68 هـ
688 م
سنة ثمان وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأمور الجليلة)

فمن ذلك ما كان من رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا، وقد ذكرنا السبب في رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا بعد عزله إياه، …

ولما رده عليها أميرا بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وذلك أنه بدأ بالبصرة مرجعه إلى العراق أميرا بعد العزل، فصار إليها.

ذكر الخبر عن رجوع الازارقه من فارس الى العراق
وفي هذه السنة كان مرجع الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن.
ذكر الخبر عن أمرهم ومسيرهم ومرجعهم إلى العراق:
ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، أن مصعبا وجه عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس أميرا، وكانت الأزارقة لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما شخص المهلب عن ذلك الوجه ووجه إلى الموصل ونواحيها عاملا عليها، وعمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، انحطت الأزارقة مع الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله بفارس، فلقيهم بسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم إنه ظفر بهم ظفرا بينا، غير أنه لم يكن بينهم كثير قتلى، وذهبوا كأنهم على حامية، وقد تركوا على ذلك المعركة.
قال أبو مخنف: فحدثني شيخ للحي بالبصرة، قال: إني لأسمع قراءة كتاب عمر بن عبيد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني اخبر الأمير اصلحه الله ابى لقيت الأزارقة التي مرقت من الدين واتبعت أهواءها بغير هدى من الله، فقاتلتهم بالمسلمين ساعة من النهار أشد القتال ثم إن الله ضرب وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم، فقتل الله منهم من خاب وخسر، وكل إلى خسران فكتبت إلى الأمير كتابي هذا وأنا على ظهر فرسي في طلب القوم، أرجو أن يجذهم الله إن شاء الله، والسلام.
ثم إنه تبعهم ومضوا من فورهم ذلك حتى نزلوا إصطخر، فسار إليهم حتى لقيهم على قنطرة طمستان، فقاتلهم قتالا شديدا، وقتل ابنه.
ثم إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا وقووا، واستعدوا وكثروا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أن قد قطعت الخوارج ارضه متوجهه الى البصره خشي الا يحتملها له مصعب بن الزبير، فشمر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا منها متوجهين قبل الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بفارس، وجعلت معه جندا أجري عليهم أرزاقهم في كل شهر، وأوفيهم أعطياتهم في كل سنة، وآمر لهم من المعاون في كل سنة بمثل الأعطيات، تقطع أرضه الخوارج إلي! وقد قطعت علته فأمددته بالرجال وقويتهم، والله لو قاتلهم ثم فر كان أعذر له عندي، وإن كان الفار غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل.
وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز، فأتتهم عيونهم أن عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأن مصعب بن الزبير قد خرج من البصرة إليهم، فقام فيهم الزبير فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن من سوء الرأي والحيرة وقوعكم فيما بين هاتين الشوكتين، وانهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد فسار بهم حتى قطع بهم أرض جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن وبها كردم بن مرثد بن نجبة الفزاري، فشنوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الولدان والنساء والرجال، ويبقرون الحبالى، وهرب كردم، فأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس، فقتلوا أم ولد لربيعه ابن ماجد، وقتلوا بنانة ابنة أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل الناس، فلما غشوها بالسيوف قالت: ويحكم! هل سمعتم بأن الرجال كانوا يقتلون النساء! ويحكم! تقتلون من لا يبسط إليكم يدا، ولا يريد بكم ضرا، ولا يملك لنفسه نفعا! أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال بعضهم: اقتلوها، وقال رجل منهم: لو أنكم تركتموها! فقال بعضهم: أعجبك جمالها يا عدو الله! قد كفرت وافتتنت، فانصرف الآخر عنهم وتركهم، فظننا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها، فقالت ريطة بنت يزيد: سبحان الله! أترون الله يرضى بما تصنعون! تقتلون النساء والصبيان ومن لم يذنب إليكم ذنبا! ثم انصرفت وحملوا عليها وبين يديها الرواع بنت إياس بن شريح الهمداني، وهي ابنة أخيها لأمها، فحملوا عليها فضربوها على رأسها، بالسيف، ويصيب ذباب السيف رأس الرواع فسقطتا جميعا إلى الأرض، وقاتلهم إياس بن شريح ساعة، ثم صرع فوقع بين القتلى، فنزعوا عنه وهم يرون أنهم قد قتلوه، وصرع منهم رجل من بكر ابن وائل يقال له رزين بن المتوكل.
فلما انصرفوا عنهم لم يمت غير بنانة بنت ابى يزيد، وأم ولد ربيعه ابن ناجد، وأفاق سائرهم، فسقى بعضهم بعضا من الماء، وعصبوا جراحاتهم ثم استأجروا دواب، ثم أقبلوا نحو الكوفة.
قال أبو مخنف: فحدثتني الرواع ابنة إياس، قالت: ما رأيت رجلا قط كان أجبن من رجل كان معنا وكانت معه ابنته، فلما غشينا ألقاها إلينا وهرب عنها وعنا ولا رأينا رجلا قط كان أكرم من رجل كان معنا، ما نعرفه ولا يعرفنا، لما غشينا قاتل دوننا حتى صرع بيننا، وهو رزين بن المتوكل البكري وكان بعد ذلك يزورنا ويواصلنا ثم إنه هلك في إمارة الحجاج، فكانت ورثته الأعراب، وكان من العباد الصالحين.
قال هشام بن مُحَمَّد- وذكره عن أبي مخنف- قال: حدثني أبي، عن عمه أن مصعب بن الزبير كان بعث أبا بكر بن مخنف على إستان العال، فلما قدم الحارث بن أبي ربيعة أقصاه، ثم أقره بعد ذلك على عمله السنة الثانية، فلما قدمت الخوارج المدائن سرحوا إليه عصابة منهم، عليها صالح بن مخراق، فلقيه بالكرخ فقاتله ساعة، ثم تنازلوا فنزل أبو بكر ونزلت الخوارج، فقتل أبو بكر ويسار مولاه وعبد الرحمن بن أبي جعال، ورجل من قومه، وانهزم سائر أصحابه، فقال سراقة بن مرداس البارقي في بطن من الأزد:

ألا يا لقومي للهموم الطوارق *** وللحدث الجائي بإحدى الصفائق
ومقتل غطريف كريم نجاره *** من المقدمين الذائدين الأصادق
أتاني دوين الخيف قتل ابن مخنف *** وقد غورت أولى النجوم الخوافق
فقلت: تلقاك الإله برحمة *** وصلى عليك الله رب المشارق
لحا الله قوما عردوا عنك بكرة *** ولم يصبروا للامعات البوارق
تولوا فأجلوا بالضحى عن زعيمنا *** وسيدنا في المأزق المتضايق
فأنت متى ما جئتنا في بيوتنا *** سمعت عويلا من عوان وعاتق
يبكين محمود الضريبة ماجدا *** صبورا لدى الهيجاء عند الحقائق
لقد أصبحت نفسي لذاك حزينة *** وشابت لما حملت منه مفارقي

قال أبو مخنف: فحدثني حدرة بن عبد الله الأزدي، والنضر ابن صالح العبسي، وفضيل بن خديج، كلهم أخبرنيه ان الحارث بن ابى ربيعه الملقب بالقباع أتاه أهل الكوفة، فصاحوا إليه وقالوا له:
اخرج فإن هذا عدو لنا قد أظل علينا ليست له بقية، فخرج وهو يكد كدا حتى نزل النخيلة فأقام بها أياما، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه سار إلينا عدو ليست له تقيه، يقتل الرجل والمرأة والمولود، ويخيف السبيل، ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه، فأمر بالرحيل فخرج فنزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل إليه شبث بن ربعي، فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل ولم يكد، فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به فقالوا:

سار بنا القباع سيرا نكرا *** يسير يوما ويقيم شهرا

فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراة إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون:
إن القباع سار سيرا ملسا بين دبيرى ودباها خمسا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن رجلا من السبيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة، وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط فقدموها ليقتلوها، فأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها، بأسيافهم قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت بسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة قال:
فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا اليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه قال: فلما كان الليل عبرت إليه وأنا رجل من الحي.
فأنزلناه فدفناه قال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برءوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجه ويزيد ابن الحارث ومُحَمَّد بن الحارث ومُحَمَّد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا ابراهيم ابن الأشتر.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله وأبو زهير العبسي أن الأزارقة لما انتهوا إلى جسر الصراة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس ثم إنه جلس للناس فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فان أول القتال الرميه بالنبل، ثم أشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله قال: فقام إليه رجل فقال، قد أحسن الأمير اصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر ثم إنهم خرجوا منها فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلاهم فأتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم، ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحى، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة من مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إليهم في كل أيام فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هُرَيْرَةَ بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول: كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هُرَيْرَةَ الهرار يهركم بالليل والنهار يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترى جي على المضمار.
فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يوم فصنع كما كان يصنع، ويقول كما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هُرَيْرَةَ الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هُرَيْرَةَ أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون:
يا عدو الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا فقال له أصحابه: ويحك! إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم.
ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كراعهم، ونفذت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فو الله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياه وقوه قبل الا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل الا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله انى لأرجو ان صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم فناداه الناس من كل جانب: وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه، وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز، فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول: إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم.
قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى إيذج، فأقام بأرض الأهواز والحارث بن ابى ربيعه عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة.
فأمره بقتال الخوارج والمسير اليهم، وبعث الى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثانيه أشهر أشد قتال رآه الناس، لا ينقع بعضهم لبعض.
من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو.
وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق.
وفيها قتل عبيد الله بن الحر

ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر
ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه:
روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا، وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا فخرج إلى الشام، فكان مع معاوية، وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قتل على ع، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة، فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الأشرس، والله ما كان في الأرض عربي اغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فحبست، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصرم، فقال حين أخرج امرأته من السجن:

ألم تعلمي يا أم توبة أنني *** أنا الفارس الحامي حقائق مذحج
وأني صبحت السجن في سوره الضحى *** بكل فتى حامي الذمار مدجج
فما إن برحن السجن حتى بدا لنا *** جبين كقرن الشمس غير مشنج
وخد أسيل عن فتاه حييه *** إلينا سقاها كل دان مثجج
فما العيش إلا أن أزورك آمنا *** كعادتنا من قبل حربي ومخرجي
وما أنت إلا همة النفس والهوى *** عليك السلام من خليط مسحج
وما زلت محبوسا لحبسك واجما *** وإني بما تلقين من بعده شج
فبالله هل أبصرت مثليَ فارسا *** وقد ولجوا في السجن من كل مولج!
ومثلي يحامي دون مثلك إنني *** أشد إذا ما غمرة لم تفرج
أضاربهم بالسيف عنك لترجعي *** إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج
إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم *** ككر أبي شبلين في الخيس محرج
دعوت إلي الشاكري ابن كامل *** فولى حثيثا ركضه لم يعرج
وإن هتفوا باسمي عطفت عليهمُ *** خيول كرام الضرب أكثرها الوجي
فلا غرو إلا قول سلمى ظعينى: *** اما أنت يا بن الحر بالمتحرج!
دع القوم لا تقتلهمُ وانج سالما *** وشمر هداك الله بالخيل فاخرج
وإني لأرجو يا ابنة الخير أن أرى *** على خير أحوال المؤمل فارتجي
ألا حبذا قولي لأحمر طيئ *** ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج
وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل *** وقولي لذا من بعد ذلك اسرج

وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، ووثبت همدان مع المختار فأحرقوا داره، وانتهبوا ضيعته بالجبة والبداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه، ففي ذلك يقول:

وما ترك الكذاب من جل مالنا *** ولا الزرق من همدان غير شريد
أفي الحق أن ينهب ضياعي شاكر *** وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد!
ألم تعلمي يا أم توبة أنني *** على حدثان الدهر غير بليد
أشد حيازيمي لكل كريهة *** وإني على ما ناب جد جليد
فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة *** فعالجت بالكفين غل حديد
همُ هدموا داري وقادوا حليلتي *** إلى سجنهم والمسلمون شهودي
وهم أعجلوها أن تشد خمارها *** فيا عجبا هل الزمان مقيدي!
فما أنا بابن الحر إن لم أرعهمُ *** بخيل تعادى بالكماة أسود
وما جبنت خيلي ولكن حملتها *** على جحفل ذي عدة وعديد

وهي طويلة قال: وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب بالسواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر:

من مبلغ الفتيان أن أخاهمُ *** أتى دونه باب شديد وحاجبه
بمنزلة ما كان يرضى بمثلها *** إذا قام عنته كبول تجاوبه
على الساق فوق الكعب أسود صامت *** شديد يداني خطوه ويقاربه
وما كان ذا من عظم جرم جنيته *** ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه
وقد كان في الأرض العريضة مسلك *** وأي امرئ ضاقت عليه مذاهبه!
وفي الدهر والأيام للمرء عبرة *** وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه

فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن يأتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسلت قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب، فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه، فشفعهم، فأطلقه وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فأظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنئونه، فقال:
هذا الأمر لا يصلح إلا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا، ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو من عز بز، فعلام: نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاء، ولا اعظم منا غناء! وقد عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،» وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا، ولا وزيرا تقيا، كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف الآخرة، فعلا م تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فأي الأمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها! لست قابلا شيئا، ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأمولك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس:

لا كوفة أمي ولا بصرة أبي *** ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل

قال أبو الحسن: يروي هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي

فلا تحسبني ابن الزبير كناعس *** إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل
فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا *** بفرسانها لا أدع بالحازم البطل
وإن لم تر الغارات من كل جانب *** عليك فتندم عاجلا أيها الرجل
فلا وضعت عندي حصان قناعها *** ولا عشت إلا بالأماني والعلل

وهي طويلة.
فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث اليه مصعب حريث ابن زيد- أو يزيد- فبارزه، فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جاريه الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسى ففر دهقانها ظيز جشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه- وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه، وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئذ ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى إنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر:

لو أن لي مثل جرير أربعه *** صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن معه *** نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه

ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفي لعبيد الله: قد أتاك عدد كثير، فلا تقاتلهم، فقال:

يخوفني بالقتل قومي وإنما *** أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى *** فنحيا كراما أو نكر فنقتل

فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلاثمائه، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء، وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: انى سائر بكم الى عبد الملك ابن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت ما لها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواء ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيئ، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر:

لو أن لي مثل الفتى المجشر *** ثلاثة بيتهم لا أمتري
ساعدني ليلة دير الأعور *** بالطعن والضرب وعند المعبر
لطاح فيها عمر بن معمر.

وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني- وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون حولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر، وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر، فبلغ قوله مصعبا، فقال: هذا من الذين يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك:.

سلوا ابن رؤيم عن جلادي وموقفي *** بإيوان كسرى لا أوليهمُ ظهري
أكر عليهم معلما وتراهمُ *** كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخر
وبيتهم في حصن كسرى بن هرمز *** بمشحوذة بيض وخطية سمر
فاجزيتهم طعنا وضربا تراهمُ *** يلوذون منا موهنا بذرا القصر
يلوذون متى رهبة ومخافة *** لواذا كما لاذ الحمائم من صقر

ثم إن عبيد الله بن الحر- فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالمسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عامل ابن الزبير على الكوفة، فسألوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم ساعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا: إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة.
قال أبو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قيل: كان سبب مقتل عبيد الله ابن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير- فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها:

ابلغ أمير المؤمنين رسالة *** فلست على رأي قبيح أواربه
أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب *** وزيريه من قد كنت فيه أحاربه!
فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي *** وحقي يلوى عندكم واطالبه
وابليتكم مالا يضيّع مثله *** وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدا *** وأدرك من مال العراق رغائبه
جفا مصعب عني ولو كان غيره *** لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابني من مصعب أن مصعبا *** أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه
وما أنا إن حلأتموني بوارد *** على كدر قد غص بالصفو شاربه
وما لا مرى إلا الذي الله سائق *** إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا قمت عند الباب أدخل مسلم *** ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه

وهي طويلة.
وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله:

أقول له صبرا عطي فإنما *** هو السجن حتى يجعل الله مخرجا
أرى الدهر لي يومين يوما مطردا *** شريدا ويوما في الملوك متوجا
أتطعن في ديني غداة أتيتكم *** وللدين تدنى الباهلي وحشرجا!
ألم تر أن الملك قد شين وجهه *** ونبع بلاد الله قد صار عوسجا!

وهي طويلة.
وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد ابن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية:

بأي بلاء أم بأية نعمة *** تقدم قبلي مسلم والمهلب
ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه *** خصي أتى للماء والعير يسرب
وشيخ تميم كالثغامة رأسه *** وعيلان عنا خائف مترقب
جعلت قصور الأزد ما بين منبج *** إلى الغاف من وادي عمان تصوب
بلاد نفى عنها العدو سيوفنا *** وصفره عنها نازح الدار أجنب

وقال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان، يقول فيها:

أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا *** بقيس تجدهم ذروة في القبائل
ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت *** لحاها وباعت نبلها بالمغازل!
وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها *** تقصر عن بنيانها المتطاول

فكتب زفر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحر فأسروه، فقال: إني إنما قلت:

ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت *** إلينا وسارت بالقنا والقنابل

فقتله رجل منهم يقال له عياش فقال زفر بن الحارث:

لما رأيت الناس أولاد علة *** وأغرق فينا نزغة كل قائل
تكلم عنا مشينا بسيوفنا *** إلى الموت واستنشاط حبل المراكل
فلو يسأل ابن الحر أخبر أنها *** يمانية لا تشترى بالمغازل
وأخبر أنا ذات علم سيوفنا *** بأعناق ما بين الطلى والكواهل

وقال عبد الله بن همام:

ترنمت يا بن الحر وحدك خاليا *** بقول امرئ نشوان أو قول ساقط
أتذكر قوما أوجعتك رماحهم *** وذبوا عن الأحساب عند المآقط
وتبكي لما لاقت ربيعة منهم *** وما أنت في أحساب بكر بواسط!
فهلا بجعفي طلبت ذحولها *** ورهطك دنيا في السنين الفوارط!
تركناهمُ يوم الثري أذلة يلوذون *** من أسيافنا بالعرافط
وخالطكم يوم النخيل بجمعه *** عمير فما استبشرتمُ بالمخالط
ويوم شراحيل جدعنا أنوفكم *** وليس علينا يوم ذاك بقاسط
ضربنا بحد السيف مفرق رأسه *** وكان حديثا عهده بالمواشط
فإن رغمت من ذاك آنف مذحج *** فرغما وسخطا للأنوف السواخط

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية، قال مُحَمَّد بن عمر: حدثنى شر حبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: وقفت في سنة ثمان وستين بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل المشاة، وابن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أمية عن يسارهما، فكان أول لواء انفض لواء مُحَمَّد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة، ثم لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، واتبعه الناس.
قال مُحَمَّد: حدثني ابن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر لم يدفع تلك العشية إلا بدفعه ابن الزبير، فلما أبطأ ابن الزبير وقد مضى ابن الحنفية ونجدة وبنو أمية- قال ابن عمر: ينتظر ابن الزبير أمر الجاهلية- ثم دفع، فدفع ابن الزبير على أثره.
قال مُحَمَّد: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن مُحَمَّد بن جبير، عن أبيه، قال: خفت الفتنة، فمشيت إليهم جميعا، فجئت مُحَمَّد بن علي في الشعب، فقلت: يا أبا القاسم، اتق الله فإنا في مشعر حرام، وبلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم، فقال: والله ما أريد ذلك، وما أحول بين أحد وبين هذا البيت، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي من ابن الزبير، وما يروم مني، وما أطلب هذا الأمر الا الا يختلف علي فيه اثنان! ولكن ائت ابن الزبير فكلمه، وعليك بنجدة، قال مُحَمَّد: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية، فقال:
أنا رجل قد اجتمع علي الناس وبايعوني، وهؤلاء أهل خلاف، فقلت:
أرى خيرا لك الكف، قال: أفعل، ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه، وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده، فقلت له:
استأذن لي على صاحبك، قال: فدخل، فلم ينشب أن أذن لي، فدخلت فعظمت عليه، وكلمته كما كلمت الرجلين، فقال: اما ان ابتدى أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتال قاتلته، قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك، ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ما كلمت به القوم، فقالوا: نحن على الا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا، فلم أر في تلك الألوية قوما أسكن ولا أسلم دفعة من ابن الحنفية.
قال أبو جعفر: وكان العامل لابن الزبير في هذه السنة على المدينة جابر ابن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة أخوه مصعب، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عقبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خازم السلمى، وبالشام عبد الملك ابن مروان.