3 ربيع الأول 49 ق.هـ
2 آذار 575 م
شق صدره الشريف

غسل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم

قالت – أي حليمة السعدية-: ثم قدمنا منازلنا من بني سعد، ولا أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم: و يلكم! اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن،
وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم يزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جَفْراً ، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا – لما ترى من بركته- فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركت بنُي عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، فلم نزل به حتى ردته معنا، فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي عبد الله قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقَّا بطنه، فهما يسوطانه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً منتقعاً لوجهه، قال: فالتزمنه والتزمه أبوه، فقلنا: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني فشقا بطني، فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا به إلى خيامنا، وقال لي أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به.

السيدة آمنة تقص من خبر حملها به

قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر. ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك، قلت: قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته عليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك، فأصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم، قالت: كلا والله، ما للشيطان عليه سبيل، وإن
لبنُي لشأناً، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى.
قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.

النبي صلى الله عليه وسلم يقص حادث الشق

ويروى أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن نفسك؟ قال: “نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه
قد خرج منها نور أضاء له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان – عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب مملوءة ثلجاً، فأخذاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فسقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وباطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة؛ فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته فوزنني بهم؛
فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم؛ فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها“. وفي رواية: فاستخرجا منه مغمز الشيطان وعلق الدم. وفيها: وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن.
قال السهيلي: ولا يدل هذا على فضله عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمدًا عند ما نزع ذلك منه ملُئ حكمة وإيماناً بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد.

غسل قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء

وقد روي أنه عليه السلام ليلة الإسراء أُتي بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغ في قلبه، وأنه غسل قلبه بماء زمزم.

بيان الوهم في حادث الشق

فوهم بعض أهل العلم من روى ذلك، ذاهباً في ذلك إلى أنها واقعة واحدة متقدمة التاريخ على ليلة الإسراء بكثير. قال السهيلي: وليس الأمر كذلك، بل كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين: الأولى في حال الطفولية؛ لينقي قلبه من مغمز الشيطان، والثانية: عندما أراد أن يرفعه إلى الحضرة المقدسة، وليصلي بملائكة السموات، ومن شأن الصلاة الطهور، فقدس باطناً وظاهراً، وملئ قلبه حكمة وإيماناً، وقد كان مؤمناً، ولكن
الله تعالى قال: {وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً} [المدثر: 31].

وقت رجوع النبي صلى الله عليه وسلم لأمه

وكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين، وكان غيره يقول: رد إليها وهو ابن أربع سنين، وهذا كله عن الواقدي. وقال أبو عمر: ردته ظئره حليمة إلى أمه بعد خمس سنين ويومين من مولده، وذلك سنة ست من عام الفيل، وأسلمت حليمة بنت أبي ذؤيب وهو: عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناضرة بن قبيصة بن نصر بن سعد
بن بكر بن هوازن.