شوال 3 هـ
آذار 625 م
غزوة أحد

وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وشذ من قال سنة أربع  وأحد جبل من جبال المدينة، قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن …

غيره من الجبال التي هناك، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة ومن فيه من الشهداء. وهو على نحو ميلين، وقيل على ثلاثة أميال من المدينة؛ يقال إن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، وفيه قبض، فواراه موسى به. وكانا قدما حاجين أو معتمرين.
وعن ابن دحية أن هذا باطل بيقين، وأن نص التوراة أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام.
وقد يقال لا مخالفة، لأنه يقال المدينة شامية، وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم.
قال صلى الله عليه وسلم «إن أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه، إذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه» أي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك. والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجرة تبركا به.
وقال صلى الله عليه وسلم «أحد ركن أركان من أركان الجنة» أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية «على باب من أبواب الجنة» ولا يخالف ما قبله، فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب. وفي رواية «جبل من جبال الجنة» ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ} [البقرة:74] .
وقيل هو على حذف مضاف: أي يحبنا أهله وهم الأنصار. أو لأن اسمه مشتق من الأحدية، وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال. وقيل أفضلها عرفة. وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى. وقيل قاف.
ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ورجال أخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا، وإلى من كان له تجارة في تلك العير: أي التي كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم: أي قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا: أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال، فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينار أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار. وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار، وأنزل الله تعالى في تلك {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] .
وتجهزت قريش من والاهم من قبائل كنانة وتهامة. وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك، ولك عليّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ أي وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بلسانك.
فخرج أبو عزة ومسافع يستنفران الناس بأشعارهما. فأما مسافع فلا يعلم له إسلام، لكن في كلام ابن عبد البر: مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة، وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره. وأما أبو عزة فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد: أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا، وتقدم استطرادا، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي، وتقدم استطرادا.
ودعا جبير بن مطعم بن عدي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان يقذف بحرية له قذف الحبشة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق، أي لأن حمزة هو القاتل له. وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة، وإن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإني لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق، وخرج معهم النساء بالدفوف.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، هذا كلامه. وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة: أي مع أزواجهن.
ومنهنّ هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنها، فإنها أسلمت بعد ذلك. أي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة رضي الله تعالى عنهما، فإنهما أسلما بعد ذلك، وسلافة مع زوجها طلحة بن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم، يحرضنهم على القتال، وعدم الهزيمة والفرار. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أرسل به إليه عمه العباس، أي بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشيء، وذلك في كتاب جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك، فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس، أي فقال:
والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها: لا أم لك وما أنت وذاك؟ فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلّ عنها».
وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل. وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس. قال في الأصل: والأحابيش الذين حالفوا قريشا، وهم: بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا عند حبشي، وهو جبل بأسفل مكة، وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي مكانه، فسموا أحابيش باسم الجبل. وقيل سموا بذلك لتحبشهم: أي تجمعهم، وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة آلاف بعير وسبعمائة دارع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة: أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه، أي وأرجفت اليهود والمنافقون، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له: أي جاسوسين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم.
ويقال إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه خبرهم وانصرفوا. ولما وصلوا: أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه صلى الله عليه وسلم، والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فقالت: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها: أي جزء من أجزائها، فقال بعض قريش: لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم، وحرست المدينة، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله حتى أصبحوا.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال: «رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذبابة سيفي: أي وهو ذو الفقار» «ثلما» بإسكان اللام. وفي لفظ «وكأن ظبة سيفي انكسرت» وفي لفظ «ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته، وهما مصيبتان. ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة» وفي رواية «ورأيت أني في درع حصينة» أي وأني مردف كبشا. قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قيل له ما أولتها؟ قال: قال: «فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون» وفي لفظ «أولت البقر بقرا يكون فينا وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي» أي وفي رواية «من عترتي يقتل» وفي رواية «رأيت أن سيفي ذا الفقار فلّ، فأولته فلا فيكم» أي وفلول السيف كسور في حده، وقد حصل في حد سيفه كسور، وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان ذلك علامة على وجود الأمرين. وأما الدرع الحصينة فالمدينة: أي وأما الكبش فإني أقتل كبش القوم: أي حاميهم وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها»، أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار. قال: ووافق على ذلك عبد الله ابن أبي سلول، أي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل يستشيره ولم يستشره قبل ذلك، قال: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. اهـ.
وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكالب، إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ، وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد. وقال رجال: أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدوّ وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، أي فيكون ذلك جراءة منهم علينا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وفي لفظ أن الأنصار قالوا: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبد المطلب. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجادلهم بسيفي خارج المدينة، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم كاره للخروج، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافق على ذلك، فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلّى بالناس العصر وقد حشدوا: أي اجتمعوا؛ وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردّوا الأمر إليك، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع، وهما: ذات الفضول، وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم، وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه حين سار إلى بدر، وهي التي مات صلى الله عليه وسلم عنها وهي مرهونة عند اليهودي، وأفتكها أبو بكر رضي الله عنه، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه صلى الله عليه وسلم: وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية أنه صلى الله عليه وسلم تمنطق حيث قال: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد وسطه بمنطقة.
وقد يقال: مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها. وفيه رد على بعضهم في قوله: كان له صلى الله عليه وسلم منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة، والطرف من فضة.
وقد يقال: لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل.
وتقلد صلى الله عليه وسلم السيف، وألقى الترس في ظهره، أي وفي رواية: فركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب، وتقلد القوس، وأخذ قناته بيده، أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك. ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت. وفي رواية: فإن شئت فاقعد، أي وقال: «قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه»، أي وفي رواية: حتى يقاتل.
وأخذ منه أن يحرم على النبي نزع لأمته إذا لبسها حتى يلحق العدوّ ويقاتل، وبه قال أئمتنا: أي وقيل إنه مكروه واستبعد. وقوله صلى الله عليه وسلم «وما ينبغي لنبي» يقتضي أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن، وذلك ممتنع على الأنبياء صلى الله عليه وسلم قاله في النور.
وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له، لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات.
وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية: لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل بيد مصعب بن عمير، أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين؟ فقيل طلحة بن أبي طلحة: أي من بني عبد الدار، فأخذه صلى الله عليه وسلم من علي ودفعه لمصعب بن عمير، أي لأن مصعب بن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم؛ وسيأتي. ولواء للخزرج كان بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن عبادة.
وخرج في ألف، وقيل تسعمائة، ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة، فبقي سبعمائة من أصحابه صلى الله عليه وسلم منهم مائة دارع. وخرج السعدان أمامه صلى الله عليه وسلم يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، أي وسار إلى أن وصل رأس الثنية، أي وعندها وجد كتيبة كبيرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود، فقال: أسلموا؟ فقيل لا، فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك فردهم: أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع، فلا يقال هذا إنما يأتي على أن إجلاء بني قينقاع كان بعد أحد، لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدّم، لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع.
وسار صلى الله عليه وسلم وعسكر بالشيخين، وهما أطمان: أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فردّ جمعا: أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة، بل أربع عشرة سنة، كذا نقل عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه، ونقل عنه بعضهم أنه قال: لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة: منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، خلافا لمن أنكر صحبته، وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ:

رأيت عرابة الأوسي يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب: إن بيوتنا عورة كما سيأتي، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنهم، أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب.
ثم أجاز صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج لما قيل له إنه رام، وأصيب في ذلك اليوم بسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أشهد له يوم القيامة»، ومات في زمن عبد الملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح، وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «تصارعا»، فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه.
وممن رده صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغر سنه سعد ابن حبتة، عرف بأمه حبتة؛ فلما كان يوم الخندق رآه صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله؛ فكان عما لأربعين، وخالا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهم، وتقدم في بدر أنه صلى الله عليه وسلم رد زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وأسيد بن ظهير، فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحفظنا الليلة حتى كان السحر.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت» أي في النوم «الملائكة تغسل حمزة رضي الله عنه، وأدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر رضي الله عنهما، وكان في الخزرج كعبد الله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه. وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا، إلا أن يقال على فرض أنه يقع قتالا، علام نقتل أنفسنا.
فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، قالت طائفة: نقتلهم، وقالت طائفة أخرى: لا نقتلهم وهما أن يقتتلا، والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} [النّساء: 88] أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبد الله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله، وأنزل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران:122] الآية فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل.
ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله: ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، لأن الذين ردهم صلى الله عليه وسلم لكفرهم حلفاء عبد الله بن أبيّ ابن سلول من يهود، وكان رجوعهم قبل الشوط. والذين رجع بهم عبد الله كانوا منافقين، ورجوعه بهم كان من الشوط، ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان:
فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة. وقيل لم يكن معهم فرس، أي وهذا القيل نقله في «فتح الباري» عن موسى بن عقبة وأقرّه. وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود: أي يهود المدينة، ولعلهم عنوا بهم بني قريظة، لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الأوس.
قال بعضهم: كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا فيهم».
أقول: وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم «إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» والله أعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «من يخرج بنا على القوم من كثيب»: أي من طريق قريب لا يمرّ بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب، أي في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدر إليه سعد بن زيد فضربه بالقوس في رأسه فشجه، وأراد القوم قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه: أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبد الله بن أبيّ، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك ذلك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. قال: واستقبل المدينة، وصف المسلمين في جبل أحد: أي بعد أن بات به تلك الليلة، وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صفوفا، وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد.
ومن جملة ما ذكر فيها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا» . وفي رواية «إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» بالرفع، وعليها فالمستثنى محذوف: أي إلا أربعة. وما ذكر بدل منها، قال «ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث: أي أوحى وألقى في روعي» بضم الراء أي قلبي «الروح الأمين» أي الذي هو جبريل «إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا» أي أحسنوا «في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله، والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم».
أي ولما أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وقال له: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين، لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلا فرس أو إلا فرسان.
أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال، لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال، وكان الرماة خمسين رجلا، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا.
أي وفي رواية «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» زاد في رواية «وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» . قال وفي رواية أنه قال: أي للرماة «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل. فإن الخيل لا تقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم»0
وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا أي وكان مكتوبا في إحدى صفحتيه.

في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة *** والمرء بالجبن لا ينجو من القدر

وقال «من يأخذ هذا السيف بحقه»، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم من جملتهم علي رضي الله تعالى عنه قام ليأخذه، فقال: «اجلس»، وعمر رضي الله تعالى عنه فأعرض عنه والزبير رضي الله تعالى عنه، أي وطلبه ثلاث مرات، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال «تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني»، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب أي يمشي مشية المتكبر وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» أي لأن فيها دليلا على عدم الاكتراث بالعدوّ.
وعند اصطفاف القوم نادى أبو سفيان بن حرب: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم، ولعنوه أشد اللعن.
قال: وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعا للبراز، فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير، فوثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه، فاقتتلا فوق البعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يلي حضيض الأرض مقتول»، فوقع المشرك، فوقع عليه الزبير فذبحه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير» وقال صلى الله عليه وسلم «لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه» لما رأى من إحجام الناس عنه.
وخرج رجل من المشركين بين الصفين، أي وهو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين، لأن اللواء كان لوالدهم عبد الدار كما تقدم. وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم إلى الجنة وأن قتلانا إلى النار وفي رواية قال يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار؟ أو أعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم، واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إليّ بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فقتله علي رضي الله تعالى عنه.
أي وفي رواية: فالتقيا بين الصفين فبدره عليّ فصرعه أي قطع رجله ووقع على الأرض وبدت عورته. فقال: يابن عمي أنشدك الله والرحم، فرجع عنه ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وفي رواية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منعك أن تجهز عليه؟» فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: «اقتله، فقتله» .
أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين: الأولى حمل على بسر بن أرطأة، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه.
والثانية حمل على عمرو بن العاص، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرّم الله وجهه.
فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة، وعثمان هذا هو أبو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، فرجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبد المطلب، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة؛ فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتله علي رضي الله تعالى عنه، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله، ثم حمله أخو مسافع وهو الحارث بن طلحة، فرماه عاصم فقتله، أي فكانت أمهما وهي سلافة معهما، وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه ويضع رأسه في حجرها فتقول له: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأفلح، فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الإبل.
وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع، فحمله أخو مسافع وأخو الحارث وهو كلاب بن طلحة، فقتله الزبير، أي وقيل قزمان، فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، فكل من مسافع والحارث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة؛ وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد.
وعند ذلك حمله أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة، فحمله شريح بن قارظ، فقتل أي ولم يعرف قاتله، ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف بن هاشم بن عبد الدار، فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم: أي وكان حبشيا، فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه: أي قتله قزمان. وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي.
وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء: أي لواء المشركين من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم تركتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال ابن قتيبة: ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] .
ولما صرع صاحب لواء المشركين: أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش: أي حاميهم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال: أوّلت ذلك أني أقتل كبش الكتيبة، فهذا كبش الكتيبة.
وعند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة، فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم: أي أزالوهم عن أثقالهم، أي وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت، وشعار الكفار: يا للعزى، وهي شجرة كانوا يعبدونها: يا لهبل، وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك، وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أوّل الأمر كان داخل الكعبة ثم أخرج منها وجعل بجانبها.
أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك»، وتقدم طلب عبد الرحمن للمبارزة أيضا في يوم بدر، وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين: أي طلب المبارزة من الصدّيق لولده عبد الرحمن، وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق.
وقد وقع الصديق رضي الله تعالى عنه أن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم خرج مع الجيش شاهرا سيفه، فأخذ علي رضي الله تعالى عنه بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش.
وفي أوّل الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة، وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم: أي أضعفوهم قتلا، فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن:

ويها بني عبد الدار *** ويها حماة الأدبار

صربا بكل بتار
وويها: كلمة إغراء وتحريض، كما تقول: دونك يا فلان. والأدبار: الأعقاب، أي الذين يحمون أعقاب الناس، والبتار: السيف القاطع، ويقلن:

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق
مشى القطا النوازق *** والمسك في المفارق
والدر في المخانق *** إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق *** أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق والطارق: النجم، قال تعالى: {وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ} * {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ} * {ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ} [الطارق:1- 3] قيل هو زحل: أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم. واعترض بأنها لو أرادت النجم قالت: نحن بنات الطارق.
ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق، وحينئذ فليس المراد بطارق النجم، وإنما هو الرجل المعروف، كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف.
وعن بعضهم قال: جلست بمكة وراء الضحاك، فسئل عن قول هند يوم أحد: نحن بنات طارق، ما طارق؟ فقلت: هو النجم، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له: قال الله تعالى: {وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ} * {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ} [الطارق:1- 2] والنمارق: الوسائد الصغار.
والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه، والوامق المحب، أي فراق غير محب، لأن غير المحب لا يرجع إذا غضب، بخلاف المحب. ومن ثم قيل: غضب المحب في الظاهر مهابة سيف، وفي الباطن كسحابة صيف.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذلك: أي تحريض هند بما ذكر يقول «اللهم بك أحول» بالحاء المهملة، أي أمنع «وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل».
أي وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو قال: «اللهم بك أصاول؛ وبك أحاول» أي أطالب.
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. فعن الزبير قال: وجدت، أي غضبت، في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف: أي الذي قال فيه: من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء: أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الصّف:13] وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله أي وكان إذا كلّ ذلك السيف يشحذه: أي يحده بالحجارة، ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل، وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذفف عليه: أي أسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند: أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس: أي بالسين المهملة حمسا شديدا: أي يشجعهم، وبالشين المعجمة: يوقد الحرب ويثيرها، فعمدت إليه، فلما حملت عليه بالسيف ولول: أي دعا بالويل: أي قال: يا ويلاه، فعلمت أنه امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، ومرّ به سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم أي أقبل، يا ابن مقطعة البظور، لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة.
أي وفي البخاري «يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله؟» أي تحاربهما وتعاندهما.
وفيه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة، فشدّ عليه، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. وفي رواية: فكان كأمس الذاهب. أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة.
وفيه أنه سيأتي عن الأصل: وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا، وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه. قال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة: يهدم وبالدال المعجمة: يقطع. أي وقد عثر حمزة، فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنيته بالمثلثة: وهو موضع تحت السرة وفوق العانة. وفي لفظ: فندرته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئته فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي في شيء حاجة غيره.
أي وفي لفظ آخر: كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله، فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشفت الدرع عن بطنه، فطعنه وحشي الحبشي بحربته.
ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد، ولم يقدر أحد يدنو منه، انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهنّ، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقوه، ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا هاهنا؟ وانطلقوا ينتهبون. وثبت عبد الله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم، فكرّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبد الله بن جبير أي ومثلوا به. ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين. فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار: أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل، وعند الاختلاط وهو: أمت أمت مما أصابهم من الدهش والحيرة، ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم، فلاثوا، أي بالمثلثة: استداروا به واجتمعوا عنده، ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة أن محمدا قد قتل. وقيل المنادي بذلك إبليس: أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل بن سراقة، وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما، وكان من أهل الصفة. قيل وهو الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي،وسيأتي ما فيه.
ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول، وشهدت له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ.
وقيل المنادي بذلك إزب العقبة، قال ذلك ثلاث مرات، أي لأنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ الشيطان به قال: «هذا إزب العقبة» بكسر الهمزة وسكون الزاي، والإزب: القصير كما تقدم.
وقد ذكر أن عبد الله بن الزبير رأى رجلا طوله شبران على رحله فقال: ما أنت؟ قال إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب، أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة، وهم ابن قمئة، وإبليس وإزب العقبة، فرجعت الهزيمة على المسلمين، أي وقال قائل: يا عباد الله أخراكم: أي احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها. وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم. وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء.
أي وفي «الإمتاع» أن ثابت بن الدحداح: قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة بن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهبتم فيها عريضة»، وأنزل الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] قال: وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن رضي الله عنها فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك اهـ:
أي أعطني سيفك، أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان: طائفة لم تدخل المدينة، وأخرى دخلتها. وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى.
أي فقد جاء أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي الجرحى فوقعت وتكشفت فأغرق عدوّ الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به، فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «استقاد لها سعد» أجاب الله دعوته، أي وفي رواية: «اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان مجاب الدعوة. وقد يقال: لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة.
وقال رجال: أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبد الله بن أبي ابن سلول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.
وفي النهر أن فرقة قالوا نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين.
قال: وعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين اشتدّ علينا الخوف وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير. أي ويقال ابن بشير، وكان ممن شهد العقبة: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً} [آل عمران:154] الآية.
وعن كعب بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن، ما منهم أحد إلا غط غطيطا، حتى إن الجحف: أي الدرق تتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر، وإن المشركين لتحثنا اهـ وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لا فيه على ما تقدم. وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان.
وثبت صلى الله عليه وسلم لما تفرقت عنه أصحابه، وصار يقول: «إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول الله»، فما يعرّج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه.
أي وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» فليتأمل. فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد.
وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمرّ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يحوز عنه بحجفته. وكان رجلا راميا شديد الرمي، فنثر كنانته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، فلم يزل يرمي بها. وكان الرجل يمرّ بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم «انثرها» لأبي طلحة، أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف: أي ينظر إلى القوم. وفي لفظ: ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، أي ويتطاول أبو طلحة بصدره يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدل بذلك على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته صلى الله عليه وسلم على حياته. قال: فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره، وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله: نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد: نحري دون نحرك، ولا زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا: أي ذهب منها قطع.
وفي رواية: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، والسية: ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر. قال: وما زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: مده يبلغ. قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس، ورمي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم اهـ.
أي وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية كونه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى صارت شظايا، أي لأنه يبعد وجود رميه صلى الله عليه وسلم من غير إصابة، ولو أصاب أحدا لذكر، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقاتل جماعة من أصحابه منهم سعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه. قال سعد: لقد رأيته: يعني النبي صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارم به. وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم أيمن.
قال: وفي رواية عن سعد قال أجلسني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوّك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته، وأجب دعوته»، حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في كنانته اهـ أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم.
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة، فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه معروفا، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال: لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فلما بلغ سعدا ذلك قال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فعمي، وافتقر، وكبر سنه، وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة؛ فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ يقول: شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قيل لسعد: لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت، ومن أين خرجت؟ أي لأنه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] فقام سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: «والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما» .
وقد جاء في الحديث «من كان مأكله حراما، ومشربه حراما، وملبسه حراما فأنى يستجاب له» فليتأمل هذا الجواب.
وقد يقال: مراد سعد بقوله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة.
ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب. ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل، وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله «والذي نفس محمد بيده» تقرير لما فهمه سعد رضي الله عنه أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل.
والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة، لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل.
وفي الشرف أن سعدا رضي الله عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له «ارم فداك أبي وأمي، ففداه في ذلك اليوم ألف مرة» .
وعن علي كرم الله وجهه «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فداك أبي وأمي إلا لسعد رضي الله عنه» وفي رواية «فما جمع صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لسعد رضي الله تعالى عنه» .
قال في النور: الرواية الأولى أصح، لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع، أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لأبيه الزبير رضي الله عنه بين أبويه، أي قال له «فداك أبي وأمي كسعد» أي وذلك في يوم الخندق حيث أتاه بخبر بني قريظة، وكذا الرواية الثانية لا تخالف، لأنها محمولة على سماعه.
وعلى الأخذ بظاهرها، وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور: ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد.
وكان صلى الله عليه وسلم يفتخر بسعد فيقول: «هذا سعد خالي، فليراني امرؤ خاله» لأن سعدا رضي الله عنه كان من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم كما تقدم: أي وكان رضي الله عنه إذا غاب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي لا أرى الصبيح المليح الفصيح؟» .
ولما كف بصره رضي الله عنه قيل له: لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري.
ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دعا بخلق جبة من صوف فقال: كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما كنت أخبئها لهذا.
وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف رضي الله عنه، وكان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم الذي هو يوم أحد. قال بعضهم: وكان بايعه صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، فثبت معه صلى الله عليه وسلم حتى انكشف الناس عنه، وجعل ينضح بالنبل يومئذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: «نبلوا سهيلا»: أي أعطوه النبل.
وجاء أن خاله صلى الله عليه وسلم وهو الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خالي ادخل»، فدخل فبسط له صلى الله عليه وسلم رداءه وقال: «اجلس عليه إن الخال والد»، يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر، فإنه إذا ذكر فقد شكر» وقال له «ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به؟» قال بلى، قال: «إن أربي الربا استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق» .
وعن أم عمارة المازنية رضي الله عنها: أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور، زوج زيد بن عاصم رضي الله عنه قالت «خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ما أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إليّ رئي على عاتقها جرح أجوف له غور، فقيل لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، فضربني هذه الضربة وضربته ضربات، ولكن عدو الله كان علي درعان» .
قال: وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد بن عاصم وابناهما خبيب وعبد الله رضي الله عنهم وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمكم الله أهل البيت» .
وفي رواية «بارك الله فيكم أهل بيت» قالت له أم عمارة رضي الله عنها: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: «اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة»: أي وعند ذلك قالت رضي الله عنها: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا .
وقال صلى الله عليه وسلم في حقها «ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني» اهـ أي وقد جرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وعبد الله ابنها رضي الله عنهما هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله.
فعنها رضي الله عنها قالت: يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية: أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا ابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ فقال نعم، فسجدت لله شكرا.
ولا ينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي. فعن وحشي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف وأسلم كما سيأتي «يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله»، فلما كان خروج المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولي الصديق رضي الله عنه الخلافة وارتدت العرب، خرجت معهم فأخذت حربتي، فلما رأيته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يريده، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله قال بعضهم: والأنصاري هو عبد الله بن زيد أي كما تقدم، وقيل غيره.
أي وفي كلام بعضهم: اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة، وعبد الله بن زيد، ووحشي رضي الله عنهم. وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله الاقتصار على وحشي وأبي دجانة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى. وذكر ابن كثير أن ما يروى عن أبي دجانة رضي الله عنه من ذكر الحرز المنسوب إليه إسناده ضعيف لا يلتفت إليه.
وقد نقل عن وحشي رضي الله عنه أنه قال: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسين سنة.
وذكر أن أبا دجانة رضي الله عنه تترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل.
وقاتل دونه صلى الله عليه وسلم زيادة بن عمارة حتى أثبتته الجراحة: أي أصابت مقاتله، فقال صلى الله عليه وسلم: ادنوه مني فوسده قدمه الشريف، فمات رضي الله عنه وخده على قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم.
وقاتل مصعب بن عمير رضي الله عنه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
وقيل القاتل لمصعب رضي الله عنه أبي بن خلف لعنه الله، فإنه أقبل نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا، فاستقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا، فاعترضه رجال من المسلمين؟ فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلوا طريقه، أي فأقبل وهو يقول «يا كذاب أين تفر»، وتناول النبي صلى الله عليه وسلم الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي، فخدشه بها في عنقه خشدا غير كبير احتقن الدم: أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، أي وفي لفظ: ذهب والله عقلك، إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها، فما هذا والله ما بك من بأس، ما أخدعك، إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز؟ أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفة كما تقدم. وفي لفظ: لو كان بربيعة ومضر أي وفي لفظ: بأهل الأرض لماتوا أجمعون. إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة: يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا بفتح الراء: هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا أقتلك إن شاء الله»، فحقق الله تعالى قول نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذا، وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن أبي بن خلف قال حين أفتدي: أي من الأسر ببدر: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل أنا أقتله إن شاء الله».
أقول: يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وفي رواية «أبصر صلى الله عليه وسلم ترقوته» بالفتح لا بالضم «من فرجة من سابغة الدرع» وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم «فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا» بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها «من أضلاعه» أي وهو المناسب لما في بعض الروايات «أن النبي صلى الله عليه وسلم طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح، وإنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمة، وقيل من الزبير بن العوام رضي الله عنه انتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقه» .
أقول: ولا مخالفة بين كون الطعنة في عنقه وكونها في ترقوته، لأن الترقوة في أصل العنق.
ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه صلى الله عليه وسلم بالطعنة وناهيك بعزمه صلى الله عليه وسلم، لأن كون الخدش في الظاهر، أي بحسب ما يظهر للرائي والشدة في الباطن أقوى في النكاية. ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا، وكونه خار كالثور الذي يذبح، وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات، لكن رأيت في رواية أنه ضرب تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه.
وقد يقال يجوز أن تكون الحربة نفذت من المكان المذكور. قال في النور:
ولم يقتل بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات عدوّ الله وهم قافلون به إلى مكة: أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال «إني لأسير ببطن رابغ بعد هدّو من الليل إذا نار تأجج لي لهبها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذب بها يصيح العطش، وناداني: يا عبد الله، فلا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله؟ فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، وإذا رجل وهو الموكل بعذابه يقول: لا تسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبيّ بن خلف لعنه الله» رواه البيهقي.
ويدل لهذا ما جاء في الحديث «كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة» وجاء «أشدّ الناس عذابا من قتله نبي» أي وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسحقا لأصحاب السعير» .
وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، فما يحمل الواحد منهم على قتل شخص إلا أمر عظيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله.
وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله كان قاصدا قتله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق ذلك لأبيّ بن خلف لعنه الله، وقد تقدم أن ابن مرزوق رحمه الله ذكر أن ابن عمر مرّ ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فناداه يا عبد الله، فالتفت إليه فقال اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه. لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أصحابه، رواه الطبراني في الأوسط، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضي التعدد فإنه ذكر فيها أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك: أي مروره ببدر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قال له ذلك أبو جهل، وذلك عذابه إلى يوم القيامة. وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر.
ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين: أي التي حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه، واسم أبي عامر عبد عمرو، مات كافرا بأرض الروم، فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، وجحشت: أي خدشت ركبتاه، فأخذ علي كرم الله وجهه بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما.
وكان سبب وقوعه صلى الله عليه وسلم أن ابن قمئة لعنه الله علاه صلى الله عليه وسلم بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف، فشكا صلى الله عليه وسلم منه شهرا أو أكثر، وقذف صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى وقع لشقه، ورماه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بحجر، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وشق شفته السفلى: أي ودعا عليه صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا» وقد استجاب الله تعالى ذلك، وقتله في ذلك اليوم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
قال حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه عتبة؟ فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «رضي الله عنك رضي الله عنك» مرتين: أي ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد بقليل، لكن يخالف القول بأنه مات بعد أن أسلم بعد الفتح وأنه أثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا وهو أهتم: أي ساقط مقدّم أسنانه أي التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه، وكسرت البيضة أي الخوذة على رأسه صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف، شجه عبد الله بن شهاب الزهري رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو جد الإمام الزهري رحمه الله. ويجوز أن يكون من قبل أمه، أي ويقال له عبد الله الأصغر، أي ولعل هذا حصل منه قبل أو بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع.
وجدّ الإمام الزهري من قبل أبيه يقال له عبد الله بن شهاب، ويقال له عبد الله الأكبر رضي الله عنه كان من مهاجري الحبشة، توفي بمكة قبل الهجرة. وأشار صاحب الهمزية رحمه الله إلى أن هذه الشجة لم تشنه صلى الله عليه وسلم بل زادته جمالا بقوله:

مظهر شجة الجبين على البر *** ء كما أظهر الهلال البراء
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب *** لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزهر لاح من سجف الأك *** مام والعود شق عنه اللحاء

أي مظهر وجهه الشريف أثر جرح جبينه: أي جبهته مع برئها ظهورا كظهور الهلال ليلة استهلاله، ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح، فأعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر، فهو: أي ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعود الذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره، وقال حسان رضي الله عنه في وصف جبينه الشريف صلى الله عليه وسلم:

متى يبدو في الداجي البهيم جبينه *** يلح مثل مصباح الدجى المتوقد

وجرحت وجناته صلى الله عليه وسلم بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله، وقال له لما ضربه: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقمأك الله عز وجل: أي صغرك وأذلك». وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل: أي أعلى الجبل، فأخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه أرداه من شاهق الجبل فتقطع. وفي رواية: فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
أقول: ويمكن الجمع بأنه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله، لعنة الله عليه، والله أعلم.
«ولما جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدم. وفي لفظ: ينشف دمه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] أي وفي رواية صار صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم العن فلانا وفلانا: أي اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية» .
فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى: {وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ} [المائدة:67]
أجيب بأن هذه الآية نزلت بعد أحد.
وعلى تسليم أنها نزلت قبله، فالمراد عصمته من القتل. قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له، وعلى قدر ما يقاسيه منهم. وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له صلى الله عليه وسلم في كثير من طائعي أمة أجابته، ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الإجابة.
وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مس دمي دمه لم تصبه النار» .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة. وفي لفظ «من سره أن ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلى مالك بن سنان رضي الله عنه» ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولا أنه غسل فمه من ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم.
فعنها رضي الله عنها أنها قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة أي تحت سريره فبال فيها فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها»، فقالت: والله لقد شربت ما فيها، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «لا يجفر» بالجيم والفاء «بطنك بعده أبدا» وفي لفظ «لا تلج النار بطنك» وفي أخرى «لا تشتكي بطنك» أي ويجوز أنه صلى الله عليه وسلم قال: هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها، فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن رضي الله عنها وفي رواية بدل فخارة «إناء من عيدان» بالفتح: الطوال من النخل، فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن رضي الله عنها، ولا مانع منه.
وقد شرب بوله صلى الله عليه وسلم أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو، كانت تخدم أم حبيبة رضي الله عنها؛ جاءت معها من الحبشة: أي ومن ثم قيل لها بركة الحبشية.
وفي كلام ابن الجوزي: بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة، وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة، كانت تكنى بأم يوسف، فقال لها صلى الله عليه وسلم حين علم أنها شربت ذلك «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها «لقد احتظرت من النار بحظار» وشرب دمه صلى الله عليه وسلم أيضا أبو طيبة الحجام، وعليّ كرم الله وجهه، وكذا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما.
فعن عبد الله بن الزبير قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد»، قال فشربته، فلما رجعت قال: «يا عبد الله ما صنعت؟» قلت: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس، قال: «لعلك شربته»، قلت نعم، قال: «ويل للناس منك وويل لك من الناس» وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة.
ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبد الملك بن مروان قال له يوما: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له عبد الملك: هو بين السيوف ولا أميزه، فقال له عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد، وقال هذا سيف أخي، فقال له عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ قال لا، فقال كيف عرفته؟
قال بقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم، حيث لم يأمره بغسل فمه، ولم يغسل هو فمه، وأن شربه جائز حيث أقر على شربه.
وما أورده في الاستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه صلى الله عليه وسلم ثم ازدرد دمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أما علمت أن الدم كله حرام» أي شربه غير صحيح، فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله. على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم.
ونزع أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح رضي الله تعالى عنه إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى.
وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة. وقيل طلحة بن عبيد الله، ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها، وكان أشدّهم لذلك أبو عبيدة رضي الله عنه.
قال بعضهم: ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم ير قط أهتم أحسن من أبي عبيدة، لأن ذلك الهتم حسن فاه.
وكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وقول القائل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران، أي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر، وهو ما يجعل على الرأس من الزرد، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ أن أنصت.
وعن بعض الصحابة قال: لما صرخ الشيطان قتل محمد لم نشك في أنه حق، وما زلنا كذلك حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين فعرفناه بكتفيه إذا مشى، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة رضي الله عنهم.
وفي خصائص العشرة للزمخشري؛ وثبت يعني الزبير رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبايعه على الموت، هذا كلامه فليتأمل.
وقول بعض الرافضة انهزم الناس كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع، وقوله: وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، وقول جبريل عليه السلام وهو يعرج إلى السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» قوله وقتل عليّ كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة، فكان الفتح فيها على يديه وقال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان.
ولما أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علي أما تعرف الرجل؟» فقلت: لا، ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي أقرّ الله عينك فإنه جبريل عليه السلام»، جميعه رده الإمام أبو العباس بن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول.
قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه للشعب، وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة رضي الله عنه، فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك وذفف عليه وأخذ درعه ومغفره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي أحانه» أي أهلكه.
وأقبل عبيد الله بن جابر العامري يعدو فضربه الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة رضي الله عنه إلى عبيد الله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف الدم وهو يقول: «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيه» أي والسياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا بعد قوله «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم» ونزول تلك الآية، فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف.
قال: ثم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه صلى الله عليه وسلم عليه درعان، فجلس تحت طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة» أي فعل شيئا استوجب به الجنة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع.
أي وقيل إن طلحة رضي الله عنه كان في مشيه اختلاف لعرج كان به، فلما حمل النبي صلى الله عليه وسلم تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه صلى الله عليه وسلم فذهب عرجه ولم يعد إليه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم انطلق حتى أتى أصحاب الصخرة: أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة: أي التي في الشعب، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا رسول الله»، ففرحوا بذلك وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجد في أصحابه من يمنع: أي ولعل هذا الذي أراد رميه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة.
قال: وعطش صلى الله عليه وسلم عطشا شديدا: أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته، لأنه صلى الله عليه وسلم وجد له ريحا فعافه: أي كرهه فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد. فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير.
وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهنّ فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته، وعليّ كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير: أي معمول من البردي فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى، أي لأن البردي له فعل قويّ في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا.
وفي حديث غريب أنه صلى الله عليه وسلم داوى جرحه بعظم بال أي محرق.
وقد يقال: يجوز أن يكون الراوي ظنّ ذلك البردي المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية. وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون.
وعارضه أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ: أي ينقطع الدم من جرحه، وكوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه لمرض الذبحة.
ففي كلام بعضهم: كان موت أسعد بن زرارة رضي الله عنه بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: بئس الميتة لليهود؛ يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا.
وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء، أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم «لم يتوكل من اكتوى» أو على من يفعله مع قيام غيره من الأدوية مقامه.
ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى أي لبواسير كانت به فكان يصبر على ألمها، فلما ترك الكيّ عادت الملائكة إلى سلامها عليه، لأن ذلك قادح في التوكل.
وما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ» وفي رواية «وما أحبّ أن أكتوي» أي فالنهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي.
قال في الهدى: وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: وأنا أنهي إلى آخره: أي أنه لا يؤتى بالكيّ إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم أخره.
قيل والفصد داخل في شرطة المحجم. والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد، هذا كلامه.
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب مع أولئك النفر من أصحابه إذ علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل، أي ونزل قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ[آل عمران: 139] أي لا تضعفوا عن الحرب، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.
ولعل هذا كان قبل أن يعلو صلى الله عليه وسلم الصخرة كما تقدم. أو لعل الجبل كان أعلى من تلك الصخرة.
قال: وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد «ارددهم»، قال: كيف ارددهم وحدي؟ فقال له «ارددهم» قال سعد رضي الله عنه: فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي، وكان بعده عند بنيه.
أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا: أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم. وما قبله الدال على أن الرادّ لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من المهاجرين.
وروي عنه أنه قال «لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد» أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه، فظننت أنه ملك، أي وفي رواية عنه أنه قال «رميت بسهم فرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا سهم دم» أي يصيب «فجعلته في كنانتي لا يفارقني» .
أقول: ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما، لأن قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته صلى الله عليه وسلم لا من كنانته كما قد يتبادر، ولا بين قوله فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمي بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له، بل يناوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرده عليه. ولا منافاة بين قوله: حتى واليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله: ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات، لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته.
وصلى المسلمون خلفه قعودا: أي ولعلّ ذلك كان بعد انصراف عدوهم. وإنما صلى المسلمون خلفه صلى الله عليه وسلم قعودا موافقة له صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك.
أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما أصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب، فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا؛ فقد جاء أنه وجد بطلحة رضي الله عنه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه. وفي رواية أنامله. وعند ذلك قال حسن، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء» زاد في لفظ «ولرأيت بناءك الذي بني الله لك في الجنة وأنت في الدنيا» .
وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد» أي من سهم، وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشي عليه؛ ونضح أبو بكر رضي الله عنه الماء في وجهه حتى أفاق، فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال له أبو بكر: هو بخير، وهو أرسلني إليك، فقال: الحمد الله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة.
وكان يقال لطلحة رضي الله عنه الفياض، سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة كما تقدم. وسماه طلحة الجود في أحد، لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم. وسماه في أحد أيضا طلحة الخير.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة.
قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر، وجرح في رجله فكان يعرج منها. وأصاب كعب بن مالك رضي الله عنه سبعة عشر جراحة. وفي رواية عشرون جراحة قال عاصم بن عمر بن قتادة: كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو، أي يظهر الإسلام يقال له قزمان، وكان ذا بأس وقوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل. وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين. ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال إنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، وأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر، فيقول بماذا أبشر؟ فو الله: ما قاتلت إلا على أحساب قومي: أي على شرفهم ومفاخرهم: أي مناصرة لهم، ولولا ذلك ما قاتلت: أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر أعدائهما.
أي وفي رواية أن قتادة رضي الله عنه قال له: هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق؟ فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا، فلما اشتدت عليه الجراحة أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه: أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق: أي وفي رواية: فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه.
قال في النور: وهو الصحيح، ولا مانع أن يكون فعل كلا من الأمرين، أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «وما ذاك؟» قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا.
وقد جاء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فنص عليه، وحينئذ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» .
ففيه إشارة إلى باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره. وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:

وقلت لشخص يدعي الدين إنه *** بنار فألقى نفسه للمنية

هذا وفي كلام ابن الجوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يدّعي الإسلام: «هذا من أهل النار»، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال: «إلى النار». ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله»، فأمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين، هذا كلامه فليتأمّل، فإن تعدّد الشخص المسمى بهذا الاسم فيه بعد. ولعلّ ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي. وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» عام فيدخل في كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيي بهما قلوبا؛ ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران.
وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل. قال بعضهم: كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل، فلما كان يوم خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد جاء إلى المدينة، فسأل عن قومه، فقيل له بأحد، فبدا له في الإسلام: أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته، وركب فرسه، فغدا- بالغين المعجمة- حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة: جانبهم وناحيتهم، فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا والله إن هذا الأصيرم، فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت وقاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» وكان أبو هريرة يقول: حدّثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل: يعني الأصيرم. ويصدق عى هذا قوله عليه الصلاة والسلام «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» الحديث.
أي وممن يدخل الجنة ولم يصلّ الأسود الراعي لبعض يهود خيبر، الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر.
وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق رضي الله عنه، وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق كما تقدم، وكان هو وعبد الله بن أبي ابن سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوّجين للرياسة على أهلها.
وكان أبو عامر من الأوس، ويقال له ابن صيفي، وكان عبد الله من الخزرج.
فعبد الله بن أبي أظهر الإسلام. وأما أبو عامر فأصرّ على الكفر إلى أن مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا عليه بذلك. وإلى ذلك أشار إلى الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:

ومات ابن صيفي على الصفة التي *** ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة

وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما، وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس، فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه: أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما جاء مع قريش نادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، وقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، أي وفي لفظ قالوا له: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق. ولا مانع من صدور الأمرين منهم، فلما سمع ردّهم عليه قال لعنه الله: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل قتالا شديدا.
وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، التي وقع في إحداها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أي وكان هو أوّل من أثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، واستأذن ولده حنظلة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فنهاه عن قتله.
وسبب قتل حنظلة رضي الله تعالى عنه أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة رضي الله عنه يريد ذبحه فرآه شدّاد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصوابه شدّاد بن الأسود، فحمل عليه فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة» أي وفي رواية «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة» فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين أخت ولده عبد الله رضي الله عنهما، فقالت: خرج جنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة» فإنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد، وقد كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أي في الدخول بها، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزمته، فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى العدّو فعجل عن الغسل إجابة للداعي.
وفي رواية أنها قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة: أي الصياح بالخروج للعدّو. وفي لفظ: الهائعة. وفي لفظ: الهيعة، من الهياع: وهو الصياح الذي فيه فزع. وقد جاء في الحديث «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه» فلما سمع هيعة طار إليها.
وفي رواية: وقد كان غسل أحد شقيه، فخرج ولم يغسل الشق الآخر. وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت. وجاء أنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، قالت: لأني رأيت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبد الله بن حنظلة رضي الله عنه في تلك الليلة. وعبد الله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم لما خلعوا يزيد بن معاوية. وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة رضي الله عنه لكون والده معهم الذي هو أبو عامر الراهب لعنه الله.
وفي الإمتاع: وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين، فقال له صلى الله عليه وسلم «يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله». فقال أبو قتادة: والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ولرسوله، فقال: «صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم» قال: وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم همّ أن يدعو عليهم، فنزلت الآية المذكورة أي {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فكف عن الدعاء عليهم» أي وفيه أنها نزلت بعد قوله «اللهم العن فلانا وفلانا» إلى آخر ما تقدم عن بعض الروايات، إلا أن يقال أراد صلى الله عليه وسلم المداومة على الدعاء عليهم. وعن أبي سعيد الساعدي قال: ذهبنا إلى حنظلة رضي الله عنه فإذا رأسه يقطر ماء.
أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وبين كونه همّ بالدعاء عليهم، لأنه يجوز أن يكون المراد همّ بتكرير الدعاء عليهم. وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت فأين أنا؟ قال «في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل» قال في طرح التثريب، قال الخطيب: كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد، فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد، ولا توجيه لذلك، بل التضعيف تفسير هذه بهذه: أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين. هذا كلامه، وقد تقدّم في غزاة بدر الحوالة على هذه فليتأمل، أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري» فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول: أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أحسنت يا أبا عبد الله» وكان يومئذ لا ولد له.
وقتل عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد. فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: قد عذرك الله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فو الله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه وخرج وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني خائبا إلى أهلي فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبرّه. منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» أي كشف له عن حاله يوم القيامة، أي وفي رواية أنه قال يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فمرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» .
أقول: لكن يمكن الجمع بأنه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة. وعمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في الجاهلية على أصنامهم: أي سادنا لها، وكان في الإسلام يولم عنه صلى الله عليه وسلم إذا تزوج.
وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله القصاص»، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» وقال صلى الله عليه وسلم ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك» ومصداق ذلك ما وقع له رضي الله عنه في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل رضي الله عنه وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء رضي الله عنه.
ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس رضي الله عنه عند بعض حصون العدوّ بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الإنسان، فكان من جملة من خطف أنس رضي الله عنه، فأقبل البراء رضي الله عنه وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة، ثم نظر إلى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم، ونجى الله أنسا رضي الله عنه بذلك وقال صلى الله عليه وسلم ما تقدم في حق أويس القرني رضي الله عنه.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرنيّ، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» وفي رواية خطابا لعمر رضي الله عنه «يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبرىء منه إلا موضع درهم، له أمّ هو بها بار لو أقسم على الله لأبرّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» والله أعلم.
وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهو خلاد رضي الله عنه. وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبد الله والد جابر رضي الله عنه، فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت في نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة رضي الله عنها: جاء خبر الجيش، فقالت: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء. ثم قالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي عبد الله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح رضي الله عنهم، فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلى المدينة يبرك، وإن وجه إلى أرض أحد نزع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فقال: «إن الجمل مأمور» فقبرهم بأحد، وقال صلى الله عليه وسلم لهند «يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن» ولعلّ هذا كان قبل أن ينادي بردّ القتلى إلى مضاجعهم.
قال جابر رضي الله عنه: كان أبي أول قتيل للمسلمين، قتله أبو الأعور السلمي.
وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأم سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم.
أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شأن عائشة بعد وصولها لأحد، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الآطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك، ما ننتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمأ حمار، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه.
وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الذي قتله خطأ هو عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعتبة هو أول من سمى المصحف مصحفا. وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة رضي الله عنه بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا. واسم اليمان حسيل، وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جدّه اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية: أي وهم أهل المدينة.
ومما يؤثر عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قيل له: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه.
وفي الكشاف: وعن حذيفة رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين أي قبل أن يسلم، فقال صلى الله عليه وسلم له: دعه يليه غيرك. هذا كلامه، ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار، كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام فليتأمل.
ثم إن هندا زوجة أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن: أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت: أي شقت هند بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه، وأخرجت كبده فلاكتها: أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها: أي تبتلعها، فلفظتها أي ألقتها من فيها أي لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة رضي الله عنه لتأكلن من كبده. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أخرجت كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئا؟ قالوا لا قال: إن الله قد حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقرّ في جوفها لم تمسها النار.
وفي رواية «لو أدخل بطنها لم تمسها النار» لأن حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيء من جسده النار.
أي ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت.
وقد يقال: لا منافاة، لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة.
قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة رضي الله عنه وأخرج كبده وجاء بها إلى هند، أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك، قالت سلني، فقال: هذه كبد حمزة فأعطته ثيابها وحليها، ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير.
وجاء بها إلى مصرع حمزة رضي الله عنه فجدعت أنفه وأذنيه، أي وفي لفظ: فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها، واستمرّت كذلك حتى قدمت مكة.
وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع.
ثم إن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا. ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخاري أنه أشرف. وفي رواية كان بأسفل الجبل.
وقد يقال: لا مخالفة لجواز وقوع الأمرين معا، ثم صرخ بأعلى صوته:
أنعمت فعال، إن الحرب سجال: أي ومعنى سجال: مرّة لنا ومرّة علينا، يوم أحد بيوم بدر، وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه، أو للأزلام، لأنه استقسم بها عند خروجه إلى أحد، فخرج الذي يحب وهو أفعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية لكلمة وهي أمر: أي ارتفع عن لومها: أي النفس أو الأزلام يقال: عال عني: أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ: يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسرّ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان.
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الحرب سجال» وقد قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} [آل عمران:140] وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق.
ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في القوم. وفي رواية في قتلاكم مثلة لم آمر بها ولم تسرني. وفي رواية: والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت: وفي لفظ: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه. ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة رضي الله عنه ويقول ذقه عقق: أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه، جعل إسلامه عقوقا، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يفعل بابن عمه ما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وقال أبو سفيان: اعل هبل أي أظهر دينك، أو ازدد علوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «قم يا عمر فأجبه»، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، وهبل هذا تقدّم أنه صنم، وتقدم الكلام عليه.
ورأيت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى أنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وبلط الملوك فوقه البلاط. ثم قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله مولانا ولا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان لعمر، أي بعد أن قال له: هلم يا عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائته فانظر ما شأنه» فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر رضي الله عنه: لا وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ: أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قتلت محمدا كما تقدّم.
وفي رواية أن أبا سفيان نادى: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: «أفي القوم ابن أبي قحافة» قالها ثلاثا.
ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا. وفي رواية: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب: ثم أقبل على أصحابه. فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبت والله يا عدّو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، ثم نادى أبو سفيان: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل نعم بيننا وبينكم موعد».
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل: أي جعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا الإبل: أي ركبوا مطاها: أي ظهورها لأن المطا الظهر فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزهم. قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، أي بعد أن تشاوروا في نهب المدينة. فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا، أي وقال لهم. فإنكم لا تدرون ما يغشاكم وفزع الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع: أفي الأحياء هو أم في الأموات»، أي زاد في رواية فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه. فقال رجل من الأنصار: أي وهو أبي بن كعب، وقيل محمد بن مسلمة، وقيل زيد بن حارثة، وقيل غير ذلك. ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم. قال: أنا أنظر لك يا رسول الله. أي وفي رواية: قال للمرسل: إن رأيت سعد بن الربيع فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك. فنظر فوجد جريحا وبه رمق أي بقية روح. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وإني قد أنفذت مقاتلي، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. وفي رواية: شفر يطرف أي يتحرك. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره، أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور بين القتلى فقال له: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه الحديث.
وفي رواية إن محمد بن مسلمة رضي الله عنه نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه حتى قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت، فأجابه بصوت ضعيف الحديث. أي وفي رواية: اقرأ على قومي مني السلام، وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فو الله ما لكم عند الله عذر الحديث. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا» وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية، وهي قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}[النّساء:11] وفي ذلك نزلت: أي اثنتان فما فوقهما. أي وحينئذ لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين، بجامع أن للواحدة منهما النصف.
ودخلت بنت له على أبي بكر رضي الله عنه فألقى لها رداءه لتجلس عليه، فدخل عمر رضي الله عنه فسأله عنها. فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك. قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع رضي الله عنه.
وخرج رسول الله يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. فقال له رجل: رأيته بتلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك، فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين، أي وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني غبت عن أوّل قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فقال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء: يعني المشركين». ولما سمع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم. أي وقال لسعد بن معاذ: هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد، وقاتل رضي الله عنه حتى قتل. أي ووجدوا فيه بضعا وثمانين جراحة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم. ولما قتل مثل به المشركون، فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه.
قال ابن أخيه أنس بن مالك رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: {مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] الآية، قلنا إن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رضي الله عنه.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه، أي وقطعت مذاكيره، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. أي وقال «لن أصاب بمثلك، ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولا للخيرات، وصولا للرحم، أما والله لأمثلنّ بسبعين» وفي رواية «بثلاثين رجلا منهم مكانك» وفي رواية «لئن ظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ولما رأى المسلمون جذع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه قالوا: لئن أظفرنا الله تعالى بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى أنزل في ذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} * {وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ} [النحل:126، 127] الآية، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة، وكفر عن يمينه، وكان نزول هذه الآيات بعد أن مثل صلى الله عليه وسلم بالعرنيين. وستأتي قصتهم في السرايا.
واعترضه ابن كثير رحمه الله بأن هذه الآيات مكية وقصة أحد في المدينة بعد الهجرة بثلاث سنوات، فكيف يلتئم هذا مع هذا، هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فليتأمل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق» أي شهق «حتى بلغ به الغشي يقول: «يا عم رسول الله، وأسد الله، وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّ» أي بالذال المعجمة «يا مانع عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي قال ذلك لا مع البكاء. فلا يقال هذا من الندب المحرم وهو تعديد محاسن الميت، لأن ذلك مخصوص بما إذا قارنه البكاء وليس من نعي الجاهلية المكروه: وهو النداء بذكر محاسن الميت؛ على أن النداء بذلك محل كراهته إذا كان على وجه التفاخر والتعاظم، ولم يكن وصفا لنحو صالح للحث على سلوك طريقته.
وقال صلى الله عليه وسلم «جاءني جبريل عليه السلام، وأخبرني بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله». وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله عنه أن يرجع أمه صفية أخت حمزة رضي الله عنها عن رؤيته، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فدفعت في صدره وقالت: لم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضاني بما كان في الله من ذلك أي أنا أشد رضا بذلك من غيري لأحتسبن، ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى، فجاء الزبير رضي الله عنه، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «خل سبيلها، فجاءت واسترجعت واستغفرت له» .
وفي رواية إن صفية لقيت عليا والزبير رضي الله عنهما، فقالت لهما: ما فعل حمزة: فأرياها أنهما لا يدريان أي رحمة بها «فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أخاف على عقلها فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت» أي لما رأته، أي وفي رواية لما منعها عليّ والزبير رضي الله عنهما قالت: لا أرجع حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأته قالت: يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هو في الناس». قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه، فجعل الزبير رضي الله عنه يحبسها، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعها فلما رأته بكت وصارت كلما بكت بكى صلى الله عليه وسلم، ثم أمر به فسجي ببرده» وفي رواية قال ألا كفن؟ فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه، ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي» وهذا يدل على أن والد جابر رضي الله عنهما استمر لم يقبر إلى ذلك الوقت، وهو خلاف ظاهر سياق ما تقدم.
وفي رواية وجاءت صفية معها بثوبين لحمزة، فكان أحدهما لحمزة، والآخر لرجل من الأنصار ولعله والد جابر رضي الله عنهما، ولعله لما جاءت صفية بالثوبين جعل صلى الله عليه وسلم أحدهما لحمزة، والآخر لوالد جابر، وترك ثوبي الرجلين.
وفي رواية «كفن حمزة رضي الله عنه بنمرة، كانوا إذا مدوها على رأسه انكشفت رجلاه، وإن مدوها على رجليه انكشفت رأسه، فمدوها على رأسه، وجعلوا على رجليه الإذخر» وفي لفظ «الحرمل» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما والمشهور حديث النمرة.
وقد يقال: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النمرة على الثوب، لأنه كان بها دم الشهادة أو أراد صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لأحد على حمزة رضي الله عنه منة. ويؤيد الأول ما يأتي «ولم يكفنوا إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها» فليتأمل، فإن السياق يقتضي أن ذلك إنما هو عن احتياج، وسيأتي ما يصرح به وسيأتي ما يعارضه فليتأمل.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد، وكفن في وبرة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه.
وفي رواية قتل مصعب بن عمير، فلم يترك إلا نمرة إذا غطينا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» .
وكان مصعب بن عمير هذا قبل الإسلام فتى مكة شبابا وجمالا ولباسا وعطرا ولما أسلم رضي الله عنه تشعث.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان صائما وقد جيء له بطعامه، فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقد بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وخشيت أن أكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد.
وقال صلى الله عليه وسلم في حق حمزة رضي الله عنه «لولا أن تجزع صفية ونساؤنا» أي يتطاول جزعهن ويدوم. وفي رواية «لولا تجد صفية في نفسها» أي يطول ذلك «وتكون سنة من بعدي لتركنا حمزة ولم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع» وفي رواية «حتى تأكله العافية ويحشر من بطونها، ليشتد غضب الله على من فعل به ذلك ثم صلى عليه فكبر أربع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى جنب حمزة أي واحد بعد واحد فيصلي على كل واحد منهم مع حمزة، ثم يرفع ويؤتى بآخر فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة» . وفي رواية «اثنتين وتسعين صلاة» وهذا غريب وسبعين ضعيف.
والرواية الأولى تقتضي أن جملة من قتل بأحد اثنان وسبعون. والرواية الثانية تقتضي أنهم كانوا اثنين وتسعين.
وقوله واحدا بعد واحد قد يخالف ما تقدم عن أنس رضي الله عنه، من جعل الرجلين أو الثلاثة في كفن واحد فليتأمل.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على عشرة عشرة» أي يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم. ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة أخرى فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات، وحينئذ يكون جملة من قتل ثلاثة وستين. وسيأتي الكلام على عدتهم، وقيل كبر عليهم، كبر تسعا وسبعا وخمسا أي بعد أن كبر على حمزة وحده أربعا فلا ينافي ما تقدم. ولم أقف على عدد المرات التي كبر فيها ما ذكر.
وجاء أن قتلى أحد لم يغسلهم، ولم يصل عليهم ولم يكفنهم إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها أي غير الجلود، أخذا مما يأتي: أي ولا يضر تتميم ستر بعضهم بالإذخر. وحينئذ لا يكون تكفين حمزة بنمرته، ومصعب ببردته وتتميم تكفينهما بالإذخر عن احتياج كما تقدم عن عبد الرحمن بن عوف. وعن أنس رضي الله عنهما أي وقال مغلطاي: وصلي على حمزة والشهداء من غير غسل، وهذا أي دفنهم من غير غسل إجماع إلا ما شذ به بعض التابعين وفيه نظر ظاهر.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت الملائكة تغسل حمزة» وتقدم أن هذا السياق يقتضي أن هذه رؤيا نوم. وحينئذ يظهر التوقف فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قتل حمزة جنبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ولعل الراوي عن ابن عباس ذكر حمزة بدل حنظلة غلطا.
أما الصلاة عليهم؛ فقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد.
وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك: أي بما روى هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه؛ أي فإن من رواة ذلك الحديث الدالة على أنه صلى عليهم سعيد بن ميسرة عن أنس رضي الله عنه. وقد قال فيه البخاري إنه يروي المناكير. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، ومن جملة رواته: أي رواة ذلك الحديث مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد قال فيه البخاري: منكر الحديث، ومن ثم ذكر ابن كثير أن الذي في البخاري «أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا» . وهو أثبت من صلاته عليهم.
وأما حديث عتبة بن عامر: أي الذي رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت: أي دعا لهم كدعائه للميت كالمودع للأحياء والأموات أي حين علم قرب أجله، أي فذلك كان توديعا لهم بذلك. قال: قال السهيلي رحمه الله: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية في أحد، وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم اهـ.
وفي النور «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أعرابي في غزوة أخرى». وفي البخاري عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم» بكسر اللام وفي رواية «ولم يصلّ عليهم» بفتح اللام.
لا يقال: خبر جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات. لأنا نقول: شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها على الشاهد ولم تكن بحضوره وإلا فتقبل بالاتفاق. وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما.
واستدل أئمتنا على أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبا بقصة حنظلة رضي الله عنه، لأن تغسيل الملائكة لا يكتفي به في إسقاط الحرج عن المكلفين من الإنس لعدم تكليفهم، بخلاف تغسيل الجن فإنهم مكلفون ودفنوا بثيابهم، ونزع عنهم الحديد والجلود.
أي وأسلم وحشي رضي الله عنه بعد ذلك، فإنه في يوم فتح مكة فرّ إلى الطائف. ثم وفد مع أهل الطائف لما وفدوا ليسلموا. وقد قيل له بعد أن ضاقت عليه: ويحك والله إنه لا يقتل أحدا من الناس دخل دينه. قال وحشي: فلم يرعه صلى الله عليه وسلم إلا أني قائم على رأسه أشهد شهادة الحق. فقال لي: أنت وحشي؛ وسألني كيف قتلت حمزة فأخبرته. ثم قال: ويحك، غّيب عني وجهك فلا أراك. وفي رواية: لا ترني وجهك. وفي رواية: تفل في وجهي ثلاث تفلات. وقيل تفل في الأرض وهو وجد مغضب: أي وحينئذ لحق بالشام. وكان وحشي لا يزال يحد في الخمر في زمن عمر رضي الله عنه حتى خلع من الديوان قال عمر رضي الله عنه: قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة رضي الله عنه: أي لم يكن ليتركه من الابتلاء. وهذا أي تكرر حدّه في شرب الخمر. وإخراجه من ديون المجاهدين من أقبح أنواع الابتلاء، عافانا الله من ذلك.
وروى الدارقطني في صحيحه عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه كان يقول: عجبت لقاتل حمزة كيف ينجو؛ أي من الابتلاء، حتى بلغني أنه مات غريقا في الخمر. أي وذلك مع ما تقدم ابتلاء فظيع له رضي الله عنه.
وممن مثل به عبد الله بن جحش بدعوة دعاها على نفسه. فقال: أي قبل أحد بيوم: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني.
فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول فيك وفي رسولك. فيقول الله: صدقت، قال: وليس هذا من تمنى الموت المنهيّ عنه،أي لأن المنهي عنه أن يكون ذلك لضرّ نزل به فليتأمل.
وجاء أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة، فصار في يده سيفا، وكان يسمى العرجون. ودفن هو وخاله حمزة رضي الله عنهما في قبر واحد، أي وإنما كان حمزة خاله، لأن أم عبد الله أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان القاتل له أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، وأبو الحكم هذا قتل كافرا يوم أحد. وقال صلى الله عليه وسلم «ادفنوا عبد الله بن عمرو» أي وهو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح وهو زوج عمة جابر رضي الله عنهم في قبر واحد لما بينهما من الصفاء. وعبد الله بن عمرو هذا قد أصابه جرح في وجهه ومات ويده على جرحه، فأميطت يده عن وجهه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن.
ويقال إن السيل حفر قبر عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس. وأنه أزيلت يد عمرو عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان ذلك بعد الواقعة لست وأربعين سنة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: استصرخنا إلى قتلانا بأحد، وذلك حين أجرى معاوية رضي الله عنه العين في سوط مقبرة شهداء أحد، وأمر الناس بنقل موتاهم فأخرجناهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على رأس أربعين سنة، ولعله وما قبله لا يخالف قول السهيلي وذلك بعد ثلاثين سنة، وأصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبعث دما.
وذكر أنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك. وفي لفظ نحو خمسين سنة مع أن أرض المدينة سبخة يتغير الميت في قبره من ليلته: أي لأن الأرض لا تأكل لحوم شهداء المعركة كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. زاد بعضهم: قارىء القرآن، والعالم، ومحتسب الأذان. ويدل للأخير ما في الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه لا يدود في قبره أي كشهيد المعركة لا يأكله الدود في القبر. وقد نظم هؤلاء الشيخ التتائي المالكي رحمه الله تعالى فقال:

لا تأكل الأرض جسما للنبي ولا *** لعالم وشهيد قتل معترك
ولا لقارىء قرآن ومحتسب *** أذانه لإله مجرى الفلك

ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع رضي الله عنهما في قبر واحد، لأنه كان ابن عمه وولده خارجة وهو زيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت.
ذكر أن خارجة أخذته الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمرّ به صفوان بن أمية بن خلف فعرفه فأجهز عليه، وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد. قتلت خارجة بن زيد، وقتلت أوس بن أرقم، وقتلت أبا نوفل، ودفن النعمان بن مالك وعبد بني الحسحاس في قبر واحد، وربما دفنوا ثلاثة في قبر، وصار صلى الله عليه وسلم يقول «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» وكان صلى الله عليه وسلم يقول «انظروا أكثر هؤلاء جمعا» أي حفظا للقرآن «فقدموه في القبر» أي في اللحد.
واحتمل ناس من المدينة قتلاهم إلى المدينة، فردهم صلى الله عليه وسلم ليدفنوا حيث قتلوا وبه استدل أئمتنا رحمهم الله على حرمة نقل الميت قبل دفنه من محل موته إلى محل أبعد من مقبرة محل موته.
وفيه أنهم قالوا: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، نص على ذلك إمامنا الشافعي رحمه الله.
وقد يجاب بأن هذا مخصوص بغير الشهيد. أما هو فالأفضل دفنه بمحل موته ولو بقرب ما ذكر كما بحث ذلك بعض المتأخرين من أئمتنا. ويشهد له ما هنا.
ولا يشكل دفن اثنين أو ثلاثة في لحد على قول فقهائنا بحرمة جمع اثنين في لحد ولو الوالد وولده، لأن محل ذلك حيث لا ضرورة ككثرة الموتى ومشقة الحفر لكل واحد كما هنا.
ثم رأيت في بعض السير: وقد ثبت في صحيح البخاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» . وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.
وفي رواية «فحملوهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها، فجاء منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا لم يكن دفن فردّ ومن دفن أبقوه.
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد قال «أنا شهيد على هؤلاء، وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك» .
وفي رواية «إنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه» أي لون الكلم أي الجرح «لون الدم، وريحه ريح مسك» أي وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم» قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا أي يمتنعوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] الآية.
وقد بينت في «النفخة العلوية» أن الأرواح في البرزخ متفاوتة في مستقرها أعظم تفاوت، فلا تعارض بين الأدلة الدالة على تلك الأقوال المختلفة، وحينئذ تكون أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كونها في الملأ الأعلى متفاوتة فيه، وأرواح المؤمنين غير الشهداء أو غير الأطفال. منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي.
وأرواح الأطفال في حواصل عصافير الجنة عند جبال المسك. وأرواح الشهداء منهم من تكون روحه على باب الجنة. ومنهم من تكون داخلها، وحينئذ إما أن تكون في جوف طير أخضر أو طير أبيض. ومنهم من تكون روحه على صورة الطير.
وفي كلام القرطبي رحمه الله قال علماؤنا: أرواح الشهداء طبقات مختلفة، ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، أي وتقدّم الكلام على رزقهم.
أي ومن جملة من قتل من الصحابة يوم أحد أبو جابر أي كما تقدّم فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه «يا جابر ألا أخبرك ما كلم الله تعالى أحدا قط» لعل المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا، فقال: سلني أعطك، فقال: «أسألك أن أردّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا. قال: أي رب فأبلغ من ورائي»، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] الآية.
أي ولا مانع من تعدد النزول للآية فلا يخالف ما تقدم قريبا.
أي وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهني، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة عليهم السلام مظلة له بأجنحتها حتى رفع» أي وسيأتي أن جابرا رضي الله عنه لم يحضر القتال.
وعن بشير ابن عفراء رضي الله عنهما قال أصيب أبي يوم أحد، فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: «أما ترضى أن تكون عائشة أمك، وأكون أنا أباك» .
ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها وفي رواية: وابنها يوم أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ما فعل به، قالوا: خيرا يا أم فلان، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته صلى الله عليه وسلم قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة. والجلل كما يقال للشيء الصغير يقال للشيء الكبير، فهو من الأضداد. وفي لفظ أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى. وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك، فلم تكترث بذلك، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب .
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. أي فأرادوا قطعها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا» فدعاه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أي أخذها بيده الشريفة وردها إلى موضعها أي براحته الشريفة وقال: «اللهم اكسه جمالا فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا؛ وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى» .
أي وجاء في قتادة رضي الله عنه أنه قال كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي، فأخذتها أي رفعتها بيدي أي وقلت: يا رسول الله إن لي امرأة أحبها وأخشى أن تراني تقذرني أي وقال له صلى الله عليه وسلم «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله تعالى لك»، فقال: يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، وإني مغرم بحب النساء. وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله تعالى لي الجنة فردها ودعا لي بالجنة .
وجاء عن قتادة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما رآها في كفي» أي مرفوعة دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم ق قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، أي بعد أن ردها إلى موضعها براحته الشريفة» كما تقدم، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:

وأعادت على قتادة عينا *** فهي حتى مماته النجلاء

أي وأعادت تلك الراحة الشريفة على قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه عينا له ذهبت، فهي إلى مماته الواسعة: أي الكثيرة النظر.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: ويجمع بين رواية العين الواحدة ورواية الثنتين.
أي فقد جاء في حديث غريب «أصيبت عيناي فسقطتا على وجنتي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة وبعضهم أن الساقط ثنتان، فأخبر كلّ بحسب علمه.
ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة، وبها تترجح رواية إحدى الثنتين، هذا كلامه فليتأمل. وكون ذلك كان يوم أحد هو المشهور. وقيل يوم الخندق.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر أن رجلا من ولد قتادة قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه؛ فقال له: من الرجل؟ فقال:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها *** فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد

فقال عمر بن عبد العزيز:

تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

فوصله عمر وأحسن جائزته.
ورمى كلثوم بن الحصين بسهم في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ. وحضرت الملائكة عليهم السلام يوم أحد ولم تقاتل.
قال: ويؤيده قول مجاهد رحمه الله: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، لكن جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال «رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال؛ وما رأيناهما قبل ولا بعد، أي وهما جبريل وميكائيل عليهما السلام» ولا منافاة، فقد قال البيهقي رحمه الله: لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم أي فلا ينافي أنهم قاتلوا عنه صلى الله عليه وسلم خاصة اهـ.
أقول: ويجوز أن يكون المراد بمقاتلتهما دفعهما عنه صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه جاء عن الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه قال سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فقلت: رأيته في جنب الجبل، فقال: «الملائكة تقاتل معه». قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن، فإذا بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ قال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما. وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقال صدق الله ورسول أي ومقاتلة الملائكة عن خصوص عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لا ينافي مقاتلتهم يوم بدر عن عموم القوم.
وفي الإمتاع، كان قد نزل قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد قوله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ} * {بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124-125] فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بملك واحد يوم أحد، فليتأمل والله أعلم.
ولما قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وسقط اللواء أخذه ملك في صورة مصعب: أي فإنه لما قطعت يده اليمنى أخذ اللواء بيده اليسرى، أي وهو يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية، فلما قطعت جثى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} [آل عمران:144] الآية، ولم تكن هذه الآية نزلت، بل قالها لما سمع قول القائل قتل محمد، وإنما نزلت: أي بعد قوله في ذلك اليوم كما في الدرّ فهو من القرآن الذي نزل على لسان بعض الصحابة ثم قتل، أي وهذا لا ينافي ما تقدم، من أنه قاتل دونه صلى الله عليه وسلم، فقتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتله أبيّ بن خلف لعنه الله، لأنه يجوز أن يكون قتله هو على هذه الكيفية المذكورة.
ثم رأيت في بعض الروايات أن ابن قمئة فعل به هذه الكيفية، أي ثم قتله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للملك الذي على صورة مصعب، «تقدم يا مصعب»، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به.
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أقدم مصعب»، قال: يا رسول الله، ألم يقتل مصعب؟ قال: «بلى ولكن ملك قام مقامه وتسمى باسمه»، أي فلا ينافي ذلك قول الملك له صلى الله عليه وسلم لما قال له تقدم يا مصعب: لست بمصعب، لأن مراده لست بمصعب الذي هو صاحبكم.
ورأيت في رواية أنه لما سقط اللواء أخذه أبو الروم أخو مصعب، ولم يزل في يده حتى دخل المدينة، فليتأمل، ووجود هذا الملك يخالف ما تقدم عن الإمتاع، من أنه صلى الله عليه وسلم لم يمدّ بملك واحد.
ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى المدينة ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، أي ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أحد قال صلى الله عليه وسلم: «اصطفوا حتى أثنى عليّ ربي عز وجل»، فاصطف الرجال خلفه صفوفا، وخلفهم النساء.
فقال «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث.
ثم توجه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فلقيته حمنة بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال لها صلى الله عليه وسلم احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟
قال: «خالك حمزة»، قالت {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] غفر الله له، هنيئا له الشهادة.
ثم قال لها: «احتسبي»، قالت: من يا رسول الله؟ قال: «زوجك مصعب بن عمير»، فقالت: واحزناه وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد»، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: «لم قلت هذا؟» قالت: تذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا لها صلى الله عليه وسلم ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم الخلف، فتزوّجت طلحة بن عبيد الله، فكان أوصل الناس لولدها وولدت له محمد بن طلحة.
قال: وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بلجامها. فقال له سعد: يا رسول الله أمي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بها»، فوقف لها، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة: أي استقليتها؛ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد: أي بعد أن قال لأم سعد: «يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا»، قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟!. ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا. فقال: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا» وسمع صلى الله عليه وسلم نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ، أي وأبنائهنّ وإخوانهنّ. فقال: «حمزة لا بواكي له»، أي وبكى صلى الله عليه وسلم، ولعله رضي الله عنه لم يكن له بالمدينة لا زوجة ولا بنت، فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة بين المغرب والعشاء. أي وكذلك أسيد بن حضير أمر نسائه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة.
أي ولما جاء صلى الله عليه وسلم بيته حمله السعدان وأنزلاه عن فرسه ثم اتكأ عليهما حتى دخل بيته، ثم أذن بلال لصلاة المغرب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، فصلى صلى الله عليه وسلم، فلما رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء، فقال: «ما هذا؟» فقيل نساء الأنصار يبكين حمزة، فقال: «رضي الله عنكن وعن أولادكن»، وأمر أن تردّ النساء إلى منازلهن.
وفي رواية: خرج عليهنّ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء فإن بلالا أذن بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب ثلث الليل نادى بلال: الصلاة يا رسول الله، فقام من نومه وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة رضي الله عنه. ولا يخالف ما سبق، لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان ملاصقا للمسجد، فقال لهنّ: «ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار، فإن المواساة فيهم كما علمت قديمة» أي ولا منافاة، لأنه يجوز أن يكون الأمر عند رجوعه من صلاة المغرب كان لطائفة وبعد ثلث الليل كان لطائفة أخرى، وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا تبكي على ميتها إلا بدأت بالبكاء على حمزة رضي الله عنه ثم بكت على ميتها.
ولعل المراد بالبكاء النوح، وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه صلى الله عليه وسلم بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى نساء الأنصار عن النوح، وقال له الأنصار: يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء نندب به موتانا، ونجد فيه بعض الراحة، فائذن لنا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن فعلن، فلا يخمشن، ولا يلطمن، ولا يحلقن شعرا، ولا يشققن جيبا».
وجاء أنه في يوم أحد دفع عليّ كرّم الله وجهه سيفه لفاطمة رضي الله عنها وقال لها اغسليه غير ذميم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعدّد جماعة، أي منهم سهل بن حنيف وأبو دجانة».
وما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم في يوم أحد دفع سيفه ذا الفقار لابنته فاطمة رضي الله عنها وقال: «اغسلي عنه دمه، لقد صدقني اليوم»، وناولها علي كرم الله وجهه سيفه وقال: «وهذا فاغسلي عنه دمه، فو الله لقد صدقني اليوم»، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: «لئن صدقت القتال لقد صدق معك سهيل بن حنيف وأبو دجانة».
وعن ابن عقبة لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي كرم وجهه مختضبا دما، قال: إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف. وكونه صلى الله عليه وسلم دفع سيفه لابنته فاطمة رضي الله عنها رده الإمام أبو العباس بن تيمية، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في ذلك اليوم بسيف، لكن في النور أن هذا الحديث لم يتعقبه الذهبي. قال: ففيه ردّ على ابن تيمية هذا كلامه فليتأمل.
والأكثر على أن الذين قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعون: أربعة من المهاجرين، وهم: حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وقيل ثمانون: أربعة وسبعون من الأنصار وستة من المهاجرين. قال الحافظ ابن حجر: لعل الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس ثقيف بن عمرو حليف بني عبد شمس، وعدهم في الأصل ستة وتسعين، وهذا لا يناسب ما تقدم في بدر من قوله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم أخذتم منهم الفداء، ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وقيل اثنان وعشرون.
أقول: انظر هذا مع ما تقدم من أن؟؟؟ وحده قتل واحدا وثلاثين. ورأيت في الطبقات لمولانا الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله ببركاته، أن أويسا القرني كان مشغولا بخدمة والدته، فلذلك لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد روي أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال: والله ما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم حتى كسرت رباعيتي ولا شجّ وجهه الشريف حتى شجّ وجهي، ولا وطىء ظهره حتى وطىء ظهري، قال: هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال هذا كلامه، ولم أقف على أنه عليه الصلاة والسلام وطىء ظهره في غزوة أحد، فإن مجموع ما دلت عليه الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم شجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه، وجحشت ركبته.
ثم رأيت بعض المؤرخين ذكر أن سيدنا عمر رضي الله عنه سمع بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضلك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء:80] بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال: {عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ[التوبة: 43] إلى أن قال: «فلقد وطىء ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك»، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
ومما يدل على أن أويسا لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «خير التابعين رجل يقال له أويس القرني» وما أخرجه البيهقي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر» وفي رواية أن عمر قال لأويس استغفر لي، فقال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» والمراد من خير التابعين كما في بعض الروايات، فلا ينافي ما نقل عن أحمد بن حنبل وغيره أن أفضل التابعين سعيد بن المسيب.
ومما يدل على أن أويسا لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الجامع الصغير سيكون بعدي في أمتي رجل يقال له أويس القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر» .
وفي أسد الغابة أن أويسا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعي الكوفة، وكان يسخر به.
ووفد رجل ممن كان يسخر به مع جماعة من أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس القرني وقد كان به بياض، فدعا الله تعالى فأذهب عنه إلا قدر الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» فأقبل ذلك الرجل لما قدم الكوفة إلى أويس قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس: ما هذا بعادتك؟ قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: كذا وكذا فاستغفر لي، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي ولا تذكر قول عمر لأحد فالتزم له ذلك فاستغفر له، وقتل أويس يوم صفين مع عليّ كرم الله وجهه.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور، وصاروا يظهرون أقبح القول، أي ومنه: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط؛ أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل.
واستأذنه صلى الله عليه وسلم عمر في قتل هؤلاء المنافقين، فقال: «أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال: بلى، ولكن تعوذا من السيف، فقد بان أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «نهيت عن قتل من أظهر ذلك»، وصار ابن أبيّ لعنه الله يوبخ ابنه عبد الله رضي الله عنه وقد أثبتته الجراحة فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله والمسلمين خير.
قال: وكانت عادة عبد الله بن أبيّ ابن سلول إذا جلس صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: «أيها الناس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس» فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأني إنما قلت هجرا، وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، وأنزل الله تعالى قصة أحد في آل عمران، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] الآية.