15 هـ
636 م
 سنة خمس عشرة

قال ابن جرير: قال بعضهم: فيها مصر سعد بْن أبي وقاص الكوفة، دلهم عليها ابن بقيلة، قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق، …

وانحدرت عن الفلاة! فدلهم على موضع الكوفة اليوم.

ذكر الوقعة بمرج الروم
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بْن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي، في مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص، فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من توذرا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر أن توذرا قد رحل إلى دمشق، فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه خالد من ليلته في جريدة، وقد بلغ يزيد بْن أبي سفيان الذي فعل، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد بْن أبي سفيان على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، وقد قتل خالد توذرا، وقال خالد:

نحن قتلنا توذرا وشوذرا *** وقبله ما قد قتلنا حيدرا
نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا

وقد ناهد أبو عبيدة بعد خروج خالد في أثر توذرا شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم مقتلة عظيمة، وقتل أبو عبيدة شنس، وامتلأ المرج من قتلاهم، فأنتنت منهم الأرض، وهرب من هرب منهم، فلم يفلتهم، وركبوا أكساءهم إلى حمص.

ذكر فتح حمص
حكى الطبري عَنْ سَيْفٍ، في كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضي إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد، هذا جل طعامه وشرابه وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ عامله بحمص، وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يغادون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد، ولقي المسلمون بها بردا شديدا، والروم حصارا طويلا، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ اللَّه عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء.
وعن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص يتواصون فيما بينهم، ويقولون: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء! فتركهم، وقام فيهم آخر فقال: ذهب الشتاء، وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟
فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون، ولأن تأتوهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبوني محمودين قبل أن تجيبوني مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب.
وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا: أثاب اللَّه المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب اللَّه! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبنيانهم، لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا وصالح بعضهم على قدر طاقته، إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن، بعضهم على شيء إن أيسروا وإن أعسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.
وبعث أبو عبيدة السمط بْن الأسود في بني معاوية، والأشعث بْن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالدا في الجيش، والصباح ابن شتير وذهيل بْن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها وأقام في عسكره، وكتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد اللَّه بْن مسعود، وقد وفده.
وأخبر خبر هرقل، وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحيانا، ويطلع أحيانا فقدم ابن مسعود على عمر، فرده، ثم بعثه بعد ذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك، إن شاء اللَّه.

حديث قنسرين
وعن أبي عثمان وجارية، قالا: وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد ابن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم، وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم يقتلوا مثلها، فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم ولما بلغ عمر ذلك قال: أمر خالد نفسه، يرحم اللَّه أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني، وقد كان عزله والمثنى مع قيامه، وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما فلما كان من أمره وأمر قنسرين ما كان، رجع عن رأيه، وسار خالد حتى نزل قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا اللَّه إليكم أو لأنزلكم اللَّه إلينا قال: فنظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص، فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها، واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل، وإنما كان سبب خنوسه أن خالدا حين قتل ميناس ومات الروم على دمه، وعقد لأهل الحاضر وترك قنسرين، طلع من قبل الكوفه عمر ابن مالك من قبل قرقيسيا، وعبد اللَّه بْن المعتم من قبل الموصل، والوليد ابن عقبة من بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، وطووا مدائن الجزيرة من نحو هرقل، وأهل الجزيرة في حران والرقة ونصيبين وذواتها لم يغرضوا غرضهم، حتى يرجعوا إليهم، إلا أنهم خلفوا في الجزيرة الوليد لئلا يؤتوا من خلفهم، فأدرب خالد وعياض مما يلي الشام، وأدرب عمر وعبد اللَّه مما يلي الجزيرة، ولم يكونوا أدربوا قبله، ثم رجعوا، فهي أول مدربة كانت في الإسلام سنة ست عشرة فرجع خالد إلى قنسرين فنزلها، وأتته امرأته، فلما عزله قال: إن عمر ولاني الشام حتى إذا صارت بثنية وعسلا عزلني.
قال أبو جعفر الطبري: ثم خرج هرقل نحو القسطنطينية، فاختلف في حين شخوصه إليها وتركه بلاد الشام، فقال ابن إسحاق: كان ذلك سنة خمس عشرة، وقال سيف: كان سنة ست عشرة.

ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينية
ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من بني قشير، قالوا: لما خرج هرقل من الرهاء واستتبع أهلها، قالوا: نحن هاهنا خير منا معك، وأبوا أن يتبعوه، وتفرقوا عنه وعن المسلمين، وكان أول من أنبح كلابها، وأنفر دجاجها زياد بْن حنظلة، وكان من الصحابه، وكان مع عمر ابن مالك مسانده، وكان حليفا لبني عبد بْن قصي، وقبل ذلك ما قد خرج هرقل حتى شمشاط، فلما نزل القوم الرهاء أدرب فنفذ نحو القسطنطينية، ولحقه رجل من الروم كان أسيرا في أيدي المسلمين، فأفلت، فقال له: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين.
وعن عبادة وخالد، أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء، فنزل الرهاء، فلم يزل بها حتى طلع أهل الكوفة وفتحت قنسرين وقتل ميناس، فخنس عند ذلك إلى شمشاط، حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم!
وعن أبي الزهراء وعمرو بْن ميمون، قالا: لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية، فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، وليته لم يولد! ومضى حتى نزل القسطنطينية.
وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه، لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وشعث الحصون، فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا، وربما كمن عندها الروم، فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك.

ذكر فتح قيسارية وحصر غزة
ذَكَرَ سَيْفٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ مِنْ فحل، نَزَلَ عَمْرٌو وَشُرَحْبِيلٌ عَلَى بَيْسَانَ فَافْتَتَحَاهَا، وَصَالَحَتْهُ الأردن، واجتمع عسكر الروم بالجنادين وَبِيسَانَ وَغَزَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِتَفَرُّقِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بِأَنْ يُدَفِّئَ ظُهُورَهُمْ بِالرِّجَالِ، وَأَنْ يُسَرِّحَ مُعَاوِيَةَ إِلَى قَيْسَارِيَةَ وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو يَأْمُرُهُ بِصَدْمِ الأَرْطَبُونِ، وَإِلَى عَلْقَمَةَ بِصَدْمِ الْفَيْقَارِ.
وَكَانَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ قَيْسَارِيَةَ، فَسِرْ إِلَيْهَا وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، اللَّهُ رَبُّنَا وَثِقَتُنَا وَرَجَاؤُنَا وَمَوْلانَا، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فَانْتَهَى الرَّجُلانِ إِلَى مَا أَمَرَا بِهِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي جُنْدِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَةَ وَعَلَيْهِمْ أبنى، فَهَزَمَهُ وَحَصَرَهُ فِي قَيْسَارِيَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا يُزَاحِفُونَهُ، وَجَعَلُوا لا يُزَاحِفُونَهُ مِنْ مَرَّةٍ إِلا هَزَمَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ ثُمَّ زَاحَفُوهُ آخِرَ ذَلِكَ، وَخَرَجُوا مِنْ صَيَاصِيهِمْ، فَاقْتَتَلُوا فِي حَفِيظَةٍ وَاسْتِمَاتَةٍ، فَبَلَغَتْ قَتْلاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَهَا فِي هَزِيمَتِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، ثُمَّ خَافَ مِنْهُمَا الضَّعْفَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلْقَمَةَ الْفِرَاسِيَّ وَزُهَيْرَ بْنَ الْحَلابِ الْخَثْعَمِيَّ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتْبَعَاهُمَا وَيَسْبِقَاهُمَا، فَلَحِقَاهُمَا، فَطَوَيَاهُمَا وَهُمَا نَائِمَانِ. وَابْنُ عَلْقَمَةَ يَتَمَثَّلُ وَهِيَ هِجِّيرَاهُ:

أَرَّقَ عَيْنِي أَخَوَا جُذَامِ *** كَيْفَ أَنَامُ وَهُمَا أَمَامِي!
إِذْ يَرْحَلانِ وَالْهَجِيرُ طَامِي *** أَخُو حَشِيمٍ وَأَخُو حَرَامِ

وَانْطَلَقَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ، فَحَصَرَ الْفَيْقَارَ بِغَزَّةَ، وَجَعَلَ يُرَاسِلُهُ، فَلَمْ يَشْفِهِ مِمَّا يُرِيدُ أَحَدٌ، فَأَتَاهُ كَأَنَّهُ رَسُولُ عَلْقَمَةَ، فَأَمَرَ الْفَيْقَارُ رَجُلا أَنْ يَقْعُدَ لَهُ بِالطَّرِيقِ، فَإِذَا مَرَّ قَتَلَهُ، فَفَطِنَ عَلْقَمَةُ، فَقَالَ: إِنَّ مَعِي نَفَرًا شُرَكَائِي فِي الرَّأْيِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِيكَ بِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ: لا تَعْرِضْ لَهُ.
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَعُدْ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَمْرٌو بِالأَرْطَبُونِ، وَانْتَهَى بَرِيدُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَبَاتَهُمْ عَلَى الْفَرَحِ لَيْلا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: لِتَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى فَتْحِ قَيْسَارِيَةَ، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ يَحْبِسُ الأَسْرَى عِنْدَهُ، وَيَقُولُ: مَا صَنَعَ مِيخَائِيلُ بِأَسْرَانَا صَنَعْنَا بِأَسْرَاهُمْ مِثْلَهُ، فَفَطَمَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى افْتَتَحَهَا.

ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادين
ولما توجه علقمة إلى غزة وتوجه معاوية إلى قيسارية، صمد عمرو بْن العاص إلى الأرطبون، ومر بإزائه، وخرج معه شرحبيل بْن حسنة على مقدمته، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور، وولى عمرو بْن العاص مجنبتيه عبد اللَّه بْن عمرو وجنادة بْن تميم المالكي، مالك بْن كنانة، فخرج حتى ينزل على الروم بأجنادين، والروم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون.
وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكاها فعلا، وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما، وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تتفرج! وجعل عمر رحمه اللَّه من لدن وجه أمراء الشام يمد كل أمير جند ويرميه بالأمداد، حتى إذا أتاه كتاب عمرو بتفريق الروم، كتب إلى يزيد أن يبعث معاوية في خيله إلى قيسارية، وكتب إلى معاوية بإمرته على قتال أهل قيسارية، وليشغلهم عن عمرو، وكان عمرو قد استعمل علقمة ابن حكيم الفراسي ومسروق بْن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو، وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، وكان بإزائهما، ولما تتابعت الأمداد على عمرو، بعث مُحَمَّد بْن عمرو مددا لعلقمة ومسروق، وبعث عمارة بْن عمرو بْن أمية الضمري مددا لأبي أيوب، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد وقال أرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ثم دعا حرسيا فساره بقتله، فقال: اخرج فقم مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال: قد سمعت مني وسمعت منك، فأما ما قلته فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر بْن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك فقال: نعم، ودعا رجلا فساره، وقال: اذهب إلى فلان فرده إلي، فرجع إليه الرجل وقال لعمرو: انطلق فجيء بأصحابك، فخرج عمرو ورأى ألا يعود لمثلها، وعلم الرومي بأنه قد خدعه، فقال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق فبلغت عمر، فقال: غلبه عمرو، لله عمرو! وناهده عمرو، وقد عرف مأخذه وعاقبته، والتقوا ولم يجد من ذلك بدا فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم.
ثم إن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين.
ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، فانضم علقمة ومسروق ومحمد بْن عمرو وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين، وكتب أرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يغرب ويتنكر، وقال: استمع ما يقول حتى تخبرني به إذا رجعت إن شاء اللَّه.
وكتب إليه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدي عليك فلانا وفلانا وفلانا -لوزرائه- فأقرئهم كتابي، ولينظروا فيما بيني وبينك فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من النفر، فاقترأه فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر.
وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إني أعالج حربا كئودا ضدوما وبلادا ادخرت لك، فرأيك ولما كتب عمرو إلى عمر بذلك، عرف أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى في الناس، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، فأما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر عنها أن الطاعون مستعر، وأما الرابعة فدخلها على حمار فاستخلف عليها، وخرج وقد كتب مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية -ليوم سماه لهم في المجردة- وأن يستخلفوا على أعمالهم.
فلقوه حيث رفعت لهم الجابية، فكان أول من لقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول، عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة، فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين! سرع ما ندت بكم البطنة! وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين لم يتحركا من مكانهما.

ذكر فتح بيت المقدس
وعن سالم بْن عبد اللَّه، قال: لما قدم عمر رحمه اللَّه الجابية، قال له رجل من يهود: يا أمير المؤمنين، لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح اللَّه عليك إيلياء، فبينا عمر بْن الخطاب بها، إذ نظر إلى كردوس من خيل مقبل، فلما دنوا منه سلوا السيوف، فقال عمر: هؤلاء قوم يستأمنون، فأمنوهم، فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي، فقيل له: إن عنده لعلما قال: فسأله عن الدجال -وكان كثير المسألة عنه- فقال له اليهودي: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين! فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعا.
وعن سالم، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح اللَّه إيلياء، وكانوا قد أشجوا عمرا وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟
فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف! فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر: مستأمنة، ولا تراعوا وأمنوهم، فأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها، فصارت فلسطين نصفين: نصف مع أهل إيلياء، ونصف مع أهل الرملة، وهم عشر كور، وفلسطين تعدل الشام كله، وشهد ذلك اليهودي الصلح، فسأله عمر عن الدجال، فقال: هو من بني بنيامين، وأنتم والله يا معشر العرب تقتلونه على بضع عشرة ذراعا من باب لد.
وعن خالد وعبادة، قالا: كان الذي صالح فلسطين العوام من أهل إيلياء والرملة، وذلك أن أرطبون والتذارق لحقا بمصر، مقدم عمر الجابية، وأصيبا بعد في بعض الصوائف.
وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بْن الخطاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة وعن عدي بْن سهل، قال: لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال علي: أين تخرج بنفسك! إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو قد فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض أول الحبل.
قال: وانضم عمرو وشرحبيل إلى عمر بالجابية حين جرى الصلح فيما بينهم، فشهد الكتاب.
وعن خالد وعبادة، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم فيها الصلح لكل كورة كتابا واحدا، ما خلا أهل إيلياء.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد على ذلك خالد بْن الوليد، وعمرو بْن العاص، وعبد الرحمن بْن عوف، ومعاوية بْن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة.
فأما سائر كتبهم فعلى كتاب لد بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا مللها، ولا من صلبهم ولا من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، وعلى أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل مدائن الشام، وعليهم إن خرجوا مثل ذلك الشرط إلى آخره ثم سرح إليهم، وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بْن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بْن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء، فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه.
وعن سالم، قال: استعمل علقمة بْن مجزز على إيلياء وعلقمة بْن حكيم على الرملة في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافقا عمر رحمه اللَّه راكبا، فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما.
وعن عبادة وخالد، قالا: ولما بعث عمر بأمان أهل إيلياء وسكنها الجند، شخص إلى بيت المقدس من الجابية، فرأى فرسه يتوجى، فنزل عنه، وأتي ببرذون فركبه، فهزه فنزل، فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح اللَّه من علمك هذا! ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه فركبه، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس.
وعن أبي صفية، شيخ من بني شيبان، قال: لما أتى عمر الشام أتي ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلج به، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علم اللَّه من علمك! هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه، ما خلا اجنادين فإنها فتحت على يدي عمرو، وقيسارية على يدي معاوية.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: افتتحت إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة.
وعن أبي مريم مولى سلامة، قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه اللَّه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه، فدخله ثم قرأ سجدة داود، فسجد وسجدنا معه.
وعن رجاء بْن حيوة، عمن شهد، قال: لما شخص عمر من الجابية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد، قال: ارقبوا لي كعبا، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب، محراب داود عليه السلام، وذلك ليلا، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فتقدم فصلى بالناس، وقرأ بهم ص، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر بني إسرائيل، ثم ركع ثم انصرف، فقال: علي بكعب، فأتي به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال: إلى الصخرة، فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مساجدنا صدورها، اذهب إليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره.
ثم قام من مصلاه إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل، فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها، وقال:
يا أيها الناس، اصنعوا كما أصنع، وجثا في أصلها، وجثا في فرج من فروج قبائه، وسمع التكبير من خلفه، وكان يكره سوء الرعة في كل شيء، فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: علي به فأتي به، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت الروم عليهم إلى أن وليت، فبعث اللَّه نبيا على الكناسة، فقال: أبشري أورى شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك وبعث إلى القسطنطينية نبي، فقام على تلها، فقال: يا قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي! أخربوه وشبهوك كعرشي، وتأولوا علي، فقد قضيت عليك أن أجعلك جلحاء يوما ما، لا يأوي إليك أحد، ولا يستظل فيك علي أيدي بني القاذر سبأ وودان، فما أمسوا حتى ما بقي منه شيء.
وعن ربيعة الشامي بمثله، وزاد: أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم وقال في قسطنطينية: أدعك جلحاء بارزة للشمس، لا يأوي إليك أحد، ولا تظلينه.
وعن أنس بْن مالك، قال: شهدت إيلياء مع عمر، فبينا هو يطعم الناس يوما بها أتاه راهبها وهو لا يشعر أن الخمر محرمة، فقال: هل لك في شراب نجده في كتبنا حلالا إذا حرمت الخمر! فدعاه به فقال: من أي شيء هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيرا، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء، فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمر أمراء الأجناد بالشام به.
وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقي بعد ذلك، فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس، فقطع يد القيسي، وقتله القيسي، فقال:

فإن يكن أرطبون الروم أفسدها *** فإن فيها بحمد اللَّه منتفعا
بنانتان وجرموز أقيم به *** صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا
وإن يكن أرطبون الروم قطعها *** فقد تركت بها أوصاله قطعا

وقال زياد بْن حنظلة:

تذكرت حرب الروم لما تطاولت *** وإذ نحن في عام كثير نزائله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا *** مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده *** يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها *** سما بجنود اللَّه كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صواله *** أتوه وقالوا أنت ممن نواصله
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها *** وعيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب *** مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله *** تحمل عبئا حين شالت شوائله

وقال أيضا:

سما عمر لما أتته رسائل *** كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا
وقد عضلت بالشام أرض بأهلها *** تريد من الأقوام من كان أنجدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم *** بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذي *** أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسط فيما بينهم كل جزية *** وكل رفاد كان أهنا وأحمدا

ذكر فرض العطاء وعمل الديوان
وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بْن أمية والحارث بْن هشام وسهيل بْن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا، فقال: إني إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب، قالوا: فنعم إذا، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام، فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب، وقيل: ماتا في طاعون عمواس.
ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له علي وعبد الرحمن بْن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن اهل الرده ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء البارع منهم الفين وخمسمائة، الفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام! فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحق بالزيادة، لأنهم كانوا ردءا للحوق وشجى للعدو، فهلا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفا ألفا، ثم فرض للروادف: المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم، ثلاثمائة ثلاثمائة، سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفا -وقيل اثني عشر ألفا- وأعطى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليها الملك، فقال نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلنا عليهن في القسمة، فسو بيننا، ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم الى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك الى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكينا، وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر.
وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، وألفا يجعلها الرجل في اهله، وألفا يزدوها معه، وألفا يتجهز بها، ألفا يترفق بها، فمات قبل ان يفعل.
قال ابو جعفر الطبرى: كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَزِيَادٍ وَالْمُجَالِدِ وَعَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي ضَمْرَةَ عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين، ويحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَزَهْرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالُوا: فَرَضَ عُمَرُ الْعَطَاءَ حِينَ فَرَضَ لأَهْلِ الْفَيْءِ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ، فَصَارُوا بَعْدُ إِلَى الْكُوفَةِ، انْتَقَلُوا عَنِ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ، وَقَالَ: الْفَيْءُ لأَهْلِ هَؤُلاءِ الأَمْصَارِ وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ وَأَعَانَهُمْ، وَأَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يَفْرِضْ لِغَيْرِهِمْ، أَلا فَبِهِمْ سُكِنَتِ الْمَدَائِنُ وَالْقُرَى، وَعَلَيْهِمْ جَرَى الصُّلْحُ، وَإِلَيْهِمْ أُدِّيَ الْجَزَاءُ، وَبِهِمْ سُدَّتِ الْفُرُوجُ وَدُوِّخَ الْعَدُوُّ ثُمَّ كَتَبَ فِي إِعْطَاءِ أَهْلِ الْعَطَاءِ أَعْطِيَاتَهُمْ إِعْطَاءً وَاحِدًا سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
وَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ تَرَكْتَ فِي بُيُوتِ الأَمْوَالِ عُدَّةً لِكَوْنٍ إِنْ كَانَ! فَقَالَ: كَلِمَةٌ أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى فِيكَ وَقَانِي اللَّهُ شَرَّهَا، وَهِيَ فِتْنَةٌ لِمَنْ بَعْدِي، بَلْ أعد لَهُمْ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمَا عُدَّتُنَا الَّتِي بِهَا أَفْضَيْنَا إِلَى مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَالُ ثَمَنَ دِينِ أَحَدِكُمْ هَلَكْتُمْ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ رُسْتُمُ، وَقَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ الْفُتُوحُ مِنَ الشَّامِ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِلْوَالِي مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: أَمَّا لِخَاصَّتِهِ فَقُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ، لا وَكْسٌ وَلا شَطَطٌ، وَكِسْوَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَدَابَّتَانِ إِلَى جِهَادِهِ وَحَوَائِجِهِ وَحِمْلانِهِ الى حجه وَعُمْرَتِهِ، وَالْقَسْمُ بِالسَّوِيَّةِ، أَنْ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ عَلَى قَدْرِ بَلائِهِمْ، وَيَرُمُّ أُمُورَ النَّاسِ بَعْدُ، وَيَتَعَاهَدَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالنَّوَازِلِ حَتَّى تُكْشَفَ، وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْفَيْءِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: جَمَعَ النَّاسَ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِ فَتْحُ الْقَادِسِيَّةِ وَدِمَشْقَ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، يُغْنِي اللَّهُ عِيَالِي بِتِجَارَتِي وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ، فَمَاذَا تَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِي من هذا المال؟ فاكثر القوم وعلي عليه السلام سَاكِتٌ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَكَ وَأَصْلَحَ عِيَالَكَ بِالْمَعْرُوفِ، لَيْسَ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ غَيْرُهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَنِي وَأَصْلَحَ عِيَالِي بِالْمَعْرُوفِ، وَحُلَّةُ الشِّتَاءِ وَحُلَّةُ الصَّيْفِ، وَرَاحِلَةُ عُمَرَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَدَابَّةٌ فِي حَوَائِجِهِ وَجِهَادِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَعَدَ عَلَى رِزْقِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانُوا فَرَضُوا لَهُ، فَكَانَ بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَوْ قُلْنَا لِعُمَرَ فِي زِيَادَةٍ نَزِيدُهَا إِيَّاهُ فِي رِزْقِهِ! فَقَالَ عَلِيٌّ: وَدِدْنَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْطَلِقُوا بِنَا، فقال عُثْمَانُ: إِنَّهُ عُمَرُ! فَهَلُمُّوا فَلْنَسْتَبْرِئُ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَرَاء، نَأْتِي حَفْصَةَ فَنَسْأَلُهَا وَنَسْتَكْتِمُهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهَا وَأَمَرُوهَا أَنْ تُخْبِرَ بِالْخَبَرِ عَنْ نَفَرٍ، وَلا تُسَمِّي لَهُ أَحَدًا، إِلا أَنْ يَقْبَلَ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَلَقِيَتْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَعَرَفَتِ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَتْ: لا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِمْ حَتَّى أَعْلَمَ رَأْيَكَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ مَنْ هُمْ لَسُؤْتُ وُجُوهَهُمْ، أَنْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ! أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ، مَا افضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِكِ مِنَ الْمَلْبَسِ؟ قَالَتْ: ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ كَانَ يَلْبَسُهُمَا لِلْوَفْدِ، وَيَخْطُبُ فِيهِمَا لِلْجُمَعِ، قَالَ: فَأَيُّ الطَّعَامِ نَالَهُ عِنْدَكِ أَرْفَعُ؟ قَالَتْ: خَبَزْنَا خُبْزَةَ شَعِيرٍ، فَصَبَبْنَا عَلَيْهَا وَهِيَ حَارَّةٌ أَسْفَلَ عُكَّةٍ لَنَا، فَجَعَلْنَاهَا هَشَّةً دَسِمَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا وَتَطَعَّمَ مِنْهَا اسْتِطَابَةً لَهَا. قَالَ: فَأَيُّ مَبْسَطٍ كَانَ يَبْسُطُهُ عِنْدَكِ كَانَ أَوْطَأَ؟ قَالَتْ: كِسَاءٌ لَنَا ثَخِينٌ كُنَّا نُرْبِعُهُ فِي الصَّيْفِ، فَنَجْعَلُهُ تَحْتَنَا، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَسَطْنَا نِصْفَهُ وَتَدَثَّرْنَا بِنِصْفِهِ، قَالَ: يَا حَفْصَةُ، فَأَبْلِغِيهِمْ عَنِّي أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فوضع الفضول مواضعها، وتبلغ بالتزجيه، وانى قدرت فو الله لاضعن الفضول مواضعها، ولا تبلغن بالتزجيه، وَإِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ صَاحِبَيَّ كِثَلاثَةٍ سَلَكُوا طَرِيقًا، فَمَضَى الأَوَّلُ وَقَدْ تَزَوَّدَ زَادًا فَبَلَغَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الآخَرُ فَسَلَكَ طَرِيقَهُ، فَأَفْضَى إِلَيْهِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الثَّالِثُ، فَإِنْ لَزِمَ طَرِيقَهُمَا وَرَضِيَ بِزَادِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا وَكَانَ مَعَهُمَا، وَإِنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِهِمَا لَمْ يُجَامِعْهُمَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَصْحَابِهِ، وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتِ الْقَادِسِيَّةُ وَصَالَحَ مَنْ صَالَحَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَافْتُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَصَالَحَ أَهْلُ دِمَشْقَ، قَالَ عُمَرُ لِلنَّاسِ: اجْتَمِعُوا فَأَحْضِرُونِي عِلْمَكُمْ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَأَهْلِ الشَّامِ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ قِبَلِ الْقُرْآنِ، فَقَالُوا: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ} [الحشر: 7] -يعنى من الخمس- {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7]، إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، مِنَ اللَّهِ الأَمْرُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْقَسْمُ، {وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7]، [الأنفال: 41] الآية، ثُمَّ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الآية، فَأَخَذُوا الأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا قُسِّمَ عليه الخمس فيمن بدئ به وثنى وثلاث، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَغْنَمَ ثُمَّ اسْتُشْهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، فَقَسَّمَ الأَخْمَاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، فَبَدَأَ بِالْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ بِالأَنْصَارِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، ثُمَّ فَوَّضَ الأَعْطِيَةَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَالَحَ أَوْ دُعِيَ إِلَى الصُّلْحِ مِنْ جَزَائِهِ، مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي الْجَزَاءِ أَخْمَاسٌ، وَالْجَزَاءُ لِمَنْ مَنَعَ الذِّمَّةَ وَوَفِيَ لَهُمْ مِمَّنْ وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ فَأَعَانَهُمْ، إِلا أَنْ يُؤَاسُوا بِفَضْلَةٍ مِنْ طِيبِ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنَلْ مِثْلَ الذى نالوا.
قال الطبرى: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ -أَعْنِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ- كَانَتْ وَقَعَاتٍ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.
نَذْكُرُ الآنَ الأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ بِمَا كَانَ بَيْنَ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: عَهِدَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ حِينَ أَمَرَهُ بِالسَّيْرِ إِلَى الْمَدَائِنِ أَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَتِيقِ، وَيَجْعَلَ مَعَهُمْ كَثْفًا مِنَ الْجُنْدِ، ففعل وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُمْ فِي كُلِّ مَغْنَمٍ مَا دَامُوا يَخْلُفُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي عِيَالاتِهِمْ.
قَالُوا: وَكَانَ مَقَامُ سَعْدٍ بِالْقَادِسِيَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ شَهْرَيْنِ فِي مُكَاتَبَةِ عُمَرَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَنْبَغِي، فَقَدِمَ زَهْرَةُ نَحْوَ اللِّسَانِ -وَاللِّسَانُ لِسَانُ الْبَرِّ الَّذِي أَدْلَعَهُ فِي الرِّيفِ، وَعَلَيْهِ الْكُوفَةُ الْيَوْمَ، وَالْحِيرَةُ قَبْلَ الْيَوْمِ- وَالنّخيرجَانُ مُعَسْكِرٌ بِهِ، فَارْفَضَّ وَلَمْ يَثْبُتْ حِينَ سَمِعَ بِمَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَحِقَ بِأَصْحَابِهِ.
قَالُوا: فَكَانَ مِمَّا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي الْعَسْكَرِ وَتُلْقِيهِ النِّسَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عَلَى شَاطِئِ الْعَتِيقِ، أَمْرٌ كَانَ النِّسَاءُ يَلْعَبْنَ بِهِ فِي زَرُودَ وَذِي قَارٍ، وَتِلْكَ الأَمْوَاهُ حِينَ أُمِرُوا بِالسَّيْرِ فِي جُمَادَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ كَلامًا أَبَدْنَ فِيهِ كَالأَوَابِدِ مِنَ الشِّعْرِ، لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبٍ شَيْءٌ:

الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ *** بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبْ
أَمْرٌ قَضَاهُ قَدْ وَجَبْ *** يُخْبِرُهُ مَنْ قَدْ شَجَبْ
تَحَتَ غُبَارٍ وَلَجَبْ

خبر يوم برس
قال: ثم إن سعدا ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله، وبعد تقديم زهرة بْن الحوية في المقدمات إلى اللسان، ثم أتبعه عبد اللَّه بْن المعتم، ثم أتبع عبد اللَّه شرحبيل بْن السمط، ثم أتبعهم هاشم بْن عتبة، وقد ولاه خلافته، عمل خالد بْن عرفطة، وجعل خالدا على الساقة، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل اللَّه إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، لأيام بقين من شوال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة -والكوفة كل حصباء حمراء وسهلة حمراء مختلطتين- ثم نزل عليه عبد اللَّه وشرحبيل، وارتحل زهرة حين نزلا عليه نحو المدائن، فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى في جمع فناوشوه فهزمهم، فهرب بصبهرى ومن معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم: النخيرجان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم، فأقاموا واستعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى وقد نجا بطعنة، فمات منها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: طعن زهرة بصبهرى في يوم برس، فوقع في النهر فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل.

يوم بابل
قالوا: ولما أتى بسطام زهرة بالخبر عن الذين اجتمعوا ببابل من فلال القادسية، أقام وكتب إلى سعد بالخبر ولما نزل سعد على من بالكوفة مع هاشم بْن عتبة، وأتاه الخبر عن زهرة باجتماع الفرس ببابل على الفيرزان، قدم عبد اللَّه، وأتبعه شرحبيل وهاشما، ثم ارتحل بالناس، فلما نزل عليهم برس، قدم زهرة فأتبعه عبد اللَّه وشرحبيل وهاشما، واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم دستا قبل أن نفترق، فاقتتلوا ببابل، فهزموهم في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم، ولم يكن لهم همة إلا الافتراق، فخرج الهرمزان متوجها نحو الاهواز، فأخذها فأكلها ومهرجانقذق، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى، فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر، وأقام سعد ببابل أياما، وبلغه أن النخيرجان قد خلف شهريار، دهقانا من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة ثم أتبعه الجنود، فخرج زهرة حتى ينزل على شهريار بكوثى بعد قتل فيومان والفرخان فيما بين سورا والدير.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ قَدِمَ زَهْرَةَ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَمَضَى مُتَشَعِّبًا فِي حَرْبِهِ وجنده، ثم لم يلق جمعا فهزمهم الا قدم، فَأَتْبَعَهُمْ لا يَمُرُّونَ بِأَحَدٍ إِلا قَتَلُوهُ مِمَّنْ لَحِقُوا بِهِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَامَ لَهُمْ، حَتَّى إِذَا قَدِمَهُ مِنْ بَابِلَ قَدِمَ زَهْرَةَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ السَّعْدِيُّ أَخَا الْغَلاقِ حِينَ عَبَرَ الصَّرَاةَ، فَيَلْحَقُونَ بِأُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَفِيهِمْ فيومَانُ وَالْفرخَانُ، هَذَا مِيسَانِيٌّ وَهَذَا أَهْوَازِيٌّ، فَقَتَلَ بُكَيْرٌ الْفرخَانَ، وَقَتَلَ كَثِيرٌ فيومَانَ بِسُورَا ثُمَّ مَضَى زَهْرَةُ حَتَّى جَاوَزَ سُورَا، ثُمَّ نَزَلَ، وَأَقْبَلَ هَاشِمٌ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ سَعْدٌ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ زَهْرَةُ، فَسَارَ تِلْقَاءَ الْقَوْمِ، وَقَدْ أَقَامُوا لَهُ فِيمَا بَيْنَ الدَّيْرِ وَكُوثَى، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النخيرجَانُ وَمِهْرَانُ عَلَى جُنُودِهِمَا شَهْرَيَارَ، دِهْقَانَ الْبَابِ ومضيا الى المدائن، واقام شهريار هُنَالِكَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا بِأَكْنَافِ كُوثَى، جَيْشُ شَهْرَيَارِ وَأَوَائِلُ الْخَيْلِ، خَرَجَ فَنَادَى: أَلا رَجُلٌ، أَلا فَارِسٌ مِنْكُمْ شَدِيدٌ عَظِيمٌ يَخْرُجُ إِلَيَّ حَتَّى أَنْكُلَ بِهِ! فَقَالَ زَهْرَةُ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ أُبَارِزَكَ، فَأَمَّا إِذْ سَمِعْتُ قَوْلَكَ، فَإِنِّي لا أُخْرِجُ إِلَيْكَ إِلا عَبْدًا، فَإِنْ أَقَمْتَ لَهُ قَتَلَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَغْيِكَ، وَإِنْ فَرَرْتَ مِنْهُ فَإِنَّمَا فَرَرْتَ مِنْ عَبْدٍ، وَكَايَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا نُبَاتَةَ نَائِلَ بْنَ جُعْشُمٍ الأَعْرَجِيَّ -وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَمِيمٍ- فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّمْحُ، وَكِلاهُمَا وَثِيقُ الْخلقِ، إِلا أَنَّ الشَّهْرَيَارَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَلَمَّا رَأَى نَائِلا أَلْقَى الرُّمْحَ لِيَعْتَنِقَهُ، وَأَلْقَى نَائِلٌ رُمْحَهُ لِيَعْتَنِقَهُ، وَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا فَاجْتَلَدَا، ثُمَّ اعْتَنَقَا فَخَرَّا عَنْ دَابَّتَيْهِمَا، فَوَقَعَ عَلَى نَائِلٍ كَأَنَّهُ بَيْتٌ، فَضَغَطَهُ بِفَخْذِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ وَأَرَاغَ حَلَّ ازرار درعه، فوقعت ابهامه في فم نائل، فحطم عظمهما، وَرَأَى مِنْهُ فُتُورًا، فَثَاوَرَهُ فَجَلَدَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَ خِنْجَرَهُ، فَكَشَفَ درعه عن بطنه، فطعنه فِي بَطْنِهِ وَجَنْبِهِ حَتَّى مَاتَ، فَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ، فَذَهَبُوا فِي الْبِلادِ، وَأَقَامَ زَهْرَةُ بِكُوثَى حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، فَقَالَ سَعْدٌ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ يَا نَائِلُ بْنَ جُعْشُمٍ لَمَا لَبِسْتَ سِوَارَيْهِ وَقِبَاءَهُ وَدِرْعَهُ، وَلَتَرْكَبَنَّ بِرْذَوْنَهُ! وَغَنَّمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَانْطَلَقَ، فَتَدَرَّعَ سَلْبَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي سِلاحِهِ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَالَ: اخْلَعْ سِوَارَيْكَ إِلا أَنْ تَرَى حَرْبًا فَتَلْبَسْهُمَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُوِّرَ بِالْعِرَاقِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: فَأَقَامَ سَعْدٌ بِكُوثَى أَيَّامًا، وَأَتَى الْمَكَانَ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ ابراهيم عليه السلام بِكُوثَى، فَنَزَلَ جَانِبَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَتَى الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام مَحْبُوسًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَرَأَ: {وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} [آل عمران: 140].

حديث بهرسير في ذي الحجة سنة خمس عشره في قول سيف
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ وَالنَّضْرِ، عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ، قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدِمَ زَهْرَةَ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَمَضَى زَهْرَةُ مِنْ كُوثَى فِي الْمُقَدِّمَاتِ حَتَّى ينزل بهرسير، وقد تلقاه شيرزاد بِسَابَاطَ بِالصُّلْحِ وَتَأْدِيَةِ الْجَزَاءِ، فَأَمْضَاهُ إِلَى سَعْدٍ، فَأَقْبَلَ مَعَهُ وَتَبِعَتْهِ الْمُجَنِّبَاتُ، وَخَرَجَ هَاشِمٌ، وَخَرَجَ سَعْدٌ فِي أَثَرِهِ، وَقَدْ فَلَّ زَهْرَةُ كَتِيبَةَ كِسْرَى بُورَانَ حَوْلَ الْمُظْلِمِ، وَانْتَهَى هَاشِمٌ إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، وَوَقَفَ لِسَعْدٍ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رُجُوعَ الْمُقَرَّطِ أَسَدٍ كَانَ لِكِسْرَى قَدْ أَلِفَهُ وَتَخَيَّرَهُ مِنْ أُسُودِ الْمُظْلِمِ، وَكَانَتْ بِهِ كَتَائِبُ كِسْرَى الَّتِي تُدْعَى بُورَانَ، وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ: لا يَزُولُ مُلْكُ فَارِسَ مَا عِشْنَا، فَبَادَرَ الْمُقَرَّطُ النَّاسَ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ سَعْدٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ هَاشِمٌ فَقَتَلَهُ، وَسَمَّيَ سَيْفَهُ الْمَتْنَ، فَقَبَّلَ سَعْدٌ  رَأْسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، فَقَدَّمَهُ سَعْدٌ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَنَزَلَ إِلَى الْمُظْلِمِ وَقَرَأَ: {أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ هَدْأَةٌ ارْتَحَلَ، فَنَزَلَ عَلَى النَّاسِ بِبَهُرَسِيرَ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا قَدِمَتْ خَيْلٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ وَقَفُوا ثُمَّ كَبَّرُوا، فَكَذَلِكَ حَتَّى نَجَزَ آخِرُ مَنْ مَعَ سَعْدٍ، فَكَانَ مَقَامُهُ بِالنَّاسِ عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ، وَعَبَرُوا فِي الثَّالِثِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
وَكَانَ عَامِلَهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عتاب بن اسيد، وعلى الطائف يعلى بن منيه، وعلى اليمامه والبحرين عثمان ابن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى كور الشام ابو عبيده ابن الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها المغيره بن شعبه.