210 هـ
825 م
سنة عشر ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

فمن ذلك وصول نصر بْن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بْن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر،  …

فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه.

ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائه
وفيها ظهر المأمون على إبراهيم بْن محمد بْن عبد الوهاب بْن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ومالك بْن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي، فأرسل إليهم المأمون يوم السبت- فيما ذكر- لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين، فامر المأمون بابراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بْن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له، ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواما براء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بْن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بْن شبث بعد ذلك وحده، ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل عند إسحاق بْن إبراهيم، ثم حول الى مدينه ابى جعفر.

ذكر خبر الظفر بابراهيم بن المهدى
وفيها أخذ إبراهيم بْن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة، أخذه حارس أسود ليلا، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم – فيما ذكر – خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم، ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به، فأمر بالاحتفاظ به في الدار، فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقبا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفا بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بْن أبي خالد فحبسه عنده، ثم اخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بْن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بْن أبي خالد، وصير معه أحمد بْن يحيى بْن معاذ وخالد بْن يزيد بْن مزيد يحفظانه، إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه.

ذكر خبر قتل ابن عائشة
وفي هذه السنه قتل المأمون ابراهيم بن عائشة وصلبه.

ذكر الخبر عن سبب قتله إياه:
كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بْن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة لإبراهيم، بعد أن ضربوا بالسياط ما خلا عمارا، فانه او من لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن- وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحدا يدخل عليهم- فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرا، وأسمعه ابن عائشة شتما قبيحا، فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل، فلما كان من الغداة يوم الأربعاء انزل ابراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل ابن الأفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون.

العفو عن ابراهيم بن المهدى
وذكر أن إبراهيم بْن المهدي لما أخذ صير به الى دار ابى إسحاق بن الرشيد- وابو اسحق عند المأمون- فحمل رديفا لفرج التركي، فلما أدخل على المأمون قَالَ له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وأن تعف فبفضلك، قَالَ: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجدا.
وقيل ان ابراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف، فوقع المأمون في حاشية رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله، فقال إبراهيم يمدح المأمون:

يا خير من ذملت يمانية به *** بعد الرسول لآيس ولطامع
وأبر من عبد الإله على التقى *** عينا وأقوله بحق صادع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج *** فالصاب يمزج بالسمام الناقع
متيقظا حذرا وما يخشى العدى *** نبهان من وسنات ليل الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافة *** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فدية وبنيهما *** من كل معضلة وريب واقع
ما ألين الكنف الذي بوأتني *** وطنا وأمرع رتعه للراتع
للصالحات أخا جعلت وللتقى *** وأبا رءوفا للفقير القانع
نفسي فداؤك إذ تضل معاذري *** وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة *** رفعت بناءك بالمحل اليافع
فبذلت أفضل ما يضيق ببذله *** وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله *** عفو، ولم يشفع إليك بشافع
الا العلو عن العقوبة بعد ما *** ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا *** وعويل عانسة كقوس النازع
وعطفت آصرة على كما وعى *** بعد انهياض الوشى عظم الظالع
الله يعلم ما أقول فإنها *** جهد الألية من حنيف راكع
ما أن عصيتك والغواة تقودني *** أسبابها إلا بنية طائع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي *** بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أن لمثل جرمي غافرا *** فوقفت أنظر أي حتف صارعي
رد الحياة علي بعد ذهابها *** ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولاك أطول مدة *** ورمى عدوك في الوتين بقاطع
كم من يد لك لم تحدثني بها *** نفسي إذا آلت إلي مطامعي
أسديتها عفوا إلي هنيئة *** فشكرت مصطنعا لأكرم صانع
إلا يسيرا عند ما أوليتني *** وهو الكثير لدى غير الضائع
إن أنت جدت بها علي تكن لها *** أهلا، وأن تمنع فأعدل مانع
إن الذي قسم الخلافة حازها *** في صلب آدم للإمام السابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها *** وحوى رداؤك كل خير جامع

فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قَالَ: أقول ما قَالَ يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف: 92]

ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران
وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها.

ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه:
ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بْن سهل، حمل معه إبراهيم بْن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكبا زورقا، حتى أرسى على باب الحسن، وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجا عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق، فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن الا يفعل، فلما ساواه ثنى رجله الحسن لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل، فاعتنقه الحسن وهو راكب ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعا منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس- ودينار بْن عبد الله قائم على رجله- حتى فرغوا من الإفطار، وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن، لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، فغمز دينار بْن عبد الله الحسن، فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون: لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه فلما كان في الليلة الثانية، جمع بين محمد بْن الحسن بْن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها، فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشرا، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما نثر لنأخذه، قَالَ: ردها فإني أخلفها عليك، فردها وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فأمسكت فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها وألبستها أم جعفر البدنة الأموية، وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر، فيها أربعون منا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف، فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بْن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل، فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون:
يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعه ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفا، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بْن سهل سبعة عشر يوما يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم قَالَ: وأمر المأمون غسان بْن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان، وكانت معدة عند غسان بْن عباد، فجلس الحسن ففرقها في قواده وأصحابه وحشمه وخدمه، فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح.
فذكر عن أحمد بْن الحسن بْن سهل، قَالَ: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بْن سهل كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه، ونثرها على القواد وعلى بني هاشم، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.
وذكر عن أبي الحسن علي بْن الحسين بْن عبد الأعلى الكاتب، قَالَ:
حدثني الحسن بْن سهل يوما بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قَالَ: سألها يوما المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر.
قَالَ: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قَالَ: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئا، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم قَالَ: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قَالَ:
فدخل بها ليلا، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما، فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع قَالَ: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قَالَ: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يوما حميد الطوسي فأقرأني اربعه ابيات امتدح بها ذا الرياستين، فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافاتك من قبله فأقطعته إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران.
وروى علي بْن الحسين أن الحسن بْن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولا يرفع الشمع من بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها وكان متطيرا يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد قَالَ: ودخلت عليه يوما فقال له قائل: إن علي بْن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قَالَ: فدعا لي وانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتابا بعشرين ألف درهم.
قَالَ: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه.
وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قَالَ: لما صار المأمون إلى الحسن بْن سهل، أقام عنده أياما بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يوما ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال.
وذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: خرج المأمون نحو الحسن ابن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين.
وهلك حميد بْن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة، وقالت جاريته عذل:

من كان أصبح يوم الفطر مغتبطا *** فما غبطنا به والله محمود
أو كان منتظرا في الفطر سيده *** فإن سيدنا في الترب ملحود

وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بْن السري بن الحكم.

ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بْن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان
ذكر أن عبد الله بْن طاهر لما فرغ من نصر بْن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر، فحدثني أحمد بْن محمد بْن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بْن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائدا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بْن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره، فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولة، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال، على كل بغل رجلين بالتهما وادواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السرى، فلم تكن من عند الله واصحابه الا جمله واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه- يعني ابن السري- في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بْن طاهر، فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان.
وذكر عن ابن ذي القلمين، قَالَ: بعث ابن السري إلى عبد الله بْن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلا قَالَ: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ} [النمل: 37] قَالَ: فحينئذ طلب الأمان منه، وخرج إليه.
وذكر أحمد بْن حفص بْن عمر، عن أبي السمراء، قَالَ: خرجنا مع الأمير عبد الله بْن طاهر متوجهين إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق، إذا نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا ع قَالَ أبو السمراء: وأنا وإسحاق بْن إبراهيم الرافقي وإسحاق بْن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسا قَالَ: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قَالَ:
فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر، أعرفت شيئا أم أنكرته؟ قَالَ:
لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قَالَ: فأشرت له إلى إسحاق بْن أبي ربعي، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:

أرى كاتبا داهي الكتابة بين *** عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن أنه *** عليم بتقسيط الخراج بصير

ونظر إلى إسحاق بْن إبراهيم الرافقي، فقال:

ومظهر نسك ما عليه ضميره *** يحب الهدايا، بالرجال مكور
أخال به جبنا وبخلا وشيمة *** تخبر عنه أنه لوزير

ثم نظر إلي وأنشأ يقول:

وهذا نديم للأمير ومؤنس *** يكون له بالقرب منه سرور
أخاله للإشعار والعلم راويا *** فبعض نديم مرة وسمير

ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول:

وهذا الأمير المرتجى سيب كفه *** فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة *** ووجه بإدراك النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بدابد *** به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بْن طاهر *** لنا والد بر بنا، وأمير

قَالَ: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فامر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه.
وذكر عن الحسن بْن يحيى الفهري، قَالَ: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بْن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بْن طاهر:

مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا *** بابن ذي الجود طاهر بْن الحسين
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا *** بابن ذي الغرتين في الدعوتين
مرحبا مرحبا بمن كفه البحر *** إذا فاض مزبد الرجوين
ما يبالي المأمون أيده الله *** إذا كنتما له باقيين
أنت غرب وذاك شرق مقيما *** أي فتق أتى من الجانبين
وحقيق إذ كنتما في قديم *** لزريق ومصعب وحسين
أن تنالا ما نلتماه من المجد *** وأن تعلوا على الثقلين

قَالَ: من أنت ثكلتك أمك! قَالَ: أنا البطين الشاعر الحمصي، قَالَ:
اركب يا غلام وانظر كم بيتا؟ قَالَ: قَالَ: سبعة، فأمر له بسبعه آلاف درهم او بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدابته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية.

ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية
وفي هذه السنة فتح عبد الله بْن طاهر الإسكندرية- وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين- وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها.

ذكر الخبر عن أمره وأمرهم :
حدثني غير واحد من أهل مصر، أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الجروي وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص، فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بْن طاهر مصر قَالَ لي يونس بْن عبد الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث- يعني عبد الله بْن طاهر- والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا، وأمن البريء، واخاف السقيم، واستوسقت له الرعية بالطاعة ثم قَالَ: أخبرنا عبد الله بْن وهب، قَالَ: أخبرني عبد الله بْن لهيعة، قَالَ: لا أدري رفعه إلي قبل أم لا! فلم نجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جندا لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه- أو كلاما هذا معناه- فلما دخل عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر، يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم الى اليوم.

ذكر الخبر عن خروج اهل قم على السلطان
وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.

ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك:
ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي ألف درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم، فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بْن هشام، ثم أمده بعجيف بْن عنبسة، وقدم قائد لحميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بْن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بْن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم.
ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بْن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يدي مازيار ابن قارن.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد وهو يومئذ والي مكة.