رجب 56 هـ
أيار 676 م
سنة ست وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ففيها كَانَ مشتى جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود وقيل غزا فِيهَا فِي البحر يَزِيد بن شجره الرهاوى، …


وفي البر عياض ابن الْحَارِث.
وحج بِالنَّاسِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثابت عمن حدثه، عن إسحاق ابن عِيسَى، عن أبي معشر- الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ.
وفيها اعتمر مُعَاوِيَة فِي رجب.

ذكر خبر البيعه ليزيد بولاية العهد
وفيها دعا مُعَاوِيَة الناس إِلَى بيعة ابنه يَزِيد من بعده، وجعله ولي العهد.
ذكر السبب فِي ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الهمداني وعلي بن مُجَاهِدٍ، قَالا: قَالَ الشَّعْبِيّ: قدم الْمُغِيرَة عَلَى مُعَاوِيَة واستعفاه وشكا إِلَيْهِ الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سَعِيد بن الْعَاصِ، وبلغ كاتب الْمُغِيرَة ذَلِكَ، فأتى سَعِيد بن الْعَاصِ فأخبره وعنده رجل من أهل الْكُوفَة يقال لَهُ رَبِيعَة- أو الربيع- من خزاعة، فأتى الْمُغِيرَة فَقَالَ: يَا مغيرة، مَا أَرَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلا قَدْ قلاك، رأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد ابن الْعَاصِ يخبره أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يوليه الْكُوفَة، قَالَ الْمُغِيرَة: أفلا يقول كما قَالَ الأعشى:

أم غاب ربك فاعترتك خصاصة *** ولعل ربك أن يعود مؤيدا

رويدا! أدخل عَلَى يَزِيد، فدخل عَلَيْهِ فعرض لَهُ بالبيعة، فأدى ذَلِكَ يَزِيد إِلَى أَبِيهِ، فرد مُعَاوِيَة الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأمره أن يعمل فِي بيعة يَزِيد، فشخص الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأتاه كاتبه ابن خنيس، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا غششتك وَلا خنتك، وَلا كرهت ولايتك، ولكن سعيدا كَانَتْ لَهُ عندي يد وبلاء، فشكرت ذَلِكَ لَهُ، فرضي عنه وأعاده إِلَى كتابته، وعمل الْمُغِيرَة فِي بيعة يَزِيد، وأوفد فِي ذَلِكَ وافدا إِلَى مُعَاوِيَةَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن مسلمة، قَالَ: لما أراد مُعَاوِيَة أن يبايع ليزيد كتب إِلَى زياد يستشيره، فبعث زياد إِلَى عبيد بن كعب النميري، فَقَالَ: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قَدْ أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إِلَى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا لَهُ شرف فِي نفسه وعقل يصون حسبه، وَقَدْ عجمتهما مِنْكَ، فأحمدت الَّذِي قبلك، وَقَدْ دعوتك لأمر اتهمت عَلَيْهِ بطون الصحف، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إلي يزعم أنه قَدْ عزم عَلَى بيعة يَزِيد، وَهُوَ يتخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإِسْلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع مَا قَدْ أولع بِهِ من الصيد، فَالْقَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مؤديا عني، فأخبره عن فعلات يَزِيد، فَقَالَ لَهُ: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك مَا تريد، وَلا تعجل فإن دركا فِي تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت فَقَالَ عبيد لَهُ: أفلا غير هَذَا! قَالَ: مَا هُوَ؟
قَالَ: لا تفسد عَلَى مُعَاوِيَة رأيه، وَلا تمقت إِلَيْهِ ابنه، وألقى أنا يَزِيد سرا من مُعَاوِيَة فأخبره عنك أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إليك يستشيرك فِي بيعته، وأنك تخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عَلَيْهِ، وأنك ترى لَهُ ترك مَا ينقم عَلَيْهِ، فيستحكم لأمير الْمُؤْمِنِينَ الحجة عَلَى الناس، ويسهل لك مَا تريد، فتكون قَدْ نصحت يَزِيد وأرضيت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة فَقَالَ زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص عَلَى بركة اللَّه، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إِنْ شَاءَ اللَّهُ من الخطإ، قَالَ: تقول بِمَا ترى، ويقضي اللَّه بغيب مَا يعلم فقدم عَلَى يَزِيد فذاكره ذَلِكَ وكتب زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ يأمره بالتؤده، والا يعجل، فقبل ذَلِكَ مُعَاوِيَة، وكف يَزِيد عن كثير مما كَانَ يصنع، ثُمَّ قدم عبيد عَلَى زياد فأقطعه قطيعة.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لما مات زياد دعا مُعَاوِيَة بكتاب فقرأه عَلَى الناس باستخلاف يَزِيد، أن حدث بِهِ حدث الموت فيزيد ولي عهد، فاستوسق لَهُ الناس عَلَى البيعة ليزيد غير خمسة نفر.
فَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل بنخلة، قَالَ: بايع الناس ليزيد بن مُعَاوِيَة غير الْحُسَيْن بن علي وابن عمر وابن الزُّبَيْر وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وابن عباس، فلما قدم مُعَاوِيَة ارسل الى الحسين بن على، فقال: يا بن أخي، قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما إربك إِلَى الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم، فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا قَالَ: فالتوى عَلَيْهِ، ثُمَّ أعطاه ذَلِكَ، فخرج وَقَدْ أقعد لَهُ ابن الزبير رجلا بالطريق قَالَ: يقول لك أخوك ابن الزُّبَيْر: مَا كَانَ؟ فلم يزل بِهِ حَتَّى استخرج مِنْهُ شَيْئًا.
ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن الزبير، فقال له: قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما إربك إِلَى الخلاف؟
قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال:
نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نحن فِي حرم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وعهد اللَّه سُبْحَانَهُ ثقيل، فأبى عَلَيْهِ، وخرج.
ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن عمر فكلمه بكلام هُوَ ألين من كلام صاحبه، فَقَالَ: إني أرهب أن أدع أمة مُحَمَّد بعدي كالضأن لا راعى لها، وقد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إِلَى الخلاف! قَالَ: هل لك فِي أمر يذهب الذم، ويحقن الدم، وتدرك بِهِ حاجتك؟ قَالَ: وددت! قَالَ: تبرز سريرك، ثُمَّ أجيء فأبايعك، عَلَى أني أدخل بعدك فِيمَا تجتمع عَلَيْهِ الأمة، فو الله لو أن الأمة اجتمعت بعدك عَلَى عبد حبشي لدخلت فِيمَا تدخل فِيهِ الأمة، قَالَ: وتفعل؟ قَالَ: نعم، ثُمَّ خرج فأتى منزله فأطبق بابه، وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لَهُمْ.
فأرسل إِلَى عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فقال: يا بن أبي بكر، بأية يد أو رجل تقدم عَلَى معصيتي! قَالَ: أرجو أن يكون ذَلِكَ خيرا لي، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لقد هممت أن أقتلك، قَالَ: لو فعلت لأتبعك اللَّه بِهِ لعنة فِي الدُّنْيَا، وأدخلك بِهِ فِي الآخرة النار.
قال: ولم يذكر ابن عباس

ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان
وَكَانَ العامل عَلَى الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، وعلى الْكُوفَة الضحاك بن قيس، وعلى الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى خراسان سعيد ابن عثمان وَكَانَ سبب ولايته خُرَاسَان مَا حَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن حفص، قَالَ: سأل سَعِيد بن عُثْمَانَ مُعَاوِيَة أن يستعمله عَلَى خُرَاسَان، فَقَالَ: إن بِهَا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حَتَّى بلغت باصطناعه المدى الَّذِي لا يجارى إِلَيْهِ وَلا يسامى، فما شكرت بلاءه، وَلا جازيته بآلائه، وقدمت علي هَذَا- يعني يَزِيد بن مُعَاوِيَة- وبايعت لَهُ، وو الله لأنا خير منه أبا واما ونفسا، فقال: فَقَالَ مُعَاوِيَة:
أما بلاء أبيك فقد يحق عَلَيَّ الجزاء بِهِ، وَقَدْ كَانَ من شكري لذلك أني طلبت بدمه حَتَّى تكشفت الأمور، ولست بلائم لنفسي فِي التشمير، وأما فضل أبيك عَلَى أَبِيهِ فأبوك وَاللَّهِ خير مني واقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما فضل أمك عَلَى أمه فما ينكر، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، واما فضلك عليه فو الله مَا أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك.
فَقَالَ لَهُ يَزِيد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابن عمك، وأنت أحق من نظر فِي امره، وقد عتب عليك فأعتبه، قَالَ: فولاه حرب خُرَاسَان، وولى إِسْحَاق ابن طَلْحَة خراجها، وَكَانَ إِسْحَاق ابن خالة مُعَاوِيَة، أمه أم ابان ابنه عتبة ابن رَبِيعَة، فلما صار بالري مات إِسْحَاق بن طَلْحَة فولي سَعِيد خراج خُرَاسَان وحربها.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مسلمة، قَالَ: خرج سَعِيد إِلَى خُرَاسَان وخرج مَعَهُ أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس، وطلحه ابن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة وربيعة بن عسل أحد بني عَمْرو بن يربوع، قَالَ: وَكَانَ قوم من الأعراب يقطعون الطريق عَلَى الحاج ببطن فلج، فقيل لسعيد: ان هاهنا قوما يقطعون الطريق عَلَى الحاج ويخيفون السبيل، فلو أخرجتهم معك! قَالَ: فأخرج قوما من بني تميم، مِنْهُمْ مالك بن الريب المازني فِي فتيان كَانُوا مَعَهُ، وفيهم يقول الراجز:

ألله أنجاك من القصيم *** ومن أبي حردبة الأثيم
ومن غويث فاتح العكوم *** ومالك وسيفه المسموم

قَالَ علي: قَالَ مسلمة: قدم سَعِيد بن عُثْمَانَ، فقطع النهر إِلَى سمرقند، فخرج إِلَيْهِ أهل الصغد، فتواقفوا يَوْمًا إِلَى الليل ثُمَّ انصرفوا مِنْ غَيْرِ قتال، فَقَالَ مالك بن الريب يذم سعيدا:

ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا *** من الجبن حَتَّى خفت أن تتنصرا
وما كَانَ فِي عُثْمَان شَيْء علمته *** سوى نسله فِي رهطه حين أدبرا
ولولا بنو حرب لظلت دماؤكم *** بطون العظايا من كسير وأعورا

قَالَ: فلما كَانَ الغد خرج إِلَيْهِم سَعِيد بن عُثْمَانَ، وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم فِي مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا مِنْهُمْ خمسين غلاما يكونون فِي يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لَهُمْ، وجاء بالغلمان الرهن مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة.
قَالَ: وقدم سَعِيد بن عُثْمَانَ خُرَاسَان وأسلم بن زرعة الكلابي بِهَا من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بِهَا مقيما حَتَّى كتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعهده عَلَى خُرَاسَان الثانية، فلما قدم كتاب عُبَيْد اللَّهِ عَلَى أسلم طرق سَعِيد بن عُثْمَانَ ليلا، فأسقطت جارية لَهُ غلاما، فكان سَعِيد يقول: لأقتلن بِهِ رجلا من بني حرب، وقدم عَلَى مُعَاوِيَة فشكا أسلم إِلَيْهِ، وغضبت القيسية، قَالَ: فدخل همام بن قبيصة النمري فنظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة محمر العينين، فَقَالَ: يَا همام، إن عينيك لمحمرتان، قَالَ همام: كانتا يوم صفين أشد حمرة، فغم مُعَاوِيَة ذَلِكَ، فلما رَأَى ذَلِكَ سَعِيد كف عن أسلم، فأقام أسلم بن زرعة عَلَى خُرَاسَان واليا لعبيد اللَّه بن زياد سنتين.