، ولكن اكتب عليّ بن أبي طالب وامح أمير المؤمنين، فقيل له: يا أمير المؤمنين لا تمح إمارة اسم أمير المؤمنين، فإنك إن محوتها لا تعود إليك، فلما سمع علي كرم الله وجهه ذلك، وأمره بمحوها، وقال امحها تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديبية ما تقدم، ومن ثم قال: الله أكبر مثلا بمثل، والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ قالوا لست برسول الله ولا نشهد لك بذلك، اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله، فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: سبحان الله أتتشبه بالكفار؟ فقال له علي كرم الله وجهه: يا بن النابغة: أي العاهرة، ومتى كنت عدوا للمسلمين هل تشبه إلا أمك التي وقعت بك، فقال عمرو: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا، فقال عليّ كرم الله وجهه: إني لأرجو الله أن يطهر مجلسي منك ومن أشباهك.
وذكر أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهما أخذا بيد عليّ كرم الله وجهه، ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم، وضجت المسلمون وارتفعت الأصوات، وجعلوا يقولون: لم نعط هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم أن اسكتوا، ثم قال: أرنيه الحديث، وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وقيل سنتين، وقيل أربع سنين، أي وصححه الحاكم- تأمن فيه الناس ويكفّ بعضهم عن بعض. أي ويقال لهذا العقد هدنة ومهادنة وموادعة ومسالمة. وقال زيادة على اشتراط الكف عن الحرب على أنه من أتى محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكرا كان أو أنثى.
قال السهيلي رحمه الله: وفي رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله، هذا كلامه. ومن أتى قريشا ممن كان مع محمد: أي مرتدا ذكرا كان أو أنثى لم نردّه إليه.
وهذا الثاني يوافق قول أئمتنا معاشر الشافعية يجوز شرط أن لا يردوا من جاءهم مرتدا والأول يخالف قولهم: لا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم، فإن شرط فسد الشرط والعقد، إلا أن يقال هذا ما وقع عليه الأمر أولا ثم نسخ كما سيأتي، وشرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة: أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة؛ وقيل صدورا نقية من الغلّ والخداع منطوية على الوفاء بالصلح؛ وأنه لا إسلال ولا إغلال: أي لا سرقة ولا خيانة، قال سهيل: وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة؛ وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فتدخلها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة؛ أي ثلاثة أيام معك سلاح الراكب، السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرها.
ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة، وهو ما وقع في البخاري أي أطلق الله يده صلى الله عليه وسلم بالكتابة في تلك الساعة خاصة وعد معجزة له.
قال بعضهم: لم يعتبره أي القول بذلك أهل العلم، ومعنى كتب أمر بالكتابة.
وفي النور: وفي كون هذا أي أنه كتب بيده في البخاري فيه نظر، والذي في البخاري: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ليكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد الحديث، أي فلفظة بيده ليست في البخاري، ومع إسقاطها التأويل ممكن. وتمسك بظاهر قوله: فكتب أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله على أنه صلى الله عليه وسلم كتب بيده، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، بأن هذا مخالف للقرآن، فناظرهم واستظهر عليهم بأن هذا لا ينافي القرآن وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] لأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن، وبعد أن تحققت أمنيته صلى الله عليه وسلم وتقررت بذلك معجزته، لا مانع من أن يعرف الكتابة من غير معلم فتكون معجزة أخرى ولا يخرجه ذلك عن كونه أميا.
أي ويقال إن الذي كتب هذا الكتاب محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وعده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الأوهام.
وجمع بأن أصل هذا الكتاب كتبه علي كرم الله وجهه، ونسخ مثله محمد بن مسلمة رضي الله عنه لسهيل بن عمرو، أي فإن سهيلا قال: يكون هذا الكتاب عندي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كتب لسهيل نسخة أخذها عنده. وعند كتابته اشترط أن يردّ إليهم من جاء مسلما، قال المسلمون: سبحان الله كيف نردّ للمشركين من جاء مسلما؟ وعسر عليهم شرط ذلك وقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا. وفي لفظ قال عمر: يا رسول الله أترضى بهذا؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: «من جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أعرض عنا وذهب إليهم فلسنا منه في شيء، وليس منا بل هو أولى بهم».
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في الحديد: أي يمشي في قيوده متوشحا سيفه، قد أفلت إلى أن جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فجعل المسلمون يرحبون به ويهنئونه، فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وفي لفظ: أخذ غصنا من شجرة به شوك وضرب به وجه أبي جندل ضربا شديدا حتى رق عليه المسلمون وبكوا وأخذ بتلبيبته، وقال: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ، لقد لجت القضية بيني وبينك، أي وجبت وتمت قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، فجعل ينثره بتلبيبته ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل رضي الله عنه يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ ألا ترون ما لقيت، فإنه رضي الله عنه كان عذب عذابا شديدا على أن يرجع عن الإسلام فزاد الناس ذلك إلى ما بهم، أي فإنهم كانوا لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت للرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوا الصلح وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، خصوصا من اشترط أن يردّ إلى المشركين من جاء مسلما منهم، أي وردّ أبي جندل إليهم بعد ضربه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله أن لا نغدر بهم».
وبهذا استدل أئمتنا على أنه يجوز شرط ردّ من جاءنا منهم مسلما إليهم ولا نرده إليهم إلا إذا كان حرا ذكرا غير صبيّ ومجنون وطلبته عشيرته.
وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهيل: «إنا لم نفضّ الكتاب بعد»، فقال: بلى لقد لجت القضية بيني وبينك، أي تمّ العقد فرده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فأجره لي»؛ فقال: ما أنا مجير ذلك لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل، فقال مكرز وحويطب: قد أجرناه لك لا نعذبه.
أي وهذا وما تقدم يخالف قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله أن مجيء أبي جندل كان قبل عقد الهدنة معهم رواه البخاري. وعند ذلك قال حويطب لمكرز: ما رأيت قوما قط أشدّ حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد، أما إني أقول لك: لا تأخذ من محمد نصفا أبدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة، فقال مكرز: وأنا أرى ذلك.
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومشى إلى جنب أبي جندل، أي وأبوه سهيل بجنبه يدفعه، وصار عمر رضي الله عنه يقول لأبي جندل: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، أي ومعك السيف، يعرض له بقتل أبيه، أي وفي رواية إن دم الكافر عند الله كدم الكلب ويدني قائم السيف منه، أي وفي لفظ: وجعل يقول: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فقال له أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت، فقال عمر: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره، فقال أبو جندل رضي الله عنه ما أنت أحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن يأخذ السيف فيضرب أباه فضنّ الرجل بأبيه.
وفيه كيف يظن عمر حينئذ جواز قتله لأبيه حتى يعرض له به، إلا أن يقال ظن ذلك لكونه يريد أن يفتنه عن دينه ويرجع إلى الكفر وإن كان صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا جندل اصبر واحتسب.
ورجع أبو جندل إلى مكة في جوار مكرز بن حفص أي وحويطب، فأدخلاه مكانا وكف عنه أبوه.
وأبو جندل اسمه العاص، وهو أخو عبد الله بن سهيل بن عمرو، وإسلام عبد الله سابق على إسلام أبي جندل، لأن عبد الله شهد بدرا، أي فإنه خرج مع المشركين لبدر، ثم انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدرا والمشاهد كلها وأبو جندل رضي الله عنه أول مشاهده الفتح.
ودخلت خزاعة في عقده صلى الله عليه وسلم وعهده، أي وفي لفظ: ووثب من هناك من خزاعة. فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم.
ويذكر أن حويطبا قال لسهيل: بادأنا أخوالك يعني خزاعة بالعداوة، وكانوا يستترون منا فدخلوا في عهد محمد وعقده، فقال له سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمرا فما نصنع بهم، قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر، قال سهيل إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر فإنهم أهل شؤم فيسبوا خزاعة، فيغضب محمد لحلفائه فينقض العهد بيننا وبينه.
ومن هذا التقرير يعلم أن بيعة الرضوان كانت قبل الصلح، وأنها السبب الباعث لقريش عليه.
ووقع في المواهب ما يقتضي أن البيعة كانت بعد الصلح، وأن الكتاب الذي ذهب به عثمان كان متضمنا للصلح الذي وقع بينه صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو، فحبست قريش عثمان، فحبس صلى الله عليه وسلم سهيلا، ولا يخفى عليك ما فيه.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين: أي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة، أي ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا قام إلى هديه فنحره، ومن جملته جمل لأبي جهل وكان نجيبا مهريا، وكان يضرب في لقاحه صلى الله عليه وسلم في رأسه برة، أي حلقة من فضة، وقيل من ذهب ليغيظ بذلك المشركين، غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما تقدم.
قال: وقد كان فر من الحديبية ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي جهل، وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه، ودفعوا فيه عدة ثياب، فقال رسول الله: «لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا».
وفي لفظ قال لهم سهيل بن عمرو: إن تريدوه فاعرضوا على محمد مائة من الإبل، فإن قبلها فأمسكوا هذا الجمل وإلا فلا تتعرضوا له: أي فعرضوا عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأبى، وقال: لو لم يكن هذا الجمل للهدي لقبلت المائة، وفرق صلى الله عليه وسلم لحم الهدي على الفقراء الذين حضروا الحديبية.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناجية حتى نحرت بالمروة وقسموا لحمها على فقراء مكة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وكان الحالق لرأسه خراش بن أمية الخزاعي الذي بعثه إلى قريش فعقروا جمله وأرادوا قتله كما تقدم.
فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة.
وفي كلام بعضهم أي وهو السهيلي أنه لم يقصر غيرهما، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة فقال «اللهم ارحم المحلقين» وفي لفظ «يرحم الله المحلقين» وفي لفظ «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: والمقصرين؟ فقال: «يرحم الله المحلقين أو قال: اللهم ارحم المحلقين أو اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين فقال: «يرحم الله المحلقين والمقصرين» وفي رواية قال «والمقصرين في الرابعة»، وقد قالوا له يا رسول الله لم ظاهرت؟ أي أظهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال «لأنهم لم يشكوا: أي لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت، بخلاف المقصرين» أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوها بعد طوافهم بالبيت.
وأرسل الله سبحانه وتعالى ريحا عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في الحرم، وفيه أنه تقدم أن الحديبية أكثرها في الحرم، فاستبشروا بقبول عمرتهم.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الكتاب أمرهم بالنحر والحلق قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها، أي وهو شديد الغضب فاضطجع. فقالت ما لك يا رسول الله مرارا وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: «هلك المسلمون؛ أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، وفي لفظ قال: عجبا يا أم سلمة، ألا ترين إلى الناس؟ آمرهم بالأمر فلا يفعلونه، قلت لهم: انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي»، فقالت: يا رسول الله لا تلمهم، فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه صلى الله عليه وسلم أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم وينحر بدنه ويحلق رأسه، ففعل كذلك: أي أخذ الحربة وقصد هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته:
«بسم الله والله أكبر»، ثم دخل صلى الله عليه وسلم قبة له من أدم أحمر ودعا بخراش فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس وتحاصوه، وأخذت أم عمارة رضي الله عنها طاقات منه، فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة أي بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يوما؛ وقيل عشرين يوما فلما كان صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة أي بكراع الغميم أنزلت عليه سورة الفتح أي وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، وحصل للناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله جهدنا: أي أصابنا الجهد وهو المشقة من الجوع وفي الناس ظهر: أي إبل فانحره لنأكل من لحمه، ولندهن من شحمه، ولنحتذي من جلوده، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل، كيف بنا إذا لاقينا العدو غدا جياعا رجالا، أي ثم قال: ولكن إن رأيت أن تدعو الناس إلى أن يجمعوا بقايا أزوادهم ثم تدعو فيها بالبركة، فإن الله سيبلغها بدعوتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا أنطاعكم وعبائكم» ففعلوا، ثم قال: «من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينثره»، ودعا لهم، ثم قال: «قربوا أوعيتكم»، فأخذوا ما شاء الله، أي وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله حتى شبعوا وبقي مثله.
وفي مسلم «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأخذنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا من أزوادنا فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على النطع، فكان كربضة العنز» أي كقدر العنز وهي رابضة أي باركة «وكنا أربع عشرة مائة» وقال الراوي فأكلنا حتى شبعنا ثم حشونا جربنا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، والله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجب من النار، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: هل من وضوء» بفتح الواو: وهو ما يتوضأ به «فجاء رجل باداوة» وهي الركوة «فيها نطفة من ماء» أي قليل من ماء، وقيل للماء نطفة لأنه ينطف أي يصب «فأفرغها في قدح، أي ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء» قال الراوي «فتوضأنا كلنا، أي الأربع عشرة مائة ندغفقه دغفقة» أي نصبه صبا شديدا ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغ الوضوء» وإلى تكثير الطعام والماء أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله في وصف راحته الشريفة:

أحييت المرملين من موت جهد *** أعوز القوم فيه زاد وماء

أي حفظت على المحتاجين للزاد والماء حياتهم، فسلموا من موت قحط شديد، أعوز القوم في ذلك القحط زاد وماء. وقال الإمام السبكي في تائيته في تكثير الماء:

وعندي يمين لا يمين يأنّ في *** يمينك وكفا حيثما السحب ضنت

ولما أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح، قال له جبريل عليه السلام يهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون وتكلم بعض الصحابة وقال: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت وصدّ هدينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: «بئس الكلام بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، وسألوكم القضية ويربحوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم الله تعالى سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ} [آل عمران: 153] وأنا أدعوكم في أخراكم ونسيتم يوم الأحزاب {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ} [الأحزاب: 10]» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا، وقال له بعض الصحابة: أي وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: «بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟» قالوا لا، قال: «فهو كما قال جبريل عليه السلام، فإنكم تأتونه وتطوفون به».
أقول: فيه أنه تقدم أن ذلك كان عن رؤيا لا عن وحي، إلا أن يقال: يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بمثل ما رأى ثم أخبرهم بذلك والله أعلم.
وفي لفظ: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين وأخبرهم بذلك؛ فلما صدوا قالوا له: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى {لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقّ} [الفتح: 27] الآية.
أقول: ولا يخالف هذا ما تقدّم أن الرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وأنها السبب الحامل على الإحرام بالعمرة، لجواز تكرر الرؤيا، وأن الأولى اقترن بها الوحي.
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام القضية وحلق رأسه، قال: «هذا الذي وعدتكم»، فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال: ادعو لي عمر بن الخطاب فقال:هذا الذي قلت لكم.
ولما كان في حجة الوداع ووقف صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «هذا الذي قلت لكم»، وفيه أنه لم يتقدم في الرؤيا أنه صلى الله عليه وسلم يأخذ المفتاح، ولا أن يقف بعرفة. إلا أن يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك بعد الرؤيا، وأن المراد من ذلك مجرد دخول مكة؛ والله أعلم.
وأصابهم مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم، أي ليلا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن صلوا في رحالكم».
أي ووقع مثل ذلك في حنين أنه أصابهم مثله، فأمر صلى الله عليه وسلم مناديه، أن ينادي: ألا صلوا في رحالكم.
وقال صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما صلى بهم «أتدرون ما قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا برحمة الله وفضله فهو مؤمن بالله وكافر بالكواكب، ومن قال مطرنا بنجم كذا؛ وفي رواية: بنوء كذا وكذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي» وهذا عند أئمتنا مكروه لا حرام، أي لأن المراد بالإيمان شكر نعمة الله حيث نسبها إلى الله، والكفر كفران النعمة حيث نسبها لغيره، فإن اعتقد أن النجم هو الفاعل كان الكفر فيه على حقيقته وهو ضد الإيمان، والأوّل إنما نهي عنه لأنه كان من أمر الجاهلية، وإلا فهذا التركيب لا يقتضي أن يكون نوء كذا فاعلا، ومن ثم لو قال مطرنا في نوء كذا: أي في وقت نوء كذا لم يكره. وكان ابن أبي ابن سلول قال: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى، أي وسمي الخريف خريفا، لأنه تخترف فيها الثمار: أي تقطع. والنوء: سقوط نجم ينزل في الغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق من أنجم المنازل، وذلك يحصل في كل ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة النجم المعروف، فإن لها أربعة عشر يوما، قال بعضهم: والأنواء ثمانية وعشرون نوآ: أي نجما، كان العرب يعتقدون أن من ذلك يحدث المطر أو الريح.
وفي الحديث «لو حبس الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله أصبح طائفة منهم به كافرين، يقولون مطرنا بنوء المجرّة» بكسر الميم: نجم يقال هو الدبران.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه «إن الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا» .
ونقل عن عمر رضي الله عنه «أنه قال: مطرنا بنوء كذا» ولعله لم يبلغه النهي عن ذلك حيث قال.
قال العارف بالله ابن عطاء الله: لعل هذا يكون ناهيا لك أيها المؤمن عن التعرّض إلى علم الكواكب واقتراناتها، ومانعا لك أن تدّعي وجود تأثيراتها. واعلم أن الله فيك قضاء لا بد أن ينفذه وحكما لا بدّ أن يظهره، فما فائدة التجسس على غيب علام الغيوب، وقد نهانا سبحانه أن نتجسس على غيبه.
وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها شجرة الرضوان، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أي في خلافته أن ناسا يصلون عندها، فتوعدهم وأمر بها فقطعت: أي خوف ظهور البدعة.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدّة، وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أوّل من هاجر من النساء بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإنها خرجت من مكة وحدها وصاحبت رجلا من خزاعة حتى قدمت المدينة.
وفي الاستيعاب: يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة ولا يعرف لها اسم إلا هذه الكنية، وهي أخت عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه.
ولما قدمت المدينة دخلت أم سلمة رضي الله تعالى عنها وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة وتخوّفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة أعلمته بها، فرحب بأم كلثوم رضي الله تعالى عنها، فخرج أخواها عمارة والوليد في ردها بالعهد، فقالا: يا محمد أوف لنا بما عاهدتنا عليه. فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أي بعد أن قالت له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنزل القرآن بنقض ذلك العهد بالنسبة للنساء لمن جاء منهم مؤمنا لكن بشرط امتحانهن بقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ[الممتحنة: 10] أي في مدة هذا العهد والصلح {مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ}[الممتحنة: 10] قال السهيلي رحمه الله: وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزة، ولا هاجرت إلا لله ولرسوله، وفي لفظ: كانت المرأة إذا جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي الله عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله، فإذا حلفت لم ترد ورد صداقها إلى بعلها.
أي ولما قدم الوليد وعمارة مكة أخبرا قريشا بذلك، فرضوا أن تحبس النساء، ولم يكن لأم كلثوم رضي الله عنها زوج بمكة، فلما قدمت المدينة زوّجها زيد بن حارثة.
وفي رواية: لما كان صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءته جماعة من النساء المؤمنات مهاجرات من مكة، من جملتهنّ سبيعة بنت الحارث، فأقبل زوجها وهو مسافر المخزومي طالبا لها، وأراد، مشركو مكة أن يردّوهن إلى مكة، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فاستحلف صلى الله عليه وسلم وسبيعة فحلفت، فأعطى صلى الله عليه وسلم زوجها مسافرا ما أنفق عليها، فتزوّجها عمر رضي الله عنه. وهذا السياق يدل على أن الآية الكريمة نزلت بالحديبية، وما قبله يدل على أنها نزلت بالمدينة. وقد يقال: لا مانع من تكرر نزول الآية.
وأما في غير مدة هذا العهد، أي بعد نسخة بفتح مكة فلم تستحلف امرأة جاءت إلى المدينة ولا يرد صداقها إلى بعلها، ومن ثم ذهب أئمتنا إلى أنه إذا شرط رد المسلمة إليهم فسدت الهدنة كما تقدم، ولا يجب دفع المهر للزوج لو جاءت مسلمة، وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ} [النّور: 33] أي الأزواج ما {أَنْفَقُواُ} [البقرة: 262] أي من المهور محمول على الندب، والصارف له عن الوجوب كون الأصل براءة الذمة، لأن البضع ليس بمال للكافر.
وفيه أن طلب رد المهور للأزواج كان واجبا في مدة العهد خاصة كما علمت، وأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] أي نهى المؤمنين عن البقاء على نكاح المشركات فطلق الصحابة رضي الله عنهم كل امرأة كافرة في نكاحهم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له امرأتان فطلقهما يومئذ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، فكان صلى الله عليه وسلم في مدة العهد يرد الرجال ولا يرد النساء، أي بعد امتحانهنّ. فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أبو بصير رضي الله عنه، وكان ممن حبس بمكة، وكتب في رده أزهر بن عوف رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهو من الطلقاء، وهو عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك كتابا، وبعث به رجلا من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فقرأه أبيّ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك»، قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني، قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجا ومخرجا»، فانطلق معهما، أي وصار المسلمون رضي الله عنهم يقولون له: الرجل يكون خيرا من ألف رجل يغرونه بالذين معه حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس رضي الله عنه إلى جدار ومعه صاحباه، فقال أبو بصير رضي الله عنه لأحد صاحبيه ومعه سيفه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم انظر إليه إن شئت، فاستله أبو بصير رضي الله عنه، ثم علاه به حتى قتله.
وفي لفظ: إن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل؛ فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم فقال: ناولنيه أنظر إليه فناوله؛ فلما قبض عليه ضربه به حتى برد؛ وقيل تناوله بفيه وصاحبه نائم فقطع إساره أي كتافه؛ ثم ضربه به حتى برد؛ فطلب المولى فخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحصى يطنّ تحت قدميه. وفي لفظ: والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، أي وأبو بصير في أثره حتى أزعجه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الرجل قد رأى فزعا»؛ وفي لفظ قد رأى هذا ذعرا؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، قال له: ويحك ما لك؟ قال قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد وإني لمقتول واستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه؛ فإذا أبو بصير رضي الله عنه أناخ بعير العامري بباب المسجد؛ ودخل متوشحا السيف، ووثب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب حيث شئت»، فقال: يا رسول الله هذا سلب العامري: أي الذي قتلته رحله وسيفه فخمسه، فقال له صلى الله عليه وسلم: «إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك»، ومن ثم قال فقهاؤنا: يجوز رد المسلم إلى الطالب له من غير عشيرته إذا قدر على قهر الطالب والهرب منه.
وعند ذلك ذهب أبو بصير رضي الله عنه إلى محل من طريق الشام تمر به عيرات قريش؛ واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة؛ أي إنهم لما بلغهم خبره رضي الله عنه؛ أي وأنه صلى الله عليه وسلم قال في حقه: ويل أمه مسعر حرب؛ أي لو كان معه رجال صاروا يتسللون إليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما الذي رده يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين فارسا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المدة التي هي زمن الهدنة أي خوف أن يردهم إلى أهليهم، وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، فقطعوا مادة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا أخذوها، حتى كتبت قريش له صلى الله عليه وسلم تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم.
وفي رواية أن قريشا أرسلت أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه في ذلك وأن قريشا قالوا إنا أسقطنا هذا الشرط من الشروط، من جاء منهم إليك فأمسكه في غير حرج، أي وفي لفظ: من أتاه فهو آمن، فإنا أسقطنا هذا الشرط، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وإلى أبي بصير رضي الله عنهما أن يقدما عليه وأن من معهما من المسلمين يلحقوا ببلادهم وأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وأبو بصير رضي الله عنه يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل رضي الله عنه مكانه، وجعل عند قبره مسجدا.
وقدم أبو جندل رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم. وأمنت قريش على عيراتهم وعلمت أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم الذين عسر عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه سهيل بن عمرو أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما أحبوه وأن رأيه صلى الله عليه وسلم أفضل من رأيهم، وعلموا بعد ذلك أن مصالحته صلى الله عليه وسلم كانت أولى، لأنها كانت سببا لكثرة المسلمين، فإن الكفار لما أمنوا القتال اختلطوا بالمسلمين فأثر فيهم الإسلام، فأسلم كثير منهم.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين أسلموا في سنتي الفتح بناء على أن المدة كانت سنتين أو المعنى سنتين من الصلح: أي من مدته يعدلون الذين أسلموا قبلهما.
قال: وعن بعضهم: أي وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد رأيت سهيل بن عمرو رضي الله عنه بعد إسلامه في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق لحلق رأسه فانظر إلى سهيل كلما يلفظ من شعره صلى الله عليه وسلم يضعه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم أي وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمدت الله وشكرته الذي هداه للإسلام.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون قد حصرنا المشركون، وكان لي وفرة فجعلت الهوام: أي القمّل تتساقط على وجهي، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي رواية «ملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمّل يتناثر على وجهي» وفي رواية أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ادنه»، فدنوت يقول ذلك مرتين أو ثلاثا وفي رواية «أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت برمة» وفي لفظ «قدر لي»، فقال: «يؤذيك تؤذيك هوامّ رأسك؟» قال أجل، قال: «احلق واهد هديا»، فقال: ما أجد هديا، فقال «صم ثلاثة أيام» وفي لفظ «فقال: أيؤذيك هوّام رأسك» وفي لفظ «لعلك آذاك هوامّ رأسك»، قلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، فأمرني أن أحلق» أي وفي رواية «أصابتني هوامّ في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى تخوّفت على بصري، وأنزل الله تعالى هذه الآية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} [البقرة: 196] أي فحلق {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق» أي زاد في رواية «من زبيب بين ستة مساكين» والفرق بفتح الفاء والراء: ثلاثة آصع، أي زاد في رواية «من تمر، لكل مسكين نصف صاع، أو انسك» أي اذبح «ما تيسر لك» زاد في رواية: «أيّ ذلك فعلت أجزأ عنك فحلقت، ثم نسكت» .
أي وفي رواية الشيخين «انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين» .
قال ابن عبد البر عامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وما ورد من الترتيب في بعض الأحاديث لو صح كان معناه الاختيار أولا فأولا.
قال الزمخشري في «سفر السعادة» : أمر صلى الله عليه وسلم في علاج القمّل بحلق الرأس لتنفتح المسام، وتتصاعد الأبخرة، وتضعف المادة الفاسدة التي يتولد القمل منها.
وذكر في الهدى أن أصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، والاستفراغ، فإلى الأول شرع التيمم خوفا من استعمال الماء. وإلى الثاني شرع الفطر في رمضان في السفر لئلا تتوالى مشقة السفر ومشقة الصوم. وإلى الثالث بحلق رأس المحرم إذا كان به أذى من قمل ليستفرغ المادة الفاسدة والأبخرة الرديئة.
وعند أئمتنا لا بد أن يكون ما يذبحه مجزئا في الأضحية وبعد الحديبية قبل خيبر، وقيل بعد خيبر نزلت آية الظهار {قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] .
وسبب ذلك: أن أوس بن الصامت لا عبادة بن الصامت كما قيل أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وفي لفظ: كان به لمم: أي نوع من الجنون. وكان فاقد البصر، قال لزوجته خولة بنت ثعلبة، وفي لفظ: بنت خويلد، وكانت بنت عمه وقد راجعته في شيء فغضب، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان ذلك في زمن الجاهلية طلاقا: أي كالطلاق في تحريم النساء ثم راودها عن نفسها، فقالت كلا لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: أنه لما قال لها أنت عليّ كظهر أمي أسقط في يده، وقال ما أراك إلا قد حرمت عليّ، انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه، فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم وهو يمشط رأسه الشريف، أي عنده ماشطة، أي وهي عائشة رضي الله عنها تمشط رأسه.
وفي لفظ كان الظهار أشد الطلاق وأحرم الحرام إذا ظاهر الرجل من امرأته لم ترجع إليه أبدا، فأخبرته، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ما أمرنا بشيء من أمرك ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليّ، فقال: «حرمت عليه»، فقالت أشكو إلى الله فاقتي وتركي إلى غير أحد وقد كبر سني ودق عظمي وفي لفظ أنها قالت: اللهم إني أشكو إليك شدّة وحدتي وما شق عليّ من فراقه وما نزل بي وبصبيتي، قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقة عليها. وفي لفظ قالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا ذات مال وأهل، فلما أكل مالي وذهب شبابي ونفضت بطني وتفرق أهلي ظاهر مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» فبكت وصاحت وقالت: أشكو إلى الله فقري ووحدتي وصبية صغارا أن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وصارت ترفع رأسها إلى السماء، فبينما هو صلى الله عليه وسلم قد فرغ من شق رأسه وأخذ في الشق الآخر أنزل الله عليه الآية فسريّ عنه وهو يتبسم، فقال صلى الله عليه وسلم لها «مريه فليحرر رقبة»، فقالت: والله ما له خادم غيري، قال «مريه فليصم شهرين متتابعين»، فقالت: والله إنه لشيخ كبير إنه إن لم يأكل في اليوم مرتين يندر بصره: أي لو كان مبصرا، فلا ينافي ما تقدم أنه كان فاقد البصر، قال: «فليطعم ستين مسكينا»، فقالت: والله ما لنا اليوم وقية، فقال: «مريه فلينطلق إلى فلان يعني شخصا من الأنصار أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر يريد أن يتصدق به فليأخذه منه».
وفي رواية: «مريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر فليتصدق به على ستين مسكينا وليراجعك»، ثم أتته فقصت عليه القصة فانطلق ففعل.
أي وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا سأعينه بفرق من تمر» فبكت، وقالت: وأنا يا رسول الله سأعينه بفرق آخر، قال: «قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا».
وفي رواية: لما قال لها صلى الله عليه وسلم: «ما أعلم إلا قد حرمت عليه»، قالت لها عائشة رضي الله عنها: وراءك، فتنحت، فلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي وسري عنه قال: «يا عائشة أين المرأة؟» قالت: ها هي هذه، قال: «ادعيها» فدعتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبي فجيئي بزوجك»، فذهبت فجاءت به، وأدخلته على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ضرير البصر، فقير، سيىء الخلق فقال له صلى الله عليه وسلم «أتجد رقبة»، قال لا. وفي لفظ قال: ما لي بهذا من قدرة، قال: «أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاث يغشى عليّ. وفي لفظ إني إذا لم آكل في اليوم مرتين كلّ بصري: أي لو كان موجودا، قال: «أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» قال لا، إلا أن تعينني بها، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفر عنه. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه مكتلا يأخذ خمسة عشر صاعا، فقال: «أطعمه ستين مسكينا»، قال بعضهم: وكانوا يرون أن عند أوس رضي الله عنه مثلها حتى يكون لكل مسكين نصف صاع. وفيه أنه خلاف الروايات من أنه لا يملك شيئا. فقال: على أفقر مني، فو الذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اذهب به إلى أهلك»، وهذا أوّل ظهار وقع في الإسلام.
ومر عمر رضي الله تعالى عنه بخولة هذه أيام خلافته، فقالت له: قف يا عمر، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها، وأطالت الوقوف، وأغلظت له القول: أي قالت له هيهات يا عمر، عهدتك وأنت تسمي عميرا وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال لها الجارود: قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: دعها. وفي رواية فقال له قائل: حبست الناس لأجل هذه العجوز، قال: ويحك، وتدري من هذه؟ قال لا، قال: هذه امرأة قد سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تنقضي حاجتها.
قيل وفي هذه السنة التي هي سنة ست حرمت الخمر، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وقيل حرمت سنة أربع، أي ويدل له ما تقدم من اراقة الخمر وكسر جررها في بني قريظة، وقيل في السنة الثالثة، وقيل إنما حرمت في عام الفتح قبل الفتح.
قال بعضهم: حرمت ثلاث مرات: أي نزل تحريمها ثلاث مرات كان المسلمون يشربونها حلالا، أي لغيره صلى الله عليه وسلم، أما هو فحرمت عليه قبل البعثة بعشرين سنة، فلم تبح له قط.
وقد جاء «أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأصنام شرب الخمر» وتقدم أن جماعة حرموها على أنفسهم وامتنعوا من شربها، ولا زالت حلالا للناس حتى نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فعند ذلك اجتنبها قوم لوجود الإثم وتعاطاها آخرون لوجود النفع، أي وكانوا ربما شربوها وصلوا، فلما نزل قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ} [النّساء: 43] امتنع من كان يشربها لأجل النفع من شربها في أوقات الصلاة، ورجع قوم منهم عن شربها حتى في غير أوقات الصلاة، وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة.
وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي كرم الله وجهه، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما: أي وشرابا من الخمر، فأكلنا وشربنا، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة: أي الجهرية، وقدموني فقرأت {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ} * {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1-2] ونحن نعبد ما تعبدون، إلى أن قلت: وليس لي دين وليس لكم دين. ثم نزلت الآية الأخرى الدالة على تحريمها مطلقا وهي {إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:91] أي ولعل هذه الآية الأخيرة هي التي عناها أنس رضي الله عنه بقوله كما في البخاري: كنت ساقي القوم الخمر بمنزل أبي طلحة، أي وهو زوج أمه رضي الله عنهم، ونزل تحريم الخمر، فمرّ مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، فقال بعض القوم: قتل قوم: أي في أحد وهي في بطونهم. وفي رواية قالوا: يا رسول الله كيف بمن مات من أصحابنا، وكان شربها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ}[المائدة: 93] أي لأن ذلك كان قبل تحريمها مطلقا.
وقد جيء لعمر رضي الله عنه بشخص من المهاجرين الأوّلين قد سكر، فأراد عمر جلده فاستدل على عمر بهذه الآية، فقال عمر لمن حضره ألا تردون عليه، فقال  ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين، ثم استشار عمر رضي الله عنه عليا كرّم الله وجهه، فأشار عليه أن يجلده ثمانين جلدة: ولعل هذا الشخص هو قدامة بن مظعون، وتقدمت قصته في بدر وتقدّم في ذلك أن الذي ردّ عليه بذلك عمر لا ابن عباس رضي الله عنهم وكذا وقد لأبي جندل رضي الله عنه مثل ذلك، وأنه أشفق: أي خاف من ذلك، فلما بلغ عمر رضي الله عنه كتب إليه: إن الذي زين إليك الخطيئة هو الذي حظر: أي منع عليك التوبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {حـمۤ} * {تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيم} * {غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ} [غافر:1- 3] الآية.