ربيع الأول 83 هـ
نيسان 702 م
سنة ثلاث وثمانين (ذكر الأحداث التي كانت فيها)

خبر هزيمه ابن الاشعث بدير الجماجم ، فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم. …


ذكر الخبر عن سبب انهزامه:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبله بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا- رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم.
فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار.
وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشتفرت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل.
قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقدا فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زحر، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حمل علينا بالسيف فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلا، ورجع أصحابه، فلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلا رأينا من استرجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا، قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخروجهم إلينا.
قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحب إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان، فلما قدم قال لابن مُحَمَّد: أمرني على خيل ربيعة، ففعل، فقال لهم:
يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي- وكان شجاعا- فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحوا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غدا إذا ظهرت ثم اقتتلوا يوما آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل عسكرهم فسبا ثماني عشرة امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي- وكان راميا- فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطه، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعا صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية، فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد، ثم خلى سبيلهن أيضا، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى.
قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد من رابية- وكان جسيما، وكان جبلة رجلا ربعة- فالتقيا- فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي، قال:
لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا، هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعو إِلَى المبارزة، فخرج اليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذراه، وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعم يقال له أبو الدرداء، فقال الحجاج بن جارية:
أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته، ما أحب أن يصاب من قومي مثله وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه:
من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، فقال: أخرجوا إلي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلا، حتى إذا كان اليوم الرابع أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام- وكان له صديقا: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في انهزامي عنك حبا لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك، قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له- وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيرا، وكان معه غلام له معه إداوة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام- فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: انضح على وجهه من ماء الإداوة، واسقه، ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزيرني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة.
قال مُحَمَّد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمي، فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر مناديا فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس قال سعيد الحرشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت الا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل أجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم.
فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! ائذن لي في الخروج إلى هذا الكلب، فقال: وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب، فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج- ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد:
أرجو أن يظفرني الله به، قال الحجاج: اخرج على بركة الله قال سعيد:
فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: اختر إما أن تمكنني فأضربك ثلاثا، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثا، ثم تمكنني قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: اضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكنا، فلم يصنع شيئا، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئا، فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك ثم اخترط سيفا ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربة صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجرا أو سكينا فوضعها على حلقي يريد ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيبا من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت.
قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى انتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف، عَنْ أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف.
قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عدا قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن مُحَمَّد غداة الثلاثاء لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند امتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم.
قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن آمنون من الهزيمة، عالون للقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فو الله ما قاتله كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعاده، فظن الناس انه قد كان أومن، وصولح على ان ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد المنبر، فأخذ ينادي الناس: عباد الله، إلي أنا ابن مُحَمَّد، فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريبا، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا ثم جاءت خيل لهم أخرى ورجالة، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثبت لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي- وكانت مليكه ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن- فقال: انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن بن مُحَمَّد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته، حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال:

لا وألت نفس عليها تحاذر
ضرم قيس علي البلاد *** حتى إذا اضطرمت أجذما

ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح، وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي، ثم ودع أهله وخرج من الكوفة.
قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئا من سلاحي، فقال الحجاج:
اتركوهم فليتبددوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي: من رجع فهو آمن ورجع مُحَمَّد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفه، واجلس مصقله ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبا، فقال: اشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيبا فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم قد كان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس، قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال:
بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا اقتلك، قال: وان قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وانى لانتظر الموت صباح مساء قال: اضربوا عنقه فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبق حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل.
ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال: والله ما أدري على أينا أنت أشد غضبا؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم علي حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف علي أنيابك، ولا تهدم علي تهدم الكثيب، ولا تكثر كشران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب قال الحجاج: فإن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى، كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بن كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منصور بن جمهور.
وأتي بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وأقام بالكوفة شهرا، وعزل أهل الشام عن بيوت اهل الكوفه.
هزيمه ابن الاشعث واصحابه في وقعه مسكن
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم من دير الجماجم.

ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال:
خرج مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ مُحَمَّد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعا وأقبل نحوهم الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وأصحابه هدا شديدا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جهضم الأَزْدِيّ، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم حسنة، ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم لهم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم، فأصبحوا اليهم عادين جادين، فانى لست أشك في النصر إن شاء الله قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلنا هموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، وحمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل ان يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح فأصيبا قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة:
لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لا بد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرا من حياة في ذل فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا كشفوا فيه أهل الشام مرارا، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لا يقاتلهم غيرهم، فلما جاءتهم الرماة، وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلا، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيرا، فأتي به الحجاج فقتله قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله.
لكم إن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرا، اضرب عنقه، فقتله.
قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه مُحَمَّد بن الحجاج وعمارة أمير على القوم، فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد الأكراد مع من كان معه من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالا شديدا على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن حتى مر بكرمان.
قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين.
قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي- وكان عامله عليها- فهيأ له نزلا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانا، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارسا، وقاتلت راجلا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا مؤجلا ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن مُحَمَّد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرا في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جلدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة:

أيا لهفا ويا حزنا جميعا *** ويا حر الفواد لما لقينا!
تركنا الدين والدنيا جميعا *** وأسلمنا الحلائل والبنينا
فما كنا أناسا أهل دين *** فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
وما كنا أناسا أهل دنيا *** فنمنعها ولو لم نرج دينا
تركنا دورنا لطغام عك *** وأنباط القرى والأشعرينا

ثم إن ابن مُحَمَّد مضى حتى خرج على زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أياما رجاء افتتاحها ودخولها فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى إذا غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن بها عند الحجاج، ويتخذ بها عنده مكانا وقد كان رتبيل سمع بمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتبيل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذي عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلا من شعر لا أبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم فأرسل إليه البكري أن أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالما، وما كان له من مال موفرا فصالحهم على ذلك، وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقا به، مطمئنا إليه، فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال:
قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي في دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم ففعل به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، ثم مضى حتى دخل مع رتبيل بلاده، فأنزله رتبيل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير.
ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو الأمان، من الرءوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، أقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهم من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندا عظيما، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون فخرج إليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس وأقبل نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن مُحَمَّد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد:
على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعا، ولن يدع أهل الشام اتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان واهل الشام، واخاف الا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها أن يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أو نرى من رأينا فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله.
فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقا سوى طريقهم، فلما أصبح ابن مُحَمَّد قام فيهم فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم فيه أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم انكم مجتمعون على، وأنكم لن تفرقوا عني ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله.
فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقي عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه ثم مضى ابن مُحَمَّد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب.
وأما علي بن مُحَمَّد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال عشرين ألفا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدا وأهون شوكة، فارتحل الى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به، فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج، فقدم المفضل في أربعة آلاف- ويقال في ستة آلاف- ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وان اردت زياده زدناك، فاخرج فو الله ما أحب أن أقاتلك قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر بعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي، فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقي ليزيد كرسي فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي- يقال له خليد عينين من عبد القيس- على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال:

دعت يا يزيد بن المهلب دعوة *** لها جزع ثم استهلت عيونها
ولو يسمع الداعي النداء أجابها *** بِصُم القنا والبيض تلقى جفونها
وقد فر أشراف العراق وغادروا *** بها بقرا للحين جما قرونها

وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد:

لبئس المنادي والمنوه باسمه *** تناديه أبكار العراق وعونها
يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة *** ولا يمنع السوآت إلا حصونها
فإني أراه عن قليل بنفسه *** يدان كما قد كان قبل يدينها
فلا حرة تبكيه لكن نوائح *** تبكي عليه البقع منها وجونها

فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس قال:
فبلغ حليسا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسا وراجلا وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم قال: فكان في الأسرى مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زراره، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني.
ولحق الهاشمى بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد فحبسه.
وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمى، عن حفص ابن عمرو بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وأمنه، وكان الطلحي قد آلى على يمين الا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرا لما أبلاه قال: وقال مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله ولقول مُحَمَّد بن سعد ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك حديث فيه بعض الطول.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي أَبُو مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية الأسرى إلى الحجاج بن يوسف، بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال:
أنت صاحب شرطه عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنة شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وفضلك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: انها شملت البر والفاجر فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك.
فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبرني عنك، ما رجوت من اتباع عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟
أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل.
قال: ونظر الى عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وقد نحي عنه فقال: اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، والله ما بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا كرامة.
قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادى مناديه:
من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يوما فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلي بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا، والسلام عليك، فسرح إليه.
قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي مسلم صديقا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي، قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذر ما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك علي نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت:
أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، قد والله سودنا عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف.
قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي، قال:
كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال- وكان لي مكرما: فقلت:
أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.
قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي: أتي الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج وبين قيس، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك، قال: بل أنشدني هذه، فأنشده:

ابى الله الا ان يتمم نوره *** ويطفى نور الفاسقين فيخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطن *** ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلا بالعراق وأهله *** لما نقضوا العهد الوثيق المؤكد
وما أحدثوا من بدعة وعظيمة *** من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعة بعد بيعة *** إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم *** فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قول ولا صبر عندهم *** ولكن فخرا فيهمُ وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم *** ومزقهم عرض البلاد وشردا!
فقتلاهمُ قتلى ضلال وفتنة *** وحيهمُ أمسى ذليلا مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوة *** وأبرق منا العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما *** قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا *** كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا
بصف كأن البرق في حجراته *** إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوف كأنها *** جبال شرورى لو تعان فتنهدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه *** علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته *** معانا ملقى للفتوح معودا
وإن ابن عباس لفي مرجحنة *** نشبهها قطعا من الليل أسودا
فما شرعوا رمحا ولا جردوا له *** ألا ربما لاقى الجبان فجردا
وكرت علينا خيل سفيان كره *** بفرسانها والسمهري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءه *** من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله *** مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدة حملوا معا *** فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله *** وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
فيهني أمير المؤمنين ظهوره *** على أمة كانوا بغاة وحسدا
نزوا يشتكون البغي من أمرائهم *** وكانوا همُ أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمة *** وافضل هذى الناس حلما وسوددا
وخير قريش في قريش أرومة *** وأكرمهم إلا النبي مُحَمَّدا
إذا ما تدبرنا عواقب أمره *** وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوم غالبوا الله جهرة *** وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قلبه *** مريضا ومن والى النفاق وألحدا
فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم *** وبيضا عليهن الجلابيب خردا
ينادينهم مستعبرات إليهمُ *** ويذرين دمعا في الخدود وإثمدا
فإلا تناولهن منك برحمة *** يكن سبايا والبعولة أعبدا
أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة *** أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمد *** يحق وما لاقى من الطير أسعدا
كما شأم الله النجير وأهله *** بجد له قد كان أشقى وأنكدا

فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله، إنا لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف الا يكون ظهر وظفر، وتحريضا لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك:
بين الاشج وبين قيس باذخ.
فأنفذها، فلما قال:
بخ بخ لوالده وللمولود
قال الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدا، فقدمه فضرب عنقه.
وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسكن أمر غير ما ذكره أبو مخنف عن أصحابه والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليها عمر بن ابى الصلت بن كنار مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها.
فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك أمرنا وتحارب بنا قتيبة، فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه: والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد فعقد لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو عند رتبيل، ثم كان من أمرهم وأمر يزيد بن المهلب ما قد ذكرت وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت ابن طلحة! فقال يزيد:
هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن له عندنا بلاء، قال: وما بلاؤه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائتي ألف، فأداها طلحة عنه فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق:
وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه … قحطان يوم هراة خير المعشر
وقيل: إن الحجاج لما أتي بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، فأبرز سريره- وهو حينئذ بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط- ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم، فقال لفيروز: قم، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا ذمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها، قال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا؟ قال: اكتبها أول، قال: ثم أنا آمن على دمي؟ قال: اكتبها، ثم أنظر، قال: اكتب يا غلام، ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالا كثيرا، فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها، قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك، قال: والله لا تجمع مالي ودمي، فقال الحجاج للحاجب: نحه، فنحاه.
ثم قال: ائتني بمُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه فقال له الحجاج:
إيها يا ظل الشيطان أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية، وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا لابن كنارا عبد بني نصر- يعني عمر بن أبي الصلت- وجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه، فقال له مُحَمَّد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكا في ذلك محمودا، وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت فأطرق مليا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده:

وخضبت أيرك للزناء ولم تكن *** يوم الهياج لتخضب الأبطالا

فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه.
ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال:
أصلح الله الأمير! ما لي ذنب، إنما كنت غلاما صغيرا مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله.
ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: اجعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام اليه، فقال له الهلقام: يا بن لقيطة، أتنكأ القرح! فضرب عنقه.
ثم أتى بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع قال: وما صنع؟ قال:

لأنه كاس في إطلاق أسرته *** وقاد نحوك في أغلالها مضرا
وقى بقومك ورد الموت أسرته *** وكان قومك أدنى عنده خطرا

فأطرق الحجاج مليا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه فضربت عنقه ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق، ثم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى إليكم أبدا، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالا، فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين منه أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب فأمر به الحجاج فقتل وكان ذلك مما روى الوليد بن هشام بن قحذم عن أبي بكر الهذلي.
وذكر ضمره بن ربيعه، عن ابى شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه:
أن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها.
فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا مُحَمَّداه يا مُحَمَّداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون قال: فقدم ابن الأشعث على تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث.
وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، قال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استحيا منهم الا واحدا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه، وإنما خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان، فسمى رجالا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلا ليس بينكم وبينه قرابة، فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم.
وروي عن النضر بن شميل، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ ما قتل الحجاج صبرا مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين ألفا.
وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف، والذي ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداش مؤخر النهر، نهر تيرى، ونزل الحجاج على نهر أفريذ والعسكران جميعا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرا- وقيل: دون ذلك- ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقا إلا الطريق الذي يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيا يدعى زورقا، فدله على طريق من وراء الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من جلة أهل الشام، وقال لقائدهم:
ليكن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم فادفع المال إليه، وإن كان كذبا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج.
فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج حتى عبر السيب- وكان قد عقده- ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما فيه، فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر ممن قتل.
وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحاز في ثلاثمائة، فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السفن إلى البصرة، ودخل الحجاج عسكره فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل أربعة آلاف، فيقال: إن فيمن قتل عبد الله ابن شداد بن الهاد، وقتل فيهم بسطام بن مصقله بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي، فأتي الحجاج برءوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل:

إذا مررت بوادي حية ذكر *** فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي

ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء خذ بأذنه يا غلام فألقه عنهم ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع، فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنا عليهم؟ قال: بل جزعا لهم من النار

ذكر خبر بناء مدينه واسط
وفي هذه السنة: بنى الحجاج واسطا، وكان سبب بنائه ذلك- فيما ذكر- أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر وكان فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنة عم له، انصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلا، فطرق الباب طارق ودقه دقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرا، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه، وعرفوا ذلك، فقال: ائذنوا له، ففعلوا، فأغلق الباب، وقد كانت المرأة نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي:
قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي، فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل إلى العسكر وقال لامرأته: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه، ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟ فأخبرته، فقال: صدقتني.
ثم قال لولاة الشامي: ادفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا.
وبعث روادا يرتادون له منزلا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع واسط تفاجت الأتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتي به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده.
فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع.

[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عزل عبد الملك- فيما قال الواقدي- عن المدينة أبان بن عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل، وحدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين كانوا عليها في السنة التي قبلها، وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها فيها.