126 هـ
743 م
سنة ست وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة)

ذكر بقية اخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بْن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد ابن يزيد …

ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل:
قد ذكرنا بعض أمر الوليد بْن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولى الخلافه وافضت اليه، لم يزدد في الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تماديا وحدا – تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها – فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره.
وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه افساده على نفسه بنى عميه بنى هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بْن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشام.

ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عميه هشام والوليد:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، عن المنهال بْن عبد الملك، قَالَ: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذات، فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتد على بني هشام، فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل بها محبوسا حتى قتل الوليد قَالَ: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بْن الوليد، فيها فقال: لا أردها، فقال: إذن تكثر الصواهل حول عسكرك.
قَالَ: وحبس الأفقم يزيد بْن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بْن بيهس بْن صهيب، فقال: لا تفعل، فإنهما غلامان لم يحتلما، ولكن بايع لعتيق بْن عبد العزيز بْن الوليد بْن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس وأراد خالد بْن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال:
ويحكم! كيف أبايع من لا أصلي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قَالَ: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقينا، إنما هي أخبار الناس، فغضب الوليد على خالد.
قَالَ: وقال عمرو بْن سعيد الثقفي: أوفدني يوسف بْن عمر إلى الوليد فلما قدمت قَالَ لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد- ثم قَالَ:
إياك أن يسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بْن جبير طالق إن سمعته أذني ما دمت حيا، فضحك قَالَ: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة، وكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسعنا الرضا بالوليد، حتى حمل الناس على الفتك به.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، عن يزيد بن مصاد الكلبي، عن عمرو بْن شراحيل، قَالَ: سيرنا هشام بْن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال:
والله ما عمل هشام عملا أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييره إياهم وكان الوالي علينا الحجاج بْن بشر بْن فيروز الديلمى، وكان يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهرا حتى يقتل، ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته قَالَ: فأجمع على قتل الوليد جماعه من قضاعه واليمانيه من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بْن أبي مالك الغساني ومنصور بْن جمهور ويعقوب بْن عبد الرحمن وحبال بْن عمرو، ابن عم منصور، وحميد بْن نصر اللخمي والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسري بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمي أحدا منكم وأراد الوليد الحج، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخر الحج العام، فقال: ولم؟
فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق.
وقال علي عن الحكم بْن النعمان، قَالَ: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانية البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه، فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من القرابة، فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضر ذلك ببيوت الأموال قَالَ: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بْن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله فقدم – وخالد بْن عبد الله محبوس – فلقيه حسان النبطي ليلا، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بْن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بد ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال:
ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت قَالَ: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة مني، ففرقها على قدر علمك فيهم، ففعل وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له حسان: لا تغد على الوليد، ولكن رح إليه رواحا، واكتب على لسان خليفتك كتابا إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر.
وادخل على الوليد والكتاب معك متحازنا، فاقرئه الكتاب، ومر ابان ابن عبد الرحمن النميري يشتري خالدا منه بأربعين ألف ألف ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلي خالدا وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم، قَالَ: ومن يضمن عنك؟ قَالَ: يوسف، قَالَ: أتضمن عنه؟ قَالَ: بل ادفعه إلي، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء.
قَالَ محمد بْن محمد بْن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافا كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان- يعني أن أخي الفيض كان على عمان، فبعث إلي بمال جسيم- فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: احسنت، هو اسير، ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذى.
وقدم الكوفة فقتله في العذاب، فقال الوليد بْن يزيد – فيما زعم الهيثم بْن عدي – شعرا يوبخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بْن عبد الله.
وأما احمد بن زهير، فانه حدثه عن علي بْن محمد، عن محمد بْن سعيد العامري عامر كلب، أن هذا الشعر قَالَه بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرض عليه اليمانيه:

الم تهتج فتذكر الوصالا *** وحبلا كان متصلا فزالا
بلى فالدمع منك له سجام *** كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك ادكارك آل سعدى *** فنحن الأكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا *** نسومهم المذلة والنكالا
وطئنا الأشعرين بعز قيس *** فيا لك وطأة لن تستقالا!
وهذا خالد فينا أسيرا *** ألا منعوه إن كانوا رجالا!
عظيمهم وسيدهم قديما *** جعلنا المخزيات له ظلالا
فلو كانت قبائل ذات عز *** لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوبا أسيرا *** يسامر من سلاسلنا الثقالا

– ورواه المدائني: يعالج من سلاسلنا-

وكندة والسكون فما استقالوا *** ولا برحت خيولهم الرحالا
بها سمنا البرية كل خسف *** وهدمنا السهولة والجبالا
ولكن الوقائع ضعضعتهم *** وجذتهم وردتهم شلالا
فما زالوا لنا أبدا عبيدا *** نسومهم المذلة والسفالا
فأصبحت الغداة علي تاج *** لملك الناس ما يبغي انتقالا

فقال عمران بْن هلباء الكلبي يجيبه:

قفي صدر المطية يا حلالا *** وجذي حبل من قطع الوصالا
ألم يحزنك أن ذوي يمان *** يرى من حاذ قيلهم جلالا
جعلنا للقبائل من نزار *** غداة المرج أياما طوالا
بنا ملك المملك من قريش *** وأودى جد من أودى فزالا
متى تلق السكون وتلق كلبا *** بعبس تخش من ملك زوالا
كذاك المرء ما لم يلف عدلا *** يكون عليه منطقه وبالا
أعدوا آل حمير إذ دعيتم *** سيوف الهند والأسل النهالا
وكل مقلص نهد القصيرى *** وذا فودين والقب الجبالا
يذرن بكل معترك قتيلا *** عليه الطير قد مذل السؤالا
لئن عيرتمونا ما فعلنا *** لقد قلتم وجدكم مقالا
لإخوان الأشاعث قتلوهم فما *** وطئوا ولا لاقوا نكالا
وأبناء المهلب نحن صلنا *** وقائعهم وما صلتم مصالا
وقد كانت جذام على أخيهم *** ولخم يقتلونهم شلالا
هربنا أن نساعدكم عليهم *** وقد أخطأ مساعدكم وفالا
فإن عدتم فإن لنا سيوفا *** صوارم نستجد لها الصقالا
سنبكي خالدا بمهندات *** ولا تذهب صنائعه ضلالا
ألم يك خالد غيث اليتامى *** إذا حضروا وكنت لهم هزالا!
يكفن خالد موتى نزار *** ويثري حيهم نشبا ومالا
لو أن الجائرين عليه كانوا *** بساحة قومه كانوا نكالا
ستلقى ان بقيت مسومات *** عوابس لا يزايلن الحلالا

فحدثني أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: فازداد الناس على الوليد حنقا لما رُوِيَ هذا الشعر، فقال ابن بيض:

وصلت سماء الضر بالضر بعد ما *** زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاما كان حيا يسوسنا *** وكنا كما كنا نُرًجِّي ونطمع

وكان هشام استعمل الوليد بْن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بْن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بْن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط، فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بْن عبد الملك، فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة – وكان على قنسرين- فعذبهم، فمات في العذاب الوليد بْن القعقاع وعبد الملك بْن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بْن عبد الله فأتت اليمانية يزيد بْن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بْن يزيد الحكمي، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بْن الوليد، فإنه سيد بني مروان، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك وكانت الشام تلك الأيام وبية، فخرجوا إلى البوادي، وكان يزيد بْن الوليد مُتَبَدِّيًا، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة.
فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العباس: مهلا يا يزيد، فان في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا فرجع يزيد إلى منزله، ودب في الناس فبايعوه سرا، ودس الأحنف الكلبي ويزيد بْن عنبسة السكسكي وقوما من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم، فدعوا الناس سرا، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره ان قوما يأتونه يريدونه على البيعه، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقا، ولأحملنك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جادا! قَالَ: جعلت فداك! ما أظن ذاك، ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعا قَالَ: أما والله إني لأظنه أشأم سخلة في بني مروان، ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقا، وحملته إليه، فأزجره عن أمره، فإنه يسمع إليك فقال يزيد لقطن: ما قَالَ لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكف وبلغ معاوية بْن عمرو بْن عتبة خوض الناس، فأتى الوليد فقال:
يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالإنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وانا اسمع مالا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحا، أو أسكت مطيعا؟ قَالَ:
كل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك.
وبلغ مروان بْن محمد بأرمينية أن يزيد يؤلب الناس، ويدعو الى خلع الوليد، فكتب إلى سعيد بْن عبد الملك بْن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم- وكان سعيد يتأله إن الله جعل لكل أهل بيت أركانا يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربك ركن من أركان أهل بيتك، وقد بلغني أن قوما من سفهاء أهل بيتك قد استنوا أمرا – إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم – استفتحوا بابا لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم، وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجا، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك، لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا، وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط الا بتشتيت كلمتهم، وان كلمتهم إذا تشتت طمع فيهم عدوهم وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك واظهار المتابعة لهم، فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب، لعل الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم، فإن فيما سعوا فيه تعير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الإلفة مشدود، والناس سكون، والثغور محفوظة، فإن للجماعة دوله من الفرقة وللسعه دافعا من الفقر، وللعدد منتقصا، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلب مع الزيادة والنقصان، وقد امتدت بنا – أهل البيت – متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها، وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة وقد أمل القوم في الفتنة أملا، لعل أنفسهم تهلك دون ما أملوا، ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم – فاعاذك الله من ذلك – فاجعلني من أمرهم على علم حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك.
فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه الى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدده، فحذره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدونا اراد ان يغرى بيننا، وحلف له أنه لم يفعل فصدقه حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: قَالَ ابن بشر بْن الوليد بْن عبد الملك: دخل أبي بشر بْن الوليد على عمي العباس، فكلمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يراده، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترئ أن يكلم عمي ويرد عليه قوله! وكنت أرى أن الصواب فيما يقول أبي، وكان الصواب فيما يقول عمي، فقال العباس: يا بني مروان، إني أظن الله قد أذن في هلاككم، وتمثل قائلا:

إني أعيذكم بالله من فتن *** مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم *** فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم *** إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم *** فثم لا حسرة تغني ولا جزع

قَالَ: فلما اجتمع ليزيد امره وهو متبد، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكرا في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام وقال القوم لمولى لعباد بْن زياد: اما عندك طعام فنشريه؟ قَالَ: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم، فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا ثم سار فدخل دمشق ليلا، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سرا، وبايع أهل المزة غير معاوية بْن مصاد الكلبي – وهو سيد أهل المزة- فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بْن مصاد ماشيا في نفير من أصحابه- وبين دمشق وبين المزة ميل أو أكثر- فأصابهم مطر شديد، فاتوا منزل معاوية بْن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قَالَ: إن في رجلي طينا، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد فكلمه يزيد فبايعه معاوية – ويقال هشام بْن مصاد – ورجع يزيد إلى دمشق، فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود، فنزل دار ثابت بْن سليمان بْن سعد الخشني، وخرج الوليد بْن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب- وهو على فرس أبلق- حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطنا، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بْن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل:
إن يزيد خارج فلم يصدق وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا- وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل- فلما صلى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بْن عنبسة إلى يزيد بْن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فأعني عليه وسددني له، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني بموت.
وأقبل في اثني عشر رجلا، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم، فلما كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم، فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيده – مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك – فأخذه، وأرسل من ليلته الى عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف، فأخذه ووجه إلى الثنية إلى أصحابه ليأتوه، وقال للبوابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا فتركوا الأبواب بالسلاسل وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزان قبضوه، فأصابوا سلاحا كثيرا، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النابغة:

إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا *** إلى الموت إرقال الجمال المصاعب

فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا، هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر! حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني رزين بْن ماجد، قَالَ: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء الف وخمسمائة، فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقا، ووجدنا عليه رسولا للوليد، فقال: ما هذه الهيئة وهذه العدة! أما والله لأعلمن أمير المؤمنين فقتله رجل من أهل المزة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق الكلبيين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح، ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه، حتى جاءت السكاسك في نحو ثلاثمائة، فدخلوا من باب الشرقي حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بْن هانئ العبسي في أهل داريا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بْن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب توما، وأقبل حميد بْن حبيب اللخمي في أهل دير المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، واقبل النضر بن الجرشى في اهل جرش واهل الحديثه ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعي بْن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بْن سعيد، فقال بعض شعرائهم:

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا *** سكاسكها أهل البيوت الصنادد
وكلب فجاءوهم بخيل وعدة *** من البيض والأبدان ثم السواعد
فأكرم بهم أحياء أنصار سنة *** هم منعوا حرماتها كل جاحد
وجاءتهم شعبان والأزد شرعا *** وعبس ولخم بين حام وذائد
وغسان والحيان قيس وتغلب *** وأحجم عنها كل وان وزاهد
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها *** قد استوثقوا من كل عات ومارد

حدثني أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني قسيم بْن يعقوب ورزين بْن ماجد وغيرهما، قالوا: وجه يزيد بْن الوليد عبد الرحمن بْن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن، ليأخذوا عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف، وقد تحصن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار قال: فلما انتهينا إلى المزة قلت لعبد الرحمن بْن مصاد: اصرف أحد هذين الخرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبدا، فقال: لقد عجلت إذا بالخيانة، لا والله لا يتحدث العرب أني أول من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بْن الوليد وأرسل يزيد بْن الوليد إلى عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة وقال لبني الوليد بْن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بْن روح بْن الوليد: أنزل الراهب، ففعل وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بن الشماخ الكلبي وأبو علاقة بْن صالح السلاماني أن يزيد بْن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقل من ألف رجل، فأمر رجلا فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟
فانتدب اليه يومئذ الف وخمسمائة، فعقد لمنصور بْن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي على طائفه اخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بْن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بْن حبيب اللخمي على طائفة أخرى، وعليهم جميعا عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة.
وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يعقوب بْن إبراهيم بْن الوليد أن مولى للوليد لما خرج يزيد بْن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية فأجازه، ووجهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجه يزيد بْن الوليد إليه عبد الرحمن بْن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بْن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف – والأغدف من عمان – فقال بيهس بْن زميل الكلابي – ويقال قاله يزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بْن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره فقال يزيد بْن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك وهو ابن عمهن، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بْن الوليد الكلبي:
يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقَالَ: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر، وهم الذين خرجوا علي، ولكن دلني على منزل حصين، فقال: ارى أن تنزل القرية، قَالَ: أكرهها، قَالَ: فهذا الهزيم.
قَالَ: أكره اسمه، قَالَ: فهذا البخراء، قصر النعمان بْن بشير، قَالَ:
ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الريف، وهو في مائتين، فقال:

إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد *** نصيحا ولا ذا حاجة حين تفزع
إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم *** حسرت لهم رأسي فلا أتقنع

فمر بشبكة الضحاك بْن قيس الفهري، وفيها من ولده وولد ولده أربعون
رجلا، فساروا معه وقالوا: إنا عزل، فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفا ولا رمحا، فقال له بيهس بْن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قَالَ: إني أخاف الطاعون، قَالَ: الذي يراد بك أشد من الطاعون، فنزل حصن البخراء.
قَالَ: فندب يزيد بْن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بْن الوليد بالبرية، فوافاه ثمانمائه، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريبا من الوليد، فأتاه رسول العباس بْن الوليد: إني آتيك.
فقال الوليد: أخرجوا سريرا، فأخرجوا سريرا فجلس عليه وقال: أعلي توثب الرجال، وانا اثب على الأسد واتخصر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس.
فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بْن حوي السكسكي وعلى المقدمة منصور بْن جمهور وعلى الرجالة عمارة بْن أبي كلثم الأزدي، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بْن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله قطري مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجل عبد العزيز، فكر أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدة وحملت رؤوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بْن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بْن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بْن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبية الذين كانوا مع المختار.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بْن الوليد، فأرسل منصور بْن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك- يعني درعك- وقال نوح بْن عمرو بْن حوي السكسكي: الذي لقي العباس بْن الوليد يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي- فعدل به الى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين، لئن أبيت لأضربن الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بْن عبد الله بْن دحية، فقال: من هذا؟ قَالَ: يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم، قَالَ: أما والله إن كان لبغيضا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف، وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدمهم مع بنيه فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بْن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية، وقالوا:
هذه راية العباس بْن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بْن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الشيطان! هلك بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، واتوه بفرسيه:
السندي والزائد، فقاتلهم قتالا شديدا فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتله قوم لوط، ارموه بالحجارة رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بْن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بْن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بْن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبية الذين كانوا مع المختار.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بْن الوليد، فأرسل منصور بْن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك – يعني درعك – وقال نوح بْن عمرو بْن حوي السكسكي: الذي لقي العباس بْن الوليد يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي- فعدل به الى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين، لئن أبيت لأضربن الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بْن عبد الله بْن دحية، فقال: من هذا؟ قَالَ: يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم، قَالَ: أما والله إن كان لبغيضا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف، وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدمهم مع بنيه فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بْن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية، وقالوا:
هذه راية العباس بْن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بْن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الشيطان! هلك بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، واتوه بفرسيه:
السندي والزائد، فقاتلهم قتالا شديدا فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتله قوم لوط، ارموه بالحجارة فخاط الضربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بْن مقبل، وقال:
أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس- ويزيد يتغدى- فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بْن عنبسة السكسكي، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفه، وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فسددني، وقال ليزيد بْن عنبسة: هل كلمكم الوليد؟ قَالَ: نعم، كلمني من وراء الباب، وقال:
أما فيكم ذو حسب فأكلمه! فكلمته ووبخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم حدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبى، قال: قال نوح ابن عمرو بْن حوي السكسكي: خرجنا إلى قتال الوليد في ليال ليس فيها قمر، فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه قَالَ: وكان على ميسرة الوليد بْن يزيد الوليد بْن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبي في بني عامر – وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز – فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعا إلى عبد العزيز بْن الحجاج قَالَ: وقال نوح بْن عمرو: رأيت خدم الوليد بْن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخلونهم عليه وحدثني أحمد عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني المثنى بْن معاوية، قَالَ: اقبل الوليد فنزل اللؤلؤه، وامر ابنه الحكم والمؤمل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين دينارا في العطاء، فأقبلت أنا وابن عمي سليمان بْن محمد بْن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقربني المؤمل وأدناني.
وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلمه حتى يفرض لك في مائة دينار.
قَالَ المثنى: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بْن قيس من حمص يخبره أن عمرا قد وجه اليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بْن أبي الجنوب البهراني، فدعا الوليد الضحاك بْن أيمن من بني عوف بْن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب- وهو بالغوير- فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة فلما أصبح أمر الناس بالرحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خز، محتزما بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بْن كيسان في ستة عشر فارسا، ثم سار قليلا، فتلقاه بنو النعمان بْن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص ثم أتى البخراء، فضج أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلا فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا، وإنما أرادوا الدراهم قَالَ المثنى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخر الفسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أم كلثوم بنت عبد الله بْن يزيد بْن عبد الملك يقال له عمرو بْن مرة، فأخبره أن عبد العزيز بْن الحجاج، قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بْن عثمان المخراش – وكان على شرطه – برجل من بني حارثة بْن جناب، فقال له: إني كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد اتيتك بالخبر، وهذه الف وخمسمائة قد أخذتها- وحل هميانا من وسطه، وأراه- وقد نزل اللؤلؤة، وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قَالَ، فقال:
سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجه منصور بْن جمهور، فأخذ شرقي القرى- وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء- وكان العباس بْن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلا من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيره بين أن يأتيه فيكون معه، أو يسير إلى يزيد بْن الوليد فاتهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بْن جمهور الرسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنك ومن معك، فإذا أصبح فليأخذ حيث أحب فأقام العباس يتهيأ، فلما كان في السحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بْن عثمان المخراش، فعبأ الناس، فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس، وكان مع أصحاب يزيد بْن الوليد كتاب معلق في رمح، فيه:
إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه ص، وأن يصير الأمر شورى فاقتتلوا فقتل عثمان الخشبي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلا، وأقبل منصور بْن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل الى الوليد وهو في فسطاطه، ليس بينه وبين منصور أحد.
فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بْن هبيرة المعافري خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سمي بْن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين، قد شدها تحت لحيته، فجعل يصيح بابن أخيه:
يا بن اللخناء، قدم رايتك، فقال له: لا أجد متقدما، إنها بنو عامر.
وأقبل العباس بْن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشد مولى لسليمان بْن عبد الله بْن دحية- يقال له التركي- على الحارس بْن العباس بْن الوليد، فطعنه طعنه اذراه عن فرسه، فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا فبعث الوليد بْن يزيد الوليد بْن خالد إلى عبد العزيز بْن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف، فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضا، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد، حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة آلاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخص رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟
فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد، ففعل وكان على ميمنة الوليد معاوية بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن خالد، فقال لعبد العزيز:
أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردن والشركه في الأمر على ان اصير معكم؟ قَالَ: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرجل بعد الرجل يدخل من تحت السلسلة.
وأتى عبد العزيز عبد السلام بْن بكير بْن شماخ اللخمي، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قَالَ: فليخرج، فلما ولي قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض علي، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر قَالَ: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشي، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بْن شيبان مولى كنانة بْن عمير، وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب- أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز- وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بْن قيس عن يساره، فضربه على راسه، وتعاروه الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه- وكان يزيد بْن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف- وأقبل أبو الأسد مولى خالد بْن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكف، فأتى بها يزيد بْن خالد بْن عبد الله، وكان محبوسا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وخزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بْن يزيد، وكانت ابنته عند الحكم بْن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.
قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان الكلبي: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بْن الوليد، فسبقت الرأس، قدم بها ليلة الجمعة، وانى برأسه من الغد، فنصبه الناس بعد الصلاة وكان أهل دمشق قد أرجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفوا.
قَالَ: وأمر يزيد بنصب الرأس، فقال له يزيد بْن فروة مولى بني مروان.
إنما تنصب رؤوس الخوارج، وهذا ابن عمك، وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته، فقال: والله لانصبته، فنصبه على رمح، ثم قَالَ له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق، وأدخله دار أبيه ففعل، فصاح الناس وأهل الدار، ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك، فمكث عنده قريبا من شهر، ثم قَالَ له: ادفعه إلى أخيه سليمان- وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه- فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل، وما كان ليقدر على الامتناع منه.
وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يزيد بْن مصاد عن عبد الرحمن بْن مصاد، قَالَ: بعثني يزيد بْن الوليد إلى أبي محمد السفياني- وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد واليا على دمشق وأتى ذنبة، وبلغ يزيد خبره، فوجهني إليه- فأتيته، فسالم وبايع ليزيد، قَالَ: فلم نرم حتى رفع لنا شخص مقبل من ناحية البرية، فبعثت إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيل أبو كامل المغني، على بغلة للوليد تدعى مريم، فأخبرنا أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بْن شماخ الكلبي ثم العامري، قَالَ: رأيت بشر بْن هلباء العامري يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول:

سنبكى خالدا بمهندات *** ولا تذهب صنائعه ضلالا

وحدثني أحمد، عن علي، عن أبي عاصم الزيادي، قَالَ: ادعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته، وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتز رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قَالَ: وقال الحكم بْن النعمان مولى الوليد بْن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بْن جمهور في عشرة، فيهم روح بْن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين، أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس، وكان فيمن قدم بالرأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب، فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف.
قَالَ: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة، فجاء قوم بارؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين، ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة! قَالَ: وكان مع الوليد مالك بْن أبي السمح المغني وعمرو الوادي، فلما تفرق عن الوليد اصحابه، وحصر، قَالَ مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء، ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا لا يقتل أحد قبلي وقبلك، فيوضع رأسه بين رأسينا، ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا، فهربا.
وقتل الوليد بْن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه وكذلك قَالَ هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقدي وعلي بْن محمد المدائني.
واختلفوا في قدر المدة التي كان فيها خليفة، فقال أبو معشر: كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه.
وقال هشام بْن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما واختلفوا أيضا في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بْن محمد الكلبي: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بْن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة.
وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بْن يوسف الثقفي، وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده.
وكان شاعرا شروبا للخمر، حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن ابن أبي الزناد، قَالَ: قَالَ أبي: كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد، فتقصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض في شيء مما كانا فيه، فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا، ثم قام فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قَالَ: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري، وهما يعيبانني؟
قلت: أذكر ذلك، فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قَالَ: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائما على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فانه نم الى بما قالا، وايم الله لو بقي الفاسق – يعني الزهري – لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت ثم قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، فقلت: بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك، فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني، فجاءوا بإناء مغطى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب، وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا، قَالَ: فما زال على ذلك يتحدث ويستسقي ويصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا

خبر قتل خالد بن عبد الله القسرى

وفي هذه السنة قتل خالد بْن عبد الله القسري

ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك:
قد تقدم ذكرنا الخبر عن عزل هشام إياه عن عمله وولايته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بْن عمر، وكان- فيما ذكر- عمل لهشام على ذلك خمس عشرة سنة غير أشهر، وذلك أنه- فيما قيل- ولي العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطا أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بْن عمر إلى الحيرة، فلم يزل محبوسا بالحيرة تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل بْن عبد الله وابنه يزيد بْن خالد وابن أخيه المنذر بْن أسد بْن عبد الله واستأذن يوسف هشاما في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذن له حتى أكثر عليه، واعتل عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرة واحدة، وبعث حرسيا يشهد ذلك، وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنه، فدعا به يوسف، فجلس على دكان بالحيرة وحضر الناس، وبسط عليه، فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف، فقال: يا بن الكاهن- يعني شق بْن صعب الكاهن- فقال له خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يا بن السباء، إنما كان أبوك سباء خمر- يعني يبيع الخمر- ثم رده إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بْن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بْن خالد وحده، فاخذ على بلاد طيّئ، حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد، قد جهزهم عبد الرحمن بْن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي لخالد كانوا فيها، فضرب وباع ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرق، فقدم خالد قصر بني مقاتل، وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحملوا إلى القرية- وهي بإزاء باب الرصافه- فأقام بها بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وصفر، لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه، والأبرش يكاتب خالدا وخرج زيد بْن علي فقتل قَالَ الهيثم بْن عدي- فيما ذكر عنه-: وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا، حتى كانت همة أحدهم قوت عياله، فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد، والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجه العراق يستثني أخبارها.
فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قَالَ للحكم بْن حزن القيني- وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به، ففعل- فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك، ومهما اتهمنا خالدا فلسنا نتهمه في طاعة، وأمر به فوجئت عنقه وبلغ الخبر خالدا فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بْن عبد الله، وعلى دمشق يومئذ كلثوم بْن عياض القسري، وكان متحاملا على خالد، فلما أدربوا ظهر في دور دمشق حريق، كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرس وأصحاب له، فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون وكان إسماعيل بْن عبد الله والمنذر بْن أسد بْن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قط، وإنه عمل موالي خالد، يريدون الوثوب على بيت المال فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد، الصغير منهم والكبير، ومواليهم والنساء، فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم، وحبس أم جرير بنت خالد والرائقة وجميع النساء والصبيان، ثم ظهر على أبي العمرس، فأخذ ومن كان معه فكتب الوليد بْن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ أبي العمرس ومن كان معه، سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعا واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدرب بلغ خالدا حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم، فدخل يزيد بْن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث الى ابنتيه: زينب وعاتكة، فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي، فسرتا بذلك- ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحيا، فقال:
وما لهما تتنحيان، وهشام في كل يوم يسوقهن إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما فقال خالد: خرجت غازيا في سبيل الله، سامعا مطيعا، فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وحرم أهل بيتي، فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابة منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعا! أخافكم الله! ثم قَالَ: ما لي ولهشام! ليكفن عني هشام أو لأدعون إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل – يعني محمد بن على بن عبد الله ابن عباس – وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاما فلما بلغه ما قَالَ، قَالَ: خرف أبو الهيثم.
وذكر أبو زيد أن أحمد بْن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قَالَ:
قَالَ خالد: أما والله، لئن ساء صاحب الرصافة – يعني هشاما – لننصبن لنا الشامي الحجازي العراقي، ولو نخر نخرة تداعت من أقطارها.
فبلغت هشاما، فكتب إليه: إنك هذاءة هذرة، أببجيلة القليله الذليلة تتهددنى! قال: فو الله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس، فإنه قَالَ:

ألا إن بحر الجود أصبح ساجيا *** أسير ثقيف موثقا في السلاسل
فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه *** ولا تسجنوا معروفه في القبائل

فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجه إليه يزيد وكتب هشام إلى كلثوم بْن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلا وهو في منزله، فشد عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فاخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه مني، فأعلموه مقالتي، فإن كان عربيا كما يزعم، فليطلب جده مني ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هشام فأعلمه، فكتب إلى كلثوم يعنفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه.
وكان هشام إذا أراد أمرا أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش:
إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بْن ثويب الضنى- ضنه سعد اخوه عذره ابن سعد – قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم حتى عد عشرا، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلن دمك، فاكتب إلي بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ما كان فيه الى غيره، قام الى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خالد أني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم يحب كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحب الله إياك، حتى عدد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين، وقوله:
يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله، ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضل أهون على العامة والخاصة من ضلال أمير المؤمنين فأقرأ الأبرش هشاما كتابه، فقال خرف أبو الهيثم.
فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد، فيهم خالد، فلم يأذن لأحد منهم، واشتكى خالد، فاستأذن فأذن له، فرجع الى دمشق، فأقام أشهرا، ثم كتب إليه الوليد: إن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الالف الف، التي تعلم، فأقدم على أمير المؤمنين مع رسوله، فقد أمره ألا يعجلك عن جهاز.
فبعث خالد إلى عدة من ثقاته، منهم عمارة بْن أبي كلثوم الأزدي، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا علي، فقالوا: إن الوليد ليس بمأمون عليك، فالرأي ان تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت، فأكثر الناس قومك، ولن يختلف عليك رجلان، قَالَ: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثق لنفسك، قال: أو ماذا؟ قالوا: او تتوارى.
قَالَ: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت، فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثق لنفسك، فأنتم لا تأمنون علي الوليد، ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! واما التوارى، فو الله.
ما قنعت رأسي خوفا من أحد قط، فالآن وقد بلغت من السن ما بلغت! لا، ولكن أمضي وأستعين الله فخرج حتى قدم على الوليد، فلم يدع به، ولم يكلمه وهو في بيته، معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بْن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد:
إن حالي ما ترى، لا أقدر على المشي، وإنما أحمل في كرسي، فقال الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قَالَ: قم يا خالد، فقال: حالي ما ذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين، فقال: قم يا خالد، فقال: إن حالي ما ذكرت لك، حتى أذن لعشرة، ثم قَالَ: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيه، فدخل به والوليد جالس على سريره، والموائد موضوعة، والناس بين يديه سماطان، وشبه ابن عقال- أو عقال بْن شبة- يخطب، ورأس يحيى بْن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله، فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فرده، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بْن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فلما لم يظهر ظنناه ببلاد قومه من السراة، وما أوشكه فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلبا للفتنة فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين إنا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي – قَالَ خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول، أن الوليد قريب حيث يسمع كلامي- فرجع الرسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين، لتأتين به أو لأزهقن نفسك فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه، فاصنع ما بدا لك! فامر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذب إنسانا، والله ما يتكلم ولا يتأوه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك فحبسه حتى قدم يوسف بْن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده، فتكلم أبان بْن عبد الرحمن النميري في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألني أن أضمن هذا- ورفع عودا من الأرض- ما ضمنته، فر رأيك.
فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرعه عباءه ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المري ابن أخي الوليد بْن تليد- وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد ثم دعا به فذكر أمه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبدا فبسط عليه، وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه كلمة ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بْن تميم القيني بشربة سويق حب رمان مع مولى له يقال له سالم النفاط، فبلغ يوسف فضرب زيدا خمسمائة سوط، وضرب سالما ألف سوط ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر ابراهيم ابن هشام وخرع محمد بْن هشام فمكث خالد يوما في العذاب، ثم وضع على صدره المضرسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بْن عدي، فأقبل عامر بْن سهلة الأشعري فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط.
قَالَ أبو زيد: حدثني أبو نعيم قَالَ: حدثني رجل، قَالَ: شهدت خالدا حين أتى به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه، فو الله ما تكلم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فو الله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بْن خليفة لما قتل الوليد بْن يزيد:

لقد سكنت كلب واسباق مذحج *** صدى كان يزقو ليله غير راقد
تركن أمير المؤمنين بخالد *** مكبا على خيشومه غير ساجد
فإن تقطعوا منا مناط قلادة *** قطعنا به منكم مناط قلائد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا *** شغلنا الوليد عن غناء الولائد
وإن سافر القسري سفرة هالك *** فإن أبا العباس ليس بشاهد

وقال حسان بْن جعدة الجعفري يكذب خلف بْن خليفة في قوله هذا:

إن امرأ يدعي قتل الوليد سوى *** أعمامه لمليء النفس بالكذب
ما كان إلا امرأ حانت منيته *** سارت إليه بنو مروان بالعرب

وقال أبو محجن مولى خالد:

سائل وليدا وسائل أهل عسكره *** غداة صبحه شؤبوبنا البرد
هل جاء من مضر نفس فتمنعه *** والخيل تحت عجاج الموت تطرد
من يهجنا جاهلا بالشعر ننقضه *** بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد

وقال نصر بْن سعيد الأنصاري:

أبلغ يزيد بني كرز مغلغلة *** أني شفيت بغيب غير موتور
قطعت أوصال قنور على حنق *** بصارم من سيوف الهند مأثور
أمست حلائل قنور مجدعة *** لمصرع العبد قنور بْن قنور
ظلت كلاب دمشق وهي تنهشه *** كأن أعضاءه أعضاء خنزير
غادرن منه بقايا عند مصرعه *** أنقاض شلو على الاطناب مجرور
حكمت سيفك إذ لم ترض حكمهم *** والسيف يحكم حكما غير تعذير
لا ترض من خالد إن كنت متئرا *** إلا بكل عظيم الملك مشهور
أسعرت ملك نزار ثم رعتهم *** بالخيل تركض بالشم المغاوير
ما كان في آل قنور ولا ولدوا *** عدلا لبدر سماء ساطع النور

ذكر بيعه يزيد بن الوليد الناقص
وفي هذه السنة بويع ليزيد بْن الوليد بْن عبد الملك، الذي يقال له يزيد الناقص، وإنما قيل: يزيد الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد ابن يزيد في أعطياتهم، وذلك عشرة عشرة، فلما قتل الوليد نقصهم تلك الزيادة، ورد أعطياتهم إلى ما كانت عليه أيام هشام بْن عبد الملك.
وقيل: أول من سماه بهذا الاسم مروان بْن محمد، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن محمد، قَالَ: شتم مروان بْن محمد يزيد بْن الوليد فقال: الناقص بن الوليد، فسماه الناس الناقص لذلك.

ذكر اضطراب امر بنى مروان
وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة.
ذكر الخبر عما حدث فيها من الفتن:
فكان في ذلك وثوب سليمان بْن هشام بْن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بْن يزيد بعمان فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد قال: لما قتل الوليد خرج سليمان بْن هشام من السجن، وكان محبوسا بعمان، فأخذ ما كان بعمان من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر

ذكر خلاف اهل حمص
وفيها كان وثوب أهل حمص بأسباب العباس بْن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بْن يزيد.

ذكر الخبر عن ذلك:
حدثني أحمد عن علي، قَالَ: كان مروان بْن عبد الله بْن عبد الملك عاملا للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلا وكرما وعقلا وجمالا، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله، فأغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله، فقال بعض من حضرهم: ما زلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم، حتى جاء العباس بْن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بْن الحجاج فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم وطلبوه فخرج إلى يزيد بْن الوليد.
وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجابوهم وكتب اهل حمص بينهم كتابا، الا يدخلوا في طاعة يزيد، وإن كان وليا عهد الوليد حيين قاموا بالبيعة لهما وإلا جعلوها لخير من يعلمون، على أن يعطيهم العطاء من المحرم إلى المحرم، ويعطيهم للذرية وأمروا عليهم معاوية بْن يزيد بْن حصين، فكتب إلى مروان بْن عبد الله بْن عبد الملك وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قَالَ: هذا كتاب حضره من الله حاضر وتابعهم على ما أرادوا فلما بلغ يزيد بْن الوليد خبرهم، وجه إليهم رسلا فيهم يعقوب بْن هانئ، وكتب إليهم: أنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعوهم إلى الشورى فقال عمرو بْن قيس السكوني: رضينا بولي عهدنا – يعني ابن الوليد بْن يزيد – فأخذ يعقوب بْن عمير بلحيته، فقال: أيها العشمة، إنك قد فيلت وذهب عقلك، إن الذي تعني لو كان يتيما في حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمة! فوثب أهل حمص على رسل يزيد بْن الوليد فطردوهم.
وكان أمر حمص لمعاوية بْن يزيد بْن حصين، وليس إلى مروان بْن عبد الله من أمرهم شيء، وكان معهم السمط بْن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بْن يزيد متباعدا وكان معهم أبو محمد السفياني فقال لهم:
لو قد اتيت دمشق، ونظر الى أهلها لم يخالفوني فوجه يزيد بن الوليد مسرور ابن الوليد والوليد بْن روح في جمع كبير، فنزلوا حوارين، أكثرهم بنو عامر من كلب ثم قدم على يزيد سليمان بْن هشام فأكرمه يزيد، وتزوج أخته أم هشام بنت هشام بْن عبد الملك، ورد عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجهه إلى مسرور بْن الوليد والوليد بْن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له.
وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية لخالد بْن يزيد بْن معاوية.
حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني عمرو بْن محمد ويحيى بْن عبد الرحمن البهراني، قالا: قام مروان بْن عبد الله، فقال: يا هؤلاء، إنكم خرجتم لجهاد عدوكم والطلب بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجا أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منهم قرن، وشال إليكم منهم عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أحرى، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضي إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم فقال السمط: هذا والله العدو القريب الدار، يريد أن ينقض جماعتكم، وهو ممايل للقدرية.
قَالَ: فوثب الناس على مروان بْن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا راسيهما للناس، وإنما أراد السمط بهذا الكلام خلاف معاوية بْن يزيد، فلما قتل مروان بْن عبد الله ولوا عليهم أبا محمد السفياني، وأرسلوا إلى سليمان بْن هشام:
إنا آتوك فأقم بمكانك، فأقام قَالَ: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيهم، فخرج مغذا، فلقيهم بالسليمانية- مزرعة كانت لسليمان بْن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلا.
قَالَ علي: فحدثني عمرو بْن مروان بْن بشار والوليد بْن علي، قالا: لما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بْن الحجاج، فوجهه في ثلاثة آلاف، وأمره أن يثبت على ثنية العقاب، ودعا هشام بْن مصاد، فوجهه في الف وخمسمائة، وأمره أن يثبت على عقبة السلامة، وأمرهم ان يمد بعضهم بعضا.
قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني يزيد بْن مصاد، قَالَ: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السليمانية، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم، وليس عليهم مأتى إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أول الليل، فأراحوا دوابهم، وخرجنا نسري ليلتنا كلها، حتى دفعنا إليهم، فلما متع النهار واشتد الحر، ودوابنا قد كلت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بْن الوليد، فقلت له- وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فو الله لا أنزل حتى يقضي الله بيني وبينهم ما هو قاض فتقدم وعلى ميمنته الطفيل بْن حارثة الكلبي، وعلى ميسرته الطفيل بْن زرارة الحبشي، فحملوا علينا حملة، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه، ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردوهم إلى موضعهم، فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مرارا، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بْن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلا، وخرج أبو الهلباء البهراني- وكان فارس أهل حمص- فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حية بْن سلامة الكلبي فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشد عليه أبو جعدة مولى لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهراني، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه أيراك السغدي، من أبناء ملوك السغد كان منقطعا إلى سليمان بْن هشام- وكان ثبيت قصيرا، وكان أيراك جسيما- فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف أيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده قَالَ: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا.
قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني سليمان بْن زياد الغساني قَالَ: كنت مع عبد العزيز بْن الحجاج، فلما عاين عسكر أهل حمص، قَالَ لأصحابه: موعدكم التل الذي في وسط عسكرهم، والله لا يتخلف منكم أحد إلا ضربت عنقه ثم قَالَ لصاحب لوائه: تقدم، ثم حمل وحملنا معه، فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التل، فتصدع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بْن خالد بن عبد الملك القسري: الله الله في قومك! فكف الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز، وكاد يقع الشربين الذكوانية وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم، على ان يبايعوا ليزيد ابن الوليد وبعث سليمان بْن هشام إلى أبي محمد السفياني ويزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية فأخذا، فمر بهما على الطفيل بْن حارثة، فصاحا به:
يا خالاه! ننشدك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم، فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجههما إلى يزيد بْن الوليد، فحبسهما في الخضراء مع ابني الوليد، وحبس أيضا يزيد بْن عثمان بْن محمد بْن أبي سفيان، خال عثمان بْن الوليد معهم ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق، ونزلا بعذراء واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بْن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بْن يزيد بْن الحصين والسمط بْن ثابت وعمرو بْن قيس وابن حوي والصقر بْن صفوان، واستعمل معاوية بْن يزيد بْن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلاثمائة رجل

ذكر خلاف اهل الأردن وفلسطين
وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين والأردن على عاملهم فقتلوه.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمر يزيد بْن الوليد معهم:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ:
حدثني رجاء بْن روح بْن سلامة بْن روح بْن زنباع، قَالَ: كان سعيد بْن عبد الملك عاملا للوليد على فلسطين، وكان حسن السيرة، وكان يزيد بْن سليمان سيد ولد أبيه، وكان ولد سليمان بْن عبد الملك ينزلون فلسطين، فكان أهل فلسطين يحبونهم لجوارهم، فلما أتى قتل الوليد- ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بْن روح بْن زنباع – كتب إلى يزيد بْن سليمان: إن الخليفة قد قتل فأقدم علينا نولك أمرنا فجمع له سعيد قومه، وكتب إلى سعيد بْن عبد الملك – وهو يومئذ نازل بالسبع: ارتحل عنا، فان الأمر قد اضطرب، وقد ولينا أمرنا رجلا قد رضينا أمره فخرج إلى يزيد بْن الوليد، فدعا يزيد ابن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بْن الوليد، وبلغ أهل الأردن أمرهم، فولوا عليهم محمد بْن عبد الملك- وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بْن روح وضبعان بْن روح- وبلغ يزيد أمرهم، فوجه إليهم سليمان بْن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني قَالَ علي: قال عمرو بْن مروان: حدثني محمد بْن راشد الخزاعي أن أهل دمشق كانوا أربعة وثمانين ألفا، وسار إليهم سليمان بْن هشام قَالَ محمد بْن راشد: وكان سليمان بْن هشام يرسلني إلى ضبعان وسعيد ابني روح وإلى الحكم وراشد ابني جرو من بلقين، فأعدهم وأمنيهم على الدخول في طاعة يزيد بْن الوليد، فأجابوا.
قَالَ: وحدثني عثمان بْن داود الخولاني، قَالَ: وجهني يزيد بْن الوليد ومعي حذيفة بْن سعيد إلى محمد بْن عبد الملك ويزيد بْن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بْن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم، فكلمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدرى الخبيث، فكفهم عنى الحكم بن جرو القينى فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلا على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلا في يد رجل منهم، وهو يحمل لك كذا وكذا قَالَ: أنت بذاك؟ قلت: نعم:
ثم خرجت فأتيت ضبعان بْن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقي، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد بْن حسان الأردني، قَالَ: كنت عينا ليزيد بْن الوليد بالأردن، فلما اجتمع له ما يريد ولاني خراج الأردن، فلما خالفوا يزيد بْن الوليد أتيت سليمان بْن هشام، فسألته أن يوجه معي خيلا، فأشن الغارة على طبرية، فأبى سليمان أن يوجه معي أحدا، فخرجت إلى يزيد بْن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتابا بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت، فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بْن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلا حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبرية، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبرية: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بْن سليمان ومحمد بْن عبد الملك،فانتهبوهما وأخذوا دوابهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم، فلما تفرق أهل فلسطين والأردن، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردن، فبايعوا ليزيد بْن الوليد، فلما كان يوم الجمعة وجه سليمان إلى طبرية، وركب مركبا في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبرية، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره.
حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني عثمان بْن داود، قَالَ: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بْن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين، وقد كفى الله مئونتهم، وقد أزمعت على أن أولي ابن سراقة فلسطين والأسود بْن بلال المحاربي الأردن فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال:
أخبرني كيف قلت لضبعان بْن روح؟ فأخبرته، قَالَ: فما صنع؟ قلت:
ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردن قبل أن يصبحا.
قَالَ: فليسا بأحق بالوفاء منا، ارجع فمره الا ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بْن الوليد على الأردن وضبعان بْن روح على فلسطين ومسرور بْن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص.
ثم خطب يزيد بْن الوليد بعد قتل الوليد، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد ص أيها الناس، إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ودينه، داعيا الى الله وكتابه وسنه نبيه ص، لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وانه لابن عمى في الحسب، وكفئي في النسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي.
أيها الناس، إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكثر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم، فان فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم، وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيت لكم بما قلت، فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تخلعوني، الا ان تستتيبونى، فان تبت قبلتم مني، فإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته.
أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، إنما الطاعة طاعة الله، فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية، فهو أهل أن يعصى ويقتل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بْن هشام وبايعه قيس بْن هانئ العبسي، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا:
عمر بْن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء.
فبلغ مروان بْن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمنا جميعا وذم عمر!
فلما ولي مروان بعث رجلا فقال: إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانئ، فإنه طالما صلى فيه، فاقتله، فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيسا يصلي فقتله.
وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد يوسف بْن عمر عن العراق وولاها منصور بْن جمهور.
ذكر الخبر عن عزل يوسف بْن عمر وولاية منصور بْن جمهور ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشام، ندب – فيما قيل – لولاية العراق عبد العزيز بْن هارون بْن عبد الله بْن دحية بْن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاها منصور بْن جمهور.
وأما أبو مخنف، فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر هِشَام بْن مُحَمَّد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بْن عبد الملك يوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بْن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بْن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بْن عمر فهرب وقدم منصور بْن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لا هل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بْن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بْن نباتة، فطرقه ليلا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بْن يزيد بْن يزيد بْن جرير على البصرة، وأقام منصور وولى العمال، وبايع ليزيد بْن الوليد بالعراق، وفي كورها، وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه.
وأما غير أبي مخنف فإنه قَالَ: كان منصور بْن جمهور أعرابيا جافيا غيلانيا، ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحمية لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق:
قد وليتك العراق فسر إليه، واتق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه فدخل على يزيد بْن الوليد يزيد بْن حجرة الغساني- وكان دينا فاضلا ذا قدر في أهل الشام، قد قاتل الوليد ديانة- فقال: يا أمير المؤمنين، أوليت منصورا العراق؟ قَالَ: نعم، لبلائه وحسن معونته، قَالَ: يا أمير المؤمنين، انه ليس هناك في أعرابيته وجفائه في الدين قَالَ: فإذا لم أول منصورا في حسن معاونته فمن أولي! قَالَ: تولي رجلا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود، وما لي لا أرى أحدا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قَالَ: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلت قيسا، فو الله ما عزت إلا ذل الإسلام ولما بلغ يوسف بْن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانية فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضرية، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشام، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا فلم ير عندهم ما يحب، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بْن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير- وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشام- فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشام أرصادا، وأقام بالحيرة وجلا وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع، كتب إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان كتابا:
اما بعد، ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وإن الوليد بْن يزيد بدل نعمة الله كفرا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجله إلى النار! وولى خلافته من هو خير منه، وأحسن هديا، يزيد بْن الوليد، وقد بايعه الناس، وولى على العراق الحارث بْن العباس بْن الوليد، ووجهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين، فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنك منهم، أحد، فاحبسهم قبلك وإياك أن تخالف، فيحل بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به، فاختر لنفسك اودع وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان، وأمره أن يفرقها على القواد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به.
قَالَ حريث بْن أبي الجهم: كان مكثي بواسط، فما شعرت إلا بكتاب منصور بْن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوا من ثلاثين رجلا في السلاح، فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بْن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث الا امر منهم، ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بْن الوليد.
قَالَ: وذكر عمر بْن شجرة أن عمرو بْن محمد بْن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بْن غزان- أو عزان- الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالا عظيما يؤدي منه في كل جمعة نجما، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطا، فجنت يده وبعض أصابعه، فلما ولى منصور ابن جمهور العراق ولاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بْن محمد، فأوثقه وأمر به حرسا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفا مع الحرس، فاتكأ عليه مسلولا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس، فخرج ابن غزان فقال: ما دعاك الى ما صنعت؟ قَالَ: خفت العذاب، قَالَ: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك فلبث ثلاثا ثم مات، وبايع ابن غزان ليزيد، فقال يوسف بْن عمر لسليمان بْن سليم بْن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بْن جمهور:
ما الرأي؟ قَالَ: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام الحارث بْن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بْن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك، قَالَ: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قَالَ: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور وجهت معك من أثق به.
فلما نزل منصور بحيث يصبح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بْن سليم، فأقام به ثلاثا، ثم وجه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
وقد قيل ان سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورا والعمل، قَالَ: فعند من؟ قَالَ: عندي، وأضعك في ثقة، ثم مضى سليمان الى عمرو بن محمد ابن سعيد بْن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال:
أنت امرؤ من قريش، وأخوالك بكر بْن وائل، فآواه قَالَ عمرو: فلم أر رجلا كان مثل عتوه رعب رعبه، أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فو الله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يوما فأتيته، فقال:
قد أحسنت وأجملت، وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قَالَ: تخرجني من الكوفة إلى الشام، قلت: نعم وصبحنا منصور بْن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصتهم، فجعلت لا أذكر رجلا ممن ذكره بسوء إلا قَالَ: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط، ثلاثمائة سوط، فجعلت اتعجب من طمعه في الولاية بعد، وتهدده الناس، فتركه سليمان بْن سليم، ثم أرسله إلى الشام فاختفى بها، ثم تحول إلى البلقاء.
ذكر علي بْن محمد أن يوسف بْن عمر وجه رجلا من بنى كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مر بكم يزيد بْن الوليد فلا تدعنه يجوز فأتاهم منصور بْن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة قَالَ: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلا سفيان بْن سلامة بْن سليم بْن كيسان وغسان بْن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج قَالَ: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بْن الوليد، فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد الكلبي- وكان من قواد يزيد بْن الوليد- يقول:
إن يزيد وجهه في طلب يوسف بْن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قَالَ: فخرجت في خمسين فارسا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتش، فلم نر شيئا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهن فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قدم مروان الشام وقرب من دمشق ولى قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد- يكنى أبا الأسد- في عدة من أصحابه، فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بْن عمر فضرب عنقه.
وقيل: إن يزيد بْن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجه إليه خمسين فارسا، فعرض له رجل من بنى نمير، فقال: يا بن عم، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاء قَالَ: لا، قَالَ: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية، فتغيظنا بقتلك، قَالَ: ما لي في واحدة مما عرضت علي خيار، قَالَ: فأنت أعلم.
ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قَالَ: قدم منصور بْن جمهور واليا فتركته والعمل، قَالَ: لا، ولكنك كرهت أن تلي لي فأمر بحبسه.
وقيل: إن يزيد دعا مسلم بْن ذكوان ومحمد بْن سعيد بْن مطرف الكلبي، فقال لهما، إنه بلغني أن الفاسق يوسف بْن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنا له، فقال: أنا أدلكما عليه، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلا، فأخذا معهما خمسين رجلا من جند البلقاء، فوجدوا أثره- وكان جالسا- فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بْن سعيد أن يرضي عنه كلبا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بْن عمير وهانئ بْن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزها، ونتف بعضها- وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة- فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه- وإنها حينئذ لتجوز سرته- وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بْن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقي عليك حجرا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا، وإن كان أضيق منه! قَالَ: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لاوجهه الى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه.
ولما قتل يزيد بْن الوليد الوليد بْن يزيد، ووجه منصور بْن جمهور إلى العراق كتب يزيد بْن الوليد الى اهل العراق كتابا يذكر فيه مساوئ الوليد، فكان مما كتب به- فيما حدثني أحمد بْن زهير عن علي بْن محمد: أن الله اختار الإسلام دينا وارتضاه وطهره، وافترض فيه حقوقا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها، ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأكمل فيه كل منقبة خير وجسيم فضل، ثم تولاه، فكان له حافظا ولأهله المقيمين حدوده وليا، يحوطهم ويعرفهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق او يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، الا كان كيده الاوهن، ومكره الابور، حتى يتم الله ما أعطاه، ويدخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوه الأضل سبيلا، الأخسر عملا.
فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه، فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام ثم أفضى الأمر إلى عدو الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر، تكرما عن غشيان مثلها فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتد فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير حقها، مع امور فاحشه، لم يكن الله ليملى للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخيا من الله إتمام الذي نويت، من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضا، حتى أتيت جندا، وقد وغرت صدورهم على عدو الله، لما رأوا من عمله، فإن عدو الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله، وكان ذلك منه شائعا شاملا، عريان لم يجعل الله فيه سترا، ولا لأحد فيه شكا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه، وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا ان يكونوا قد ابقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة.
فابتعث الله منهم بعثا يخبرهم، من أولي الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، حتى لقي عدو الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم من يقلدونه ممن اتفقوا عليه، فلم يجب عدو الله الى ذلك، وابى الا تتايعا في ضلالته، فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزا حكيما، وأخذه أليما شديدا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته، ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة، ودخل من كان معه سواهم في الحق الذي دعوا إليه.
فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدا له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم، إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه، فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بْن جمهور، فقد ارتضيته لكم، على أن عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه، لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة، ولكم علي مثل ذلك، لأعملن فيكم بأمر الله وسنه نبيه ص، وأتبع سبيل من سلف من خياركم، نسأل الله ربنا وولينا أحسن توفيقه وخير قضائه

ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور
وفي هذه السنة امتنع نصر بْن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بْن الوليد ولاها منصورا مع العراق.
قَالَ أبو جعفر: قد ذكرت قبل من خبر نصر، وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بْن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجها إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد، فذكر علي بْن محمد أن الباهلي أخبره، قَالَ: قدم على نصر بشر بْن نافع مولى سالم الليثي- وكان على سكك العراق- فقال: أقبل منصور بْن جمهور أميرا على العراق، وهرب يوسف بْن عمر، فوجه منصور أخاه منظور بْن جمهور على الري، فأقبلت مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني، فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألا يخبر أحدا حتى أقدم على نصر فأخبره ففعل، فأقبلنا جميعا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني، فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به، فأته بجائزة، ثم أتاني يونس بْن عبد ربه وعبيد الله بْن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بْن أحوز فاخبرته، قال: وكان خبر الوليد يوسف عند نصر، فاتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء، فلما مضت ثلاث على ذلك، جعل علي ثمانين رجلا حرسا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدرت، فلما كانت الليلة التاسعة- وكانت ليلة نوروز- جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجا صينيا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف قَالَ: فلما تيقن نصر قتل الوليد رد تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روقة الجواري في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
قَالَ: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بْن جمهور قادم خراسان، فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
ثم باح به بعد، فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
قال: وولى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولي يعقوب بْن يحيى بْن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بْن عبد الله اليشكري على خوارزم، وهو الذي يقول فيه خلف:

أقول لأصحابي معا دون كردر *** لمسعدة البكري غيث الأرامل

ثم أتبعه بأبان بْن الحكم الزهراني، واستعمل المغيرة بْن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:

أقول لنصر وبايعته *** على جل بكر وأحلافها
يدي لك رهن ببكر العراق *** سيدها وابن وصافها
أخذت الوثيقة للمسلمين *** لأهل البلاد وألافها
إذا آل يحيى الى ما تريد *** اتتك الدماك بأخفافها
دعوت الجنود إلى بيعة *** فأنصفتها كل إنصافها
وطدت خراسان للمسلمين *** إن الأرض همت بإرجافها
وإن جمعت ألفة المسلمين *** صرفت الضراب لألافها
أجار وسلم أهل البلاد *** والنازلين بأطرافها
فصرت على الجند بالمشرقين *** لقوحا لهم در اخلافها
فنحن على ذاك حتى تبين *** مناهج سبل لعرافها
وحتى تبوح قريش بما *** تجن ضمائر أجوافها
فاقسمت للمعبرات الرتاع *** للعرو أوفي لأصوافها
إلى ما تؤدي قريش البطاح *** أخلافها بعد أشرافها
فإن كان من عز بز الضعيف *** ضربنا الخيول بأعرافها
وجدنا العلائف أنى يكون *** يحمى أواري أعلافها
إذا ما تشارك فيه كبت *** خواصرها بعد إخطافها
فنحن على عهدنا نستديم *** قريشا ونرضى بأحلافها
سنرضى بظلك كنا لها *** وظلك من ظل أكنافها
لعل قريشا إذا ناضلت *** تقرطس في بعض أهدافها
وتلبس أغشية بالعراق *** رمت دلو شرق بخطافها
وبالأسد منا وإن الأسود *** لها لبد فوق أكتافها
فإن حاذرت تلفا في النفار *** فالدهر أدنى لإتلافها
فقد ثبتت بك أقدامنا *** إذا انهار منهار أجرافها
وجدناك برا رءوفا بنا *** كرامة أم وإلطافها
ولم تك بيعتنا خلسة *** لأسرع نسفة خطافها
نكاح التي أسرعت بالحليل *** قبل تخضب أطرافها
فكشفها البعل قبل الصداق *** فاستقبلته بمعتافها

قال: وكان نصر ولى عبد الملك بْن عبد الله السلمي خوارزم، فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط، ولقد كرمتني الأمور وكرمتها، أما والله لأضعن السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدني غشمشما، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقه ورفض البكارة في السنن الأعظم، أو لأصكنكم صك القطامي القطا القارب يصكهن جانبا فجانبا قَالَ: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجهه منصور بْن جمهور، فأخذه مولى لنصر، يقال له حميد، كان على سكه بنيسابور، فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفا وكساه، وقال: إن الذي كسر أنفك مولى لي وليس بكفء فأقصك منه، فلا تقل إلا خيرا قال: ما قبلت جائزتك، وانا اريد الا اذكر إلا خيرا.
قَالَ عصمة بْن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسا لربيعة وتميما للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها.
فقال نصر: كلما أصلحت أمرا أفسدتموه! قَالَ أبو زيد عمر بْن شبة: حدثني أحمد بْن معاوية عن أبي الخطاب، قَالَ: قدم قدامة بْن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بْن سيار من قبل منصور بْن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قَالَ: وولي منصور بْن جمهور وهرب يوسف بْن عمر عن سرير العراق؟
قالا: نعم، قَالَ: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسع عليهما، ووجه رجلا حتى أتى فرأى منصورا يخطب بالكوفة فأخرجهما، وقال لقدامة:
أوليكم رجل من كلب؟ قَالَ: نعم، إنما نحن بين قيس واليمن، قَالَ:
فكيف لا يولاها رجل منكم! قَالَ: لأنا كما قَالَ الشاعر:

إذ ما خشينا من أمير ظلامة *** دعونا أبا غسان يوما فعسكرا

فضحك نصر، وضمه إليه.
قَالَ: ولما قدم منصور بْن جمهور العراق ولى عبيد الله بْن العباس الكوفة- أو وجده واليا عليها فأقره- وولى شرطته ثمامة بْن حوشب ثم عزله وولى الحجاج بن ارطاه النخعى.

ذكر مخالفه مروان بن محمد
وفي هذه السنة كتب مروان بْن محمد إلى الغمر بْن يزيد، أخي الوليد بْن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه:
حدثني أحمد عن علي، قَالَ: كتب مروان إلى الغمر بْن يزيد بعد قتل الوليد:
أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلدهم، يعزهم ويعز من يعزهم، والحين على من ناواهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين وكان أهل الشام أحسن خلقه فيه طاعه، واذبه عن حرمه واوفاه بعهده، وأشده نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرت نعمة الله عليهم قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية، فإن دمه غير ضائع، وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور، فأمر اراده الله لا مرد له فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى، فإني مطرق إلى أن أرى غيرا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله.
المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم، أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعا، والنقمه دوله تأتي من الله، ووقت مؤجل، ولم أشبه محمدا ولا مروان- غير أن رايت غيرا- إن لم أشمر للقدرية إزاري، وأضربهم بسيفي جارحا وطاعنا، يرمى قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، او يرمى بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه، وما إطراقي إلا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإن الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبا ونصيرا.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، عن مسلم بْن ذكوان، قَالَ: كلم يزيد بْن الوليد العباس بْن الوليد في طفيل بْن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بْن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها- وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئا من ذلك عند العطاء- فأجابه وحمله على البريد.
وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكل ما يكتب به وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بْن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار قَالَ مسلم بْن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلمه في هذا الأمر قَالَ: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بْن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما، إن لكما ولمروان لقصة، قلنا:
وما ذاك؟ قَالَ: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزة يكونون ألفا؟ قلت: وأكثر، قَالَ: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت:
يسمعهم المنادي، قَالَ: كم ترى عدة بني عامر يعنى بنى عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرك أصبعه، ولوى وجهه قَالَ مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي، وهو شعب حصين، ووعاء أمين، إن شاء الله فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أن معه كتاب يزيد بْن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك بشيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بْن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.
قَالَ مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة، فلما صلى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتد بصلاته، فلما استويت قائما جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان، وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بْن ذكوان مولى يزيد، قَالَ: مولى عتاقة أو مولى تباعة؟
قلت: مولى عتاقة، قَالَ: ذاك أفضل، وفي كل ذلك فضل، فاذكر ما بدا لك قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه، فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصليت على نبيه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامة، وذكرت حاله كلها فلما فرغت تكلم، فو الله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد، فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عِنْدَ اللَّه، والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه، ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب وسألني عن أمر يزيد، فكبرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك، وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم فأقمت أياما، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قَالَ: الحق بصاحبك، وقل له: سددك الله، امض على أمر الله، فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ست ليال أو سبع خارجة، وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله، إنه قيل الخالد بْن يزيد بْن معاوية: أني أصبت هذا العلم؟ قَالَ: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم، حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات انفسهم فودعته وخرجت فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضا بقتل الوليد، وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابة ودليلا، فقدمت على يزيد بْن الوليد

ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق
وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد منصور بْن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله.
بْن عمر بْن عبد العزيز بْن مروان ذكر الخبر عن ذلك:
ذكر عن يزيد بْن الوليد أنه قَالَ لعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد وليتكها، فذكر عن أبي عبيدة، قَالَ: كان عبد الله بْن عمر متألها متألما، فقدم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلا وكتبا إلى قواد الشام الذين بالعراق، وخاف ألا يسلم له منصور بْن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلم له منصور بْن جمهور، وانصرف إلى الشام، ففرق عبد الله بْن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم، فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردت أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به، فنازعني هؤلاء فأنكروا علي.
فخرج أهل الكوفة إلى الجبانة، وتجمعوا، فأرسل إليهم قواد أهل الشام يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بْن عمر بالحيرة، وعبيد الله بْن العباس الكندي بالكوفة، قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فاراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فأتاه فنحى الناس عنه، وسكنهم وزجر سفاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضا وبلغ ذلك عبد الله بْن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، واحسن جائزته، وولاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين

ذكر وقوع الخلاف بين اليمانيه والنزارية في خراسان
وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بْن سيار، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة لنصرته.
ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك:
ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن عبد الله بْن عمر لما قدم العراق واليا عليها من قبل يزيد بْن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان، قَالَ:
ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجمون لنصر: إن خراسان سيكون بها فتنة، فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد، وكان أول من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نصر رجالا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال:
العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأزد – وكان يلقب أبا الشياطين – فتكلم، وقام حماد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر:
إياي والمعصية، عليكم بالطاعة والجماعة، فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.
فصعد سلم بْن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلمه، فقال: ما يغني عنا كلامك هذا شيئا ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قَالَ: كأني بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري، وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان، مسلحة في نحور العدو، فإياكم ان يختلف فيكم سيفان.
قَالَ علي: قَالَ عبد الله بْن المبارك، قَالَ نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلم، وعسى أن يكون ذلك خيرا لي إنكم تغشون أمرا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم، والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قَالَ من كان قبلكم:

استمسكوا أصحابنا نحدو بكم *** فقد عرفنا خيركم وشركم

فاتقوا الله، فو الله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل بقول النابغة الذبياني:

فإن يغلب شقاؤكم عليكم *** فإني في صلاحكم سعيت

وقال الحارث بْن عبد الله بْن الحشرج بْن المغيرة بْن الورد الجعدي:

أبيت أرعى النجوم مرتفقا *** إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة *** قد عم أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن *** بالشام كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة *** دهماء ملتجة غياطلها
يمسي السفيه الذي يعنف *** بالجهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها *** تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في ظل مبهمه *** عمياء تغتالهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقبها *** إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حبلى *** طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته *** فيها خطوب حمر زلازلها

قَالَ: فلما أتى نصرا عهده من قبل عبد الله بْن عمر قَالَ الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة، فانظروا لأموركم رجلا- وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بْن علي بْن شبيب بْن براري بْن صنيم المعني- فقالوا: أنت لنا، فقالت المضرية لنصر: الكرماني يفسد عليك، فأرسل إليه فاقتله، او فاحبسه، قَالَ: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوج بني من بناته وبنيه من بناتي، قالوا: لا، قَالَ: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئا، ويعلمون بها فيتفرقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قَالَ: فدعوه على حاله يتقينا ونتقيه، قالوا لا، قال:
فأرسل اليه فحبسه.
قَالَ: وبلغ نصرا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعه بنى مروان ان يقلد ولدى السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه فقال له عصمه ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجن عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بْن النعمان الأزدي والفرافصة بْن ظهير البكرى، فانه لم يزل متغضبا على الله بتفضيله مضر على ربيعة.
وكان بخراسان وقال جميل بْن النعمان: إنك قد شرفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بْن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بْن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بْن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار.
وقيل: إن قوما أتوا نصرا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة وقال اصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود وكان نصر والكرماني متصافيين، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بْن عبد الله، فلما ولي نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بْن عامر بن ايثم الواشجى، فمات حرب فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزله، وصيرها لجميل بْن النعمان قَالَ: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بْن علي المرئي- ويقال المري.
قَالَ: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بْن بسام صاحب حرسه، فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بْن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قَالَ: بلى، قَالَ ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قَالَ: بلى، قال الم أرش عليا ابنك على كره من قومك! قَالَ: بلى، قَالَ: فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة! قَالَ الكرماني: لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بْن عبد الله ما قد علم، فليستان الأمير ويتثبت فلست أحب الفتنة فقال عصمة بْن عبد الله الأسدي: كذبت، وأنت تريد الشغب، ومالا تناله وقال سلم بْن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: {أَرْجِهْ وَأَخاهُ} [الأعراف:111] ، والله لا يقتلن الكرماني بقولك يا بن احوز وعلت الأصوات، فامر نصر سلما بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: انى حلفت ان احبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه قَالَ: فاختاروا يزيد النحوي، فكان معه في القهندز، وصير حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وجهم ابني مسعود.
قَالَ: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بْن شعبة الجهضمي وخالد بْن شعيب بْن أبي صالح الحداني، فكلماه فيه قَالَ: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يوما، فقال علي بْن وائل أحد بني ربيعة بْن حنظلة: دخلت على نصر، والكرماني جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان ابو الزعفران جاء! فو الله ما واريته ولا أعلم مكانه وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بْن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بْن حرملة اليحمدي والمغيرة بْن شعبة وعبد الجبار بْن شعيب بْن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا:
لا نرضى أن يحبس الكرماني بغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى، ليكفن عنا نصر أو لنبدأن بكم وأتاهم عبد العزيز بْن عباد بْن جابر بْن همام بْن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بْن المثنى وداود بْن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بْن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزة أم ولد نصر- وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى، فعند ذلك صيروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟
قالوا: لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بْن حكيم فتعشيا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره.
قَالَ: فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوامة- ويقال: بل ركب فرسه البشير- والقيد في رجله، فأتوا به قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بْن حرملة، فأطلق عنه.
قَالَ علي: وقال أبو الوليد زهير بْن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه.
قَالَ: فأرسل الكرماني إلى محمد بْن المثنى وعبد الملك بْن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، وخرج فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قريه حرب ابن عامر، وعليه ملحفه متقلدا سيفا، ومعه عبد الجبار بْن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان، وجعفر غلامه، فأمر عمرو بْن بكر، أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريان بْن سنان اليحمدي بنوش في المرج- وكان مصلاهم في العيد- فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بْن خليفة:

أصحروا للمرج أجلى للعمى *** فلقد أصحر أصحاب السرب
إن مرج الأزد مرج واسع *** تستوي الأقدام فيه والركب

وقيل: إن الأزد بايعت لعبد الملك بْن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيرا الأمر له، فصلى الكرماني ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرا بباب مرو الروذ بناحية ايردانه، فأقام يوما أو يومين.
وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بْن عبد الله الأسدي، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت، ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذل قوم، وإن يأبوا فهم كما قَالَ الأخطل:

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت *** فدل عليها صوتها حية البحر

ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإن ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بْن أحوز إلى الكرماني في المجففة في بشر كثير فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر، فأتاه القاسم بْن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له:
إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره – وكان رأي نصر إخراجه- فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس:
اخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره فأبوا عليه، فكف عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة وأتى الكرماني نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بْن عبد ربه بالحارث بْن سريج.
وأتى نصرا عزل منصور بْن جمهور وولاية عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين ومائة، فخطب الناس، وذكر ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب، فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح وكان يحضر الجمعه في الف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجا من المقصورة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بْن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني فقال الكرماني: لولا إنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره فبعث إليه عصمة بْن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما ابتدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالا، فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد

بذلك إلا الإنذار إليك فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرا لم يقل هذا لك ولكنك اردت ان يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك فرجع عصمة، وقال:
ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه، ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيما له من اصحابه قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدا وقال نصر لقديد بْن منيع: انطلق إليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لججت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال:
يا قديد، إني لا أتهمك، وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البكري أخوك ولا تثق به»، قَالَ: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنا، قَالَ: من؟ قَالَ: أعطه عليا وعثمان، قَالَ: فمن يعطيني؟ ولا خير فيه، قَالَ: يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بْن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع بهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأمير، أنشدك الله أن تشأم عشيرتك، إن مروان بالشام تقاتله الخوارج، والناس في فتنه والأزد سفهاء وهم جيرانك.
قَالَ: فما أصنع؟ إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك، فقد عزم أنه لا يثق بي قَالَ: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلب بعدك من الأمراء، إني أرى أمرا أخاف ان تذهب فيه العقول، قَالَ الكرماني:
إن نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتزل، ونختار رجلا من بكر بْن وائل، نرضاه جميعا، فيلي أمرنا جميعا حتى يأتي أمر من الخليفة، وهو يأبى هذا قَالَ: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه، فقال الكرماني: إني لا اتهمك في نصيحه ولا عقل، ولكني لا أثق بنصر، فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص قَالَ: فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قَالَ: لا آمنه على حال،
قَالَ: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدا بمضيعة، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قَالَ: لا، ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها وتهيأ ليخرج الى جرجان.

خبر الحارث بن سريج مع يزيد
وفي هذه السنة آمن يزيد بْن الوليد الحارث بْن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بْن عمر يأمره برد ما كان أخذ منه من ماله وولده

ذكر الخبر عن سبب ذلك:
ذكر أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بْن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إليه مقاتل بْن حيان النبطي وثعلبة بْن صفوان البناني وأنس بْن بجالة الأعرجي وهدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردوه عن بلاد الترك.
فذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن خالد بْن زياد البدي من أهل الترمذ وخالد بْن عمرو مولى بني عامر، خرجا إلى يزيد بْن الوليد يطلبان الأمان للحارث بْن سريج، فقدما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سموني خدينة؟ قَالَ: لا، قَالَ: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح- وكان من خاصة يزيد بْن الوليد- فكتب لهما إليه، فأدخلهما عليه، فقال له خالد بْن زياد:
يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قَالَ: لا أجد أعوانا غيرهم، وإني لأبغضهم، قَالَ: يا أمير المؤمنين، ول أهل البيوتات، وضم إلى كل عامل رجالا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قَالَ: أفعل، وسألاه أمانا للحارث بْن سريج، فكتب له:
أما بعد، فإنا غضبنا لله، إذ عطلت حدوده، وبلغ بعباده كل مبلغ،وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله جل وعز وسنه نبيه ص، ولا قوة إلا بالله، فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا، فأقبل آمنا أنت ومن معك، فإنكم إخواننا وأعواننا وقد كتبت إلى عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز برد ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم.
فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بْن زياد: أصلح الله الأمير! ألا تامر عمالك بسيره ابيك؟ قال: او ليس سيرة عمر ظاهرة معروفة! قَالَ: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها! ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فرد ما كان أخذ لهم مما قدر عليه ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بْن حيان وأصحابه الذين وجههم نصر إلى الحارث وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة فأسقط في يديه، فبعث يزيد بْن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة فلما لقيا مقاتلا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكف عنه يزيد قَالَ: فأقبل الحارث يريد مرو- وكان مقامه بأرض الشرك اثنى عشرة سنة- وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بْن عمران قاضيه وعبد الله بْن سنان فقدم سمرقند وعليها منصور بْن عمر فلم يتلقه، وقال: ألحسن بلائه! وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضر ببني أمية في سلطانهم، وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسا، وأنفذهم غارة في الترك، ليفرقن عليك بني تميم وكان سردرخداه محبوسا عند منصور بْن عمر، لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصورا، فحبسه، فكلم الحارث منصورا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفى له

كتاب ابراهيم الامام الى شيعه بنى العباس
وفي هذه السنة – فيما زعم بعضهم – وجه إبراهيم بْن محمد الإمام أبا هاشم بكير بْن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بْن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بْن محمد

ذكر بيعه ابراهيم بن الوليد بالعهد
وفي هذه السنة أخذ يزيد بْن الوليد لأخيه إبراهيم بْن الوليد على الناس البيعة، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بْن الحجاج بن عبد الملك بعد ابراهيم ابن الوليد، وكان السبب في ذلك – فيما حدثني احمد بن زهير، عن على ابن محمد – أن يزيد بْن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بْن الحجاج من بعده قَالَ: فلم تزل القدرية يحثونه على البيعة، ويقولون له: إنه لا يحل لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك، حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بْن الحجاج من بعده.
وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد يوسف بْن محمد بْن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ قَالَ محمد بْن عمر: يقال إن يزيد بْن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتابا بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بْن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعده

ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد
وفي هذه السنة أظهر مروان بْن محمد الخلاف على يزيد بْن الوليد، وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرا أنه طالب بدم الوليد بْن يزيد فلما صار بحران بايع يزيد.

ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم بْن خالد ابن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان- وسألته عما شهد مما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بْن محمد- قَالَ: كان عبد الملك بْن مروان بْن محمد بْن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بْن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، على الجزيرة عبدة بْن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها- حيث بلغه قتل الوليد- إلى الشام، ووثب عبد الملك بْن مروان بْن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بْن عبد الله بْن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطلا حتى يحكم أمره، فوجه إلى أهل الباب إسحاق بْن مسلم العقيلي- وهو رأس قيس- وثابت بْن نعيم الجذامي من أهل فلسطين- وهو رأس اليمن- وكان سبب صحبة ثابت إياه ان مروان كان خلصه من حبس هشام بالرصافة وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه وكان سبب حبس هشام ثابتا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بْن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية، إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بْن عياض القسرى، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه اليه، فامر هشام حنظله بتوجيهه إليه في الحديد، فوجهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بْن محمد على هشام في بعض وفاداته- وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا- فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية، ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه، وكان ممن كلمه فيه كعب بْن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بْن الضخم وسليمان بْن حبيب قاضيه، فاستوهبه مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجه مروان ثابتا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم معهما كتابا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين.
قَالَ: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلا من أهل فلسطين يقال له حميد بْن عبد الله اللخمي- وكان رضيا فيهم وكان وليهم قبل ذلك- فحمدوا ولايته فقاما فيهم بأمره، وأبلغاهم رسالته، وقرأ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم ولزوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم واللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بْن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم، فانخزلوا عن عسكرهم مع من فر ليلا وعسكروا على حدة.
وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح، ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشام، ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيري! ألم ألكم بما تحبون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بْن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نرد إلى أجنادنا فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم، وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم، وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم فلما رأوا الجد منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بْن نعيم وأولاده، وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران قَالَ: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل.
ووكل بهم عدة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، قلم يقدر احد منهم على ان يفسد ولا يظلم أحدا من أهل القرى، ولا يرزاه شيئا الا يثمن، حتى ورد حران ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتا معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيف وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بْن مروان ولى أباه محمد بْن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجه إليه محمد بْن عبد الله بْن علاثة ونفرا من وجوه الجزيرة.

ذكر خبر وفاه يزيد بن الوليد
وفي هذه السنة مات يزيد بْن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي الحجة من سنة ست وعشرين ومائة قَالَ أَبُو معشر مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه: توفي يزيد بْن الوليد في ذي الحجة بعد الأضحى سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته في قول جميع من ذكرنا ستة أشهر، وقيل كانت خلافته خمسة أشهر وليلتين.
وقال هشام بْن محمد: ولي ستة أشهر وأياما وقال علي بْن محمد:
كانت ولايته خمسة أشهر واثني عشر يوما.
وقال علي بْن محمد: مات يزيد بْن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت ولايته فيما زعم ستة أشهر وليلتين، وتوفي بدمشق واختلف في مبلغ سنه.
يوم توفي فقال هشام توفي وهو ابن ثلاثين سنة.
وقال بعضهم: توفي وهو ابن سبع وثلاثين سنة وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بْن يزدجرد بْن شهريار ابن كسرى وهو القائل:

أنا ابن كسرى وأبي مروان *** وقيصر جدي وجد خاقان

وقيل: إنه كان قدريا وكان – فيما حدثني أحمد، عن علي بْن محمد في صفته- أسمر طويلا، صغير الرأس، بوجهه خال وكان جميلا من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط وقيل له يزيد الناقص لنقصه الناس العشرات التي كان الوليد زادها الناس في قول الواقدي، وأما علي بْن محمد فإنه قَالَ: سبه مروان بْن محمد، فقال:
الناقص ابن الوليد، فسماه الناس الناقص وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز بْن مروان في قول الواقدي وقال بعضهم: حج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد الله ابن عبد الملك، بعثه يزيد بْن الوليد، وخرج معه عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف.
وكان عامله على العراق في هذه السنة عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى أحداث البصرة المسور بْن عمر بْن عباد.
وعلى قضائها عامر بْن عبيدة، وعلى خراسان نصر بْن سيار الكناني

خلافة أبي إسحاق إبراهيم بْن الوليد
ثم كان إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك بْن مروان غير أنه لم يتم له أمر.
فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لم يتم لإبراهيم أمره، وكان يسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة، وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمرة، فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بْن محمد فخلعه وقتل عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك.
وقال هشام بْن محمد: استخلف يزيد بْن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بْن الوليد، فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيا حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أم ولد.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كانت ولاية ابراهيم بن الوليد سبعين ليله.