شوال 3 هـ
نيسان 625 م
غزوة أحد

عرفت هذه الغزوة باسم الجبل الذي وقعت عنده، ويقع في شمال المدينة وكان يرتفع 128 مترا أما الآن فيرتفع 121 مترا فقط بسبب عوامل التعرية …

ويبعد عن المسجد النبوي خمسة أكيال ونصف الكيل بدءا من باب المجيدي أحد أبواب المسجد النبوي، ويتكون أحد من صخور جرانيتية حمراء وله رءوس متعددة، ويقابله من جهة الجنوب جبل صغير يسمى “عينين” وهو الذي عرف بعد المعركة بجبل الرماة، وبين الجبلين واد عرف بوادي قناة.
وقد وقعت هذه المعركة نتيجة هجوم شنته قريش على المدينة ولم يمر على غزوة بدر سوى سنة واحدة وشهر، واستهدفت الثأر لقتلاها ببدر، وإنقاذ طرق التجارة إلى الشام من سيطرة المسلمين واستعادة مكانتها عند العرب بعد أن زعزعتها موقعة بدر. وقد اتفق كتاب السيرة على أن أحد كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة، واختلفوا في اليوم الذي وقعت فيه، وأشهر الأقوال أنها في يوم السبت للنصف من شوال .
وقد ذكر ابن إسحق عن جمع من شيوخه أن قريشا أعدت لغزوة أحد منذ هزيمتها ببدر حيث خصصت القافلة التجارية التي نجت  أو أرباحها لتجهيز جيشها. ويذكر ابن إسحق أنهم أخرجوا معهم ثماني نسوة سماهن في حين يذكر الواقدي أنهن أربع عشرة سماهن . وبلغ عدد جيش قريش ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس جعلوا على ميمنتها خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل . وكان فيهم سبعمائة دارع .

يتكون جيش المشركين من قريش ومن أطاعها من كنانة وأهل تهامة . وقد علم المسلمون بقدوم جيش المشركين لغزو المدينة، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا – ورؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي – حكاها لأصحابه فقال: «رأيت في رؤيا أني هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد كأحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت بقرا – والله خير – فإذا هم المؤمنون يوم أحد». وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا بأن هزيمة تكون في أصحابه وقتلا يقع فيهم ، وفي رواية أخرى: «ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة» .
وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في البقاء في المدينة والتحصن فيها وكانت المدينة قد شبكت بالبنيان فهي كالحصن أو الخروج لملاقاة جيش قريش فقال: «إنا في جنة حصينة». فقال ناس من أصحابه من الأنصار: يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه، فابرز إلى القوم، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته . فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب
من رواية الواقدي. ولا تصح رواية في ذلك وإنما هي أقوال الإخباريين المعنيين بذلك.

يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم قد تلاوموا فقالوا: أمرنا لأمرك تبع). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز» . ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عود أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى لو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا لأنه اخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، فلا بد أن يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيه القرآني {وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ} [ال عمران: 159] لتعتاد على ممارسة الشورى، وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي إلا أنه ليس لهم فرضه على القائد فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج بسبب إلحاحهم عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.
وتتلخص دوافع الراغبين في الخروج بإظهار الشجاعة أمام الأعداء، وبرغبة الذين فاتتهم المشاركة في غزة بدر أن يشاركوا في موقعة مماثلة.
أما رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن وافقه فمبني على الإفادة من حصون المدينة في الدفاع مما يقلل من خسائر المدافعين ويزيد من خسائر المهاجمين، ثم الإفادة من طاقات سائر السكان حتى الذين لا يستطيعون القتال في الميادين المكشوفة من النساء والصبيان.

وعلى أية حال فقد ارتفعت راية سوداء  وثلاثة ألوية، لواء المهاجرين يحمله مصعب بن عمير، فلما قتل حمله علي بن أبي طالب، لواء الأوس يحمله أسيد بن حضير ولواء الخزرج يحمله الحباب بن المنذر . واجتمع تحتها ألف من المسلمين والمتظاهرين بالإسلام، معهم فرسان فقط ومائة دارع.
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم درعين. رغم علمه بأن الله تعالى يعصمه من القتل تعويدا لأمته على الأخذ بالأسباب المادية ثم التوكل على الله.
وخرج الجيش الإسلامي إلى أحد مخترقا الجانب الغربي من الحرة الشرقية  حيث انسحب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بثلثمائة من المنافقين، مدعيا أنه لن يقع قتال مع المشركين!! معترضا على قرار الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج بقوله (أطاعهم وعصاني) .
أما الواقدي فذكر أن انسحاب المنافقين كان من منطقة الشيخين قريبا من منطقة أحد . وقد بين القرآن الكريم أن انسحاب عبد الله بن أبي بالمنافقين إنما هو تنقية لصف المؤمنين وتمييز لهم فلا يبقى فيهم من يرجف ويخذل. قال تعالى: {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ} [ال عمران: 179] . وقال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [ال عمران: 166]   {وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [ال عمران: 166].

وقد ورد في رواية مرسلة لابن إسحق عن شيوخه أن عبد الله بن عمرو بن حرام حاول إقناع المنافقين بالعودة فأبوا وذكروا ما حكته الآية الكريمة السابقة، فقال: “أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه” .

وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة، الأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم واشنقاقهم عن الجيش. والثاني: لا يرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين في الآية {فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ} [النساء: 88].
وقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم, وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى فدفع عنهم الوهن، فثبتوا مع المؤمنين وهما بنو سلمة (من الخزرج) وبنو حارثة (من الأوس) . وقد صور القرآن الكريم موقف الطائفتين فقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [ال عمران: 122].

وفي موقع الشيخين عسكر جيش المسلمين واستعرض الرسول صلى الله عليه وسلم صغار السن الذين لا طاقة لهم بقتال ممن هم أبناء أربع عشرة سنة أو أقل فردهم سوى رافع بن خديج أجازه لما قيل له أنه رام، وسمرة بن جندب لما علم أنه أقوى من رافع ، وبلغ عدد من ردهم من صغار السن أربعة عشر صبياً سماهم ابن سيد الناس  وقد صح أن ابن عمر منهم  وموقف هؤلاء الصبيان وهم مقبلون على الموت بشجاعة ورغبة يبعث على الدهشة حقا، وقد تنافسوا في ذلك متطلعين إلى نيل الشهادة في سبيل الله دون أن يجبرهم قانون للتجنيد أو تدفع بهم قيادة غاشمة إلى ميدان القتال، ولكن أليست هذه سمات التربية المحمدية ومزايا الروح الإسلامية؟
وقد تقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أحد، واتخذ مواقعه بموجب خطة محكمة حيث نظم الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه جاعلا ظهورهم إلى جبل أحد ووجوههم تستقبل المدينة، وجعل خمسين من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير فوق جبل عينين المقابل لأحد لحماية المسلمين من التفاف خيالة المشركين عليهم وشدد عليهم بلزوم أماكنهم وقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم». وبذلك سيطر المسلمون على المرتفعات تاركين الوادي لجيش قريش الذي تقدم وهو يواجه أحد وظهره إلى المدينة.

وتشير روايات ضعيفة – حديثياً – إلى وقوع مبارزة قبل التحام الجيشين بين علي بن أبي طالب وطلحة بن عثمان حامل لواء المشركين وأن عليا قتله ، وإلى محاولة أبي عامر الفاسق (الراهب) – الذي كان من زعماء الأوس وترك المدينة فالتحق بالمشركين – إقناع الأوس بالالتحاق به، لكنهم ردوه رداً شديداً.
وقد اشتد القتال بين الجيشين وتراجع المشركون إلى معسكرهم فقد أبدى المسلمون بطولة فائقة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ سيفا فيقول: «من يأخذ مني هذا؟»فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا. أنا قال: «من يأخذه بحقه؟» قال: فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الأبطال. فلما طلب سباع بن عبد العزى المبارزة تصدى له فقتله، وكان وحشي مولى جبير بن مطعم قد وعده مولاه أن يعتقه إن قتل حمزة – وكان حمزة قد قتل عمه طعيمة بن عدي ببدر – فكمن له وحشي تحت صخرة فلما دنا منه رماه بحربته فقتله غيلة ، وهل لمثل وحشي أن ينازل حمزة منازلة الأبطال أو يواجهه كما يفعل الرجال!!
واستشهد آخرون في هذه المرحلة الأولى من القتال منهم حامل الراعية داعية الإسلام مصعب بن عمير. قال خباب: “هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى – أو ذهب – لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة (أي كساء) كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه واجعلوا الأذخر أو قال ألقوا على رجليه من الأذخر» ولما استشهد مصعب بن عمير أخذ علي بن أبي طالب اللواء . وقد أشارت الآية الكريمة {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [ال عمران: 152] إلى قتل المسلمين للمشركين بإذن الله في هذه المرحلة من القتال.

فلما رأى الرماة هزيمة المشركين قالوا لعبد الله بن جبير: “الغنيمة الغنمية ظهر أصحابكم فما تنتظرون. فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة” . ثم انطلقوا يجمعون الغنائم.
وتبين رواية مرسلة للسدي ما حدث بعد نزول الرماة، فقد رأى خالد بن الوليد – وكان على خيالة المشركين – الفرصة سانحة ليقوم بالالتفاف حول المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك عادوا إلى القتال من جديد. وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وأخذوا يقاتلون دون تخطيط، بل لم يعودوا يميزون بعضهم، فقد قتلوا اليمان – والد حذيفة بن اليمان – وهو شيخ كبير وابنه يصيح فيهم: أبي. فأجهزوا عليه فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين !!
ولم ينفع بأس المسلمين وحرارة قتالهم ما دام لا تحكمه خطة منظمة، فأخذوا يتساقطون شهداء في الميدان وقد فقد المسلمون اتصالهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قد قتل .

وأسقط في يد المسلمين، ففر كثيرون منهم من ميدان القتال، وانتحى بعضهم جانبا فجلس دون قتال  في حين آثر آخرون الموت على الحياة بعد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهوده بدرا ويقول: “والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله كيف أصنع”.
فلما رأى في أحد بعض المسلمين جلوسا محتارين صاح “واها لريح الجنة أجد دون أحد” فقاتل حتى قتل ووجد في جسده بضع وثمانون أثرا من بين ضربة ورمية وطعنة حتى ما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه، ونزلت فيه وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين هذه الآية {مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [الاحزاب: 23]. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بعد المعركة يتفقد أنس بن النضر، فوجده بين القتلى وبه رمق فما كان منه – بعد أن رد علي سلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: “أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف. وفاضت عينه . فما أروعها من وصية وما أقواه من التزام لا يؤثر فيه الموت وآلام الجراحات!!.
وقد حكى القرآن خبر فرارهم والعفو عنهم فقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [ال عمران: 155]. ويبدو أنهم ترخصوا في الفرار لسماعهم بخبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم  وكان أول من عرف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حي هو كعب بن مالك فنادىفي المسلمين يبشرهم فأمره الرسول بالسكوت لئلا يفطن له المشركون .
وقد صمدت فئة قليلة كانت حول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الميدان ولم تزعزعه الأحداث كما هو شأنه عليه الصلاة والسلام في سائر المواقف الصعبة، فكان يدعو أصحابه كما حكى القرآن الكريم {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ} [ال عمران: 153]. وخلص بعض المشركين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فقال: «من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» فقاتلوا عنه واحدا واحدا حتى استشهد الأنصار السبعة . ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قتالا مشهورا حتى شلت يده بسهم أصابها ، وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناوله السهام ويقول: “إرم فداك أبي وأمي”  وكان سعد من مشاهير الرماة. ودافع أبو طلحة الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان راميا، فكان النبي يشرف على القتال فيقول له أبو طلحة: “لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك” وكان إذا مر الرجل معه جعبة السهام يقول الرسول: «انثرها لأبي طلحة». وقد عبر الرسول عن إعجابه بقتاله فقال: «لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة» .
ورغم استبسال الصحابة في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أصيب إصابات كثيرة فكسرت رباعيته وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: “كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الإسلام” فأنزل الله عز وجل في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [ال عمران: 128]. لقد استبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوفق الله من آذوه بهذه الصورة فأخبره الله سبحانه بأن ذلك ليس ببعيد إن أراد الله هدايتهم، فقال عليه الصلاة والسلام لما طمع بإسلامهم«رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
وقد ورد أن أبا دجانة كان يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم بظهره حتى كثر النبل فيه، وأن قتادة بن النعمان أبلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عينه أصيبت فردها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه.
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال «في الجنة» فألقى ثمرات في يده ثم قاتل حتى قتل.
وكان عبد الله بن جحش قد دعا ربه فقال: (إني أقسم أن نلقي العدو فإذا لقينا العدو أن يقتلوني ثم يبقروا بطني ثم يمثلوا بي فإذا لقيتك سألتني: فيم هذا؟ فأقول: فيك. فلقى العدو ففعل ذلك به) .
وقد أبى عمرو بن الجموح- وكان أعرج شديد العرج مما يسقط عنه الجهاد  إلا أن يشهد المعركة مع أبنائه الأربعة طلبا لشهادة، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: «نعم» قال: فوالذي بعثك بالحق لأطأن بها الجنة اليوم إن شاء الله ثم قاتل حتى قتل .
واستشهد حنظلة بن أبي عامر الغسيل وهو جنب، وكان عروسا ليلة أحد فسمع النداء بالخروج فعجل بالخروج ولم يغتسل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» !!
وقتل في أحد مخيريق الذي كان من علماء يهود بني النضير وكان قد أوصى بأمواله – إن قتل – للرسول صلى الله عليه وسلم فقبلها .
وقد أبى شيخان كبيران تركهما الرسول صلى الله عليه وسلم في الحصون مع النساء والأطفال عند خروجه إلا اللحاق به والاشتراك في القتال طلبا للشهادة وهما اليمان والد حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش فاستشهدا في الميدان. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ ووداه الرسول صلى الله عليه وسلم فتصدق ابنه حذيفة بديته مما زاده عند الرسول خيراً.
وسارع عمرو بن أقيش إلى أحد، وكان للإسلام كارها، فلما رآه المسلمون منعوه، فقال: “إني قد آمنت” فقاتل حتى جرح فحمل إلى أهله جريحا، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: “سليه حمية لقومك أو غضباً لهم أو غضبا لله؟ فقال: بل غضبا لله ولرسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة” !!
وقد ثبت أن رجلاً  أخبر الناس الرسول صلى الله عليه وسلم عن حسن بلائه. فقاله: إنه من أهل النار، ثم أخبرهم الرجل بأنه إنما قاتل عصبية لقومه وليس لله. وقد انتحر بسهمه لما آلمته الجراح!!!

وفي هذين الخبرين آية وبيان لمكان النية في الجهاد، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ومن قاتل لغير ذلك من الأهداف مهما سمت في نظر الناس فليس بشهيد .
وقد خرجت بعض النسوة مع جيش المسلمين إلى أحد منهن أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية التي اضطرت للقتال دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جرحت جراحا كثيرة . وكانت حمنة بنت جحش الأسدية تسقي العطشي وتداوي الجرحى. وثبت أن أم سليط كانت تحمل قرب الماء لسقاية المسلمين .
وصح أن عائشة رضي الله عنه وأم سليم قامتا بسقي الجرحى بعد تراجع المسلمين .وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء. مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار الإسلام فيجب قتاله من الجميع رجالاً ونساء.
ورغم ما أصاب المسلمين من جراح، وما لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم من أذى فقد استمر القتال بين الطرفين وأجهد الجانبين.
وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالانسحاب نحو شعاب أحد وقد لحق به المسلمون حتى صعد في أحد شعابه وتمكن المسلمون من صد المشركين عنه، وقد ثبت أن الله تعالى أرسل جبريل وميكائيل من الملائكة ليقاتلا دفاعا عنه لأن الله تعالى تكفل بعصمته من الناس. ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال. وإن وعدهم الله تعالى أن يمدهم، لأنه جعل وعده معلقاً على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد . {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ } [ال عمران: 124] بَلَى {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [ال عمران: 125].

وكان المسلمون مغتمين لما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أصابهم فأنزل الله تعالى عليهم النعاس فناموا يسيرا ثم أفاقوا وقد زال عنهم الخوف وامتلأت نفوسهم طمأنينة، قال أبو طلحة الأنصاري: “كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه” . وقال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ}[ال عمران: 154] وهذه الطائفة التي أهمتها نفسها دون أن تفكر بمصاب المسلمين ومصير الإسلام هي المنافقون الذين قال قائلهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) . ولا شك أن النعاس أعاد للمسلمين بعض طاقتهم ونشطهم للدفاع عن أنفسهم خلال الانسحاب، وقد تبعهم بعض المشركين منهم أبي بن خلف الجمحي وقد حلف أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماه الرسول بحربة فجرحه فرجع إلى أصحابه ومات في طريق عودتهم من أحد .
وقد يئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، فكفوا عن مطاردة المسلمين في شعاب أحد، ولكن أبا سفيان تقدم من المسلمين وخاطبهم فقال: “أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟
فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا.
فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك.
قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوا». قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني” وفي رواية أخرى قال عمر: “لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار” . وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيرا له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة.
ويقرر ابن إسحق والواقدي أن أبا سفيان واعدهم لحرب أخرى بعد عام وأنهم وافقوا على الموعد .
وذكر ابن إسحق والسدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً ليعرف وجهة قريش وهل تنوي غزو المدينة أم العودة إلى مكة  كما ذكر الواقدي أنه أرسل سعد بن أبي وقاص لهذا الاستطلاع ، والقول الأول أقوى. وعلى أية حال، فقد امتطت قريش إبلها ورضيت بما أحرزت من انتقام دون أن تتطلع إلى نصر حاسم بتعقب المسلمين في شعاب أحد والقضاء عليهم قضاء مبرماً أو بغزو المدينة.
وما إن غادرت قريش المكان حتى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء، وكانوا سبعين شهيداً ، ولم يؤسر أحد من المسلمين، أما قريش فقد قتل منها اثنان وعشرون رجلاً سماهم ابن إسحق . وأسر منهم أبو عزة الشاعر فقتل صبراً لأنه أخلف وعده للرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يقاتل ضده عندما منَّ عليه ببدر وأطلقه فعاد فقاتل بأحد .
وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بني الرجلين من الشهداء في ثوب واحد، وقدَّم عند الدفن أكثرهم حفظاً للقرآن، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة».
وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلم فيها . وقد دفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد  وحمل بعض الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد .
ولما انتهى من دفن الشهداء صف أصحابه وأثنى على ربه  فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الخلق»  ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة.
وقد ظلت ذكرى شهداء أحد عميقة في نفسه عليه الصلاة والسلام فقد تمنى أن يكون استشهد معهم فكان إذا ذكروا يقول: «أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي نحص الجبل» – أي سفحه – .
وكانت صور المقاتلين الشجعان تمر بمخيلته فيثنى عليهم، لما أعطى علي رضي الله عنه سيفه لفاطمة رضي الله عنها  قائلا: “هاك السيف فإنها قد شفتني” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاد سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت الأقلح والحارث بن الصمة».
وفي المدينة خرجت نسوة وأطفال يتطلعون في وجوه الجيش ينشدون آباءهم وأزواجهم، وقد استعلت فيهم معاني الإيمان واحتمال المصاب، فلما أخبرت حمنة بنت جحش باستشهاد أخيها عبد الله بن جحش وخالها حمزة بن عبد المطلب استرجعت واستغفرت، ثم أخبرت باستشهاد زوجها مصعب فصاحت وولولت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن زوج المرأة منها لبمكان». لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها .
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني عبد ديتار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل – تعني صغيرة !!
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بما نال الشهداء من عظيم الأجر فقال لابنة عبد الله بن عمرو والد جابر: «لم تبكين؟!» فما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفع .
وقد سمع رسول الله لأهل المدينة نحيبا وبكاء على قتلاهم، فقال: «لكن حمزة لا بواكي له». فبكته نسوة الأنصار، فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ونهاهن عن النياحة أشد ما يكون النهي . وبذلك حرمت النياحة على الميت إلى الأبد ولم يؤذن إلا بدمع العيون.
وقد نزل في شهداء أحد قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [ال عمران: 169] ، وقال الجمهور: إن الشهداء أحياء حياة محققة وإن أرواحهم في أجواف طير خضر، وإنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون . وكذلك نزلت آيات القرآن الكريم تمسح جراحات المسلمين، وتزيل عنهم آثار أحد: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [ال عمران: 139].
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} [ال عمران: 140].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ} [ال عمران: 142].
وكان المسلمون يواجهون في المدينة اليهود الشامتين والمنافقين االمرجفين ويواجهون في أطراف المدينة الأعراب المشركين الذين كانوا يتطلعون بشراهة إلى ثمار المدينة وخيراتها. وكان ثمة احتمال أن تندم قريش فتعود لمهاجمة المدينة فكان لابد من التحرك السريع لاستعادة موقع المسلمين والاحتفاظ بمكانتهم، ومن هنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش الذي شهد “أحدا” أن يخرج لمطاردة جيش قريش إلى حمراء الأسد  رغم إصابة الكثيرين منهم بالجراح، ولم يأذن لسواهم بالاشتراك في حملة المطاردة هذه ، وقد سارع سبعون من الصحابة للاشتراك ثم بقية الجيش فصار عددهم ستمائة وثلاثين.
وقد أثنى القرآن الكريم على مبادرتهم بالخروج. قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير في قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [ال عمران: 172] قالت: أبوك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: «من يذهب في أثرهم؟» فانتدب منهم سبعون رجلاً” .
ويذكر ابن إسحق دون إسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بحمراء الأسد ثلاثة أيام هي الاثنين والثلاثاء والأربعاء وأن معبد الخزاعي مر به ثم لقي أبا سفيان والمشركين بالروحاء وقد اعتزموا العودة لاستئصال المسلمين، فخذلهم وأخبرهم بخروج المسلمين إلى حمراء الأسد ونصحهم بالعودة إلى مكة .
ولا شك أن حملة حمراء الأسد حققت الأهداف المرسومة بإظهار قدرة المسلمين على التصدي لخصومهم من الأعراب وقريش رغم ما أصابهم في أحد، فإنهم إذا كانوا قادرين على التحرك العسكري خارج المدينة فهم أقدر على مواجهة اليهود والمنافقين داخلها.