13 هـ
634 م
سنة ثلاث عشرة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ففيها وجه أبو بكر رحمه اللَّه الجيوش إلى الشام بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، …

قال لَمَّا قَفَلَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَجِّ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قِبَلَ فِلَسْطِينَ، فَأَخَذَ طَرِيقَ الْمُعْرِقَةَ عَلَى أَيْلَةَ، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ- وَهُوَ أَحَدُ الْغَوْثِ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْلُكُوا التبوكيةَ عَلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ عَلْيَاءِ الشَّامِ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ، عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ، قَالَ: ثُمَّ وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ أَوَّلَ سَنَة ثَلاثَ عَشْرَةَ، فَأَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِوَاءُ خالد بن سعيد بن العاصي، ثم عزله قبل ان يسير، وَوَلَّى يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَوَّلَ الأُمَرَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجُوا فِي سَبْعَةِ آلافٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِ أَبِي بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ -فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن ابى بكر، ان خالد بن سعيد لما قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَبَّصَ بِبَيْعَتِهِ شَهْرَيْنِ، يَقُولُ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَعْزِلْنِي حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَقَدْ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وعثمان ابن عَفَّانٍ، فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَقَدْ طِبْتُمْ نَفْسًا عَنْ أَمْرِكُمْ يَلِيهِ غَيْرُكُمْ! فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَحْفِلْهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا عُمَرُ فَاضْطَغَنَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ عَلَى رُبْعٍ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَخَذَ عُمَرُ يَقُولُ: أَتؤمره وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ وَقَالَ مَا قَالَ! فَلَمْ يَزَلْ بِأَبِي بَكْرٍ حَتَّى عَزَلَهُ، وَأَمَّرَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ فُضَيْلِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ صخر حارس النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بن العاصي باليمن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِهَا، وَقَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ دِيبَاجٍ فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَصَاحَ عُمَرُ بِمَنْ يَلِيهِ: مَزَّقُوا عَلَيْهِ جُبَّتَهُ! أَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَهُوَ فِي رِجَالِنَا فِي السِّلْمِ مَهْجُورٌ! فَمَزَّقُوا جُبَّتَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ مناف، اغلبتم عليها! فقال على عليه السلام: أَمُغَالَبَةً تَرَى أَمْ خِلافَةً؟ قَالَ: لا يَغَالِبُ عَلَى هَذَا الأَمْرِ أَوْلَى مِنْكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَقَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لا يَزَالُ كَاذِبٌ يَخُوضُ فِيمَا قُلْتَ ثُمَّ لا يَضُرُّ إِلا نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ مَقَالَتَهُ، فَلَمَّا عَقَدَ أَبُو بَكْرٍ الأَلْوِيَةَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَقَدَ لَهُ فِيمَنْ عَقَدَ، فَنَهَاهُ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمَخْذُولٌ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ التَّرْوِئَةَ، وَلَقَدْ كَذَبَ كَذِبَةً لا يُفَارِقُ الأَرْضَ مُدْلٍ بِهَا وَخَائِضٌ فِيهَا، فَلا تَسْتَنْصِرْ بِهِ فَلَمْ يَحْتَمِلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ رِدْءًا بِتَيْمَاءَ، أَطَاعَ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ وَعَصَاهُ فِي بَعْضٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَفِيَّةَ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ بْنِ شَيْبَانَ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِأَنْ يَنْزِلَ تَيْمَاءَ، فَفَصَلَ ردءا حَتَّى يَنْزِلَ بِتَيْمَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَلا يَبْرَحَهَا، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَوْلَهُ بِالانْضِمَامِ إِلَيْهِ، وَأَلا يَقْبَلَ إِلا مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَلا يُقَاتِلَ إِلا مَنْ قَاتَلَهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ فَأَقَامَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَبَلَغَ الرُّومَ عِظَمُ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَضَرَبُوا عَلَى الْعَرَبِ الضَّاحِيَةِ الْبعوث بالشام إليهم، فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، وَبِنُزُولِ مَنِ اسْتَنْفَرَتِ الرُّومُ، وَنَفَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَهْرَاءَ وَكَلْبٍ وَسَلِيحٍ وَتَنُوخَ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ وَغَسَّانَ مِنْ دُونِ زَيزَاءَ بِثَلاثٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَنْ أَقْدِمْ وَلا تُحْجِمْ وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا وَأَعْرَوْا مَنْزِلَهُمْ، فَنَزَلَهُ وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ لَهُ فِي الإِسْلامِ، وَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَقْدِمْ وَلا تَقْتَحِمَنَّ حَتَّى لا تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ.
فَسَارَ فِيمَنْ كَانَ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ تَيْمَاءَ وَفِيمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ طَرَفِ الرَّمْلِ، حَتَّى نَزَلُوا فِيمَا بَيْنَ آبِلَ وَزَيزَاءَ والْقَسْطَلِ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ، يُدْعَى بَاهَانَ، فَهَزَمَهُ وَقَتَلَ جُنْدَهُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَمَدَّهُ وَقَدْ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَائِلُ مُسْتَنْفِرِي الْيَمَنِ وَمَنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، وَفِيهِمْ ذو الكلاع، وقدم اليه عِكْرِمَةُ قَافِلا وَغَازِيًا فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ تِهَامَةَ وَعُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ وَالسَّرْوِ.
فَكَتَبَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أُمَرَاءِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُبَدِّلُوا مَنِ اسْتُبْدِلَ، فَكُلُّهُمُ اسْتُبْدِلَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْبِدَالِ فَقَدِمُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اهْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ لِلشَّأمِ، وَعَنَاهُ أَمْرُهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَدَّ عَمْرَو بْنَ العاص على عماله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلاهَا إِيَّاهُ مِنْ صَدَقَاتِ سَعْدِ هُذَيْمٍ، وَعُذْرَةَ وَمَنْ لَفَّهَا مِنْ جُذَامَ، وَحَدَسٍ قَبْلَ ذِهَابِهِ إِلَى عُمَانَ فَخَرَجَ إِلَى عُمَانَ وَهُوَ عَلَى عِدَةٍ مِنْ عَمَلِهِ، إِذَا هُوَ رَجَعَ فَأَنْجَزَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ.
فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ اهْتِيَاجِهِ لِلشَّأمِ إِلَى عَمْرٍو: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلاكَهُ مَرَّةً، وَسَمَّاهُ لَكَ أُخْرَى، مَبْعَثُكَ إِلَى عمان إنجازا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ وليته ثم وليته، وَقَدْ أَحْبَبْتُ -أَبَا عَبْدِ اللَّهِ- أَنْ أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ، إِلا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرٌو: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الإِسْلامِ، وَأَنْتَ بَعْدَ اللَّهِ الرَّامِي بِهَا، وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَارْمِ بِهِ شَيْئًا إِنْ جَاءَكَ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي وَكَتَبَ الى الوليد بن عقبه بنحو ذلك، فأجابه بايثار الجهاد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَمْرٍو، وَإِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ -وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ شَيَّعَهُمَا مَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَأَوْصَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ: اتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ مَا تَوَاصَى بِهِ عِبَادُ اللَّهِ، إِنَّكَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ، لا يَسَعُكَ فِيهِ الإِذْهَانُ وَالتَّفْرِيطُ وَالْغَفْلَةُ عَمَّا فِيهِ قَوَامُ دِينِكُمْ، وَعِصْمَةُ أَمْرِكُمْ، فَلا تَنِ وَلا تَفْتُرْ وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: اسْتَخْلِفَا عَلَى أَعْمَالِكُمَا، وَانْدُبَا مَنْ يَلِيكُمَا.
فَوَلَّى عَمْرٌو عَلَى عُلْيَا قُضَاعَةَ عَمْرَو بْنَ فُلانٍ الْعُذْرِيَّ، وَوَلَّى الْوَلِيدُ عَلَى ضَاحِيَةِ قُضَاعَةَ مِمَّا يَلِي دُومَةَ امْرَأَ الْقَيْسِ، وَنَدَبَا النَّاسَ، فَتَتَامَّ إِلَيْهِمَا بِشَرٍّ كَثِيرٍ، وَانْتَظَرَا أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، وَقَالَ: أَلا إِنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَامِعَ، فَمَنْ بَلَغَهَا فَهِيَ حَسْبُهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ.
عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ أَبْلَغُ، إِلا إِنَّهُ لا دِينَ لأَحَدٍ لا إِيمَانَ لَهُ، وَلا أَجْرَ لِمَنْ لا حسْبَةَ لَهُ، وَلا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ أَلا وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي دَلَّ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَنَجَّى بِهَا مِنَ الْخِزْيِ، وَأَلْحَقَ بِهَا الْكَرَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَأَمَدَّ عَمْرًا بِبَعْضِ مَنِ انْتَدَبَ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَمَّرَهُ بِطَرِيقٍ سَمَّاهَا لَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ وَأَمَّرَهُ بِالأُرْدُنِّ، وَأَمَدَّهُ بِبَعْضِهِمْ:
وَدَعَا يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى جُنْدٍ عَظِيمٍ، هُمْ جُمْهُورُ مَنِ انْتُدِبَ لَهُ، وَفِي جُنْدِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَشْبَاهُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَشَيَّعَهُ مَاشِيًا.
وَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ عَلى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى حِمْصَ وَخَرَجَ مَعَهُ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَالنَّاسُ مَعَهُمَا وَخَلْفَهُمَا، وَأَوْصَى كُلَّ واحد منهما.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَمُبَشِّرٍ عَنْ سَالِمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ عَنْ خَالِدٍ، وَعُبَادَةَ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَسَانَدَهُ، وَقَدِمَتْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمَدَّهُ بِهِمْ وَسُمُّوا جَيْشَ الْبِدَالِ، وَبَلَغَهُ عَنِ الأُمَرَاءِ وَتَوَجُّهِهِمْ اليه، اقتحم على الروم طلب الْحَظْوَةَ، وَأَعْرَى ظَهْرَهُ، وَبَادَرَ الأُمَرَاءُ بِقِتَالِ الرُّومِ، وَاسْتَطْرَدَ لَهُ بَاهَانُ فَأَرَزَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَاقْتَحَمَ خَالِدٌ فِي الْجَيْشِ وَمَعَهُ ذُو الْكَلاعِ وَعِكْرِمَةُ وَالْوَلِيدُ حَتَّى يَنْزِلَ مَرْجَ الصفرِ، مِنْ بَيْنِ الْوَاقُوصَةِ وَدِمَشْقَ، فَانْطَوَتْ مَسَالِحُ بَاهَان عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَ وَلا يَشْعُرُ، وَزَحَفَ لَهُ بَاهَانُ فَوَجَدَ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ يَسْتَمْطِرُ فِي النَّاسِ، فَقَتَلُوهُمْ.
وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جَرِيدَةٍ، فَأَفْلَتَ مَنْ أَفْلَتَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَالإِبِلِ، وَقَدْ أُجْهِضُوا عَنْ عَسْكَرِهِمْ، وَلَمْ تَنْتَهِ بِخَالِدِ بن سعيد هزيمه عَنْ ذِي الْمَرْوَةِ، وَأَقَامَ عِكْرِمَةُ فِي النَّاسِ ردءا لهم، فرد عنهم باهان جنوده أَنْ يَطْلُبُوهُ، وَأَقَامَ مِنَ الشَّامِ عَلَى قَرِيبٍ، وَقَدْ قَدِمَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَافِدًا مِنْ عِنْدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَنَدَبَ مَعَهُ النَّاسَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَمَلِ الْوَلِيدِ، وَخَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، فَأَتَى شُرَحْبِيلُ عَلَى خَالِدٍ، فَفَصَلَ بِأَصْحَابِهِ إِلا الْقَلِيلَ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أُنَاسٌ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَرَهُ بِاللِّحَاقِ بِيَزِيدَ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى لَحِقَ بِيَزِيدَ، فَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدٍ فَصَلَ بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ فِي خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد، فأبى ان يعطيه فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: لا أُشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَطَاعَهُ فِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ بَعْدَ مَا فَعَلَ فَعْلَتَهُ فَأَخَذَ عَمْرٌو طَرِيقَ الْمُعْرِقَةِ، وَسَلَكَ أَبُو عُبَيْدَةَ طَرِيقَهُ، وَأَخَذَ يَزِيدُ طَرِيقَ التَّبُوكِيَّةِ، وَسَلَكَ شُرَحْبِيلُ طَرِيقَهُ، وَسَمَّى لَهُمْ أَمْصَارَ الشَّامِ، وَعَرَفَ أَنَّ الرُّومَ سَتَشُغِلُهُمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يُصْعِدَ الْمُصَوِّبَ وَيُصَوِّبَ الْمُصْعِدَ، لِئَلا يَتَوَاكَلُوا، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ وَصَارُوا إِلَى مَا أَحَبَّ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ذَا الْمَرْوَةِ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ: أَقِمْ مَكَانَكَ، فَلَعَمْرِي إِنَّكَ مِقْدَامٌ مِحْجَامٌ، نَجَّاءُ مِنَ الْغَمَرَاتِ، لا تَخُوضُهَا إِلا إِلَى حَقٍّ، وَلا تَصْبِرُ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ خَالِدٌ: اعْذُرْنِي، قَالَ: أَخْطَلُ! أَنْتَ امْرُؤٌ جُبْنٌ لَدَى الْحَرْبِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ بِخَالِدٍ، وَلَوْ أَطَعْتُهُمَا فِيهِ اخْتَشَيْتُهُ وَاتَّقَيْتُهُ!
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُبَشِّرٍ وَسَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: وَأَوْعَبَ الْقُوَّادُ بِالنَّاسِ نَحْوَ الشَّامِ وَعِكْرِمَةُ رِدْءٌ لِلنَّاسِ، وَبَلَغَ الرُّومَ ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ، وَخَرَجَ هِرَقْلُ حَتَّى نَزَلَ بِحِمْصَ، فَأَعَدَّ لَهُمُ الْجُنُودَ، وَعَبَّى لَهُمُ الْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ اشْتِغَالَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ جُنْدِهِ، وَفُضُولِ رِجَالِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو أَخَاهُ تذارقَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَنْ يَسُوقُهُمْ، حَتَّى نَزَلَ صَاحِبُ السَّاقَةِ ثَنِيَّةَ جلق بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ، وَبَعَثَ جرجةَ بْنَ توذرَا نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَسْكَرَ بِإِزَائِهِ، وَبَعَثَ الدّرَاقصَ فَاسْتَقْبَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَبَعَثَ الْفَيْقَارَ بْنَ نسطوسَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا نَحْوَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَهَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَجَمِيعُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، سِوَى عِكْرِمَةَ فِي سِتَّةِ آلافٍ، فَفَزِعُوا جَمِيعًا بِالْكُتُبِ وَبِالرُّسُلِ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّ مَا الرَّأْيُ؟
فَكَاتَبَهُمْ وَرَاسَلَهُمْ: أَنَّ الرَّأْيَ الاجْتِمَاعُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِثْلَنَا إِذَا اجْتَمَعَ لَمْ يُغْلَبْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِذَا نَحْنُ تَفَرَّقْنَا لَمْ يَبْقَ الرَّجُلُ مِنَّا فِي عَدَدٍ يُقْرَنُ فيه لأحد ممن استقبلنا واعد لنا لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَّا فَاتَّعِدُوا الْيَرْمُوكَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ.
وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا كَاتَبُوا بِهِ عَمْرًا، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ كِتَابُهُ بِمِثْلِ رَأْيِ عَمْرٍو، بِأَنِ اجْتَمِعُوا فَتَكُونُوا عَسْكَرًا وَاحِدًا، وَالْقَوْا زُحُوفَ الْمُشْرِكِينَ بِزَحْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّكُمْ أَعْوَانُ اللَّهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَخَاذِلٌ مَنْ كَفَرَهُ، وَلَنْ يُؤْتَى مِثْلُكُمْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَشَرَةُ آلافٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ آلافِ إِذَا أَتَوْا مِنْ تِلْقَاءِ الذَّنُوبِ، فَاحْتَرِسُوا مِنَ الذَّنُوبِ، وَاجْتَمِعُوا بِالْيَرْمُوكِ مُتَسَانِدِينَ وَلْيَصِلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ هِرَقْلَ، فَكَتَبَ إِلَى بَطَارِقَتِهِ: أَنِ اجْتَمِعُوا لَهُمْ، وَانْزِلُوا بِالرُّومِ مَنْزِلا وَاسَعَ الْعَطَنِ، وَاسِعَ الْمِطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، وَعَلَى النَّاسِ التذارقُ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جرجةُ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ باهانُ وَالدراقصُ، وَعَلَى الْحَرْبِ الفَيْقَارُ، وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ بَاهَانَ فِي الأَثَرِ مَدَدٌ لَكُمْ فَفَعَلُوا فَنَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَهِيَ عَلَى ضِفَّةِ الْيَرْمُوكِ، وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا لَهُمْ، وَهُوَ لَهَبٌ لا يُدْرَكُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَاهَانُ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَسْتَفِيقَ الرُّومُ وَيَأْنَسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَفْئِدَتُهُمْ عَنْ طِيرَتِهَا.
وَانْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ عَسْكَرِهِمُ الَّذِي اجْتَمَعُوا به، فنزل عَلَيْهِمْ بِحِذَائِهِمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَلَيْسَ لِلرُّومِ طَرِيقٌ إِلا عَلَيْهِمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا النَّاسُ، أَبْشِرُوا، حُصِرَتْ وَاللَّهِ الرُّومُ، وَقَلَّمَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ! فَأَقَامُوا بِإِزَائِهِمْ وَعَلَى طَرِيقِهِمْ، وَمَخْرَجِهِمْ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَشَهْرَيِ رَبِيعٍ، لا يَقْدِرُونَ مِنَ الرُّومِ عَلَى شَيْءٍ، وَلا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمُ، اللَّهَبَ -وَهُوَ الْوَاقُوصَةُ- مِنْ وَرَائِهِمْ، وَالْخَنْدَقُ مِنْ أَمَامِهِمْ، وَلا يَخْرُجُونَ خَرْجةً إِلا أديل الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا سَلَخُوا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدِ اسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ وَأَعْلَمُوهُ الشَّأْنَ فِي صَفَرٍ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ لِيَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَ عَلَى الْعِرَاقِ الْمُثَنَّى، فَوَافَاهُمْ فِي رَبِيعٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَرْمُوكَ، وَاسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: خَالِدٌ لَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَحَثَّهُ فِي السَّيْرِ، فَنَفَذَ خَالِدٌ لِذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ، وَطَلَعَ بَاهَانُ عَلَى الرُّومِ، وَقَدْ قَدَّمَ قُدَّامَهُ الشَّمَامِسَةَ وَالرُّهْبَانَ وَالْقِسِّيسِينَ، يَغْرُونَهُمْ وَيُحَضِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَافَقَ قُدُومُ خَالِدٍ قُدُومَ بَاهَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ بَاهَانُ كَالْمُقْتَدِرِ، فَوَلِيَ خَالِدٌ قِتَالَهُ، وَقَاتَلَ الأُمَرَاءُ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، فَهُزِمَ بَاهَانُ، وَتَتَابَعَ الرُّومُ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَاقْتَحَمُوا خَنْدَقَهُمْ، وتيمنت الروم بباهان، وفرح المسلمون بخالد وحرد الْمُسْلِمُونَ وَحَرَبَ الْمُشْرِكُونَ وَهُمْ أَرْبَعُونَ وَمِائَتَا أَلْفٍ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقَيَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ مُسَلْسَلٌ لِلْمَوْتِ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مُرَبَّطُونَ بِالْعَمَائِمِ، وَثَمَانُونَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِمَّنْ كَانَ مُقِيمًا، إِلَى أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ فِي تِسْعَةِ آلافٍ، فَصَارُوا سِتَّةً وَثلاثِينَ أَلْفًا.
وَمَرِضَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جُمَادَى الأُولَى، وَتُوُفِّيَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، قَبْلَ الْفَتْحِ بِعَشْرِ لَيَالٍ.

خبر اليرموك
قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة، فسمى لأبي عبيدة بْن عبد اللَّه بْن الجراح حمص، وليزيد بْن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بْن حسنة الأردن، ولعمرو بْن العاص ولعلقمة بْن مجزز فلسطين، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر فلما شارفوا الشام، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.
ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز اللَّه به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: تَوَافَى إِلَيْهَا مَعَ الأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ الأَرْبَعَةِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَثَلاثَةُ آلافٍ مِنْ فلالِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، أَمَّرَ عليهم ابو بكر ومعاويه وَشُرَحْبِيلَ، وَعَشَرَةَ آلافٍ مِنْ أَمْدَادِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مع خالد ابن الْوَلِيدِ سِوَى سِتَّةِ آلافٍ ثَبَتُوا مَعَ عِكْرِمَةَ رِدْءًا بَعْدَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَكَانُوا سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَكُلُّ قِتَالُهُمْ كَانَ عَلَى تَسَانُدِ، كُلِّ جُنْدٍ وَأَمِيرِهِ، لا يَجْمَعُهُمْ أَحَدٌ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَكَانَ عَسْكَرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْيَرْمُوكِ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَسْكَرُ شُرَحْبِيلَ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رُبَّمَا صَلَّى مَعَ عَمْرٍو، وَشُرَحْبِيلُ مَعَ يَزِيدَ.
فَأَمَّا عَمْرٌو وَيَزِيدُ فَإِنَّهُمَا كَانَا لا يُصَلِّيَانِ مَعَ أَبِي عبيده وَشُرَحْبِيلَ، وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ تِلْكَ، فعَسَكَرَ عَلَى حدةٍ، فَصَلَّى بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَوَافَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَضَايقُونَ بِمَدَدِ الرُّومِ، عَلَيْهِمْ بَاهَانُ، وَوَافَقَ الرُّومَ وَهُمْ نشاط بِمَدَدِهِمْ، فَالْتَقَوْا، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ وَأَمَدَادَهُمْ إِلَى الْخَنَادِقِ -وَالْوَاقُوصَةُ أَحَدُ حُدُودِهِ- فَلَزِمُوا خَنْدَقَهُمْ عَامَّةَ شَهْرٍ، يُحَضِّضُهُمُ الْقِسِّيسُونَ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرُّهْبَانُ وَيَنْعَوْنَ لَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ، حَتَّى اسْتَبْصَرُوا.
فَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ مِثْلُهُ، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ.
فَلَمَّا أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ خُرُوجَهُمْ، وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مُتَسَانِدِينَ، سَارَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، لا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخْرُ وَلا الْبَغْيُ أَخْلِصُوا جِهَادَكُمْ، وَأَرِيدُوا اللَّهَ بِعَمَلِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة، عَلَى تَسَانُدٍ وَانْتِشَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُحِلُّ وَلا يَنْبَغِي وَإِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ لَوْ يَعْلَمُ عِلْمَكُمْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا، فَاعْمَلُوا فِيمَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ بِالَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّأْيُ مِنْ وَالِيكُمْ وَمَحَبَّتِهِ، قَالُوا: فَهَاتِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَبْعَثْنَا إِلا وَهُوَ يَرَى أَنَّا سَنَتَيَاسَرُ، وَلَوْ عَلِمَ بِالَّذِي كَانَ وَيَكُونُ، لَقَدْ جَمَعَكُمْ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَشَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَدْ غَشِيَهُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْدَادِهِمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَرَّقَتْ بَيْنَكُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ، فَقَدْ أُفْرِدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ لا يَنْتَقِصُهُ مِنْهُ أَنْ دَانَ لأَحَدٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْجُنُودِ، وَلا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ أَنْ دَانُوا لَهُ إِنَّ تَأْمِيرَ بَعْضَكُمْ لا يُنْقِصُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلا عِنْدَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلُمُّوا فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَهَيَّئُوا، وَهَذا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، إِنْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى خَنْدَقِهِمُ الْيَوْمَ لَمْ نَزَلْ نَرُدُّهُمْ، وَإِنْ هَزَمُونَا لَمْ نُفْلَحْ بَعْدَهَا فَهَلُمُّوا فَلْنَتَعَاوَرِ الإِمَارَةَ، فَلْيَكُنْ عَلَيْهَا بَعْضُنَا الْيَوْمَ، وَالآخَرُ غَدًا، وَالآخَرُ بَعْدَ غَدٍ، حَتَّى يَتَأَمَّرَ كُلُّكُمْ، وَدَعُونِي أَلِيكُمُ الْيَوْمَ.
فَأَمَّرُوهُ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا كَخَرَجَاتِهِمْ، وَأَنَّ الأَمْرَ أَطْوَلُ مِمَّا صاروا اليه، فخرجت الروم في تعبئة لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَخَرَجَ خَالِدٌ في تعبئة لَمْ تُعَبِّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ فِي سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ كُرْدُوسًا إِلَى الأَرْبَعِينَ، وَقَالَ: إِنَّ عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبئة تعبئة اكثر في رَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الْكَرَادِيسِ فَجَعَلَ الْقَلْبَ كَرَادِيسَ، وَأَقَامَ فِيهِ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَ الْمَيْمَنَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَفِيهَا شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ.
وَجَعَلَ الْمَيْسَرَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ مِنْ كَرَادِيسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى كُرْدُوسٍ مَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَزِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَخَالِدٌ فِي كُرْدُوسٍ، وعلى فاله خالد بن سعيد دحية بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَامْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يُحَنَّسَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِكْرِمَةُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسُهَيْلٌ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً- وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو الأَعْوَرِ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَابْنُ ذِي الْخِمَارِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْمَنَةِ عماره بن مخشى ابن خُوَيْلِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَشُرَحْبِيلُ على كردوس وَمَعَهُ خالد بن سَعِيدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالسِّمْطُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَذُو الْكلاعِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى آخَرَ، وَجُنْدُبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَلَقِيطُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ بُجْرَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي ظُفَرَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْسَرَةِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالزُّبَيْرُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَحَوْشَبُ ذُو ظُلَيْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ هَوَازِنَ -حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمَسْرُوقُ بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ بَهْزِ -حَلِيفٌ لِبَنِي عِصْمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ -حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَبَاثٌ عَلَى كُرْدُوسٍ.
وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ الْقَاصَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَكَانَ عَلَى الطَّلائِعِ قُبَاثُ بْنُ أُشَيْمٍ، وَكَانَ عَلَى الأَقْبَاضِ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود.
كتب إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ نَحْوًا مِنْ حديث ابى عثمان، وقالوا جميعا: وكان القارئ الْمِقْدَادَ وَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ بَدْرٍ أَنْ تُقْرَأَ سُورَةُ الْجِهَادِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ الأَنْفَالُ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ، قَالا: شهد اليرموك الف من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالا: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَسِيرُ فَيَقِفُ عَلَى الكراديس، فيقول: الله لله! إِنَّكُمْ ذَادَةُ الْعَرَبِ، وَأَنْصَارُ الإِسْلامِ، وَإِنَّهُمْ ذَادَةُ الرُّومِ وَأَنْصَارُ الشِّرْكِ! اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِكَ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ عَلَى عِبَادِكَ!
قَالا: وَقَالَ رَجُلٌ لِخَالِدٍ: مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ خَالِدٌ: مَا أَقَلَّ الرُّومَ وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ! إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ وَتَقِلُّ بِالْخِذْلانِ، لا بِعَدَدِ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أُضْعِفُوا فِي الْعَدَدِ -وَكَانَ فَرَسُهُ قَدْ حَفِيَ فِي مَسِيرِهِ- قَالا: فَأَمَرَ خَالِدٌ عِكْرِمَةَ والقعقاع، وكانا على مجنبى الْقَلْبِ، فَأَنْشَبَا الْقِتَالَ، وَارْتَجَزَ الْقَعْقَاعُ وَقَالَ:

يَا لَيْتَنِي أَلْقَاكَ فِي الطِّرَادِ *** قَبْلَ اعْتِرَامِ الْجَحْفَلِ الْوَرَّادِ
وَأَنْتَ فِي حَلَبَتِكَ الْوِرَادِ

وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

قَدْ عَلِمَتْ بَهْكَنَةُ الْجَوَارِي *** أَنِّي عَلَى مَكْرُمَةٍ أُحَامِي

فَنَشَبَ الْقِتَالُ، وَالْتَحَمَ النَّاسُ، وَتَطَارَدَ الْفِرْسَانُ، فَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَتْهُ الْخُيُولُ، وَسَأَلُوهُ الْخَبَرَ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ إِلا بِسَلامَةٍ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْدَادٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَأَبْلَغُوهُ خَالِدًا، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ، أَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْجُنْدَ قَالَ: أَحْسَنْتَ فَقِفْ، وَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَخَافَ إِنْ هُوَ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَنْ ينتشر لَهُ أَمْرُ الْجُنْدِ، فَوَقَفَ مَحْمِيَّةُ بْنُ زُنَيْمٍ مَعَ خَالِدٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَخَرَجَ جرجةُ، حَتَّى كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَنَادَى: لِيَخْرُجْ إِلَيَّ خَالِدٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَأَقَامَ أَبَا عُبَيْدَةَ مَكَانَهُ، فَوَافَقَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَابَّتَيْهِمَا، وَقَدْ أَمِنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ جرجةُ: يَا خَالِدُ أَصْدِقْنِي وَلا تُكْذِبْنِي فَإِنَّ الْحُرَّ لا يَكْذِبُ وَلا تُخَادِعْنِي فَإِنَّ الْكَرِيمَ لا يُخَادِعُ الْمُسْتَرْسِلَ بِاللَّهِ، هَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيُّكُمْ سَيْفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعْطَاكَهُ، فَلا تُسِلُّهُ عَلَى قَوْمٍ إِلا هَزَمْتَهُمْ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِمَ سُمِّيتَ سَيْفَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ فِينَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَانَا فَنَفَرْنَا عَنْهُ وَنَأْيَنَا عَنْهُ جَمِيعًا ثُمَّ إِنَّ بَعْضَنَا صَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَبَعْضَنَا بَاعَدَهُ وَكَذَّبَهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ وَقَاتَلَهُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ بِقُلُوبِنَا وَنَوَاصِينَا، فَهَدَانَا بِهِ، فَتَابَعْنَاهُ فَقَالَ: “أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!” وَدَعَا لِي بِالنَّصْرِ، فَسُمِّيتُ سَيْفَ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ صَدَقْتَنِي، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجه: يا خالد، أخبرني الام تَدْعُونِي؟ قَالَ: إِلَى شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجِبْكُمْ؟ قَالَ: فَالْجِزْيَةُ وَنَمْنَعُهُمْ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا، قَالَ: نُؤْذِنْهُ بِحَرْبٍ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُ. قَالَ: فَمَا مَنْزِلَةُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيكُمْ وَيُجِيبُكُمْ إِلَى هَذَا الأَمْرِ الْيَوْمَ؟
قَالَ: مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا، شَرِيفُنَا وَوَضِيعُنَا، وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجةُ: هَلْ لِمَنْ دَخَلَ فِيكُمُ الْيَوْمَ يَا خَالِدُ مِثْلُ مَا لَكُمْ مِنَ الأَجْرِ وَالذَّخْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَفْضَلُ، قَالَ: وَكَيْفَ يُسَاوِيكُمْ وَقَدْ سَبَقْتُمُوهُ؟
قَالَ: إِنَّا دَخَلْنَا فِي هَذَا الأَمْرِ، وَبَايَعْنَا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، تَأْتِيهِ أَخْبَارُ السَّمَاءِ ويخبرنا بِالْكُتُبِ، وَيُرِينَا الآيَاتِ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا، أَنْ يُسْلِمَ وَيُبَايِعَ، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا مَا رَأَيْنَا، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْحُجَجِ، فَمَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الأَمْرِ مِنْكُمْ بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا. قَالَ جرجةُ: بِاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتَنِي وَلَمْ تُخَادِعْنِي وَلَمْ تَأْلَفْنِي! قَالَ: بِاللَّهِ، لَقَدْ صَدَقْتُكَ وَمَا بِي إِلَيْكَ وَلا إِلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ وَحْشَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَوَلِيُّ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ. فَقَالَ: صَدَقْتَنِي، وَقَلَبَ التُّرْسَ وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي الإِسْلامَ، فَمَالَ بِهِ خَالِدٌ إِلَى فُسْطَاطِهِ، فَشَنَّ عَلَيْهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَحَمَلَتِ الرُّومُ مَعَ انْقِلابِهِ إِلَى خَالِدٍ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا مِنْهُ حَمْلَةٌ، فَأَزَالُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلا الْمُحَامِيَةَ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَرَكِبَ خَالِدٌ وَمَعَهُ جرجةُ وَالرُّومُ خِلالَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَنَادَى النَّاسُ، فَثَابُوا، وَتَرَاجَعَتِ الرُّومُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَزَحَفَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى تَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ، فَضَرَبَ فِيهِمْ خَالِدٌ وَجرجةُ مِنْ لَدُنِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى جُنُوحِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، ثُمَّ أُصِيبَ جرجةُ وَلَمْ يُصَلِّ صَلاةً سَجَدَ فِيهَا إِلا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، وَصَلَّى النَّاسُ الأُولَى وَالْعَصْرَ إِيمَاءً، وَتَضَعْضَعَ الرُّومُ، وَنَهَدَ خَالِدٌ بِالْقَلْبِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خَيْلِهِمْ وَرِجْلِهِمْ، وَكَانَ مُقَاتِلُهُمْ وَاسِعَ الْمَطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، فَلَمَّا وَجَدَتْ خَيْلُهُمْ مَذْهَبًا ذَهَبَتْ وَتَرَكُوا رِجْلَهُمْ فِي مَصَافِّهِمْ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ تَشْتَدُّ بِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَخَّرَ النَّاسُ الصَّلاةَ حَتَّى صَلُّوا بَعْدَ الْفَتْحِ.
وَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ خَيْلَ الرُّومِ تَوَجَّهَتْ لِلْهَرَبِ، أَفْرَجُوا لَهَا، وَلَمْ يُحَرِّجُوهَا، فَذَهَبَتْ فَتَفَرَّقَتْ فِي الْبِلادِ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الرَّجْلِ فَفَضُّوهُمْ، فَكَأَنَّمَا هُدِمَ بِهِمْ حَائِطٌ، فَاقْتَحِمُوا فِي خَنْدَقِهِمْ، فَاقْتَحَمَهُ عَلَيْهِمْ فَعَمَدُوا إِلَى الْوَاقُوصَةِ، حَتَّى هَوَى فِيهَا الْمُقْتَرِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نَفْسُهُ، فَيَهْوِي الْوَاحِدُ بِالْعَشْرَةِ لا يُطِيقُونَهُ، كُلَّمَا هَوَى اثْنَانِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ أَضْعَفَ، فَتَهَافَتَ فِي الْوَاقُوصَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفٍ، ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقْتَرِنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُطْلَقٍ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنَ الْخَيْلِ وَالرَّجْلِ، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ يومئذ ألفا وخمسمائة، وَتَجَلَّلَ الْفَيْقَارُ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ بَرَانِسَهُمْ، ثُمَّ جَلَسُوا وَقَالُوا: لا نُحِبُّ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّوءِ إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّرُورِ، وَإِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَمْنَعَ النَّصْرَانِيَّةَ، فَأُصِيبُوا فِي تَزَمُّلِهِمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعباده، قالا: اصبح خالد من تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ فِي رِوَاقِ تذارقَ، لَمَّا دَخَلَ الْخَنْدَقَ نَزَلَهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَيْلُهُ، وَقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى أَصْبَحُوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ: قَاتَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَأَفِرُّ مِنْكُمُ الْيَوْمَ! ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ في أربعمائة مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَفِرْسَانِهِمْ، فَقَاتَلُوا قُدَّامَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ حَتَّى أَثْبَتُوا جَمِيعًا جِرَاحًا، وَقُتِلُوا إِلا مَنْ بَرَأَ، وَمِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ قَالَ: واتى خالد بعد ما أَصْبَحُوا بِعِكْرِمَةَ جَرِيحًا فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَبِعَمْرِو بْنِ عِكْرِمَةَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاقِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمَا، وَيَقْطُرُ فِي حُلُوقِهِمَا الْمَاءَ، وَيَقُولُ: كَلا، زَعَمَ ابْنُ الْحَنْتَمَةِ أَنَّا لا نَسْتَشْهِدُ!
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ- وَكَانَ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ هُوَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -أَنَّ النِّسَاءَ قَاتَلْنَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي جَوْلَةٍ، فَخَرَجَتْ جُوَيْرِيَةُ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ فِي جَوْلَةٍ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَأُصِيبَتْ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْرَجَ السَّهْمَ مِنْ عينه وابو حَثْمَةَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد بْن أرطاة ابن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي، فقال: الرومي: أكثر اللَّه في قومي مثلك! اما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا اعينهم!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد: وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بْن عكرمة، وسلمة بْن هشام، وعمرو بْن سعيد، وأبان بْن سعيد -وأثبت خالد بْن سعيد فلا يدرى أين مات بعد- وجندب بن عمرو ابن حممة الدوسي، والطفيل بْن عمرو، وضرار بْن الأزور أثبت فبقي وطليب بْن عمير بْن وهب من بني عبد بْن قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ خَالِدًا مَقْدَمَهُ الشَّامِ مُغِيثًا لأَهْلِ الْيَرْمُوكِ رَجُلٌ مِنْ رُومِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، إِنَّ الرُّومَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، مِائَتَيْ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى حاميتك فافعل، فقال خالد: أبا الروم تُخَوِّفُنِي! وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أَضْعَفُوا ضَعْفَهُمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ جُهَيْشٍ، قَالَ: قَالَ خَالِدٌ يَوْمَئِذٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْمَوْتِ وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَلَّى عُمَرَ، وَكَانَ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ أَلْزَمَنِي حُبَّهُ!
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحه وعمرو ابن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بْن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي الا تقاتلوا هؤلاء القوم، وان نصالحوهم، فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام، وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم، خير لكم من أن يبلغوكم على الشام، ويشاركوكم في جبال الروم، فنخر أخوه ونخر ختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند جندا فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم، إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى.
فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك، قال: وأي شيء أطلب إلا توفير دينكم! ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو عبيدة ويزيد بْن أبي سفيان كالرسول، والحارث بْن هشام وضرار بْن الأزور وأبو جندل بْن سهيل، ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقا في عسكره وثلاثون سرادقا، كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم! هذا أول الذل، أما الشام فلا شأم، وويل للروم من المولود المشئوم! ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بْن سنان، عن رجال من أهل الشام ومن أشياخهم، قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم اللَّه الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل اللَّه صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل اللَّه أخا هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميرا وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولا يثفنونهم ولما صار إلى أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة، نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر قال أبو أمامة: فبعثت طليعة من مرج الصفر، معي فارسان، حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت: قف مكانك حتى تصبح أو آتيك فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة، وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح، فقمت فصليت الغداة، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتلته، ثم انكفأت راجعا، وخرجوا يطلبوننى، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين، وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأي عمر وأمره، فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بْن كعب بْن أبي الحميري في خيل.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سعيد، قال: قال قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيرا ونفلا كثيرا، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وأنست من نفسي لأصيب منه، كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصبت، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك من غير العجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني وكان يغير على الحي ويدعني قريبا، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك، فشل معي فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعا من مال، وأتيت به أهلي، فهو أول مال أصبته.
ثم إني رأست قومي، وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غدا، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره، فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وطال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم، ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت: أجل، فأعطيته ولم أدع أحدا من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِقُبَاثٍ: أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟
قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا أَبْعَدُ ذِكْرِكَ؟
قَالَ: خِثْيُ الْفِيلِ لِسَنَةٍ قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ، إِنِّي لَمَّا أَدْرَكْتُ وَآنَسْتُ مِنْ نَفْسِي سَأَلْتُ عَنْ رَجُلٍ أَكُونُ مَعَهُ وَأُصِيبُ مِنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ وَاقْتَصَّ هَذَا الْحَدِيثَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ سار القوم خرج مع يزيد ابن أَبِي سُفْيَانَ يُوصِيهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي وَيَزِيدُ رَاكِبٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وَصِيَّتِهِ قَالَ: أُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَمَضَى يَزِيدُ، فَأَخَذَ التبوكية ثُمَّ تَبِعَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ مَدَدًا لَهُمَا عَلَى ربع، فَسَلَكُوا ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ بِغمرِ الْعَرَبَاتِ، وَنَزَلَتِ الرُّومُ بِثَنِيَّةِ جِلَّقَ بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، عَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ وَخَرَجَ خَالِدُ بن سعيد بن العاصي، وَهُوَ بِمَرْجِ الصّفرِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ يَسْتَمْطِرُ فِيهِ، فَتَعَاوَى عَلَيْهِ أَعْلاجُ الرُّومِ، فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَّهَ بَعْدَ خُرُوجِ يَزِيدَ بن ابى سفيان موجها إِلَى الشَّامِ بِأَيَّامٍ، شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ -قَالَ: وهو شرحبيل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَاعِ بْنِ عَمْرِو، مِنْ كِنْدَةَ، وَيُقَالُ مِنَ الأَزْدِ- فَسَارَ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، ثُمَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، فَنَزَلَ يَزِيدُ الْبَلْقَاءَ، وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ الأُرْدُنَّ -وَيُقَالُ بُصْرَى- وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجَابِيَةَ، ثُمَّ أَمَدَّهُمْ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ بِغَمْرِ الْعَرَبَاتِ، ثُمَّ رَغَّبَ النَّاسَ فِي الْجِهَادِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ فَيُوَجِّهُهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الشَّامِ فَمُنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ يَزِيدَ، يَصِيرُ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ أَحَبُّوا.
قَالُوا: فَأَوَّلُ صُلْحٍ كَانَ بِالشَّامِ صُلْحُ مَآبٍ، وَهِيَ فُسْطَاطٌ لَيْسَتْ بِمَدِينَةٍ، مَرَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بِهِمْ فِي طَرِيقِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنَ الْبَلْقَاءِ، فَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ وَاجْتَمَعَ الرُّومُ جَمْعًا بِالْعَرْبَةِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَفَضَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ.
قَالُوا: فَأَوَّلُ حَرْبٍ كَانَتْ بِالشَّامِ بَعْدَ سَرِيَّةِ أُسَامَةَ بِالْعَرْبَةِ ثُمَّ أَتَوُا الدَّاثِنَةَ -وَيُقَالُ الدَّاثِنَ- فَهَزَمَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَقَتَلَ بِطْرِيقًا مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَتْ مَرْجَ الصُّفَّرِ، اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سعيد بن العاصي، أَتَاهُمْ أدرنجَارُ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ وَهُمْ غَارُونَ، فَاسْتُشْهِدَ خَالِدٌ وَعِدَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ إِنَّ الْمَقْتُولَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كان ابْنًا لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَإِنَّ خَالِدًا انْحَازَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ، فَوَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَمِيرًا عَلَى الأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِالشَّامِ، ضَمَّهُمْ إِلَيْهِ، فَشَخَصَ خَالِدٌ مِنَ الْحِيرَةِ فِي رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ فِي ثمانمائه -ويقال في خمسمائة- وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُ عَدُوٌّ بِصَنْدُودَاءَ، فَظَفَرَ بِهِمْ، وَخَلَّفَ بِهَا ابْنَ حَرَامٍ الأَنْصَارِيَّ، وَلَقِيَ جَمْعًا بِالْمُصَيَّخِ وَالْحَصِيدِ، عَلَيْهِمْ رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيُّ، فَهَزَمَهُمْ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَسَارَ فَفَوز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ سَوَى، وَاكْتَسَحَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلَ حُرْقُوصَ ابن النُّعْمَانِ الْبَهْرَانِيَّ، ثُمَّ أَتَى أَرْكَ فَصَالَحُوهُ، وَأَتَى تَدْمُرَ فَتَحَصَّنُوا، ثُمَّ صَالَحُوهُ، ثُمَّ أَتَى الْقَرْيَتَيْنِ، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفَرَ بِهِمْ وَغَنِمَ، وَأَتَى حُوَارِينَ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ وَسَبَى، وَأَتَى قَصَمَ فَصَالَحَهُ بَنُو مَشْجَعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَأَتَى مَرْجَ رَاهِطٍ، فَأَغَارَ عَلَى غَسَّانَ فِي يَوْمِ فِصْحِهِمْ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَوَجَّهَ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى الْغَوْطَةِ، فَأَتَوْا كَنِيسَةً فَسَبَوُا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَسَاقُوا الْعِيَالَ إِلَى خَالِدٍ.
قَالَ: فَوَافَى خالدا كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفه من حجه: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أَنْ تَدُلَّ بِعَمَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بْن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينها وبين الفراض، ما يذكرون ما كان بعد، احتقارا لما كان بعد فيما كان قبل.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهي، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بن العاصي إِلَى الشَّامِ حَيْثُ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَوْصَاهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَوْصَى بِهِ خالدا وان خالد ابن سَعِيدٍ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الشَّامِ وَلَمْ يَقْتَحِمْ، وَاسْتَجْلَبَ النَّاسَ فَعَزَّ، فَهَابَتْهُ الرُّومُ، فَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنْ تَوَرَّدَهَا فَاسْتَطْرَدَتْ لَهُ الرُّومُ، حَتَّى أَوْرَدُوهُ الصُّفَّرَ، ثُمَّ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمِنَ، فَوَافَقُوا ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ مُسْتَمْطِرًا، فَقَتَلُوهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا، حَتَّى يَأْتِيَ الْبَرَّ، فَيَنْزِلَ مَنْزِلا، وَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَنَزَلُوا بِهِ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنُشْغِلَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ عَنْ تَوَرُّدِ بِلادَنَا بِخُيُولِهِ.
وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالَّذِي كَانَ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الى عمرو ابن الْعَاصِ -وَكَانَ فِي بِلادِ قُضَاعَةَ- بِالسَّيْرِ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَفَعَلَ وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَيَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْغَارَةِ، وَأَلا تُوغِلُوا حَتَّى لا يَكُونُ وَرَاءَكُمْ أَحَدٌ مِنْ عَدُوِّكُمْ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ بِفَتْحٍ مِنْ فُتُوحِ خَالِدٍ، فَسَرَّحَهُ نَحْوَ الشَّامِ فِي جُنْدٍ، وَسَمَّى لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ كَوْرَةً مِنْ كُوَرِ الشَّامِ، فَتَوَافَوْا بِالْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ تَوَافِيَهُمْ، نَدِمُوا عَلَى الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُمْ، وَنَسُوا الَّذِي كَانُوا يَتَوَعَّدُونَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَاهْتَمُّوا وَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وَأَشْجَوْهُمْ وَشَجَوْا بِهِمْ، ثُمَّ نَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأُنْسِيَنَّ الرُّومَ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي فَوْقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَلَى الْعِرَاقِ فِي نِصْفِ النَّاسِ، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشَّامَ، فَارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ بِالْعِرَاقِ وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالأَخْمَاسِ إِلا مَا نُفِلَ مِنْهَا مَعَ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ وَبِمَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ.
وَدَعَا خَالِدٌ الأَدِلَّةَ، فَارْتَحَلَ مِنَ الْحِيرَةِ سَائِرًا إِلَى دُومَةَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الْبَرِّ إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ لِي بِطَرِيقٍ أَخْرُجُ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ جُمُوعِ الرُّومِ! فَإِنِّي إِنِ اسْتَقْبَلْتُهَا حَبَسَتْنِي عَنْ غِيَاثِ الْمُسْلِمِينَ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لا نَعْرِفُ إِلا طَرِيقًا لا يَحْمِلُ الْجُيُوشَ، يَأْخُذُهُ الْفَذُّ الرَّاكِبُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُغَرِّرَ بِالْمُسْلِمِينَ فَعَزَمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ إِلا رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ عَلَى تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ، فَقَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: لا يَخْتَلِفَنَّ هَدْيُكُمْ، وَلا يَضْعُفَنَّ يَقِينُكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وَإِنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتَرِثَ بِشَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ مَعَ مَعُونَةِ اللَّهِ لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ، فَشَأْنُكَ فَطَابَقُوهُ ونَوَوْا وَاحَتَسَبُوا، وَاشْتَهَوْا مِثْلَ الَّذِي اشْتَهَى خَالِدٌ، فَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ، فَتَرَوَّوْا لِلشفةِ لِخَمْسٍ، وَأَمَرَ صَاحِبَ كُلِّ خَيْلٍ بِقَدْرِ مَا يَسْقِيهَا، فَظَمَأَ كُلُّ قَائِدٍ مِنَ الإِبِلِ الشرفِ الْجَلالِ مَا يَكْتَفِي بِهِ، ثُمَّ سَقَوْهَا الْعَلَلَ بَعْدَ النَّهَلِ، ثُمَّ صَرُّوا آذَانَ الإِبِلِ وَكَعَمُوهَا، وَخَلَّوْا أَدْبَارَهَا، ثُمَّ رَكِبُوا مِنْ قُرَاقِرَ مُفَوِّزِينَ إِلَى سَوَى -وَهِيَ عَلَى جَانِبِهَا الآخَرِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ- فَلَمَّا سَارُوا يَوْمًا افْتَظُّوا لِكُلِّ عِدَّةٍ مِنَ الْخَيْلِ عَشْرًا مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ فَمَزَجُوا مَا فِي كُرُوشِهَا بِمَا كَانَ مِنَ الأَلْبَانِ، ثُمَّ سَقَوُا الْخَيْلَ، وَشَرِبُوا للشفةِ جَرْعًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة، عمن حدثه من بكر بْن وائل، أن محرز بْن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه تفض إلى سوى، فكان أدلهم.
قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم مُحَمَّد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشي أن يفضحهم حر الشمس، نادى خالد رافعا: ما عندك؟ قال: خير، ادركتم الري، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الناس، انظروا علمين كأنهما ثديان فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة -لعوسجة كقعدة الرجل- فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاستثاروا أوشالا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته الا مره وانا غلام مع ابى. فاستعد واثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشا يقطع إليهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ظُفَرِ بْنِ دَهْيٍ، قَالَ: فَأَغَارَ بِنَا خَالِدٌ مِنَ سَوَى عَلَى مُصَيَّخِ بهمراء بِالْقَصْوَانِيِّ-مَاءٌ مِنَ الْمِيَاهِ- فَصَبَحَ الْمُصَيَّخُ وَالنَّمِرُ، وَإِنَّهُمْ لَغَارُونَ، وَإِنَّ رُفْقَةً لَتَشْرَبُ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ، وَسَاقِيهِمْ يُغَنِّيهِمْ، وَيَقُولُ:

أَلا صَبِّحَانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ *** فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَاخْتَلَطَ دَمُهُ بِخَمْرِهِ

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ غَسَّانَ خُرُوجُ خَالِدٍ عَلَى سَوَى وَانْتِسَافُهَا، وَغَارَتُهُ عَلَى مُصَيَّخِ بَهَرَاءَ وَانْتِسَافُهَا، فَاجْتَمَعُوا بِمَرْجِ رَاهِطٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدًا، وَقَدْ خَلَّفَ ثُغُورَ الرُّومِ وَجُنُودَهَا مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، فَصَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَرْمُوكَ، صَمَدَ لهم، فخرج من سوى بعد ما رَجَعَ إِلَيْهَا بِسَبْيِ بَهْرَاءَ، فَنَزَلَ الرُّمَّانَتَيْنِ -عَلَمَيْنِ عَلَى الطَّرِيقِ- ثُمَّ نَزَلَ الْكَثَبَ، حَتَّى صَارَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَلَقِيَ عَلَيْهِ غَسَّانَ وَعَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الأَيْهَمِ، فَانْتَسَفَ عَسْكَرَهُمْ وَعِيَالاتِهِمْ وَنَزَلَ بِالْمَرْجِ أَيَّامًا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالأَخْمَاسِ مَعَ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَرْجِ حَتَّى يَنْزِلَ قَنَاةَ بُصْرَى، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ افْتُتِحَتْ بِالشَّامِ عَلَى يدي خالد فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ مِنْهَا، فَوَافَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوَاقُوصَةِ، فَنَازَلَهُمْ بِهَا فِي تِسْعَةِ آلافٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنْ حَجِّهِ وَافَاهُ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ عَلَى الشَّطْرِ الْبَاقِي الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: لا تَأْخُذَنَّ نَجْدًا إِلا خَلَّفْتَ لَهُ نَجْدًا، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَارْدُدْهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْتَ عَلَى عَمَلِكَ، وَأَحْضَرَ خَالِدٌ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَأْثَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُثَنَّى، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَنْ بَقِيَ، فَاخْتَلَجَ من كان قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وَافِدًا أَوْ غَيْرِ وَافِدٍ، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ، ثُمَّ قَسَّمَ الْجُنْدَ نِصْفَيْنِ، فَقَالَ الْمُثَنَّى: وَاللَّهِ لا أُقِيمُ إِلا  عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ فِي اسْتِصْحَابِ نِصْفِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ النِّصْفِ، وَبِاللَّهِ مَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلا بِهِمْ، فَأَنَّى تُعْرِينِي مِنْهُمْ!
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدٌ بَعْدَ مَا تَلَكَّأَ عَلَيْهِ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ حَتَّى رَضِيَ، وَكَانَ فِيمَنْ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَّةِ وَالْحَارِثُ بْنُ حَسَّانٍ الذُّهْلِيَّانِ، وَمَعْبَدُ بن أُمِّ مَعْبَدٍ الأَسْلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ بِلالٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ، حَتَّى إِذَا رَضِيَ الْمُثَنَّى وَأَخَذَ حَاجَتَهُ، انْجَذَبَ خَالِدٌ فَمَضَى لِوَجْهِهِ وَشَيَّعَهُ الْمُثَنَّى إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحِيرَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَأَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ، وَوَضَعَ فِي الْمَسْلَحَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا عَلَى السَّيْبِ أَخَاهُ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الأَزْوَرِ مَسْعُودًا أَخَاهُ الآخَرَ، وَسَدَّ أَمَاكِنَ كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الأُمَرَاءِ بِرِجَالٍ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ، وَوَضَعَ مَذْعُورَ بْنَ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَمَاكِنِ، وَاسْتَقَامَ أَهْلُ فَارِسٍ -عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِ خَالِدٍ الْحِيرَةِ، بَعْدَ خُرُوجِ خَالِدٍ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ في سنه ثلاث عشره- على شهر براز بْنِ أردشيرَ بْنِ شَهْرَيَارِ مِمَّنْ يُنَاسَبُ إِلَى كِسْرَى، ثُمَّ إِلَى سَابُورَ فَوَجَّهَ إِلَى الْمُثَنَّى جُنْدًا عَظِيمًا عَلَيْهِمْ هُرْمُزُ جَاذُوَيْهِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ، وَمَعَهُ فِيلٌ، وَكَتَبَتِ الْمَسَالِحُ إِلَى الْمُثَنَّى بِإِقْبَالِهِ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحِيرَةِ نَحْوَهُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَسَالِحَ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ الْمُعَنَّى وَمَسْعُودًا ابْنَيْ حَارِثَةَ، وَأَقَامَ لَهُ بِبَابِلَ، واقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والحركبذ وكتب الى المثنى: من شهر براز إِلَى الْمُثَنَّى، إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جُنْدًا من وخش أَهْلِ فَارِسَ، إِنَّمَا هُمْ رُعَاةُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلا بِهِمْ فَأَجَابَهُ الْمُثَنَّى: مِنَ المثنى الى شهر براز، إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا بَاغٍ فَذَلِكَ شَرٌّ لَكَ وَخَيْرٌ لَنَا، وَإِمَّا كَاذِبٌ فَأَعْظَمُ الْكَذَّابِينَ عُقُوبَةً وَفَضِيحَةً عِنْدَ اللَّهِ فِي النَّاسِ الْمُلُوكُ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّنَا عَلَيْهِ الرَّأْيُ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ.
فَجَزِعَ أَهْلُ فارس من كتابه، وقالوا: انما اتى شهر براز مِنْ شُؤمِ مَوْلِدِهِ وَلُؤْمِ مَنْشَئِهِ -وَكَانَ يَسْكُنُ مَيْسَانَ- وَبَعْضُ الْبُلْدَانِ شَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهُ.
وَقَالُوا لَهُ: جَرَّأْتَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا بِالَّذِي كَتَبْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَاتَبْتَ أَحَدًا فَاسْتَشِرْ فَالْتَقَوْا بِبَابِلَ، فَاقْتَتَلُوا بِعَدْوَةِ الصَّرَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الطَّرِيقِ الأَوَّلِ قِتَالا شَدِيدًا ثُمَّ إِنَّ الْمُثَنَّى وَنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اعْتَوَرُوا الْفِيلَ -وَقَدْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَالْكَرَادِيسِ- فَأَصَابُوا مَقْتَلَهُ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَهْلَ فَارِسَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، حَتَّى جَازُوا بِهِمْ مَسَالِحَهُمْ، فَأَقَامُوا فِيهَا، وَتَتَبَّعَ الطَّلَبُ الْفَالَةَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ عَبْدَةُ قَدْ هَاجَرَ لِمُهَاجِرَةٍ حَلِيلَةٍ لَهُ حَتَّى شَهِدَ وَقْعَةَ بَابِلَ، فَلَمَّا آيَسَتْهُ رَجَعَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَقَالَ:

هَلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْبَيْنِ مَوْصُولُ *** أَمْ أَنْتَ عَنْهَا بَعِيدُ الدَّارِ مَشْغُولُ!
وَلِلأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُهَا *** وَللِنَّوَى قَبْلَ يَوْمِ الْبَيْنِ تَأْوِيلُ
حَلَّتْ خُوَيْلَةُ فِي حَيٍّ عَهِدْتُهُمُ *** دُونَ الْمَدَائِنِ فِيهَا الدِّيكُ وَالْفِيلُ
يُقَارِعُونَ رُءُوسَ الْعُجْمِ ضَاحِيَةً *** مِنْهُمْ فَوَارِسُ، لا عُزْلٌ وَلا مِيلُ

الْقَصِيدَةَ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يُعَدِّدُ بُيُوتَاتِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَذَكَرَ الْمُثَنَّى وَقَتْلَهُ الْفِيلَ:

وَبَيْتُ الْمُثَنَّى قَاتِلِ الْفِيلِ عَنْوَةً *** بِبَابِلَ إِذْ فِي فَارِسٍ مُلْكُ بابل

ومات شهر براز مُنْهَزِمٌ هرمزُ جَاذُوَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَبَقِيَ مَا دُونَ دِجْلَةَ وبُرْسَ مِنَ السَّوَادِ فِي يَدَيِ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجتمعوا بعد شهر براز عَلَى دختَ زنانَ ابْنَةِ كِسْرَى، فَلَمْ يَنْفُذْ لَهَا أَمْرٌ فَخُلِعَتْ.
وَمُلِّكَ سابورُ بْنُ شهر برازَ قَالُوا: وَلَمَّا مَلَكَ سَابورُ بْنُ شهر برازَ قَامَ بِأَمْرِهِ الْفرخزاذُ بْنُ الْبندوانِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آزرميدختَ ابْنَةَ كِسْرَى، فَفَعَلَ، فَغَضَبَتْ من ذلك، وقالت: يا بن عم، اتزوجني عبدى! قال: استحيى مِنْ هَذَا الْكَلامِ وَلا تُعِيدِيهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ، فَبَعَثَتْ إِلَى سياوخشَ الرَّازِيِّ -وَكَانَ مِنْ فُتَّاكِ الأَعَاجِمِ- فَشَكَتْ إِلَيْهِ الَّذِي تَخَافُ، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ كَارِهَةً لِهَذَا فَلا تُعَاوِدِيهِ فِيهِ، وَأَرْسِلِي إِلَيْهِ وَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِكِ، فَأَنَا أُكْفِيَكِهِ فَفَعَلَتْ وَفَعَلَ، وَاسْتَعَدَّ سياوخشُ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ أَقْبَلَ الْفرخزاذُ حَتَّى دَخَلَ، فَثَارَ بِهِ سياوخشُ فَقَتَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَهَدَ بِهَا مَعَهُ إِلَى سَابُورَ، فَحَضَرَتْهُ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكَتْ آزرميدختُ بِنْتُ كِسْرَى، وَتَشَاغَلُوا بِذَلِكَ، وَأَبْطَأَ خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَخَلَّفَ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَوَضَعَ مَكَانَهُ فِي الْمَسَالِحِ سَعِيدَ بْنَ مُرَّةَ الْعِجْلِيَّ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلِيَسْتَأْذِنَهُ فِي الاسْتِعَانَةِ بِمَنْ قَدْ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ وَنَدَمُهُ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِمَّنْ يَسْتَطْعِمُهُ الْغَزْوُ، وَلِيُخْبِرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ أَحَدًا أَنْشَطَ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَحَرْبِهَا وَمَعُونَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرِيضٌ، وَقَدْ كَانَ مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَخْرَجِ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ -مَرْضَتَهَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا- بِأَشْهُرٍ، فَقَدِمَ الْمُثَنَّى وَقَدْ أُشْفِيَ، وَعَقَدَ لِعُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِعُمُرَ، فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ يَا عُمَرُ مَا أَقُولُ لَكَ، ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ مِنْ يَوْمِي هذا -وذلك يوم الاثنين- فان انامت فَلا تُمْسِيَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَإِنْ تَأَخَّرْتُ إِلَى اللَّيْلِ فَلا تُصْبِحَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَلا تَشْغِلَنَّكُمْ مُصِيبَةٌ وَإِنْ عَظُمَتْ عَنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَوَصِيَّةِ رَبِّكُمْ، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا صَنَعْتُ، وَلَمْ يُصَبِ الْخَلْقُ بِمِثْلِهِ، وَبِاللَّهِ لو انى انى عن امر رَسُولِهِ لَخَذَلَنَا وَلَعَاقَبَنَا، فَاضْطَرَمَتِ الْمَدِينَةُ نَارًا وَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّامِ فَارْدُدْ أَصْحَابَ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ وَوُلاةُ أَمْرِهِ وحده واهل الضراوة منهم والجرأة عَلَيْهِمْ.
وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ اللَّيْلِ، فَدَفَنَهُ عُمَرُ لَيْلا، وَصَلَّى عَلَيْهِ فِي المسجد، وندب الناس مع المثنى بعد ما سَوِيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ عُمَرُ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسُوءُنِي أَنْ أُؤَمِّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، حِينَ أَمَرَنِي بِصَرْفِ أَصْحَابِي، وَتَرْكِ ذِكْرِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِلَى آزرميدختَ انْتَهَى شَأْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَحَد شِقَّيِ السَّوَادِ فِي سُلْطَانِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَشَاغَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ إِزَالَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السَّوَادِ، فِيمَا بَيْنَ مُلْكِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قِيَامِ عُمَرَ وَرُجُوعِ الْمُثَنَّى مَعَ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ جُنْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْحِيرَةِ، وَالْمَسَالِحِ بِالسَّيْبِ، وَالْغَارَاتُ تَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَدِجْلَةُ حِجَازٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.
فَهَذَا حَدِيثُ الْعِرَاقِ فِي إِمَارَةِ أَبِي بكر من مبتدئه الى منتهاه.

ذكر وقعة أجنادين
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيث ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَمُدَّ أَهْلَ الشَّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَيَخْرُجُ فِيهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ رَجُلا مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَتَى خَالِدًا كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، قَالَ خَالِدٌ: هَذا عَمَلُ الاعيسر بن أم شمله -يعنى عمر ابن الْخَطَّابِ- حَسَدَنِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُ الْعِرَاقِ عَلَى يَدِي فَسَارَ خَالِدٌ بِأَهْلِ الْقُوَّةِ مِنَ النَّاسِ وَرَدَّ الضُّعَفَاءَ وَالنِّسَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَخْلَفَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِالْعِرَاقِ مِنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمُ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِهَا، فَأَصَابَ مِنْهُمْ، وَرَابَطَ حِصْنًا بِهَا فِيهِ مُقَاتِلَةٌ كَانَ كِسْرَى وَضَعَهُمْ فِيهِ حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَسَبَى مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ وَمِنْ أَبْنَاءِ تِلْكَ الْمُرَابِطَةِ سَبَايَا كَثِيرَةٍ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا أَبُو عَمْرَةَ مَوْلَى شَبَّانَ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الأَعْلَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَوْلَى الْمُعَلَّى، مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى زَهْرَةَ، وَخَيْرٌ مَوْلَى أَبِي دَاوُدَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَيَسَارٌ وَهُوَ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَفْلَحُ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بنى مالك بن النجار، وحمران ابن أَبَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَقَتَلَ خَالِدُ بن الوليد هلال بن عقه ابن بِشْرٍ النَّمِرِيَّ وَصَلَبَهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، ثُمَّ أَرَادَ السَّيْرَ مُفَوِّزًا مِنْ قُرَاقِرَ- وَهُوَ مَاءٌ لِكَلْبٍ إِلَى سَوَى، وَهُوَ مَاءٌ لِبَهْرَاءَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ لَيَالٍ- فَلَمْ يَهْتَدِ خَالِدٌ الطَّرِيقَ، فَالْتَمَسَ دَلِيلا، فَدُلَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ الطَّائِيِّ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: انْطَلِقْ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ بِالْخَيْلِ وَالأَثْقَالِ، وَاللَّهِ إِنَّ الرَّاكِبَ الْمُفْرَدَ لَيَخَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَمَا يَسْلُكُهَا إِلا مُغَرِّرًا، إِنَّهَا لَخَمْسُ لَيَالٍ جِيَادٍ لا يُصَابُ فِيهَا مَاءٌ مَعَ مَضَلَّتِهَا، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ وَاللَّهِ إِنَّ لِي بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ قَدْ أَتَتْنِي مِنَ الأَمِيرِ عَزْمَةٌ بِذَلِكَ، فَمُرْ بِأَمْرِكَ.
قَالَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْمَاءِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُرَّ أُذُنَ نَاقَتِهِ عَلَى مَاءٍ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّهَا الْمَهَالِكُ إِلا مَا دَفَعَ اللَّهُ، ابْغِنِي عشرين جزورا عظاما سمانا مسان.
فَأَتَاهُ بِهِنَّ خَالِدٌ، فَعَمَدَ إِلَيْهِنَّ رَافِعٌ فَظَمَّأَهُنَّ، حَتَّى إِذَا أَجْهَدَهُنَّ عَطَشًا أَوْرَدَهُنَّ فَشَرِبْنَ حَتَّى إِذَا تَمَلأَنَّ عَمَدَ إِلَيْهِنَّ، فَقَطَعَ مَشَافِرَهُنَّ، ثُمَّ كَعَمَهُنَّ لِئَلا يَجْتَرِرْنَ، ثُمَّ أَخْلَى أَدْبَارَهُنَّ.
ثُمَّ قَالَ لِخَالِدٍ: سِرْ، فَسَارَ خَالِدٌ مَعَهُ مُغِذًّا بِالْخُيُولِ وَالأَثْقَالِ، فَكُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلا افْتَظَّ أَرْبَعًا مِنْ تِلْكَ الشَّوَارِفِ، فَأَخَذَ مَا فِي أَكْرَاشِهَا، فَسَقَاهُ الْخَيْلَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّاسُ مِمَّا حَمَلُوا مَعَهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَلَمَّا خَشِيَ خَالِدٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْمَفَازَةِ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَرْمَدُ: وَيْحَكَ يَا رَافِعُ! مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ أَدْرَكْتُ الرَّيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْعَلَمَيْنِ، قَالَ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شُجَيْرَةً مِنْ عَوْسَجٍ كَقَعْدَةِ الرَّجُلِ؟ قَالُوا: مَا نَرَاهَا.
قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! هَلَكْتُمْ وَاللَّهِ إِذًا وهلكت، لا ابالكم! انْظُرُوا، فَطَلَبُوا فَوَجَدُوهَا قَدْ قُطِعَتْ وَبَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ، فَلَمَّا رَآهَا الْمُسْلِمُونَ كَبَّرُوا وَكَبَّرَ رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: احْفُرُوا فِي أَصْلِهَا، فَحَفَرُوا فَاسْتَخْرَجُوا عَيْنًا، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوِيَ النَّاسُ، فَاتَّصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِخَالِدٍ الْمَنَازِلُ، فَقَالَ رَافِعٌ: وَاللَّهِ مَا وَرَدْتُ هَذَا الْمَاءَ قَطُّ إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَرَدْتُهُ مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلامٌ، فقال شاعر من المسلمين:

لله عينا رَافِعٍ أَنَّى اهْتَدَى *** فَوْز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى!
خَمْسًا إِذَا مَا سَارَهَا الْجَيْشُ بَكَى *** مَا سَارَهَا قَبْلَكَ إِنْسِيٌّ يَرَى

فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَى سَوَى، أَغَارَ عَلَى أَهْلِهِ -وَهُمْ بهراء- قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:

أَلا عَلِّلانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ *** لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي
الا عللانى بالزجاج وكرار *** عَلَيَّ كميت اللَّوْنِ صَافِيةً تَجْرِي
أَلا عَلِّلانِي مِنْ سُلافَةِ قَهْوَةٍ *** تُسْلِي هُمُومَ النَّفْسِ مِنْ جَيِّدِ الْخَمْرِ
أَظُنُّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ وَخَالِدًا *** سَتَطْرُقُكُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ مِنَ الْبشْرِ
فَهَلْ لَكُمْ فِي السَّيْرِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ *** وَقَبْلَ خُرُوجِ الْمُعْصرَاتِ مِنَ الْخدْرِ!

فَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُغَنِّيَهُمْ ذَلِكَ قُتِلَ تَحْتَ الْغَارَةِ، فَسَالَ دَمُهُ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ.
ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى أَغَارَ عَلَى غَسَّانَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قَنَاةِ بُصْرَى، وَعَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أَبِي سُفْيَانَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، فَرَابَطُوهَا حَتَّى صَالَحَتْ بُصْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الشَّامِ فُتِحَتْ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى فِلَسْطِينَ، مَدَدًا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَمْرٌو مُقِيمٌ بِالْعَرَبَاتِ مِنْ غَوْرِ فِلَسْطِينَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بِهِمْ، فَانْكَشَفُوا عَنْ جِلَّقَ إِلَى أَجْنَادِينَ، وَعَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ- وَأَجْنَادِينُ بَلَدٌ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ جِبْرِينَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ- وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ سَمِعَ بِأَبِي عبيده بن الجراح وشرحبيل ابن حَسَنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى لِقِيَهُمْ فَاجْتَمَعُوا بِأَجْنَادِينَ، حَتَّى عَسْكَرُوا عَلَيْهِمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم.
فأما علماء الشام فيزعمون أنما كان على الروم تذارق والله أَعْلَمَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر بْن الزبير، عن عروة، قال: لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا -قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بْن حيدان، يقال له ابن هزارف- فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله ان يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي قال: ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين، قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوما أشد من هذا! قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الاولى وقتل يومئذ من المسلمين جماعة، منهم سلمة بن هشام ابن المغيرة، وهبار بْن الأسود بْن عبد الأسد، ونعيم بْن عبد اللَّه النحام، وهشام بْن العاصي بْن وائل، وجماعة أخر من قريش قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها.
وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين -أو سبع بقين- من جمادى الآخرة.
رجع الحديث إلى حديث أبي زيد، عن علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره قال: وأتى خالد دمشق فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه هو وأبو عبيدة، فلقيهم أدرنجا، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم، وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون، وهزم اللَّه المشركين، وقتل خليفة هرقل، واستشهد رجال من المسلمين، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم، وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعه في رجب.

ذكر مرض ابى بكر ووفاته
حَدَّثَنِي أبو زيد، عن علي بْن مُحَمَّد، بإسناده الذي قد مضى ذكره، قالوا: توفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الاثنين لثمان بقين منه قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بْن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما سم سنة فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوما، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء.
قال أبو جعفر: ومات عتاب بْن أسيد بمكة في اليوم الذى مات فيه ابو بكر -وكانا سما جميعا- ثم مات عتاب بمكة.
وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ. وَأَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ مَوْلَى آلِ مَظْعُونٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: كَانَ أَوَّلُ مَا بَدَأَ مَرَضُ أَبِي بَكْرٍ بِهِ أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَكَانَ يَأْمُرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَيَدُخُلُ النَّاسُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَثْقُلُ كُلَّ يَوْمٍ، وَهُوَ نَازِلٌ فِي داره التي قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم وُجَاهَ دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْيَوْمَ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَلْزَمَهُمْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مِسْيَ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، لِثَمَانِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهُجْرَةِ وَكَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلاثةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَعْشَرٍ يَقُولُ:
كَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْن وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلا أَرْبَعَ لَيَالٍ، فَتُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، مَجْتَمَعٌ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، اسْتَوْفَى سِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلاثِ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: اسْتَكْمَلَ أَبُو بَكْرٍ بِخِلافَتِهِ سِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ وَهُوَ بِسِنِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ معاويه فقال: توفى النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَحَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ: كَانَتْ وِلايَةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ.

ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه ابو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلي عليه فيه والوقت الذى توفى فيه
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى مالك بن أَبِي الرَّحَّالِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: غَسِّلِينِي، قُلْتُ: لا أُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: يُعِينُكِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، يَصُبُّ الْمَاءَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَبْرَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ، فَإِنْ عَجَزَتْ أَعَانَهَا ابْنُهُ مُحَمَّدٌ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وهذا الْحَدِيثُ وَهِلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ يَوْمَ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ ثَلاثُ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، فِي كَمْ كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ -وَكَانَا مُمَشَّقَيْنِ- وَابْتَاعُوا لِي ثَوْبًا آخَرَ قُلْتُ: يَا أَبَهْ، إِنَّا مُوسِرُونَ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُهْلَةِ وَالصَّدِيدِ حَدَّثَنِي العباس بْن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حَدَّثَنَا الأوزاعي، قال: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بْن القاسم، أن أبا بكر توفي عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلا ليلة الثلاثاء.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا غنام، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلا.
حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، عن علي بْن مُحَمَّد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَ قَبْرَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كُفِيتَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ أَوْصَى فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ- أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولانِ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حُفِرَ لَهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصقوا اللحد يلحد النبي صلى الله عليه وسلم فَقُبِرَ هُنَالِكَ.
قَالَ الْحَارِثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جُعِلَ رَأْسُ أَبِي بَكْرٍ عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَأْسُ عُمَرَ عِنْدَ حِقْوَيْ أَبِي بَكْرٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهِ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النبي صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاثَةِ قُبُورٍ، لا مُشْرِفَةٍ وَلا لاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمًا وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن عمرو بْن أبي عمرو، عن المطلب بْن عبد اللَّه بْن حنطب، قال: جعل قبر ابى بكر مثل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطحا، ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَامَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ النَّوْحَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى قَامَ بِبَابِهَا، فَنَهَاهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: ادْخُلْ فَأَخْرِجْ إِلَيَّ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِهِشَامٍ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ: إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بَيْتِي فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامٍ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَدَخَلَ هِشَامٌ فَأَخْرَجَ أُمَّ فَرْوَةَ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَعَلاهَا بِالدِّرَّةِ، فَضَرَبَهَا ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوْحُ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ.
وَتَمَثَّلَ فِي مَرَضِهِ -فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زيد، عن على ابن مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ- الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ:

وَكُلُّ ذِي إِبِلٍ مَوْرُوثٌ *** وَكُلُّ ذِي سَلَبٍ مَسْلُوبُ
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ *** وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَئُوبُ

وَكَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، رَبِّ {تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].

ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه اللَّه
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ مَرَّ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا أَشْبَهَ بِأَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا، فَقُلْنَا لَهَا: صِفِي أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: رَجُلٌ أَبْيَضُ نَحِيفٌ خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، أَجْنَأُ لا يَسْتَمْسِكُ إِزَارُهُ، يَسْتَرْخِي عَنْ حِقْوَيْهِ، مَعْرُوقُ الْوَجْهِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، عَارِي الأَشَاجِعِ.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ قَبْلُ:
إِنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ يُخَالِطُهُ صُفْرَةٌ، حَسَنَ القامة، نحيفا اجنا، رَقِيقًا عَتِيقًا، أَقْنَى، مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، مَمْحُوصَ الْفَخِذَيْنِ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ أَبُو قُحَافَةَ حِينَ تُوُفِّيَ حَيًّا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نُعِيَ إِلَيْهِ قَالَ: رُزْءٌ جَلِيلٌ!

ذكر نسب أبي بكر واسمه وما كان يعرف به
حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَتِيقٌ عَنْ عِتْقِهِ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، لأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: «أَنْتَ عَتِيقٌ مِنَ النَّارِ».
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ: لِمَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ عَتِيقًا؟ فَقَالَتْ: نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «هَذَا عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ».
وَاسْمُ أَبِيهِ عُثْمَانُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو قُحَافَةَ، قَالَ: فَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الله بن عثمان ابن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لؤي ابن غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ -وَاسْمُهُ عُثْمَانُ- بْنُ عَامِرٍ.
وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ، وَاسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وَأَمَّا هِشَامٌ، فَإِنَّهُ قَالَ -فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْهُ- ان اسم ابى بكر عتيق ابن عثمان بن عامر.
وحدثنى يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لهيعة، عن عمارة بْن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بْن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق، وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عَتيق ومعتق وعُتيق.

ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه اللَّه
حدث علي بْن مُحَمَّد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة -ووافقه على ذلك الواقدي والكلبي- قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بْن عبد بْن أسعد بْن جابر بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لؤي، فولدت له عبد اللَّه وأسماء وتزوج أيضا في الجاهلية أم رومان بنت عامر بْن عميرة بْن ذهل بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك ابن كنانة -وقال بعضهم: هي أم رومان بنت عامر بْن عويمر بْن عبد شمس بْن عتاب بْن أذينة بْن سبيع بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك بْن كنانة- فولدت له عبد الرحمن وعائشة.
فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية.
وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس، وكانت قبله عند جعفر بْن أبي طالب، وهي أسماء بنت عميس بْن معد بْن تيم بْن الحارث بْن كعب ابن مالك بْن قحافة بْن عامر بْن ربيعة بْن عامر بْن مالك بْن نسر بْن وهب اللَّه بْن شهران بْن عفرس بْن حلف بْن أفتل -وهو خثعم- فولدت له مُحَمَّد بْن أبي بكر.
وتزوج أيضا في الإسلام حبيبة بنت خارجة بْن زيد بْن أبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، وكانت نسأ حين توفي أبو بكر، فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم.

ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ، وَذَكَرَهُ عَنْ مِسْعَرٍ: لَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَا أُكْفِيكَ الْمَالَ -يَعْنِي الْجَزَاءَ- وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُكْفِيكَ الْقَضَاءَ: فَمَكَثَ عُمَرُ سَنَةً لا يَأْتِيهِ رَجُلانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الَّذِينَ سَمَّيْتُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ قَاضِيًا فِي خِلافَتِهِ، فَمَكَثَ سَنَةً لَمْ يُخَاصَمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ.
قَالَ: وَقَالُوا: كَانَ يَكْتُبُ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَيَكْتُبُ لَهُ الأَخْبَارَ عُثْمَانُ ابن عفان رضى الله عَنْهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ مَنْ حَضَرَ.
وَقَالُوا: كَانَ عَامِلَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أسيد، وعلى الطائف عثمان بن ابى العاصي، وَعَلَى صَنْعَاءَ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَعَلَى خَوْلانَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى زَبِيدَ وَرِمَعَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الْجُنْدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَلَى البحرين العلاء ابن الْحَضْرَمِيِّ وَبَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى نَجْرَانَ، وَبَعَثَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَوْرٍ، أَحَدِ بَنِي الْغَوْثِ إِلَى نَاحِيَةِ جُرَشَ، وَبَعَثَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَ بِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، كُلُّ رجل منهم على جند، وعليهم خالد ابن الْوَلِيدِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَخِيًّا لَيِّنًا، عَالِمًا بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ يَقُولُ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ -وَنُدْبَةُ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فِي مَرْثِيَّتِهِ أَبَا بَكْرٍ:
أَبْلَجُ ذُو عرف وَذُو منكر مقسم المعروف رحب الفناء للمجد في منزله باديا حوض رفيع لم يخنه الإزاء والله لا يدرك أيامه ذو مئزر حاف ولا ذو رداء من يسع كي يدرك أيامه يجتهد الشد بأرض فضاء وكان فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بْن الهيثم أبي قطن، قال: حَدَّثَنَا الربيع عن حيان الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر رحمه اللَّه: نعم القادر اللَّه.
قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة، وهو ابن سبع وتسعين سنة.

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب
وعقد أبو بكر في مرضته التي توفي فيها لعمر بْن الخطاب عقد الخلافة من بعده وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بْن عوف، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِأَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَفَاةُ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ فِيهِ مِنْ رَجُلٍ، وَلَكِنْ فِيهِ غِلْظَةٌ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَلِكَ لأَنَّهُ يَرَانِي رَقِيقًا، وَلَوْ أُفْضِيَ الأَمْرُ إِلَيْهِ لَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَيَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ رَمَقْتُهُ، فَرَأَيْتُنِي إِذَا غَضِبْتُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الشَّيْءِ أَرَانِي الرِّضَا عَنْهُ، وَإِذَا لِنْتُ لَهُ أَرَانِي الشِّدَّةَ عَلَيْهِ، لا تَذْكُرْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مِمَّا قُلْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ، قَالَ: أَنْتَ أَخْبَرُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيَّ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! قَالَ: اللَّهُمَّ عِلْمِي بِهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ عَلانِيَتِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِينَا مِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لا تَذْكُرْ مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَرَكْتُهُ مَا عَدَوْتُكَ، وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ تَارِكُهُ، وَالْخِيرَةُ لَهُ أَلا يَلِي مِنْ أُمُورِكُمْ شَيْئًا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خِلْوًا مِنْ أُمُورِكُمْ، وَأَنِّي كُنْتُ فِيمَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِكُمْ، يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لا تَذْكُرَنَّ مِمَّا قُلْتُ لَكَ مِنْ أَمْرِ عُمَرَ، وَلا مِمَّا دَعَوْتُكَ لَهُ شَيْئًا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: أَشْرَفَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ كَنِيفِهِ وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ عُمَيْسٍ مُمْسِكَتُهُ، مَوْشُومَةُ الْيَدَيْنِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتَرْضَوْنَ بِمَنْ أَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ؟ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آلَوْتُ مِنْ جَهْدِ الرَّأْيِ، وَلا وَلَّيْتُ ذَا قَرَابَةٍ، وَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ الْقُرْقُسَانِيِّ، قال: حدثنا سفيان ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَجْلِسُ وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَبِيَدِهِ جَرِيدَةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وأطيعوا قول خليفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ آلُكُمْ نُصْحًا قَالَ: وَمَعَهُ مَوْلَى لأَبِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ: شَدِيدٌ، مَعَهُ الصَّحِيفَةُ الَّتِي فِيهَا اسْتِخْلافُ عُمَرَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: دَعَا أَبُو بَكْرٍ عُثْمَانَ خَالِيًا، فقال: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا بَعْدُ قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فذهب عَنْهُ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَلَمْ آلكم خيرا منه، ثُمَّ أَفَاقَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: أَرَاكَ خِفْتَ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ إِنِ افْتُلِتَتْ نَفْسِي فِي غَشْيَتِي! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، وَأَقَرَّهَا أَبُو بَكْرٍ رضى الله عَنْهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ.
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُلْوَانُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَأَصَابَهُ مُهْتَمًّا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَصْبَحْتَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئًا! فقال ابو بكر رضى الله عَنْهُ: أَتَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي وَلَّيْتُ أَمْرَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي، فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ مِنْ ذَلِكَ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ لَهُ دُونَهُ، وَرَأَيْتُمُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلُ، وَهِيَ مُقْبِلَةٌ حَتَّى تَتَّخِذُوا سُتُورَ الْحَرِيرِ وَنَضَائِدَ الدِّيبَاجِ وَتَأَلَّمُوا الاضْطِجَاعَ عَلَى الصُّوفِ الأَذْرِيِّ، كَمَا يَأْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَنَامَ عَلَى حَسَكٍ، وَاللَّهِ لأَنْ يَقْدَمُ أَحَدُكُمْ فَتُضْرَبُ عُنُقُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا وَأَنْتُمْ أَوَّلُ ضَالٍّ بِالنَّاسِ غَدًا، فَتَصُدُّونَهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ يَمِينًا وَشِمَالا يَا هَادِيَ الطَّرِيقِ، إِنَّمَا هُوَ الْفَجْرُ أَوِ البجر، فَقُلْتُ لَهُ: خَفِّضْ عَلَيْكَ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذَا يَهِيضُكَ فِي أَمْرِكَ إِنَّمَا النَّاسُ فِي أَمْرِكَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ رَأَى مَا رَأَيْتَ فَهُوَ مَعَكَ، وَإِمَّا رَجُلٌ خَالَفَكَ فَهُوَ مُشِيرٌ عَلَيْكَ وَصَاحِبُكَ كَمَا تُحِبُّ، وَلا نَعْلَمُكَ أَرَدْتَ إِلا خَيْرًا، وَلَمْ تَزَلْ صَالِحًا مُصْلِحًا، وَأَنَّكَ لا تَأْسَى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا.
قال ابو بكر رضى الله عَنْهُ: أَجَلْ، إِنِّي لا آسَى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلا عَلَى ثَلاثٍ فَعَلْتُهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُنَّ، وَثَلاثٌ تَرَكْتُهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلاثٌ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ عَنْهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الثَّلاثُ اللاتِي وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُنَّ، فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكْشِفْ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا قَدْ غَلَّقُوهُ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ حَرَقْتُ الْفُجَاءَةَ السُّلَمِيَّ، وَأَنِّي كُنْتُ قَتَلْتُهُ سَرِيحًا أَوْ خَلَّيْتُهُ نَجِيحًا وَوَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ كُنْتُ قَذَفْتُ الأَمْرَ فِي عُنُقِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ -يُرِيدُ عُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ- فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَمِيرًا، وَكُنْتُ وَزِيرًا وَأَمَّا اللاتِي تَرَكْتُهُنَّ، فَوَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أسيرا كنت ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ تَخَيلَّ إِلَيَّ أَنَّهُ لا يَرَى شَرًّا إِلا أَعَانَ عَلَيْهِ وَوَدِدْتُ أَنِّي حِينَ سَيَّرْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ، كُنْتُ أَقَمْتُ بِذِي الْقَصَّةِ، فَإِنْ ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ ظَفَرُوا، وَإِنْ هُزِمُوا كُنْتُ بِصَدَدِ لِقَاءٍ او مددا وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ إِذْ وَجَّهْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الشَّامِ كُنْتُ وَجَّهْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكُنْتُ قَدْ بَسَطْتُ يَدَيَّ كِلْتَيْهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَمَدَّ يَدَيْهِ- وَوَدِدْتُ انى كنت سالت رسول الله صلى الله عليه: لِمَنْ هَذَا الأَمْرُ؟ فَلا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلْتُهُ: هَلْ لِلأَنْصَارِ فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبٌ؟ وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلْتُهُ عَنْ مِيرَاثِ ابْنَةِ الأَخِ وَالْعَمَّةِ، فَإِنَّ فِي نَفْسِي مِنْهُمَا شَيْئًا.
قَالَ لِي يُونُسُ: قَالَ لَنَا يَحْيَى: ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُلْوَانُ بَعْدَ وَفَاةِ اللَّيْثِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي بِهِ كَمَا حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَرْفًا حَرْفًا، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ هُوَ حَدَّثَ بِهِ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِ أَبِيهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُرَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُلْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أَبَا بكر الصديق رضى الله عَنْهُ، قَالَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فيه: عن ابيه.

حال أبي بكر قبل الخلافة وبعدها
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ تَاجِرًا، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنْحِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبَيْحَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو قُدَامَةَ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن أَبِي وَجْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَغَيْرُ هَؤُلاءِ أَيْضًا قَدْ حَدَّثَنِي بِبَعْضِهِ، فَدَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ مَنْزِلُ أَبِي بِالسُّنْحِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ حُجْرَةً مِنْ سَعَفٍ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَوَّلَ الى منزله بالمدينة، فأقام هنالك بالسنح بعد ما بُويِعَ لَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يَغْدُو عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ مُمَشَّقٌ، فَيُوَافِي الْمَدِينَةَ فَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ، رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ، فَكَانَ إِذَا حَضَرَ صَلَّى بِالنَّاسِ وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى بِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: فَكَانَ يُقِيمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَدْرَ النَّهَارِ بِالسُّنْحِ يَصْبِغُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ثُمَّ يَرُوحُ لِقَدْرِ الْجُمُعَةِ، فَيُجَمِّعُ بِالنَّاسِ.
وَكَانَ رَجُلا تَاجِرًا، فَكَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُ وَيَبْتَاعُ، وَكَانَتْ لَهُ قِطْعَةُ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا كُفِيهَا فَرُعِيَتْ لَهُ، وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلافَةِ قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا تَحْلِبُ لَنَا مَنَائِحَ دَارِنَا، فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: بَلَى لَعَمْرِي لأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَلا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خُلُقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ فَكَانَ يَحْلِبُ لَهُمْ، فَرُبَّمَا قَالَ لِلْجَارِيَةِ مِنَ الْحَيِّ: يَا جَارِيَةُ اتحبين أَنْ أَرْعَى لَكِ، أَوْ أصرح؟ فَرُبَّمَا قَالَتِ: ارْعَ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: صرح، فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَتْهُ فَعَلَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ بِالسُّنْحِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا تُصْلِحُ أُمُورَ النَّاسِ التِّجَارَةُ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ إِلا التَّفَرُّغُ لَهُمْ وَالنَّظَرُ فِي شَأْنِهِمْ، وَلا بُدَّ لِعِيَالِي مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فَتَرَكَ التِّجَارَةَ وَاسْتَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ عِيَالَهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ وَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: رُدُّوا مَا عِنْدَنَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي لا أُصِيبُ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا، وَإِنَّ أَرْضِي الَّتِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَبْتُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَلَقُوحًا وَعَبْدًا صَيْقَلا، وَقَطِيفَةً مَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ -فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ- قَالَ أَبُو بَكْرٍ: انْظُرُوا كَمْ أَنْفَقْتُ مُنْذُ وُلِّيتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَاقْضُوهُ عَنِّي فَوَجَدُوا مَبْلَغَهُ ثَمَانِيةَ آلافِ دِرْهَمٍ فِي وِلايَتهِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَى النَّاسِ عُمَرَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَلْقَى النَّاسُ مِنْهُ وَأَنْتَ مَعَهُ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا خَلا بِهِمْ! وَأَنْتَ لاقٍ رَبِّكَ فَسَائِلُكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ مُضْطَجِعًا: أَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ لِطَلْحَةَ: أَبِاللَّهِ تَفْرُقُنِي -أَوْ أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُنِي- إِذَا لَقِيتُ اللَّهَ رَبِّي فَسَاءَلَنِي قُلْتُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَى أَهْلِكَ خَيْرَ أَهْلِكَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا وَقْتَ عَقْدِ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخِلافَةَ، وَوَقْتَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ لَيْلَةَ وَفَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ النَّاسُ، فَأَصْبَحَ عُمَرُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا عَمِلَ وَقَالَ -فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: إِنِّي قَائِلٌ كَلِمَاتٍ فَأَمِّنُوا عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْطِقٍ نَطَقَ بِهِ حِينَ اسْتُخْلِفَ -فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ ضِرَارٍ، عَنْ حُصَيْنٍ الْمُرِّيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْعَرَبِ مِثْلُ جَمَلٍ أَنِفٍ اتَّبَعَ قَائِدَهُ، فَلْيَنْظُرْ قَائِدُهُ حَيْثُ يقود، واما انا فو رب الْكَعْبَةِ لأَحْمِلَنَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ.
حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ كِتَابٍ كَتَبَهُ عُمَرُ حِينَ وُلِّيَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُوَلِّيهِ عَلَى جُنْدِ خَالِدٍ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ، الَّذِي هَدَانَا مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَخْرَجَنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى جُنْدِ خالد ابن الْوَلِيدِ، فَقُمْ بِأَمْرِهِمُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْكَ، لا تُقَدِّمِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَلَكَةٍ رَجَاءَ غَنِيمَةٍ، وَلا تُنْزِلْهُمْ مَنْزِلا قَبْلَ أَنْ تَسْتَرِيدَهُ لَهُمْ، وَتَعْلَمَ كَيْفَ مَأْتَاهُ، وَلا تَبْعَثْ سَرِيَّةً إِلا فِي كَثْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَإِلْقَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَلَكَةِ، وَقَدْ أَبْلاكَ اللَّهُ بِي وَأَبْلانِي بِكَ، فَغَمِّضْ بَصَرَكَ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَلْهِ قَلْبَكَ عَنْهَا، وإياك ان تهلك كَمَا أَهْلَكَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ مصارعهم.

ذكر غزوه فحل وفتح دمشق
حَدَّثَنِي عمر، عن علي بْن مُحَمَّد، بإسناده، عن النفر الذين ذكرت روايتهم عنهم في أول ذكري أمر أبي بكر، أنهم قالوا: قدم بوفاة أبي بكر إلى الشام شداد بْن أوس بْن ثابت الأنصاري ومحمية بْن جزء، ويرفأ، فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون -وكانوا بالياقوصه يقاتلون عدوهم من الروم، وذلك في رجب- فأخبروا أبا  عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشام، وضم عمر إليه الأمراء، وعزل خالد بْن الوليد.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْنَادِينَ سَارُوا إِلَى فِحْلَ مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِيهَا رَافِضَةُ الرُّومِ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى أُمَرَائِهِمْ وَخَالِدٌ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الرُّومُ بَيْسَانَ بَثَقُوا أَنْهَارَهَا، وهي ارض صبخه، فكانت وحلا، ونزلوا فحلا- وَبَيْسَانَ بَيْنَ فِلَسْطِينَ وَبَيْنَ الأَرْدُنِ- فَلَمَّا غَشِيَهَا المسلمون ولم يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَتِ الرُّومُ، وَحِلَتْ خُيُولُهُمْ، وَلَقُوا فِيهَا عَنَاءً، ثُمَّ سَلَّمَهُمُ اللَّهُ -وَسُمِّيَتْ بَيْسَانُ ذَاتَ الرَّدَغَةِ لِمَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا- ثُمَّ نَهَضُوا إِلَى الرُّومِ وَهُمْ بِفِحْلَ، فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَتِ الروم، ودخل المسلمون فحلا وَلَحِقَتْ رَافِضَةُ الرُّومِ بِدِمَشْقَ، فَكَانَتْ فِحْلُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ، عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ وَأَقَامَ تِلْكَ الْحَجَّةَ لِلنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى دِمَشْقَ وَخَالِدٌ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الرُّومُ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَاهَانُ بِدِمَشْقَ -وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَزَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ- فَالْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالرُّومُ فِيمَا حَوْلَ دِمَشْقَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ، وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَدَخَلَتِ الرُّومُ دِمَشْقَ، فَغَلَّقُوا أبوابها وجثم الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَرَابَطُوهَا حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَأَعْطَوُا الْجِزْيَةَ، وَقَدْ قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بامارته وعزل خالد، فاستحيا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُقْرِئَ خَالِدًا الْكِتَابَ حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَجَرَى الصُّلْحُ عَلَى يَدَيْ خَالِدٍ، وَكَتَبَ الْكِتَابَ بِاسْمِهِ فَلَمَّا صَالَحَتْ دِمَشْقُ لَحِقَ بَاهَانُ -صَاحِبُ الرُّومِ الَّذِي قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ- بِهِرَقْلَ وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ، وَأَظْهَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِمَارَتَهُ وَعَزْلِ خَالِدٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ، الْتَقَوْا هُمْ وَالرُّومُ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ عَيْنُ فِحْلٍ بَيْنَ فِلَسْطِينَ وَالأُرْدُنِ، فَاقْتَتَلُوا بِهِ قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ لَحِقَتِ الرُّومُ بِدِمَشْقَ.
وَأَمَّا سَيْفٌ -فِيمَا ذَكَرَ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ- فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ أَنَّ الْبَرِيدَ قَدِمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُمْ بِالْيَرْمُوكِ، وَقَدِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ. وَقَصَّ مِنْ خَبَرِ الْيَرْمُوكِ وَخَبَرِ دِمَشْقَ غَيْرَ الَّذِي اقْتَصَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَنَا ذَاكِرٌ بَعْضَ الَّذِي اقْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا قَامَ عمر رضى عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَأَذِنَ لَهُمَا بِدُخُولِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قد منعهما لِفَرَّتِهِمَا الَّتِي فَرَّاهَا وَرَدَّهُمَا إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ: لِيَبْلُغْنِي عَنْكُمَا غِنَاءُ أبلكما بَلاءً، فَانْضَمَّا إِلَى أَيِّ أُمَرَائِنَا أَحْبَبْتُمَا، فَلَحِقَا بِالنَّاسِ فَأَبْلَيَا وَأَغْنَيَا.
خبر دمشق من رواية سيف:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ جُنْدَ الْيَرْمُوكِ، وَتَهَافَتَ أَهْلُ الْوَاقُوصَةِ وَفُرِغَ مِنَ الْمَقَاسِمِ وَالأَنْفَالِ، وَبُعِثَ بِالأَخْمَاسِ وَسُرِّحَتِ الْوُفُودُ، اسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْيَرْمُوكِ بَشِيرَ بْنَ كَعْبِ بْنِ أَبِي الْحِمْيَرِيِّ كَيْلا يَغْتَالُ بردة، وَلا تَقْطَعُ الرُّومُ عَلَى مَوَادهِ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَتَّى يَنْزِلَ بِالصُّفَّرِ، وُهَو يُرِيدُ اتِّبَاعَ الْفَالَةَ، وَلا يَدْرِي يَجْتَمِعُونَ أَوْ يَفْتَرِقُونَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ أَرَزُوا إِلَى فِحْلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَدَدَ قَدْ أَتَى أَهْلَ دِمَشْقَ مِنْ حِمْصَ، فَهُوَ لا يَدْرِي أَبِدِمَشْقَ يَبْدَأُ أَمْ بِفِحْلَ مِنْ بِلادِ الأردن فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَانْتَظَرَ الْجَوَابَ، وَأَقَامَ بِالصُّفَّرِ، فَلَمَّا جَاءَ عُمَرَ فَتْحُ الْيَرْمُوكِ أَقَرَّ الأُمَرَاءَ عَلَى مَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ إِلا مَا كَانَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ ضَمَّ خَالِدًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَمَرَ عَمْرًا بِمَعُونَةِ النَّاسِ، حَتَّى يُصَيِّرَ الْحَرْبَ إِلَى فِلَسْطِينَ، ثُمَّ يَتَوَلَّى حَرْبَهَا.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَمْرِ خَالِدٍ وَعَزْلِ عُمَرَ إِيَّاهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا نَزَعَ عُمَرُ خَالِدًا فِي كَلامٍ كَانَ خَالِدٌ تَكَلَّمَ بِهِ -فِيمَا يَزْعُمُونَ- وَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ عَلَيْهِ سَاخِطًا وَلأَمْرِهِ كَارِهًا فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ، لِوَقْعَتِهِ بِابْنِ نُوَيْرَةَ، وَمَا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي حَرْبِهِ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عَزْلُهُ، فَقَالَ: لا يَلِي لِي عَمَلا أَبَدًا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنْ خالد أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فَأَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْزَعْ عمامته عن رَأْسِهِ، وَقَاسِمْهُ مَالَهُ نِصْفَيْنِ فَلَمَّا ذَكَرَ أَبُو عبيده ذلك لخالد، قال: انظرنى استشر أُخْتِي فِي أَمْرِي، فَفَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَدَخَلَ خَالِدٌ عَلَى أُخْتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ -وَكَانَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ- فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لا يُحِّبُكَ عُمَرُ أَبَدًا، وَمَا يُرِيدُ إِلا أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَكَ ثُمَّ يَنْزَعَكَ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: صَدَقْتِ وَاللَّهِ! فَتَمَّ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَبَى أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَقَامَ بِلالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ: مَا أُمِرْتَ بِهِ فِي خَالِدٍ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَنْزِعَ عِمَامَتَهُ، وَأُقَاسِمَهُ مَالَهُ. فَقَاسَمَهُ مَالَهُ حَتَّى بَقِيَتْ نَعْلاهُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ هَذَا لا يَصْلُحُ إِلا بِهَذَا، فَقَالَ خَالِدٌ: أَجَلْ، مَا أَنَا بِالَّذِي أَعْصِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ! فَأَخَذَ نَعْلا وَأَعْطَاهُ نَعْلا. ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ الْمَدِينَةَ حِينَ عَزَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بْنِ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ كُلَّمَا مَرَّ بِخَالِدٍ قَالَ: يَا خَالِدُ، أَخْرِجْ مَالَ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ اسْتِكَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مِنْ مَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ قَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا قِيمَةُ مَا أَصَبْتُ فِي سُلْطَانِكُمْ! أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ! فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ أَخَذْتُ ذَلِكَ مِنْكَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ: هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ ولم يكن لخالد مال إِلا عِدَّةٌ وَرَقِيقٌ، فَحُسِبَ ذَلِكَ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَاصَفَهُ عُمَرُ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْمَالَ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ رَدَدْتَ عَلَى خَالِدٍ مَالَهُ! فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا تَاجِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَانَ عُمَرُ يَرَى أَنَّهُ قَدِ اشْتَفَى مِنْ خَالِدٍ حِينَ صَنَعَ بِهِ ذَلِكَ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: وَلَمَّا جَاءَ عُمَرَ الْكِتَابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِهِ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَابْدَءُوا بِدِمَشْقَ، فَانْهَدُوا لَهَا، فَإِنَّهَا حِصْنُ الشَّامِ وَبَيْتُ مَمْلَكَتِهِمْ، وَاشْغِلُوا عَنْكُمْ أَهْلَ فِحْلَ بِخَيْلٍ تَكُونُ بِإِزَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ وَأَهْلَ فِلَسْطِينَ وَأَهْلَ حِمْصَ، فَإِنْ فَتَحَهَا اللَّهُ قَبْلَ دِمَشْقَ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَتْحُهَا حَتَّى يَفْتَحُ اللَّهُ دِمَشْقَ فَلْيَنْزِلْ بِدِمَشْقَ مَنْ يُمْسِكْ بِهَا، وَدَعُوهَا، وَانْطَلِقْ أَنْتَ وَسَائِرُ الأُمَرَاءِ حَتَّى تُغِيرُوا عَلَى فِحْلَ، فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَانْصَرِفْ أَنْتَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ، وَدَعْ شُرَحْبِيلَ وَعَمْرًا وَأَخْلِهِمَا بِالأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وَأَمِيرُ كُلِّ بَلَدٍ وَجُنْدٍ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ إِمَارَتِهِ فَسَرَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلَ عَشَرَةَ قُوَّادٍ: أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَبْدَ عَمْرِو بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ الْجُرَشِيَّ، وَعَامِرَ بْنَ حَثْمَةَ، وَعَمْرَو بْنَ كُلَيْبٍ من يحصب، وَعُمَارَةَ بْنَ الْصَعِقِ بْنِ كَعْبٍ، وَصَيْفِيَّ بْنَ عُلْبَةَ بْنِ شَامِلٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْحَبِيبِ بْنِ عَمْرٍو، ولِبْدَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ خَثْعَمَةَ، وَبِشْرَ بْنَ عِصْمَةَ، وَعُمَارَةَ بْنَ مخش قَائِدَ النَّاسِ، وَمَعَ كُلِّ رَجُلٍ خَمْسَةُ قُوَّادٍ، وَكَانَتِ الرُّؤَسَاءُ تَكُونُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَتَّى لا يَجِدُوا مَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَسَارُوا مِنَ الصُّفَّرِ حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ فِحْلَ، فَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ أَنَّ الْجُنُودَ تُرِيدُهُمْ بَثَقُوا الْمِيَاهَ حَوْلَ فِحْلَ، فَأُرْدِغَتِ الأَرْضُ، ثُمَّ وَحِلَتْ، وَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَحَبَسُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ثَمَانِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَكَانَ أَوَّلَ مَحْصُورٍ بِالشَّامِ أَهْلُ فِحْلَ، ثُمَّ أَهْلُ دِمَشْقَ وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَا الْكَلاعِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ دِمَشْقَ وَحِمْصَ رِدْءًا وَبَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ وَمَسْرُوقًا فَكَانَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَفِلَسْطِينَ، وَالأَمِيرُ يَزِيدُ فَفَصَلَ، وَفَصَلَ بِأَبِي عُبَيْدَةَ مِنَ الْمَرْجِ، وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَمْرٌو وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلى الْخَيْلِ عِيَاضٌ، وَعَلَى الرُّجَّلِ شُرَحْبِيلُ، فَقَدِمُوا عَلَى دِمَشْقَ، وعليهم نسطاس بن نسطورس، فَحَصَرُوا أَهْلَ دِمَشْقَ، وَنَزَلُوا حَوَالَيْهَا، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَعَمْرٌو عَلَى نَاحِيَةٍ، وَيَزِيدُ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَهِرَقْلُ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصَ، وَمَدِينَةُ حِمْصَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَحَاصَرُوا أَهْلَ دِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ لَيْلَةً حِصَارًا شَدِيدًا بِالزُّحُوفِ وَالتَّرَامِي وَالْمَجَانِيقِ، وهم معتصمون بِالْمَدِينَةِ يَرْجُونَ الْغِيَاثَ، وَهِرَقلُ مِنْهُمْ قَرِيبٌ وَقَدِ اسْتَمَدُّوهُ وَذُو الْكَلاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حِمْصَ على راس ليله من دمشق، كأنه يُرِيدُ حِمْصَ، وَجَاءَتْ خُيُولُ هِرَقْلَ مُغِيثَةً لأَهْلِ دِمَشْقَ، فَأَشجتْهَا الْخُيُولُ الَّتِي مَعَ ذِي الْكَلاعِ، وَشَغَلَتْهَا عَنِ النَّاسِ، فَأَرَزُوا وَنَزَلُوا بِإِزَائِهِ، وَأَهْلُ دِمَشْقَ عَلَى حَالِهِمْ.
فَلَمَّا أيَقْنَ أَهْلُ دِمَشْقَ أَنَّ الأَمْدَادَ لا تَصِلُ إِلَيْهِمْ فَشِلُوا وَوَهِنُوا وَأُبْلِسُوا وَازْدَادَ الْمُسْلِمُونَ طَمَعًا فِيهِمْ، وَقَدْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّها كَالْغَارَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ، إِذَا هَجَمَ الْبَرْدُ قَفَلَ النَّاسُ، فَسَقَطَ النَّجْمُ وَالْقَوْمُ مُقِيمُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى دُخُولِ دِمَشْقَ، وَوُلِدَ لِلْبِطْرِيقِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ مَوْلُودٌ، فَصَنَعَ عَلَيْهِ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَشَرِبُوا، وَغَفِلُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَلا يَشْعُرُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا مَا كَانَ مِنْ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ، وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ، عُيُونُهُ ذَاكِيَةٌ وَهُوَ مَعْنِيٌّ بِمَا يَلِيهِ، قَدِ اتَّخَذَ حِبَالا كَهَيْئَةِ السَّلالِيمِ وَأَوْهَاقًا فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَهَدَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الَّذِينَ قدم بهم عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَهُمْ هُوَ وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ، وَقَالُوا: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا عَلَى السُّورِ فَارْقُوا إِلَيْنَا، وَانْهَدُوا لِلْبَابِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ رَمَوْا بِالْحِبَالِ الشُّرَفَ وَعَلَى ظُهُورِهِمُ الْقِرَبُ الَّتِي قَطَعُوا بِهَا خَنْدَقِهِمْ فَلَمَّا ثَبَتَ لَهُمْ وَهْقَانِ تَسَلَّقَ فِيهِمَا الْقَعْقَاعُ وَمَذْعُورٌ، ثُمَّ لَمْ يَدَعَا أُحْبُولَةً إِلا أَثْبَتَاهَا -وَالأَوْهَاق بِالشُّرَفِ- وَكَانَ الْمَكَانُ الَّذِي اقْتَحَمُوا مِنْهُ أَحْصَنَ مَكَانٍ يُحِيطُ بِدِمَشْقَ، أَكْثَرَهُ مَاءً، وَأَشَدَّهُ مَدْخَلا، وَتَوَافَوْا لِذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ دَخَلَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا رَقِيَ أَوْ دَنَا مِنَ الْبَابِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَوْا عَلَى السُّورِ حَدَرَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَانْحَدَرَ مَعَهُمْ، وَخَلَّفَ مَنْ يَحْمِي ذَلِكَ الْمَكَانَ لِمَنْ يَرْتَقِي، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَكَبَّرَ الَّذِينَ عَلَى رَأْسِ السُّورِ، فَنَهَدَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْبَابِ، وَمَالَ إِلَى الْحِبَالِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَوَثَبُوا فِيهَا، وَانْتَهَى خَالِدٌ إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَلِيهِ فَأَنَامَهُمْ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْبَابِ، فَقَتَلَ الْبَوَّابِينَ، وَثَارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَفَزِعَ سَائِرُ النَّاسِ، فَأَخَذُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَلا يَدْرُونَ مَا الشَّأْنُ! وَتَشَاغَلَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمَا يَلِيهِمْ، وَقَطَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَمَنْ مَعَهُ أَغْلاقَ الْبَابِ بِالسُّيُوفِ، وَفَتَحُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ دَاخِلٍ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِمَّا يَلِي بَابَ خَالِدٍ مُقَاتِلٌ إِلا أُنِيمَ وَلَمَّا شَدَّ خَالِدٌ عَلَى مَنْ يَلِيهِ، وَبَلَغَ مِنْهُمُ الَّذِي أَرَادَ عَنْوَةً أَرَزَ مَنْ أَفْلَتَ إِلَى أَهْلِ الأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي غَيْرَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْمُشَاطَرَةِ فَأَبَوْا وَأَبْعَدُوا، فَلَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا وَهُمْ يَبُوحُونَ لَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَأَجَابُوهُمْ وَقَبِلُوا مِنْهُمْ، وَفَتَحُوا لَهُمُ الأَبْوَابَ، وَقَالُوا: ادْخُلُوا وَامْنَعُونَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَابِ فَدَخَلَ أَهْلُ كُلِّ بَابٍ بِصُلْحٍ مِمَّا يَلِيهِمْ، وَدَخَلَ خَالِدٌ مِمَّا يَلِيهِ عَنْوَةً، فَالْتَقَى خَالِدٌ وَالْقُوَّادُ فِي وَسَطِهَا، هَذَا اسْتِعْرَاضًا وَانْتِهَابًا، وَهَذَا صُلْحًا وَتَسْكِينًا، فَأَجْرَوْا نَاحِيَةَ خَالِدٍ مَجْرَى الصُّلْحِ، فَصَارَ صُلْحًا، وَكَانَ صُلْحُ دِمَشْقَ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ، الدِّينَارِ وَالْعَقَارِ، وَدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، فَاقْتَسَمُوا الأَسْلابَ، فَكَانَ أَصْحَابُ خَالِدٍ فِيهَا كَأَصْحَابِ سَائِرِ الْقُوَّادِ، وَجَرَى عَلَى الدِّيَارِ وَمَنْ بَقِيَ فِي الصُّلْحِ جَرِيبٌ مِنْ كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ، وَوَقَفَ مَا كَانَ لِلْمُلُوكِ وَمَنْ صَوَّبَ مَعَهُمْ فَيْئًا، وَقَسَّمُوا لِذِي الْكَلاعِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلأَبِي الأَعْوَرِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلِبَشِيرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَبَعَثُوا بِالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كِتَابُ عُمَرَ، بِأَنِ اصْرِفْ جُنْدَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحَثِّ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَمَّرَ عَلَى جُنْدِ الْعِرَاقِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الزُّهْرِيَّ وَرِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ، وَضَرَبُوا بَعْدَ دِمَشْقَ نَحْوَ سَعْدٍ، فَخَرَجَ هَاشِمٌ نَحْوَ الْعِرَاقِ فِي جُنْدِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ الْقُوَّادُ نحو فحل وَأَصْحَابُ هَاشِمٍ عَشَرَةُ آلافٍ إِلا مَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ، فَأَتَمُّوهُمْ بِأُنَاسٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ قَيْسٌ وَالأَشْتَرُ، وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ إِلَى إِيلِيَاءَ، فَنَزَلا عَلَى طَرِيقِهَا، وَبَقِيَ بِدِمَشْقَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ قُوَّادِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَدَدٌ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شِمْرِ بْنِ غَزِيَّةَ، وَسَهْمُ بْنُ الْمُسَافِرِ بْنِ هَزْمَةَ، وَمُشَافِعُ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَافِعٍ وَبَعَثَ يَزِيدُ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ فِي خَيْلٍ بَعْدَ مَا فَتَحَ دِمَشْقَ إِلَى تَدْمُرَ، وَأَبَا الزَّهْرَاءِ الْقُشَيْرِيَّ إِلَى الْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ، فَصَالَحُوهُمَا عَلَى صُلْحِ دِمَشْقٍ، وَوَلِيَا الْقِيَامَ عَلَى فَتْحِ مَا بُعِثَا إِلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ وَقَالَ أَيْضًا: كَانَتْ وَقْعَةُ فِحْلَ قَبْلَ دِمَشْقَ، وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى دِمَشْقَ رَافِضَةُ فِحْلَ، وَاتَّبَعَهَمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا وَزَعَمَ أَنَّ وَقْعَةَ فِحْلَ كَانَتْ سَنَةَ ثلاث عشره فِي ذِي الْقَعْدَةَ مِنْهَا، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْهُ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ: فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فَتْحَ دِمَشْقَ كَانَ فِي سنه اربع عشره، كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَعَمَ أَنَّ حِصَارَ الْمُسْلِمِينَ لَهَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَزَعَمَ أَنْ وقعه اليرموك كانت في سنه خمس عشره وَزَعَمَ أَنَّ هِرَقْلَ جَلا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ فِي شَعْبَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ إِلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْيَرْمُوكِ وَقْعَةٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ مَضَى ذِكْرِي مَا رُوِيَ عَنْ سَيْفٍ، عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ، أَنَّ وَقْعَةَ الْيَرْمُوكِ كَانَتْ فِي سَنَةِ ثَلاثَ عَشَرَةَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَرَدَ عَلَيْهِمُ الْبَرِيدُ بِوَفَاةِ ابى بكر باليرموك، في الْيَوْمِ الَّذِي هُزِمَتِ الرُّومُ فِي آخِرِهِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَمَرَهُمْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْيَرْمُوكِ بِالْمَسِيرِ الى دمشق، وزعم ان فحلا كَانَتْ بَعْدَ دِمَشْقَ، وَأَنَّ حُرُوبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ سِوَى ذَلِكَ، قَبْلَ شُخُوصِ هِرَقْلَ إِلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ، سَأَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ -أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ- وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أبا عبيد ابن مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ نَحْوَ الْعِرَاقِ وَفِيهَا اسْتُشْهِدَ فِي قول الواقدى وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ يَوْمُ الجسر، جسر ابى عبيد بن مسعود الثقفى في سنه اربع عشره.
ذكر أمر فحل من رواية سيف:
قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر فحل إذ كان في الخبر الذي فيه من الاختلاف ما ذكرت من فتوح جند الشام ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل الاختلاف الذي ذكرته في وقته، لقرب بعض ذلك من بعض.
فأما ما قال ابن إسحاق من ذلك وقص من قصته، فقد تقدم ذكريه قبل.
واما السرى فانه فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة العبشمي، قالا: خلف الناس بعد فتح دمشق يزيد بْن أبي سفيان في خيله في دمشق، وساروا نحو فحل، وعلى الناس شرحبيل بْن حسنة، فبعث خالدا على المقدمة وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بْن الأزور، وعلى الرجل عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم ثمانون ألفا، وعلموا أن من بإزاء فحل جنة الروم وإليهم ينظرون، وأن الشام بعدهم سلم فلما انتهوا إلى أبي الأعور، قدموه إلى طبرية، فحاصرهم ونزلوا على فحل من الأردن، -وقد كان أهل فحل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرزوا إلى بيسان- فنزل شرحبيل بالناس فحلا، والروم بيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدثون انفسهم بالمقام، ولا يريدون ان يريموا فحلا حتى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة فحلا وذات الردغة وبيسان وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون، مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، فاغترهم القوم، وعلى القوم سقلار بن مخراق، ورجوا ان يكونوا على غره، فاتوهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم، فهم على حذر وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، فلم يناظروهم، واقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوه قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق، والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد وجدد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم، وقد وحلوا فركبوهم، وما يمنعون يد لامس، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل، وكان مقتلهم في الرداغ، فأصيب الثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلا الشريد، وكان اللَّه يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم، وأناة من اللَّه ليزدادوا بصيرة وجدا، واقتسموا ما أفاء اللَّه عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا سمير بْن كعب معهم، ومضوا بذي الكلاع ومن معه، وخلفوا شرحبيل ومن معه.

ذكر بيسان
ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد في الناس ومعه عمرو إلى أهل بيسان، فنزلوا عليهم، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقي سقلار والروم بفحل وفي الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، ومعه عمرو بْن العاص والحارث بْن هشام وسهيل بْن عمرو، يريد بيسان، وتحصنوا بكل مكان، فسار شرحبيل بالناس إلى أهل بيسان، فحصروهم أياما ثم إنهم خرجوا عليهم فقاتلوهم، فأناموا من خرج إليهم، وصالحوا بقية أهلها، فقبل ذلك على صلح دمشق.

طبرية
وبلغ أهل طبرية الخبر، فصالحوا أبا الأعور، على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل، فصالحوهم وأهل بيسان على صلح دمشق، على أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعون لهم نصفا، ويجتمعون في النصف الآخر، وعن كل رأس دينار كل سنة، وعن كل جريب أرض جريب بر أو شعير، أي ذلك حرث، وأشياء في ذلك صالحوهم عليها، ونزلت القواد وخيولهم فيها، وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد في مدائن الأردن وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح.

ذكر خبر المثنى بْن حارثة وأبي عبيد بن مسعود
كتب إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّادٍ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ وَزِيَادَ بْنِ سَرْجِسَ الأَحْمَرِيِّ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: أَوَّلُ مَا عَمِلَ بِهِ عُمَرُ أَنْ نَدَبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَبَايَعَ النَّاسَ، وَعَادَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى فَارِسَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى الْبَيْعَةِ فَفَرَغُوا فِي ثَلاثٍ، كُلَّ يَوْمٍ يَنْدُبُهُمْ فَلا يَنْتَدِبُ أَحَدٌ إِلَى فَارِسَ، وَكَانَ وَجْهُ فَارِسَ مِنْ أَكْرَهِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِمْ وَأَثْقَلِهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ سُلْطَانِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ وَعِزِّهِمْ وَقَهْرِهِمُ الأُمَمَ.
قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، عَادَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ حَلِيفُ بَنِي فَزَارَةَ، هَرَبَ يَوْمَ الْجِسْرِ، فَكَانَتِ الْوُجُوهُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَأْبَى إِلا الْعِرَاقَ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ اعْتَدَّ عَلَيَّ فِيهَا بِفَرَّةٍ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ فِيهَا كَرَّةً وَتَتَابَعَ النَّاسُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يوسف، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى بن حارثة، فقال: يا ايها النَّاسُ، لا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا الْوَجْهُ، فَإِنَّا قَدْ تَبَحْبَحْنَا رِيفَ فَارِسَ، وَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى خَيْرٍ شِقَّيِ السَّوَادِ وَشَاطَرْنَاهُمْ وَنِلْنَا مِنْهُمْ، وَاجْتَرَأَ مَنْ قِبَلِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا بَعْدَهَا وَقَامَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْحِجَازَ لَيْسَ لَكُمْ بِدَارٍ إِلا عَلَى النُّجْعَةِ، وَلا يَقْوَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ إِلا بِذَلِكَ، أَيْنَ الطُّرَّاءُ الْمُهَاجِرُونَ عَنْ مَوْعُودِ اللَّهِ! سِيرُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمُ اللَّهَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُورِثَكُمُوهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وَاللَّهُ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَمُعِزٌّ نَاصِرَهُ، وَمُوَلِّي أَهْلَهُ مَوَارِيثَ الأُمَمِ أَيْنَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ!
فَكَانَ أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ثنى سعد بن عبيد -او سليط ابن قَيْسٍ- فَلَمَّا اجْتَمَعَ ذَلِكَ الْبَعْثُ، قِيلَ لِعُمَرَ: أَمِّرْ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا رَفَعَكُمْ بِسَبْقِكُمْ وَسُرْعَتِكُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، فاولى بالرئاسة مِنْكُمْ مَنْ سَبَقَ إِلَى الدَّفْعِ، وَأَجَابَ إِلَى الدُّعَاءِ! وَاللَّهِ لا أُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ إِلا أَوَّلَهُمُ انْتِدَابًا.
ثُمَّ دَعَا أَبَا عُبَيْدٍ، وَسُلَيْطًا وَسَعْدًا، فَقَالَ: أَمَّا إِنَّكُمَا لَوْ سَبَقْتُمَاهُ لَوَلَّيْتُكُمَا وَلأَدْرَكْتُمَا بِهَا إِلَى مَا لَكُمَا مِنَ الْقُدْمَةِ فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدٍ عَلَى الْجَيْشِ، وَقَالَ لأَبِي عُبَيْدٍ: اسمع من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ، وَأَشْرِكْهُمْ فِي الأَمْرِ، وَلا تَجْتَهِدْ مُسْرِعًا حَتَّى تَتَبَيَّنَ، فَإِنَّهَا الْحَرْبُ، وَالْحَرْبُ لا يُصْلِحُهَا إِلا الرَّجُلُ الْمَكِيثُ الَّذِي يَعْرِفُ الْفُرْصَةَ وَالْكَفَّ.
وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَبِي عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُؤَمِّرَ سُلَيْطًا إِلا سُرْعَتُهُ إِلَى الْحَرْبِ، وَفِي التَّسَرُّعِ إِلَى الْحَرْبِ ضَيَاعٌ إِلا عَنْ بَيَانٍ، وَاللَّهِ لَوْلا سُرْعَتُهُ لأَمَّرْتُهُ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ لا يُصْلِحُهَا إِلا الْمَكِيثُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ، فَبَعَثَ مَعَهُ بَعْثًا قَدْ كَانَ نَدَبَهُمْ ثَلاثًا، فَلَمْ يَنْتَدِبْ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى انْتَدَبَ لَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ثُمَّ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ انتدب: أَنَا لَهَا، وَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا لَهَا، لفعلة فَعَلَهَا وَقَالَ سُلَيْطٌ: فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَمِّرْ عَلَيْهِمْ رَجُلا لَهُ صُحْبَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا فُضَّلَ الصَّحَابَةُ بِسُرْعَتِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ وَكِفَايَتِهِمْ مَنْ أَبَى، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلَهُمْ قَوْمٌ وَاثَّاقَلُوا كَانَ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ خِفَافًا وَثِقَالا أَوْلَى بِهَا مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لا أَبْعَثُ عَلَيْهِمْ إِلا أَوَّلَهُمُ انْتِدَابًا فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدٍ، وَأَوْصَاهُ بِجُنْدِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ وَمُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ بَعْثٍ بَعَثَهُ عُمَرُ بَعْثَ أَبِي عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعْثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ بِإِجْلاءِ اهل نجران، لوصيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ بِذَلِكَ، وَلِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي مَرَضِهِ، وَقَالَ: ائْتِهِمْ وَلا تَفْتِنْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ أَجْلِهِمْ، مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَأَقْرِرِ الْمُسْلِمَ، وَامْسَحْ أَرْضَ كُلِّ مَنْ تُجْلِي مِنْهُمْ، ثُمَّ خَيِّرْهُمُ الْبُلْدَانَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّا نُجْلِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَلا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ، فَلْيُخْرِجُوا، مَنْ أَقَامَ عَلَى دِينِهِ مِنْهُمْ، ثُمَّ نُعْطِيهِمْ أَرْضًا كَأَرْضِهِمْ، إِقْرَارًا لَهُمْ بِالْحَقِّ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَوَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، بَدَلا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جِيرَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا صَارَ لِجِيرَانِهِمْ بِالرِّيفِ.

خبر النمارق
كَتَبَ إِلَيَّ السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل ومبشر بإسنادهما، ومجالد عن الشعبي، قالوا: فخرج أبو عبيد ومعه سعد بْن عبيد، وسليط بْن قيس، أخو بني عدي بْن النجار، والمثنى بْن حارثة أخو بني شيبان، ثم أحد بني هند.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، وَعَمْرٍو عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي رَوْقٍ، قَالُوا: كَانَتْ بوران بِنْتُ كِسْرَى -كُلَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ بِالْمَدَائِنِ- عَدْلا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَلَمَّا قُتِلَ الْفرخزاذُ بن البندوانِ وَقَدِمَ رُسْتُمُ فَقَتَلَ آزرميدختَ، كَانَتْ عَدْلا إِلَى أَنِ اسْتَخْرَجُوا يزدجردَ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالعَدْلُ بورانُ، وَصَاحِبُ الْحَرْبِ رُسْتُمُ، وَقَدْ كَانَتْ بوران اهدت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبل هديتها، وكانت ضدا على شيرى سَنَةً، ثُمَّ إِنَّهَا تَابَعَتْهُ، وَاجْتَمَعَا عَلَى أَنْ رَأَسَ وَجَعَلَهَا عَدْلا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يحيى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا قَتَلَ سياوخشُ فرخزاذَ بْنَ البندوانِ، وَمَلَكَتْ آزرميدختُ، اخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَتَشَاغَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ غَيْبَةَ الْمُثَنَّى كُلَّهَا إِلَى أَنْ رَجَعَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَبَعَثَتْ بورانُ إِلَى رُسْتُمَ بِالْخَبَرِ، وَاسْتَحَثَّتْهُ بِالسَّيْرِ، وَكَانَ عَلَى فَرْجِ خُرَاسَانَ، فَأَقْبَلَ فِي النَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْمَدَائِنَ، لا يَلْقَى جَيْشًا لآزرميدختَ إِلا هَزَمَهُ، فَاقْتَتَلُوا بِالْمَدَائِنِ، فَهَزَمَ سياوخشَ وَحُصِرَ وَحُصِرَتْ آزرميدختُ، ثُمَّ افْتَتَحَهَا فَقَتَلَ سياوخشَ، وَفَقَأَ عَيْنَ آزرميدختَ، وَنَصَّبَ بورانَ وَدَعَتْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَهْلِ فَارِسَ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ تَضَعْضُعَهُمْ وَإِدْبَارَ أَمْرِهِمْ، عَلَى أَنْ تُمَلِّكَهُ عَشْرَ حِجَجٍ، ثُمَّ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي آلِ كِسْرَى، إِنْ وَجَدُوا مِنْ غِلْمَانِهِمْ أَحَدًا، وَإِلا فَفِي نِسَائِهِمْ.
فَقَالَ رُسْتُمُ: أَمَّا أَنَا فَسَامِعٌ مُطِيعٌ، غَيْرُ طَالِبٍ عِوَضًا وَلا ثَوَابًا، وَإِنْ شَرَّفْتُمُونِي وَصَنَعْتُمْ إِلَيَّ شَيْئًا فَأَنْتُمْ أَوْلِيَاءُ مَا صَنَعْتُمْ، إِنَّمَا أَنَا سَهْمُكُمْ وَطَوْعُ أَيْدِيكُمْ فَقَالَتْ بُورانُ: اغْدُ عَلَيَّ، فَغَدَا عَلَيْهَا وَدَعَتْ مَرَازِبَةَ فَارِسَ، وَكَتَبَتْ لَهُ بِأَنَّكَ عَلَى حَرْبِ فَارِسَ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ رِضًا مِنَّا وَتَسْلِيمٍ لِحُكْمِكَ، وَحُكْمُكَ جَائِزٌ فِيهِمْ مَا كَانَ حُكْمُكَ فِي مَنْعِ أَرْضِهِمْ وَجَمْعِهِمْ عَنْ فُرْقَتِهِمْ وَتَوَّجَتْهُ وَأَمَرَتْ أَهْلَ فَارِسَ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا فَدَانَتْ لَهُ فَارِسُ بَعْدَ قُدُومِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ عُمَرُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَنْ نَادَى: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَتَفَرَّقُوا عَلَى غَيْرِ إِجَابَةٍ مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَأَجَابَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَوَّلَ النَّاسِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ، وَانْتَخَبَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ حَوْلِهَا أَلْفَ رَجُلٍ، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدٍ، فَقِيلَ لَهُ: اسْتَعْمِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لا هَا اللَّهُ ذَا يَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ، لا أَنْدُبُكُمْ فَتَنْكِلُونَ، وَيَنْتَدِبُ غَيْرُكُمْ فَأُؤَمِّرُكُمْ عَلَيْهِمْ! إِنَّكُمْ إِنَّمَا فُضِّلْتُمْ بِتَسَرُّعِكُمْ إِلَى مثلها، فان نكلتم فضلوكم، بَلْ أُؤَمِّرُ عَلَيْكُمْ أَوَّلَكُمُ انْتِدَابًا وَعَجَّلَ الْمُثَنَّى، وَقَالَ: النَّجَاءَ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكَ أَصْحَابُكَ! فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ عُمَرُ فِي خِلافَتِهِ مَعَ بَيْعَتِهِ بَعْثُهُ أَبَا عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعَثَ أَهْلَ نَجْرَانَ، ثُمَّ نَدَبَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا من كل أوب، فرمى بهم الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَرْمُوكِ، بِأَنَّ عَلَيْكُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أَظْفَرَكَ اللَّهُ فَاصْرِفْ أَهْلَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْ أَمْدَادِكُمْ إِذَا هُمْ قَدِمُوا عَلَيْكُمْ فَكَانَ أَوَّلَ فَتْحٍ أَتَاهُ الْيَرْمُوكُ عَلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ مِنْ مُتَوَفَّى أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ فِي الأَمْدَادِ إِلَى الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ قَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَرَجَعَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا غَزَا حِينَ أَذِنَ عُمَرُ لأَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الْغَزْوِ وَقَدْ كَانَتْ فَارِسُ تَشَاغَلَتْ بِمَوْتِ شهر براز عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَلَكَتْ شَاهْ زنانَ، حَتَّى اصْطَلَحُوا على سابور بن شهر براز بْنِ أَردشيرَ بْنِ شَهْرَيَارَ، فَثَارَتْ بِهِ آزرميدختُ، فَقَتَلَتْهُ وَالْفرخزَاذُ، وَمَلَكَتْ -وَرُسْتُمُ بْنُ الْفَرخزَاذِ بِخُرَاسَانَ عَلَى فرجها- فَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ بورانَ وَقَدِمَ الْمُثَنَّى الْحِيرَةَ مِن الْمَدِينَةِ فِي عَشْرٍ، وَلَحِقَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بَعْدَ شَهْرٍ، فَأَقَامَ الْمُثَنَّى بِالْحِيرَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَتَبَ رُسْتُمُ إِلَى دَهَاقِينِ السَّوَادِ أَنْ يَثُورُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَدَسَّ فِي كُلِّ رُسْتَاقٍ رَجُلا لِيَثُورَ بِأَهْلِهِ، فَبَعَثَ جَابَانَ إِلَى الْبَهْقَبَاذِ الأَسْفَلِ، وَبَعَثَ نَرْسِيًّ إِلَى كَسْكَرَ، وَوَعَدَهُمْ يَوْمًا، وَبَعَثَ جُنْدًا لِمُصَادَمَةِ الْمُثَنَّى، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى ذَلِكَ، فَضَمَّ إِلَيْهِ مَسَالِحَهُ وَحَذِرَ، وَعَجِلَ جَابَانَ، فَثَارَ وَنَزَلَ النَّمَارِقَ.
وَتَوَالَوْا عَلَى الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ نَرْسِيٌّ، فَنَزَلَ زَنْدوَرْدَ، وَثَارَ أَهْلُ الرَّسَاتِيقِ مِنْ أَعْلَى الْفُرَاتِ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى فِي جَمَاعَةٍ حَتَّى يَنْزِلَ خَفَّانَ، لِئَلا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، واقام حتى قدم عليه ابو عبيده، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى النَّاسِ، فَأَقَامَ بِخَفَّانَ أَيَّامًا لِيَسْتَجِمَّ أَصْحَابُهُ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَى جَابَانَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ بَعْدَ مَا جَمَّ النَّاسَ وَظَهَرَهُمْ، وَتَعَبَّى، فَجَعَلَ الْمُثَنَّى عَلَى الْخَيْلِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ وَالِقُ بْنُ جيدَارَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبٍ السُّلَمِيُّ وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْ جَابَانَ جشنسُ مَاهْ ومردان شاه فَنَزَلُوا عَلَى جَابَانَ بِالنَّمَارِقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا.
فَهَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ، وَأُسِرَ جَابَانُ، أَسَرَهُ مطر بن فضه التيمى، واسر مردان شاه، أَسَرَهُ أَكْتَلُ بْنُ شَمَّاخٍ الْعُكْلِيُّ، فَأَمَّا أَكْتَلُ فانه ضرب عنق مردان شاه، وَأَمَّا مَطَرُ بْنُ فِضَّةَ فَإِنَّ جَابَانَ خَدَعَهُ، حَتَّى تَفَلَّتَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَخَلَّى عَنْهُ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَتَوْا بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ الْمَلِكُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَقْتُلَهُ، وَقَدْ آمَنَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ كَالْجَسَدِ، مَا لَزِمَ بَعْضَهُمْ فَقَدْ لَزِمَهُمْ كُلَّهُمْ.
فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ الْمَلِكُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ لا أَغْدُرُ، فَتَرَكَهُ.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن ابى عمران الجعفى، قَالَ: وَلَّتْ حَرْبَهَا فَارِسُ رُسْتُمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَ مُنَجِّمًا عَالِمًا بِالنُّجُومِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا الأَمْرِ وَأَنْتَ تَرَى مَا تَرَى! قَالَ: الطَّمَعُ وَحُبُّ الشَّرَفِ فَكَاتَبَ أَهْلَ السَّوَادِ، وَدَسَّ إِلَيْهِمُ الرُّؤَسَاءَ، فَثَارُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَى الْقَوْمِ أَنَّ الأَمِيرَ عَلَيْكُمْ أَوَّلُ مَنْ ثَارَ، فَثَارَ جَابَانُ فِي فُرَاتِ بَادِقْلَى، وَثَارَ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَأَرَزَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمُثَنَّى بِالْحِيرَةِ، فَصَمَدَ لِخَفَّانَ، وَنَزَلَ خَفَّانَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ الأَمِيرُ عَلَى الْمُثَنَّى وَغَيْرِهِ، وَنَزَلَ جَابَانُ النَّمَارِقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ خَفَّانَ، فَالْتَقَوْا بِالنَّمَارِقِ، فَهَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَا شَاءُوا وَبَصَرَ مَطَرُ بْنُ فِضَّةَ -وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ- وَأُبَيٌّ بِرَجُلٍ عَلَيْهِ حُلِيٌّ، فَشَدَّا عَلَيْهِ فَأَخَذَاهُ أَسِيرًا، فَوَجَدَاهُ شَيْخًا كَبِيرًا فَزَهِدَ فِيهِ أُبَيٌّ وَرَغِبَ مَطَرٌ فِي فِدَائِهِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ سَلْبَهُ لأُبَيٍّ، وَأَنَّ إِسَارَهُ لِمَطَرٍ، فَلَمَّا خَلَصَ مَطَرٌ بِهِ، قَالَ: إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ أَهْلُ وَفَاءٍ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تؤمننى وَأُعْطِيكَ غُلامَيْنِ أَمْرَدَيْنِ خَفِيفَيْنِ فِي عَمَلِكَ وَكَذَا وَكَذَا! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَدْخِلْنِي عَلَى مَلِكِكُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، فَفَعَلَ فَأَدْخَلَهُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ، فَتَمَّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَقَامَ أُبَيٌّ وَأُنَاسٌ مِنْ رَبِيعَةَ، فَأَمَّا أُبَيٌّ فَقَالَ: أَسَرْتُهُ أَنَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أَمَانٍ، وَأَمَّا الآخَرُونَ فَعَرَفُوهُ، وَقَالُوا: هَذَا الْمَلِكُ جَابَانُ، وَهُوَ الَّذِي لَقِيَنَا بِهَذَا الْجَمْعِ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنِي فَاعِلا مَعَاشِرَ رَبِيعَةَ؟ أَيُؤَمِّنُهُ صَاحِبُكُمْ وَأَقْتُلُهُ أَنَا! مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ! وَقَسَّمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْغَنَائِمَ، وَكَانَ فِيهَا عِطْرٌ كَثِيرٌ وَنَفَلَ، وَبَعَثَ بِالأَخْمَاسِ مَعَ الْقَاسِمِ.

السقاطية بكسكر
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ انْهَزَمُوا وَأَخَذُوا نَحْوَ كَسْكَرَ لِيَلْجَئُوا إِلَى نَرْسِيٍّ- وَكَانَ نَرْسِيٌّ ابْنَ خَالَةِ كِسْرَى، وَكَانَتْ كَسْكَرُ قَطِيعَةً لَهُ، وَكَانَ النَّرْسِيَّانِ لَهُ، يَحْمِيهِ لا يَأْكُلُهُ بَشَرٌ، وَلا يَغْرِسُهُ غَيْرُهُمْ أَوْ ملك فَارِسَ إِلا مَنْ أَكْرَمُوهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَذْكُورًا مِنْ فِعْلِهِمْ فِي النَّاسِ، وَأَنَّ ثَمَرَهُمْ هَذَا حِمًى، فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ وبورانُ: اشْخُصْ إِلَى قَطِيعَتِكَ فَاحْمِهَا مِنْ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّنَا وَكُنْ رَجُلا، فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ النَّمَارِقِ، وَوُجِّهَتِ الْفَالَةُ نَحْوَ نَرْسِيٍّ -وَنَرْسِيٌّ فِي عَسْكَرِهِ- نَادَى أَبُو عُبَيْدٍ بِالرَّحِيلِ، وَقَالَ لِلْمُجَرَّدَةِ: أَتْبِعُوهُمْ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ عَسْكَرَ نَرْسِيٍّ، أَوْ تُبِيدُوهُمْ فِيمَا بَيْنَ النَّمَارِقِ إِلَى بَارِقٍ إِلى دُرْتَا وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو فِي ذَلِكَ:

لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ *** لَقَدْ صُبِّحَتْ بِالْخِزْيِ أَهْلُ النَّمَارِقِ
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ *** يَجُوسُونَهُمْ مَا بَيْنَ دُرْتَا وَبَارِقِ
قَتَلْنَاهُمْ مَا بَيْنَ مَرْجِ مُسْلِحٍ *** وَبَيْنَ الْهَوَافِي مِنْ طَرِيقِ الْبَذَارِقِ

وَمَضَى أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ ارْتَحَلَ مِنَ النَّمَارِقِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى نَرْسِيٍّ بِكَسْكَرَ -وَنَرْسِيٌّ يَوْمَئِذٍ بِأَسْفَلِ كَسْكَرَ- وَالْمُثَنَّى فِي تَعْبِيَتِهِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا جَابَانَ، وَنَرْسِيٌّ عَلَى مُجَنَّبَتَيْهِ ابْنَا خَالِهِ وَهُمَا ابْنَا خَالِ كِسْرَى بَنْدُوَيْهِ وَتِيرُوَيْهِ ابْنَا بِسْطَامَ، وَأَهْلُ بَارُوسْمَا وَنَهْرِ جَوْبَرَ وَالزَّوَابِي مَعَهُ إِلَى جُنْدِهِ، وَقَدْ أَتَى الْخَبَرُ بورانَ وَرُسْتُمَ بِهَزِيمَةِ جَابَانَ، فَبَعَثُوا إِلَى الْجَالِنُوسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ نَرْسِيَّ وَأَهْلَ كَسْكَرَ وَبَارُوسْمَا وَنَهْرَ جَوْبَرَ وَالزَّابَ، فَرَجَوْا أَنْ يَلْحَقَ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَعَاجَلَهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ فَالْتَقَوْا أَسْفَلَ مِنْ كَسْكَرَ بِمَكَانٍ يُدْعَى السَّقَاطِيَّةَ فَاقْتَتَلُوا فِي صَحَارَى ملس قِتَالا شَدِيدًا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ هَزَمَ فَارِسَ، وَهَرَبَ نَرْسِيٌّ، وَغُلِبَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَخْرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا كَانَ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ كَسْكَرَ، وَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَرَأَى مِنَ الأَطْعِمَةِ شَيْئًا عَظِيمًا، فَبَعَثَ فِيمَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ فَانْتَقَلُوا مَا شَاءُوا، وَأُخِذَتْ خَزَائِنُ نَرْسِيٍّ، فَلَمْ يَكُونُوا بِشَيْءٍ مِمَّا خُزِنَ أَفْرَحَ مِنْهُمْ بِالنَّرْسِيَّانِ، لأَنَّهُ كَانَ يَحْمِيهِ وَيُمَالِئُهُ عَلَيْهِ مُلُوكُهُمْ، فَاقْتَسَمُوهُ فَجَعَلُوا يُطْعِمُونَهُ الْفَلاحِينَ، وَبَعَثُوا بِخُمْسِهِ إِلَى عُمَرَ وَكَتَبُوا إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا مَطَاعِمَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ يَحْمُونَهَا، وَأَحْبَبْنَا أَنْ تَرَوْهَا، وَلِتَذْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ وَإِفْضَالِهِ.
وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَرَّحَ الْمُثَنَّى إِلَى بَارُوسْمَا، وَبَعَثَ وَالِقًا إِلَى الزَّوَابِي وَعَاصِمًا إِلَى نَهْرِ جَوْبَرَ، فَهَزَمُوا مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ وَأَخْرَبُوا وَسَبَوْا، وَكَانَ مِمَّا أَخْرَبَ الْمُثَنَّى وَسَبَى أَهْلَ زَنْدوَرْدَ وَبسُوسِيَا، وَكَانَ أَبُو زَعْبَلٍ مِنْ سَبْيِ زَنْدوَرْدَ، وَهَرَبَ ذَلِكَ الْجُنْدُ إِلَى الْجَالِنُوسِ، فَكَانَ مِمَّنْ أَسَرَ عَاصِمٌ أَهْلُ بيتيقَ مِنْ نَهْرِ جَوْبَرَ، وَمِمَّنْ أَسَرَ وَالِقٌ أَبُو الصَّلْتِ وَخَرَجَ فَرُّوخُ وَفروندَاذُ إِلَى الْمُثَنَّى، يَطْلُبَانِ الْجَزَاءَ وَالذِّمَّةَ، دَفْعًا عَنْ أَرْضِهِمْ، فَأَبْلَغَهُمَا أَبَا عُبَيْدٍ: أَحَدُهُمَا بَارُوسْمَا وَالآخَرُ نَهْرَ جَوْبَرَ، فَأَعْطَيَاهُ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةً، فَرُّوخُ عن باروسما وفر ونداذ عَنْ نَهْرِ جَوْبَرَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الزَّوَابِي وَكَسْكَرُ، وَضَمِنَا لَهُمُ الرِّجَالَ عَنِ التَّعْجِيلِ، فَفَعَلُوا وَصَارُوا صُلْحًا وَجَاءَ فَرُّوخُ وَفروندَاذُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَنْوَاعُ أَطْعِمَةِ فَارِسَ مِنَ الأَلْوَانِ وَالأَخْبِصَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ كَرَامَةٌ أَكْرَمْنَاكَ بِهَا، وَقِرًى لَكَ قَالَ: أَأَكْرَمْتُمُ الْجُنْدَ وَقَرَيْتُمُوهُمْ مِثْلَهُ؟ قَالُوا: لَمْ يَتَيَسَّرْ وَنَحْنُ فَاعِلُونَ، وَإِنَّمَا يَتَرَبَّصُونَ بِهِمْ قُدُومَ الْجَالِنُوسِ وَمَا يَصْنَعُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا لا يَسَعِ الْجُنْدَ، فَرَدَّهُ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ حَتَّى يَنْزِلَ بِبَارُوسْمَا فَبَلَغَهُ مَسِيرُ الْجَالِنُوسِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن النضر بْن السري الضبي، قال: فأتاه الاندرزغر بن الخركبذ بمثل ما جاء به فروخ وفرونداذ.
فقال لهم: أأكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، فرده، وقال: لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد، إن صحب قوما من بلادهم أهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوا فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء اللَّه عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم.
قال أبو جعفر: وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق بنحو من حديث سيف هذا، عن رجاله في توجيه عمر المثنى وأبا عبيد ابن مسعود إلى العراق في حرب من بها من الكفار وحروبهم، ومن حاربهم بها، غير أنه قال: لما هزم جالنوس وأصحابه، ودخل أبو عبيد بَارُوسْمَا، نزل هو وأصحابه قرية من قراها، فاشتملت عليهم، فصنع لأبي عبيد طعام فأتي به، فلما رآه قال: ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين! فقالوا له: كل فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا أو أفضل، فأكل فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم، فأخبروه بما جاءهم من الطعام.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحه وزياده بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ جَابَانُ وَنَرْسِيٌّ اسْتَمَدَّا بورانَ، فَأَمَدَّتْهُمَا بِالْجَالِنُوسِ فِي جُنْدِ جَابَانَ، وَأُمِرَ أَنْ يَبْدَأَ بِنَرْسِيٍّ، ثُمَّ يُقَاتِلُ أَبَا عُبَيْدٍ بَعْدُ، فَبَادَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَهَضَ فِي جُنْدِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْنُوَ، فَلَمَّا دَنَا اسْتَقْبَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَزَلَ الْجَالِنُوسُ بِبَاقُسْيَاثَا مِنْ بَارُوسْمَا، فَنَهَدَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عَلَى تَعْبِيَتِهِ، فَالْتَقَوْا عَلَى بَاقُسْيَاثَا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَرَبَ الْجَالِنُوسُ، وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدٍ، قَدْ غَلَبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلادِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النَّضْرِ بْنِ السَّرِيِّ وَالْمُجَالِدِ بِنَحْوٍ مِنْ وَقْعَةِ بَاقُسْيَاثَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَمُجَالِدٍ وَزِيَادٍ وَالنَّضْرِ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: أَتَاهُ أُولَئِكَ الدَّهَّاقِينُ الْمُتَرَبِّصُونَ جَمِيعًا بِمَا وَسِعَ الْجُنْدُ، وَهَابُوا وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا النَّضْرُ وَمُجَالِدٌ فَإِنَّهُمَا قَالا: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَلَمْ أُعْلِمْكُمْ أَنِّي لَسْتُ آكِلا إِلا مَا يَسَعُ مَنْ مَعِي مِمَّنْ أَصَبْتُمْ بِهِمْ! قَالُوا: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَى بِشَبْعِهِ مِنْ هَذَا فِي رِحَالِهِمْ وَأَفْضَلَ.
فَلَمَّا رَاحَ النَّاسُ عَلَيْهِ سَأَلَهُمْ عَنْ قَرَى أَهْلِ الأَرْضِ فَأَخْبَرُوهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا قَصَرُوا أَوَّلا تَرَبُّصًا وَمَخَافَةَ عُقُوبَةِ أَهْلِ فَارِسَ وَأَمَّا مُحَمَّدٌ وَطَلْحَةُ وَزِيَادٌ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فَلَمَّا عَلِمَ قَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَكَلَ وَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَعَهُ أَضْيَافًا عَلَيْهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، وَقَدْ أَصَابُوا مَنْ نَزَلَ فَارِسَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُمْ أَتَوْا أَبَا عُبَيْدٍ بِشَيْءٍ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ غَلِيظِ عَيْشِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَرِهُوا تَرْكَ مَا أُتُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: قُلْ لِلأَمِيرِ، إِنَّا لا نَشْتَهِي شَيْئًا مَعَ شَيْءٍ أَتَتْنَا بِهِ الدَّهَّاقِينُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ طَعَامٌ كَثِيرٌ مِنْ أَطْعِمَةِ الأَعَاجِمِ، لِتَنْظُرُوا أَيْنَ هُوَ مِمَّا أَتَيْتُمْ بِهِ! إِنَّهُ قرو ونجم وجوزل وشواء وخردل، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَأَضْيَافِهِ عِنْدَهُ:

إِنْ تَكُ ذَا قرو وَنَجمٍ وَجَوْزَلٍ *** فَعِنْدَ ابْنِ فَرُّوخَ شِوَاءٌ وَخَرْدَلُ
وَقَروٌ رِقَاقٌ كَالصَّحَائِفِ طُوِّيَتْ *** عَلَى مُزَعٍ فِيهَا بقولٌ وَجَوْزَلٌ

وَقَالَ أَيْضًا:

صَبَحْنَا بِالبقايسِ رَهْطَ كِسْرَى *** صَبُوحًا لَيْسَ مِنْ خَمْرِ السَّوَادِ
صَبَحْنَاهُمْ بِكُلِّ فَتًى كَمِيٍّ *** وَأَجْرَدَ سَابِحٍ مِنْ خيل عاد

ثُمَّ ارْتَحَلَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَدَّمَ الْمُثَنَّى، وَسَارَ فِي تَعْبِيَتِهِ حَتَّى قَدِمَ الْحِيرَةَ.
وَقَالَ النَّضْرُ وَمُجَالِدٌ وَمُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ: تَقَدَّمَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّكَ تُقْدِمُ عَلَى أَرْضِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، تُقْدِمُ عَلَى قَوْمٍ قَدْ جَرَءُوا عَلَى الشَّرِّ فَعَلِمُوهُ، وَتَنَاسَوُا الْخَيْرَ فَجَهِلُوهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ! وَاخْزُنْ لِسَانَكَ، وَلا تُفْشِيَنَّ سِرَّكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ السِّرِّ مَا ضَبَطَهُ، مُتَحَصِّنٌ لا يُؤْتَى مِنْ وَجْهٍ يَكْرَهُهُ، وَإِذَا ضَيَّعَهُ كَانَ بِمَضْيَعَةٍ.

وقعة القرقس
ويقال لها القس قس الناطف، ويقال لها الجسر، ويقال لها المروحة قال ابو جعفر الطبرى رحمه الله: كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ الْجَالِنُوسُ إِلَى رُسْتُمَ وَمَنْ أَفْلَتَ مِنْ جُنُودِهِ، قَالَ رُسْتُمُ: أَيُّ الْعُجْمِ أَشَدُّ عَلَى الْعَرَبِ فِيمَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: بهمنُ جَاذُوَيْهِ، فَوَجَّهَهُ وَمَعَهُ فِيَلَةٌ وَرَدَّ الْجَالِنُوسَ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدِّمِ الْجَالِنُوسَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَأَقْبَلَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ وَمَعَهُ دَرفشُ كابيانَ رَايَةُ كِسْرَى- وَكَانَتْ مِنْ جُلُودِ النَّمِرِ، عَرْضَ ثَمَانِيَةِ أَذْرُعٍ فِي طُولِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا- وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَزَلَ الْمَرْوَحَةَ، مَوْضِعَ الْبُرْجِ وَالْعَاقُولِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بهمنُ جَاذُوَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَنَدَعُكُمْ وَالْعُبُورَ وَإِمَّا أَنْ تَدَعُونَا نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ! فَقَالَ النَّاسُ: لا تَعْبُرْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ، نَنْهَاكَ عَنِ الْعُبُورِ وَقَالُوا لَهُ: قُلْ لَهُمْ: فَلْيَعْبُرُوا -وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سُلَيْطٌ- فَلَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ، وَتَرَكَ الرَّأْيَ، وَقَالَ: لا يَكُونُونَ أَجْرَأَ عَلَى الْمَوْتِ مِنَّا، بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْهِمْ فَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقِ الْمَطْرَدِ وَالْمَذْهَبُ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمًا -وَأَبُو عُبَيْدٍ فِيمَا بَيْنَ السِّتَّةِ وَالْعَشَرَةِ- حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، وَاسْتَبْطَأَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ الْفَتْحَ، أَلَّفَ بَيْنَ النَّاسِ، فَتَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ وَضَرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْفِيلَ، وَخَبَطَ الْفِيلُ أَبَا عُبَيْدٍ، وَقَدْ أَسْرَعَتِ السُّيُوفُ فِي أَهْلِ فَارِسَ، وَأُصِيبَ مِنْهُمْ سِتَّةُ آلافٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَبْقَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ إِلا الْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا خُبِطَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَامَ عَلَيْهِ الْفِيلُ جَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، ثُمَّ تَمُّوا عَلَيْهَا، وَرَكِبَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، فَبَادَرَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ إِلَى الْجِسْرِ فَقَطَعَهُ، فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَيْهِ وَالسُّيُوفُ تَأْخُذُهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَتَهَافَتُوا فِي الْفُرَاتُ، فَأَصَابُوا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ آلافِ، مِنْ بَيْن غَرِيقٍ وَقَتِيلٍ، وَحَمَى الْمُثَنَّى النَّاسَ وَعَاصِمٌ وَالْكَلَجُ الضَّبِّيُّ وَمَذْعُورٌ، حَتَّى عَقَدُوا الْجِسْرَ وَعَبَرُوهُمْ ثُمَّ عَبَرُوا فِي آثَارِهِمْ، فَأَقَامُوا بِالْمَرْوَحَةِ وَالْمُثَنَّى جَرِيحٌ، والْكَلَجُ وَمَذْعُورٌ وَعَاصِمٌ- وكانوا حماه لناس- مَعَ الْمُثَنَّى، وَهَرَبَ مِنَ النَّاسِ بَشَرٌ كَثِيرٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَافْتَضَحُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَحْيُوا مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَوَى إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ! اللَّهُمَّ إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فِي حِلٍّ مِنِّي، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ! لَوْ كَانَ عَبَرَ فَاعْتَصَمَ بِالْخِيفِ، أَوْ تَحَيَّزَ إِلَيْنَا وَلَمْ يَسْتَقْتِلْ لَكُنَّا لَهُ فِئَةٌ! وَبَيْنَا أَهْلُ فَارِسَ يُحَاوِلُونَ الْعُبُورَ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ قَدْ ثَارُوا بِرُسْتُمَ، وَنَقَضُوا الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَصَارُوا فِرْقَتَيْنِ: الْفهلُوجُ عَلَى رُسْتُمَ، وَأَهْلُ فَارِسَ عَلَى الْفيرزانِ، وَكَانَ بَيْنَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ وَالْجِسْرِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِالْخَبَرِ عَنِ الْيَرْمُوكِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَالَّذِي جَاءَ بِالْخَبَرِ عَنِ الْجِسْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ -وَلَيْسَ بِالَّذِي رَأَى الرُّؤْيَا- فَانْتَهَى إِلَى عُمَرَ وَعُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَادَى عُمَرُ: الْخَبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ! قَالَ: أَتَاكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرَ فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ.
وَكَانَتِ الْيَرْمُوكُ فِي أَيَّامٍ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَالْجِسْرِ فِي شَعْبَانَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد ابن الْمَرْزُبَانِ، قَالا: وَاسْتَعْمَلَ رُسْتُمُ عَلَى حَرْبِ أَبِي عُبَيْدٍ بهمنَ جَاذُوَيْهِ، وَهُوَ ذُو الْحَاجِبِ، وَرَدَّ مَعَهُ الْجَالِنُوسَ وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ، فِيهَا فِيلٌ أَبْيَضُ عَلَيْهِ النخلُ، وَأَقْبَلَ فِي الدهم، وَقَدِ اسْتَقْبَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِلَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ انْحَازَ حَتَّى جَعَلَ الْفُرَاتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فعسكر بالمروحة ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ نَدِمَ حِينَ نَزَلُوا بِهِ وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ، فَحَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ الْفُرَاتَ إِلَيْهِمْ، وَلَيَمْحَصَنَّ مَا صَنَعَ، فَنَاشَدَهُ سُلَيْطُ بْنُ قَيْسٍ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَ جُنُودِ فَارِسَ مُذْ كَانُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ حَفَلُوا لَنَا وَاسْتَقْبَلُونَا مِنَ الزُّهَاءِ وَالْعُدَّةِ بِمَا لَمْ يَلْقَنَا بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ نَزَلْتَ مَنْزِلا لَنَا فِيهِ مَجَالٌ وَمَلْجَأٌ وَمَرْجِعٌ، مِنْ فَرَّةٍ إِلَى كَرَّةٍ فَقَالَ: لا أَفْعَلُ، جَبُنْتَ وَاللَّهِ! وَكَانَ الرَّسُولُ فِيمَا بَيْنَ ذِي الْحَاجِبِ وَأَبِي عبيد مردان شاه الْخصي، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ عَيَّرُوهُمْ، فَازْدَادَ أَبُو عُبَيْدٍ مَحَكًّا، وَرَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ الرَّأْيَ، وَجَبُنَ سُلَيْطًا، فَقَالَ: سُلَيْطٌ: أَنَا وَاللَّهِ أَجْرَأُ مِنْكَ نَفْسًا، وَقَدْ أَشَرْنَا عَلَيْكَ الرَّأْيَ فَسَتَعْلَمُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عَنِ الأَغَرِّ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: أَقْبَل ذُو الْحَاجِبِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بِقُسِّ النَّاطِفِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مُعَسْكِرٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بِالْمَرْوَحَةِ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ فَعَقَدَ ابْنُ صَلُوبَا الْجِسْرَ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَدْ رَأَتْ دَوْمَةُ امْرَأَةُ أَبِي عُبَيْدٍ رُؤْيَا وَهِيَ بِالْمَرْوَحَةِ، أَنَّ رَجُلا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَشَرِبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَبْرٌ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَخْبَرَتْ بِهَا أَبَا عُبَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الشِّهَادَةُ، وَعَهِدَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَعَلَى النَّاسِ جَبْرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْكُمْ فُلانٌ، حَتَّى أَمَّرَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ الإِنَاءِ عَلَى الْوَلاءِ مِنْ كَلامِهِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ قُتِلَ أَبُو الْقَاسِمِ فَعَلَيْكُمُ الْمُثَنَّى، ثُمَّ نَهَدَ بِالنَّاسِ فَعَبَرَ وَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ، وَعَضِلَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَأَلْحَمَ النَّاسُ الْحَرْبَ.
فَلَمَّا نَظَرَتِ الْخُيُولُ إِلَى الْفِيَلَةِ عَلَيْهَا النَّخلُ، وَالْخَيْلُ عَلَيْهَا التَّجَافِيفُ وَالْفِرْسَانُ عَلَيْهِمُ الشُّعُرُ رَأَتْ شَيْئًا مُنْكَرًا لَمْ تَكُنْ تَرَى مِثْلَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا حَمَلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ تَقَدَّمْ خُيُولُهُمْ، وَإِذَا حَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْفِيَلَةِ وَالْجَلاجِلِ فَرَّقَتْ بَيْنَ كَرَادِيسِهِمْ، لا تَقُومُ لَهَا الْخَيْلُ إِلا عَلَى نِفَارٍ وَخَزَقَهُمُ الْفُرْسُ بِالنُّشَّابِ، وَعَضَّ الْمُسْلِمِينَ الأَلَمُ، وَجَعَلُوا لا يَصِلُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَتَرَجَّلَ النَّاسُ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَيْهِمْ فَصَافَحُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَجَعَلَتِ الْفِيَلَةُ لا تَحْمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ إِلا دَفَعَتْهُمْ، فَنَادَى أَبُو عُبَيْدٍ: احْتَوِشُوا الْفِيلَةَ، وَقَطِّعُوا بَطْنَهَا وَاقْلِبُوا عَنْهَا أَهْلَهَا، وَوَاثَبَ هُوَ الْفِيلَ الأَبْيَضَ، فَتَعَلَّقَ بِبِطَانِهِ فَقَطَعَهُ، وَوَقَعَ الَّذِينَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ الْقَوْمُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَا تَرَكُوا فِيلا إِلا حَطُّوا رَحْلَهُ، وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، وَأَهْوَى الْفِيلُ لأَبِي عُبَيْدٍ، فَنَفَحَ مِشْفَرَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ الْفِيلُ بِيَدِهِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ يَتَجَرْثَمُهُ، فَأَصَابَهُ بِيَدِهِ فَوَقَعَ فَخَبَطَهُ الْفِيلُ، وَقَامَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَصرَ النَّاسُ بِأَبِي عُبَيْدٍ تَحْتَ الْفِيلِ، خَشَعَتْ أَنْفُسُ بَعْضِهِمْ، وَأَخَذَ اللِّوَاءَ الَّذِي كَانَ أَمَّرَهُ بَعْدَهُ، فَقَاتَلَ الْفِيلَ حَتَّى تَنَحَّى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَاجْتَرَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْرَزُوا شِلْوَهُ، وَتَجَرْثَمَ الْفِيل فَاتَّقَاهُ الْفِيلُ بِيَدِهِ، دَأْبَ أَبِي عُبَيْدٍ وَخَبَطَهُ الْفِيلُ وَقَامَ عَلَيْهِ وَتَتَابَعَ سَبْعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ اللِّوَاءَ فَيُقَاتِلُ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ الْمُثَنَّى، وَهَرَبَ النَّاسُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ الثَّقَفِيُّ مَا لَقِيَ أَبُو عُبَيْدٍ وَخُلَفَاؤُهُ وَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ، بَادَرَهُمْ إِلَى الْجِسْرِ فَقَطَعَهُ، وَقَالَ: يا ايها النَّاسُ، مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أُمَرَاؤُكُمْ أَوْ تَظْفُرُوا وَحَازَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجِسْرِ، وَخَشَعَ نَاسٌ فَتَوَاثَبُوا فِي الْفُرَاتِ، فَغَرِقَ مَنْ لَمْ يَصْبِرْ وَأَسْرَعُوا فِيمَنْ صَبَرَ، وَحَمَى الْمُثَنَّى وفرسان من المسلمين الناس، ونادى: يا ايها النَّاسُ، إِنَّا دُونَكُمْ فَاعْبُرُوا عَلَى هَيِّنَتِكُمْ وَلا تَدْهَشُوا، فَإِنَّا لَنْ نُزَايِلَ حَتَّى نَرَاكُمْ مِنْ ذلك الجانب، ولا تغرقوا انفسكم.
فوجدوا الْجِسْرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ قَائِمٌ عَلَيْهِ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الْعُبُورِ، فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ الْمُثَنَّى، فَضَرَبَهُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: لِيُقَاتِلُوا، وَنَادَى مِنْ عَبَرَ فَجَاءُوا بِعُلُوجٍ، فَضُمُّوا إِلَى السَّفِينَةِ الَّتِي قُطِعَتْ سَفَائِنُهَا، وَعَبَرَ النَّاسُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ قُتِلَ عِنْدَ الْجِسْرِ سُلَيْطُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَبَرَ الْمُثَنَّى وَحَمَى جَانِبَهُ، فَاضْطَرَبَ عَسْكَرُهُ، وَرَامَهُمْ ذُو الْحَاجِبِ فَلَمْ يقدر عليهم، فَلَمَّا عَبَرَ الْمُثَنَّى وَحَمَى جَانِبَهُ ارْفَضَّ عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتَّى لَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَرَكَهَا بَعْضُهُمْ وَنَزَلُوا الْبَوَادِي وَبَقِيَ الْمُثَنَّى فِي قِلَّةٍ.
كَتَبَ إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن رجل، عن أبي عثمان النهدي، قال: هلك يومئذ أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي ثلاثة آلاف، وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف فارس، فرجع بجنده، وكان ذلك سببا لارفضاضهم عنه، وجرح المثنى، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعطية نحوا مِنْهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَعَطِيَّةَ وَالنَّضْرِ، أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمَّا لَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَمَّنْ سَارَ فِي الْبِلادِ اسْتِحْيَاءً مِنَ الْهَزِيمَةِ، اشتد على عمر ذلك ورحمهم قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ كُلُّ مُسْلِمٍ فِي حِلٍّ مِنِّي، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَفَظِعَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ فَأَنَا لَهُ فِئَةٌ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ لَوْ كَانَ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةٌ! وَبَعَثَ الْمُثَنَّى بِالْخَبَرِ إِلَى عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِنَحْوِ خَبَرِ سَيْفٍ هَذَا فِي أَمْرِ أَبِي عُبَيْدٍ وَذِي الْحَاجِبِ، وَقِصَّةِ حَرْبِهِمَا، إِلا أَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ رَأَتْ دَوْمَةُ أُمُّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّ رَجُلا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَشَرِبَ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَبْرُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ وَقَالَ أَيْضًا: فَلَمَّا رَأَى أَبُو عُبَيْدٍ مَا يَصْنَعُ الْفِيلُ، قَالَ: هَلْ لِهَذِهِ الدَّابَّةِ مِنْ مَقْتَلٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، إِذَا قُطِعَ مِشْفَرُهَا مَاتَتْ، فَشَدَّ عَلَى الْفِيلِ فَضَرَبَ مِشْفَرَهُ فَقَطَعَهُ، وَبَرَكَ عَلَيْهِ الْفِيلُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ أَيْضًا: فَرَجَعَتِ الْفُرْسُ وَنَزَلَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ أُلَيْسَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، فَلَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِخَبَرِ النَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْخَطْمِيُّ، فاخبر الناس.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَنَادَى: الْخَبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ! وَهُوَ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَمُرُّ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ؟ قَالَ: أَتَاكَ الْخَبَرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَخْبَرَهُ خَبَرَ النَّاسِ، فَمَا سَمِعْتُ بِرَجُلٍ حَضَرَ أَمْرًا فَحَدَّثَ عَنْهُ كَانَ أَثْبَتَ خَبَرًا مِنْهُ فَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ النَّاسِ، وَرَأَى عُمَرُ جَزَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِنَ الْفِرَارِ، قَالَ: لا تَجْزَعُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنَا فِئَتُكُمْ، إِنَّمَا انْحَزْتُمْ إِلَيَّ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ مُعَاذًا القاري أَخَا بَنِي النَّجَّارِ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَهَا فَفَرَّ يَوْمَئِذٍ، فَكَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]، بَكَى، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: لا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، أَنَا فِئَتُكَ، وَإِنَّمَا انْحَزْتَ إِلَيَّ.

خبر أليس الصغرى
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ وَعَطِيَّةَ، قَالُوا: وَخَرَجَ جَابَانُ ومردان شاه حَتَّى أَخَذَا بِالطَّرِيقِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ سَيَرْفُضُونَ وَلا يَشْعُرُونَ بِمَا جَاءَ ذَا الْحَاجِبِ مِنْ فُرْقَةِ أَهْلِ فَارِسَ، فَلَمَّا ارْفَضَّ أَهْلُ فَارِسَ، وَخَرَجَ ذُو الْحَاجِبِ فِي آثَارِهِمْ، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى فعله جابان ومردان شاه، اسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، وَخَرَجَ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ يُرِيدُهُمَا، فَظَنَّا أَنَّهُ هَارِبٌ، فَاعْتَرَضَاهُ فَأَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ، وَخَرَجَ أَهْلُ أُلَّيْسَ عَلَى أَصْحَابِهِمَا، فَأَتَوْهُ بِهِمْ أُسَرَاءَ، وَعَقَدَ لَهُمْ بِهَا ذِمَّةً وَقَدَّمَهُمَا، وَقَالَ: أَنْتُمَا غَرَّرْتُمَا أَمِيرَنَا، وَكَذَبْتُمَاهُ وَاسْتَفْزَزْتُمَاهُ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ الأُسَرَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَهَرَبَ أَبُو مِحْجَنٍ مِنْ أُلَّيْسَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَعَ الْمُثَنَّى، وَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَنَفَرٌ اسْتَأْذَنُوا خَالِدًا مِنْ سُوَى، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ لَهُ جَرِيرٌ حَاجَتَهُ، فَقَالَ: أَعَلَى حَالِنَا، وَأَخَّرَهُ بِهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ دَعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَقَامَهَا، فَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ السُّعَاةِ فِي الْعَرَبِ كُلِّهِمْ: مَنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ يُنْسَبُ إِلَى بَجِيلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ فِي الإِسْلامِ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَأَخْرِجُوهُ إِلَى جَرِيرٍ وَوَعَدَهُمْ جَرِيرٌ مَكَانًا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالْمَدِينَةِ وَلَمَّا أُعْطِيَ جَرِيرٌ حَاجَتَهُ فِي اسْتِخْرَاجِ بَجِيلَةَ مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَهُمْ فَأُخْرِجُوا لَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَوْعِدِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ، فَتَتَامَّوْا، قَالَ لِجَرِيرٍ: اخْرُجْ حَتَّى تَلْحَقَ بِالْمُثَنَّى، فَقَالَ: بَلِ الشَّامُ، قَالَ: بَلِ الْعِرَاقُ، فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ قَوَوْا عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَأَبَى حَتَّى أَكْرَهَهُ، فَلَمَّا خَرَجُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَوْعِدِ عَوَّضَهُ لإِكْرَاهِهِ وَاسْتِصْلاحًا لَهُ، فَجَعَلَ لَهُ رُبْعُ خُمُسِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزَاتِهِمْ هَذِهِ لَهُ وَلِمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَلِمَنْ أَخْرَجَ لَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبَائِلِ، وَقَالَ: اتَّخِذُونَا طَرِيقًا، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ فَصَلُوا مِنْهَا إِلَى الْعِرَاقِ مُمِدِّينَ لِلْمُثَنَّى، وَبَعَثَ عِصْمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ الضَّبِيِّ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَلَمْ يُوَافِ شَعْبَانَ أَحَدٌ إِلا رَمَى بِهِ الْمُثَنَّى.

البويب
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وبعث المثنى بعد الجسر فيمن يليه من الممدين، فتوافوا إليه في جمع عظيم، وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به وبما ينتظرون من الأمداد، واجتمعا على أن يبعثا مهران الهمذاني، حتى يريا من رأيهما، فخرج مهران في الخيول وأمراه بالحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ بين القادسية وخفان في الذين أمدوه من العرب عن خبر بشير وكنانة -وبشير يومئذ بالحيرة- فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير ومن معه: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.
وكان جرير ممدا له، وكتب إلى عصمة ومن معه، وكان ممدا له بمثل ذلك، وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية والجوف، وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة على النجف، ومن سلك معه طريقه، وطلع جرير على الجوف ومن سلك معه طريقه، فانتهوا إلى المثنى، وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم، وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره فقال المثنى لرجل من اهل السواد: ما يقال للرقعه للتي فيها مهران وعسكره؟ قال: بسوسيا فقال: أكدي مهران وهلك! نزل منزلا هو البسوس، وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم في الملطاط، فقال المثنى لذلك الرجل: ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ قال: شوميا -وذلك في رمضان- فنادى في الناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، وقد كان المثنى عبى جيشه، فجعل على مجنبتيه مذعورا والنسير، وعلى المجردة عاصما، وعلى الطلائع عصمة، واصطف الفريقان، وقام المثنى فيهم خطيبا، فقال: إنكم صوام، والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم قالوا: نعم، فأفطروا، فأبصر رجلا يستوفز ويستنتل من الصف، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر، وهو يريد ان يستقبل، فقرعه بالرمح، وقال: لا ابالك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني بمثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ وَعَنْ سُفْيَانَ الأَحْمَرِيِّ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالا: قَالَ عُمَرُ حِينَ اسْتَجَمَّ جَمْعُ بَجِيلَةَ: اتَّخذُونَا طَرِيقًا، فَخَرَجَ سَرَوَاتُ بَجِيلَةَ وَوَفْدُهُمْ نَحْوَهُ، وَخَلَّفُوا الْجُمْهُورَ، فَقَالَ: أَيُّ الْوُجُوهِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: الشَّامُ فَإِنَّ أَسْلافَنَا بِهَا، فَقَالَ: بَلِ الْعِرَاقُ، فَإِنَّ الشَّامَ فِي كِفَايَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ، وَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ حَتَّى عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ لَهُمْ رُبْعَ خُمُسِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى نَصِيبِهِمْ مِنَ الْفَيْءِ، فَاسْتَعْمَلَ عَرْفَجَةَ عَلَى مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى جَدِيلَةَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَجَرِيرًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَلاهُ قِتَالَ أَهْلِ عُمَانَ فِي نَفَرٍ، وَأَقْفَلَهُ حِينَ غَزَا فِي الْبَحْرِ، فَوَلاهُ عُمَرُ عِظَمَ بَجِيلَةَ، وَقَالَ: اسْمَعُوا لِهَذَا، وَقَالَ لِلآخَرِينَ: اسْمَعُوا لِجَرِيرٍ، فَقَالَ جَرِيرٌ لِبَجِيلَةَ: تُقِرُّونَ بِهَذَا -وَقَدْ كَانَتْ بَجِيلَةُ غَضِبَتْ عَلَى عَرْفَجَةَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ- وَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْنَا مَا أَدْخَلَ! فَاجْتَمَعُوا فَأَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: أَعْفِنَا مِنْ عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: لا أَعْفِيكُمْ مِنْ أَقْدَمِكُمْ هِجْرَةً وَإِسْلامًا، وَأَعْظَمِكُمْ بَلاءً وَإِحْسَانًا، قَالُوا: اسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا رَجُلا مِنَّا، وَلا تَسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا نَزِيعًا فِينَا، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَهُ مِنْ نَسَبِهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا مَا تَقُولُونَ! قَالُوا: نَقُولُ مَا تَسْمَعُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ اسْتَعْفُونِي مِنْكَ، وَزَعَمُوا أَنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ، فَمَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَسُرُّنِي أَنِّي مِنْهُمْ.
أَنَا امْرُؤٌ مِنَ الأَزْدِ، ثُمَّ مِنْ بَارِقَ، فِي كَهفٍ لا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَحَسَبٍ غَيْرِ مُؤْتَشِبٍ فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْحَيُّ الأَزْدُ! يَأْخُذُونَ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ عَرْفَجَةُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِي أَنَّ الشَّرَّ تَفَاقَمَ فِينَا، ودارنا واحده، فَأَصَبْنَا الدِّمَاءَ، وَوَتِرَ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاعْتَزَلْتُهُمْ لَمَّا خِفْتُهُمْ، فَكُنْتُ فِي هَؤُلاءِ أَسُودُهُمْ وَأَقُودُهُمْ، فَحَفِظُوا عَلَيَّ لأَمْرٍ دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ دَهَاقِينِهِمْ، فَحَسَدُونِي وَكَفَّرُونِي فَقَالَ: لا يَضُرُّكَ فَاعْتَزِلْهُمْ إِذْ كَرِهُوكَ وَاسْتَعْمَلَ جَرِيرًا مَكَانَهُ، وَجَمَعَ لَهُ بَجِيلَةَ، وَأَرَى جَرِيرًا وَبَجِيلَةَ أَنَّهُ يَبْعَثُ عَرْفَجَةَ إِلَى الشَّامِ، فَحَبَّبَ ذَلِكَ إِلَى جَرِيرٍ الْعِرَاقَ، وَخَرَجَ جَرِيرٌ في قومه ممدا للمثنى ابن حَارِثَةَ، حَتَّى نَزَلَ ذَا قَارَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْجُلِّ وَالْمُثَنَّى بِمَرْجِ السّبَاخِ، أَتَى الْمُثَنَّى الْخَبَرُ عَنْ حَدِيثِ بَشِيرٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، أَنَّ الأَعَاجِمَ قَدْ بَعَثُوا مِهْرَانَ، وَنَهَضَ مِنَ الْمَدَائِنِ شَاخِصًا نَحْوَ الْحِيرَةِ فَأَرْسَلَ الْمُثَنَّى إِلَى جَرِيرٍ وَإِلَى عِصْمَةَ بِالْحَثِّ، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ أَلا يَعْبُرُوا بَحْرًا وَلا جِسْرًا إِلا بَعْدَ ظَفْرٍ، فَاجْتَمَعُوا بِالْبُوَيْبِ، فَاجْتَمَعَ الْعَسْكَرَانِ عَلَى شَاطِئِ الْبُوَيْبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانَ الْبُوَيْبُ مُغِيضًا لِلْفُرَاتِ أَيَّامَ الْمُدُودِ، أَزْمَانَ فَارِسَ، يَصُبُّ فِي الْجَوْفِ، وَالْمُشْرِكُونَ بِمَوْضِعِ دَارِ الرِّزْقِ، وَالْمُسْلِمُونَ بِمَوْضِعِ السَّكُونِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ وَالْمُجَالِدِ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: وَقَدِمَا عَلَى عُمَرَ غُزَاةُ بَنِي كِنَانَةَ وَالأَزْدِ فِي سبعمائة جَمِيعًا، فَقَالَ: أَيُّ الْوُجُوهِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: الشَّامُ، أَسْلافُنَا أَسْلافُنَا! فَقَالَ: ذَلِكَ قَدْ كُفِيتُمُوهُ، الْعِرَاقَ الْعِرَاقَ! ذَرُوا بَلْدَةً قَدْ قَلَّلَ اللَّهُ شَوْكَتَهَا وَعَدَدَهَا، وَاسْتَقْبِلُوا جِهَادَ قَوْمٍ قَدْ حَوَوْا فُنُونَ الْعَيْشِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُورِثَكُمْ بِقِسْطِكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَتَعِيشُوا مَعَ مَنْ عَاشَ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَعَرْفَجَةُ الْبَارِقِيُّ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقَوْمِهِ، وَقَامَا فِيهِمْ: يَا عَشِيرَتَاهُ! أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَرَى، وَأَمْضُوا لَهُ مَا يُسْكِنُكُمْ قَالُوا: إِنَّا قَدْ أَطَعْنَاكَ وَأَجَبْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا رَأَى وَأَرَادَ فَدَعَا لَهُمْ عُمَرُ بِخَيْرٍ وَقَالَهُ لَهُمْ، وَأَمَّرَ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ غَالِبَ بْنَ عبدِ اللَّهِ وَسَرَّحَهُ، وَأَمَّرَ عَلَى الأَزْدِ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ وَعَامَّتُهُمْ مِنْ بَارِقَ، وَفَرِحُوا بِرُجُوعِ عَرْفَجَةَ إِلَيْهِمْ.
فَخَرَجَ هَذَا فِي قَوْمِهِ، وَهَذَا فِي قَوْمِهِ، حَتَّى قَدِمَا عَلَى الْمُثَنَّى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَمْرٍو بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: وَخَرَجَ هِلالُ بْنُ عُلْفَةَ التَّيْمِيُّ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّبَابِ حَتَّى أَتَى عُمَرَ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَرَّحَهُ، فَقَدِمَ عَلَى الْمُثَنَّى وَخَرَجَ ابْنُ الْمُثَنَّى الْجُشَمِيُّ، جُشَمُ سَعْدٍ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ، فَوَجَّهَهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى بَنِي سَعْدٍ، فَقَدِمَ عَلَى الْمُثَنَّى.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي وعطية بإسنادهما، قالا: وجاء عبد اللَّه بْن ذي السهمين في أناس من خثعم، فأمره عليهم ووجهه إلى المثنى، فخرج نحوه حتى قدم عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وجاء ربعي في أناس من بني حنظلة، فأمره عليهم وسرحهم، وخرجوا حتى قدم بهم على المثنى، فرأس بعده ابنه شبث بْن ربعي، وقدم عليه أناس من بني عمرو، فأمر عليهم ربعي بْن عامر بْن خالد العنود، وألحقه بالمثنى، وقدم عليه قوم من بني ضبة، فجعلهم فرقتين، فجعل على إحدى الفرقتين ابن الهوبر، وعلى الأخرى المنذر بْن حسان، وقدم عليه قرط بْن جماح في عبد القيس، فوجهه وقالوا جميعا: اجتمع الفيرزان ورستم على أن يبعثا مهران لقتال المثنى واستأذنا بوران -وكانا إذا أرادا شيئا دنوا من حجابها حتى يكلماها به- فقالا بالذي رأيا وأخبراها بعدد الجيش -وكانت فارس لا تكثر البعوث، حتى كان من أمر العرب ما كان- فلما أخبراها بكثرة عدد الجيش، قالت: ما بال أهل فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ وما لكما لا تبعثان كما كانت الملوك تبعث قبل اليوم! قالا: إن الهيبة كانت مع عدونا يومئذ، وانها فينا اليوم، فما لاتهما وعرفت ما جاءاها به، فمضى مهران في جنده حتى نزل من دون الفرات والمثنى وجنده على شاطئ الفرات، والفرات بينهما، وقدم أنس بْن هلال النمري ممدا للمثنى في أناس من النمر نصارى وجلاب جلبوا خيلا، وقدم ابن مردى الفهري التغلبي في أناس من بني تغلب نصارى وجلاب جلبوا خيلا -وهو عبد اللَّه بْن كليب بْن خالد- وقالوا حين رأوا نزول العرب بالعجم: نقاتل مع قومنا وقال مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المسلمون: اعبروا إلينا، فارتحلوا من بسوسيا إلى شوميا، وهي موضع دار الرزق.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بْن محفز، عن أبيه، أن العجم لما أذن لهم في العبور نزلوا شوميا موضع دار الرزق، فتعبوا هنالك، فأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا ولهم زجل فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسا فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بني سليم نحو موضع نهر بنى سليم، فلما دنوا زحفوا، وصف المسلمون فيما بين نهر بني سليم اليوم وما وراءها.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة، قالا: وكان على مجنبتي المثنى بشير وبسر بْن أبي رهم، وعلى مجردته الْمُعَنَّى، وعلى الرجل مسعود، وعلى الطلائع قبل ذلك اليوم النسير، وعلى الردء مذعور، وكان على مجنبى مهران ابن الازاذبه مرزبان الحيرة ومردان شاه.
ولما خرج المثنى طاف في صفوفه يعهد إليهم عهده، وهو على فرسه الشموس -وكان يدعى الشموس من لين عريكته وطهارته، فكان إذا ركبه قاتل، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال- فوقف على الرايات راية راية يحضضهم، ويأمرهم بأمره، ويهزهم بأحسن ما فيهم، تحضيضا لهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو ألا تؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم، فيجيبونه بمثل ذلك وأنصفهم المثنى في القول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ثم قال: إني مكبر ثلاثا فتهيئوا، ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة، وركدت حربهم مليا، فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم رجلا، وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم، فقالوا: نعم، واعتدلوا، وجعلوا قبل ذلك يرونه وهو يمد لحيته لما يرى منهم، فاعتنوا بأمر لم يجيء به أحد من المسلمين يومئذ فرمقوه، فرأوه يضحك فرحا والقوم بنو عجل.
فلما طال القتال واشتد، عمد المثنى إلى أنس بْن هلال، فقال: يا أنس إنك امرؤ عربي، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لابن مردى الفهر مثل ذلك فأجابه فحمل المثنى على مهران، فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم، لا المشركون ولا المسلمون، وارتث مسعود يومئذ وقواد من قواد المسلمين، وقد كان قال لهم: إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم، وأغنوا غناء من يليكم وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهران واستوى على فرسه، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل وسلب فهو للذي هو أمير على من قتل، وكان له قائدان: أحدهما جرير والآخر ابن الهوبر، فاقتسما سلاحه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه محفز بْن ثعلبة، قال: جلب فتية من بني تغلب أفراسا، فلما التقى الزحفان يوم البويب، قالوا: نقاتل العجم مع العرب، فأصاب أحدهم مهران يومئذ، ومهران على فرس له ورد مجفف بتجفاف أصفر، بين عينيه هلال، وعلى ذنبه أهلة من شبه، فاستوى على فرسه، ثم انتمى: أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان! فأتاه جرير وابن الهوبر في قومهما فأخذا برجله فأنزلاه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بْن المرزبان أن جريرا والمنذر اشتركا فيه فاختصما في سلاحه، فتقاضيا إلى المثنى، فجعل سلاحه بينهما والمنطقة والسوارين بينهما، وأفنوا قلب المشركين.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي روق، قال: والله إن كنا لنأتي البويب، فنرى فيما بين موضع السكون وبني سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها قال: وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحزرونها مائة ألف، وما عفي عليها حتى دفنها أدفان البيوت.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وقف المثنى عند ارتفاع الغبار، حتى أسفر الغبار، وقد فني قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رأوه وقد أزال القلب، وأفنى أهله، قويت المجنبات -مجنبات المسلمين- على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل عليهم من يذمرهم، ويقول: إن المثنى يقول: عاداتكم في أمثالهم، انصروا اللَّه ينصركم، حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطئ الفرات مصعدين ومصوبين، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوهم جثا، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمة منها ولما ارتث مسعود بْن حارثة يومئذ -وكان صرع قبل الهزيمة، فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف- قال: يا معشر بكر بْن وائل، ارفعوا رايتكم، رفعكم اللَّه! لا يهولنكم مصرعي وقاتل أنس بْن هلال النمري يومئذ حتى ارتث، ارتثه للمثنى، وضمه وضم مسعودا إليه وقاتل قرط بْن جماح العبدي يومئذ حتى دق قنا، وقطع أسيافا وقتل شهربراز من دهاقين فارس وصاحب مجردة مهران.
قال: ولما فرغوا جلس المثنى للناس من بعد الفراغ يحدثهم ويحدثونه، وكلما جاء رجل فتحدث قال له: أخبرني عنك، فقال له قرط بْن جماح: قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك، فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو صاحب الخيل شهر براز، فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا.
فقال المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم، إن اللَّه أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا سواد ولا قسي فج، ولا نبال طوال، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها، كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت.
وقال ربعي وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها، قلت: تترسوا بالمجان، فإنهم شادون عليكم، فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة، فأجابوني والله، فوفى اللَّه كفالتي.
وقال ابن ذي السهمين محدثا: قلت لأصحابي: إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الرعب، فما ذكره إلا لفضل عنده، اقتدوا برايتكم، وليحم راجلكم خيلكم، ثم احملوا، فما لقول اللَّه من خلف، فأنجز اللَّه لهم وعده، وكان كما رجوت.
وقال عرفجة محدثا: حزنا كتيبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون اللَّه تعالى قد أذن في غرقهم وسلى عنا بها مصيبة الجسر، فلما دخلوا في حد الإحراج، كروا علينا، فقاتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومي:
لو أخرت رايتك! فقلت: علي إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته، فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد فيه الروح.
وقال ربعي بْن عامر بْن خالد: كنت مع أبي يوم البويب -قال وسمي البويب يوم الأعشار- أحصي مائة رجل، قتل كل رجل منهم عشرة في المعركة يومئذ، وكان عروة بْن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب في بني كنانة من أصحاب التسعة، وعرفجة في الأزد من أصحاب التسعة.
وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم إلى شاطئ الفرات، ضفة البويب الشرقية، وذلك أن المثنى بادرهم عند الهزيمة الجسر، فأخذه عليهم، فأخذوا يمنة ويسرة، وتبعهم المسلمون إلى الليل، ومن الغد إلى الليل، وندم المثنى على أخذه بالجسر، وقال: لقد عجزت عجزة وقى اللَّه شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فإني غير عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع.
ومات أناس من الجرحى من أعلام المسلمين، منهم خالد ابن هلال ومسعود بْن حارثة، فصلى عليهم المثنى، وقدمهم على الأسنان والقرآن، وقال: والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوز الذنوب.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقد كان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم، وهم بالحيرة.
وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات الذين بالقوادس عمرو بْن عبد المسيح بْن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة، فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش! وبشروهن بالفتح، وقالوا: هذا أوله، وعلى الخيل التي أتتهم بالنزل النسير، وأقام في خيله حامية لهم، ورجع عمرو بْن عبد المسيح فبات بالحيرة وقال المثنى يومئذ: من يتبع الناس حتى ينتهي إلى السيب؟ فقام جرير بْن عبد اللَّه في قومه، فقال: يا معشر بجيلة، إنكم وجميع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء، وليس لاخذ منهم في هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه، ولكم ربع خمسه نفلا من أمير المؤمنين، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه، ونية إلى ما ترجون، فإنما تنتظرون إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستقتلوا من منهزمة يوم الجسر، ثم قال: أين المستبسل بالأمس وأصحابه! انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب، وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به، فهو خير لكم وأعظم أجرا، واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حمزة بْن علي بْن محفز، عن رجل من بكر بْن وائل، قال: كان أول الناس انتدب يومئذ للمثنى واتبع آثارهم المستبسل وأصحابه، وقد كان أراد الخروج بالأمس إلى العدو من صف المسلمين واستوفز واستنتل، فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر، ثم اخرجهم في آثار للقوم، واتبعتهم بجيلة وخيول من المسلمين تغذ من كل فارس، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب، ولم يبق في العسكر جسري إلا خرج في الخيل، فأصابوا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية، وبعث بثلاثة أرباعه مع عكرمة، وألقى اللَّه الرعب في قلوب أهل فارس وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى، وكتب عاصم وعصمة وجرير: إن اللَّه عز وجل قد سلم وكفى، ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، فتأذن لنا في الإقدام! فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهل ساباط منهم واستباحوا القريات دونها، وراماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد: عصمة، وعاصم، وجرير، وقد تبعهم أوزاع من الناس كلهم ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية بْن الحارث، قال: لما أهلك اللَّه مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها، لا يخافون كيدا، ولا يلقون فيها مانعا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة.
وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة، قتل اللَّه عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتي البويب عظاما، حتى استوى وما عفى عليها إلا التراب أزمان الفتنة، وما يثار هنالك شيء إلا وقعوا منها على شيء، وهو ما بين السكون ومرهبة وبني سليم، وكان مغيضا للفرات ازمان الاكاسره بصب في الجوف وقال الأعور العبدي الشني:

هاجت لأعور دار الحي أحزانا *** واستبدلت بعد عبد القيس خفانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع *** إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم *** فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه *** حتى أبادهم مثنى ووحدانا

قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في أمر جرير وعرفجة والمثنى وقتال المثنى مهران غير ما قص سيف من أخبارهم، والذي قال في أمرهم ما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُصِيبَةُ أَصْحَابِ الْجِسْرِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فَلُّهُمْ، قَدِمَ عَلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ مِنَ الْيَمَنِ فِي رَكْبٍ مِنْ بَجِيلَةَ، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ -وَكَانَ عَرْفَجَةُ يَوْمَئِذٍ سَيَّدَ بَجِيلَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ مِنَ الأَزْدِ- فَكَلَّمَهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي إِخْوَانِكُمْ بِالْعِرَاقِ، فَسِيرُوا إِلَيْهِمْ وَأَنَا أُخْرِجُ إِلَيْكُمْ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَأَجْمَعُهُمْ إِلَيْكُمْ قَالُوا: نَفْعَلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ قَيْسَ كُبَّةَ وَسَحْمَةَ وَعُرَيْنَةَ، وَكَانُوا فِي قَبَائِلِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، فَقَالَ لِبَجِيلَةَ: كَلِّمُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالُوا لَهُ: اسْتَعْمَلْتَ عَلَيْنَا رَجُلا لَيْسَ مِنَّا، فَأَرْسَلَ إِلَى عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: صَدَقُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَكِنِّي رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ، كُنَّا أَصَبْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَمًا فِي قَوْمنَا، فَلَحِقْنَا بَجِيلَةَ، فَبَلَغْنَا فِيهِمْ مِنَ السُّؤْدُدِ مَا بَلَغَكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَاثْبَتْ عَلَى مَنْزِلَتِكَ، ودافعهم كما يدفعونك قَالَ: لَسْتُ فَاعِلا وَلا سَائِرًا مَعَهُمْ، فَسَارَ عَرْفَجَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْد أَنْ نَزَلَتْ، وَتَرَكَ بَجِيلَةَ، وَأَمَّرَ عُمَرُ عَلَى بَجِيلَةَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَارَ بِهِمْ مَكَانَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ عُمَرُ قَوْمَهُ مِنْ بَجِيلَةَ، فَأَقْبَلَ جَرِيرٌ حَتَّى إِذَا مَرَّ قَرِيبًا مِنَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي فَكَتَبَ إِلَيْهِ جَرِيرٌ: إِنِّي لَسْتُ فَاعِلا إِلا أَنْ يَأْمُرَنِي بِذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ أَمِيرٌ وأَنَا أَمِيرٌ.
ثُمَّ سَارَ جَرِيرٌ نَحْوَ الْجِسْرِ، فَلَقِيَهُ مِهْرَانُ بْنُ بَاذَانَ -وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ فَارِسَ- عِنْدَ النَّخِيلَةِ، قَدْ قَطَعَ إِلَيْهِ الْجِسْرَ، فَاقْتَتَلا قِتَالا شَدِيدًا، وَشَدَّ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانِ بْنِ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ عَلَى مِهْرَانَ فَطَعَنَهُ، فَوَقَعَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَاخْتَصَمَا فِي سَلْبِهِ، ثُمَّ اصْطَلَحَا فِيهِ، فَأَخَذَ جَرِيرٌ السِّلاحَ، وَأَخَذَ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانٍ مِنْطَقَتَهُ.
قَالَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ مِهْرَانَ لَمَّا لَقِيَ جَرِيرًا قَالَ:

إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي مِهْرَانُ *** أَنَا لِمَنْ أَنْكَرَنِي ابْنُ بَاذَانَ

قَالَ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ عَرَبِيًّا نَشَأَ مَعَ أَبِيهِ بِالْيَمَنِ إِذْ كَانَ عَامِلا لِكِسْرَى قَالَ: فَلَمْ أُنْكِرْ ذَلِكَ حِينَ بَلَغَنِي.
وَكَتَبَ الْمُثَنَّى إِلَى عُمَرَ يُمْحِلُ بِجَرِيرٍ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْمُثَنَّى: إِنِّي لَمْ أَكُنْ لأَسْتَعْمِلُكَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم -يَعْنِي جَرِيرًا- وَقَدْ وَجَّهَ عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْعِرَاقِ فِي سِتَّةِ آلافِ، أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُثَنَّى وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَجْتَمِعَا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَمَّرَ سَعْدًا عَلَيْهِمَا، فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ شَرَافَ، وَسَارَ الْمُثَنَّى وَجَرِيرٌ حَتَّى نَزَلا عَلَيْهِ، فَشَتَا بِهَا سَعْدٌ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَمَاتَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

خبر الخنافس
رجع الحديث الى حديث سيف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ومخر المثنى السواد وخلف بالحيرة بشير بْن الخصاصية، وأرسل جريرا إلى ميسان، وهلال بْن علفة التيمي إلى دست ميسان، وأذكى المسالح بعصمة بْن فلان الضبي وبالكلج الضبي وبعرفجة البارقي، وأمثالهم في قواد المسلمين، فبدأ فنزل أليس -قرية من قرى الأنبار- وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة، وغزاة أليس الآخرة، وألز رجلان بالمثنى: أحدهما أنباري، والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنباري فدله على الخنافس، وأما الحيري فدله على بغداد فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها؟ فقالوا: بينهما أيام، قال: أيهما أعجل؟ قالوا: سوق الخنافس سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم فاستعد لها المثنى، حتى إذا ظن أنه موافيها يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بْن وبرة، وعلى ربيعة السليل بْن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على بدئه حتى يطرق دهاقين الأنبار طروقا في أول النهار يومه، فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد، وأتوه بالأدلاء على بغداد، فكان وجهه إلى سوق بغداد، فصبحهم والمسلمون يمخرون السواد والمثنى بالأنبار، ويشنون الغارات فيما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات وجسور مثقب إلى عين التمر وما والاها من الأرض في أرض الفلاليج والعال.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لِلْمُثَنَّى: أَلا نَدُلُّكَ عَلَى قَرْيَةٍ يَأْتِيهَا تُجَّارُ مَدَائِنِ كِسْرَى وَالسَّوَادِ، وَتَجْتَمِعُ بِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَمَعَهُمْ فِيهَا الأَمْوَالُ، كَبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذِهِ أَيَّامُ سُوقِهِمْ، فَإِنْ أَنْتَ قَدَرْتَ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْهِمْ وَهُمَ لا يَشْعُرُونَ أَصَبْتَ فِيهَا مَالا يَكُونُ غِنَاءً لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَوَوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ دَهْرَهُمْ، قَالَ: وَكَمْ بَيْنَ مَدَائِنِ كِسْرَى وَبَيْنَهَا؟ قَالَ: بَعْضُ يَوْمٍ أَوْ عَامَّةُ يَوْمٍ، قَالَ: فَكَيْفَ لِي بِهَا؟ قَالُوا: نَأْمُرُكَ إِنْ أَرَدْتَهَا أَنْ تَأْخُذَ طَرِيقَ الْبَرِّ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْخَنَافِسِ، فَإِنَّ أَهْلَ الأَنْبَارِ سَيَضْرِبُونَ إِلَيْهَا، وَيُخْبِرُونَ عَنْكَ فَيَأْمَنُونَ، ثُمَّ تَعُوجَ عَلَى أَهْلِ الأَنْبَارِ فَتَأْخُذَ الدَّهَاقِينَ بِالأَدِلاءِ، فَتَسِيرَ سَوَادَ لَيْلَتِكَ مِنَ الأَنْبَارِ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ صُبْحًا فَتُصْبِحَهُمْ غَارَةً.
فَخَرَجَ مِنْ أُلَّيْسَ حَتَّى أَتَى الْخَنَافِسَ، ثُمَّ عَاجَ حَتَّى رَجَعَ عَلَى الأَنْبَارِ، فَلَمَّا أَحَسَّهُ صَاحِبُهَا تَحَصَّنَ وَهُوَ لا يَدْرِي مَنْ هُوَ، وَذَلِكَ لَيْلا، فَلَمَّا عَرَفَهُ نَزَلَ اليه فاطمعه الْمُثَنَّى، وَخَوَّفَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ، وَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغِيرَ فَابْعَثْ مَعِي الأَدِلاءَ إِلَى بَغْدَادَ، حَتَّى أُغِيرَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَائِنِ قَالَ: أَنَا أَجِيءُ مَعَكَ، قَالَ: لا أُرِيدُ أَنْ تَجِيءَ مَعِي، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعِي مَنْ هُوَ أَدَلُّ مِنْكَ، فَزَوَّدَهُمُ الأَطْعِمَةَ وَالأَعْلافَ، وَبَعَثَ مَعَهُمُ الأَدِلَّةَ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالنِّصْفِ، قَالَ لَهُمُ الْمُثَنَّى: كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟
قَالُوا: أَرْبَعَةُ أَوْ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: مَنْ يَنْتَدِبُ لِلْحَرَسِ؟
فَانْتَدَبَ لَهُ قَوْمٌ فَقَالَ لَهُمْ: أَذْكُوا حَرَسَكُمْ، وَنَزَلَ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا وَأَطْعِمُوا وَتَوَضَّئُوا وَتَهَيَّئُوا وَبَعَثَ الطَّلائِعَ فَحَبَسُوا النَّاسَ لِيَسْبِقُوا الأَخْبَارَ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَسْرَى إِلَيْهِمْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ، فَصَبَحَهُمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ فَقَتَلَ، وَأَخَذُوا مَا شَاءُوا، وَقَالَ الْمُثَنَّى: لا تَأْخُذُوا إِلا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا تَأْخُذُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلا مَا يَقْدِرُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى دَابَّتِهِ.
وَهَرَبَ أَهْلُ الأَسْوَاقِ، وَمَلأَ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنَ الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحُرِّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَرَجَ كَارًّا حَتَّى نَزَلَ بِنَهْرِ السَّيلَحِينِ بِالأَنْبَارِ، فَنَزَلَ وَخَطَبَ النَّاسَ، وقال: ايها الناس، انزلوا وقضوا أَوْطَارَكُمْ، وَتَأَهَّبُوا لِلسَّيْرِ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ، ثُمَّ انْكَشَفُوا قَبِيضًا.
فَفَعَلُوا، فَسَمِعَ هَمْسًا فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَا أَسْرَعَ الْقَوْمَ فِي طَلَبِنَا! فَقَالَ: تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، انْظُرُوا فِي الأُمُورِ وَقَدِّرُوهَا ثُمَّ تَكَلَّمُوا، أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ النَّذِيرُ مَدِينَتَهُمْ بَعْدُ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَحَالَ الرُّعْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طَلَبِكُمْ إِنَّ لِلْغَارَاتِ رَوَعَاتٌ تَنْتَشِرُ عَلَيْهَا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَلَوْ طَلَبَكُمُ الْمُحَامُونَ مِنْ رَأْيِ الْعَيْنِ مَا أَدْرَكُوكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَرابِ حَتَّى تَنْتَهُوا إِلَى عَسْكَرِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ، وَلَوْ أَدْرَكُوكُمْ لَقَاتَلْتُهُمْ لاثْنَتَيْنِ: الْتِمَاسِ الأَجْرِ وَرَجَاءِ النَّصْرِ، فَثِقُوا بِاللَّهِ وَأَحْسِنُوا بِهِ الظَّنَّ، فَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَهُمْ أَعَدُّ مِنْكُمْ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَنِ انْكِمَاشِي وَالَّذِي أُرِيدُ بِذَلِكَ، إِنَّ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَوْصَانَا أَنْ نُقْلِلَ الْعرجةَ، وَنُسْرِعَ الْكَرَّةَ فِي الْغَارَاتِ، وَنُسْرِعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الأَوْبَةَ وَأَقْبَلَ بِهِمْ وَمَعَهُمْ أَدِلاؤُهُمْ يَقْطَعُونَ بِهِمُ الصَّحَارِي وَالأَنْهَارَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الأَنْبَارِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ دَهَاقِينُ الأَنْبَارِ بِالْكَرَامَةِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِسَلامَتِهِ، وَكَانَ مَوْعِدُهُ الإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إِذَا اسْتَقَامَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا يُحِبُّونَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قَالُوا: لَمَّا رَجَعَ الْمُثَنَّى مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الأَنْبَارِ سَرَّحَ الْمُضَارِبَ الْعِجْلِيَّ وَزَيْدًا إِلَى الْكَبَاثِ، وَعَلَيْهِ فَارِسُ الْعنابِ التَّغْلِبِيُّ، ثُمَّ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ، فَقَدِمَ الرَّجُلانِ الْكَبَاثَ، وَقَدِ ارْفَضُّوا وَأَخْلَوُا الْكَبَاثَ، وَكَانَ أَهْلُهُ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، فَرَكِبُوا آثَارَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ، فَأَدْرَكُوا أُخْرَيَاتِهِمْ وَفَارِسُ الْعنابِ يَحْمِيهِمْ، فَحَمَاهُمْ سَاعَةً ثُمَّ هَرَبَ، وَقَتَلُوا فِي أُخْرَيَاتِهِمْ وَأَكْثَرُوا، وَرَجَعَ الْمُثَنَّى إِلَى عَسْكَرِهِ بِالأَنْبَارِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَيْهِمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَلَمَّا رَجَعَ المثنى الى الأنبار سرح فرات ابن حَيَّانَ وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ وَأَمَرَهُمَا بِالْغَارَةِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ بِصِفِّينَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمَا وَخَلَّفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرَو بْنَ أَبِي سَلْمَى الْهُجَيْمِيَّ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ صِفِّينَ، افْتَرَقَ الْمُثَنَّى وَفُرَاتُ وَعُتَيْبَةُ، وَفَرَّ أَهْلُ صِفِّينَ وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَتَحَصَّنُوا، وَأَرْمَلَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابُهُ مِنَ الزاد، حتى أقبلوا على رواحلهم الا مالا بُدَّ مِنْهُ فَأَكَلُوهَا حَتَّى أَخْفَافَهَا وَعِظَامَهَا وَجُلُودَهَا ثُمَّ أَدْرَكُوا عِيرًا مِنْ أَهْلِ دِيَافَ وَحَوْرَانَ، فَقَتَلُوا الْعُلُوجَ وَأَصَابُوا ثَلاثَةَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي تغلب خفراء، وأخذوا العير، وَكَانَ ظَهْرًا فَاضِلا، وَقَالَ لَهُمْ: دُلُّونِي، فَقَالَ احدهم: آمنونى على اهلى وما لي، وَأَدُلُّكُمْ عَلَى حَيٍّ مِنْ تَغْلِبَ غَدَوْتُ مِنْ عِنْدِهِمُ الْيَوْمَ، فَآمَنَهُ الْمُثَنَّى وَسَارَ مَعَهُ يَوْمَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ هَجَمَ عَلَى الْقَوْمِ، فَإِذَا النَّعَمُ صَادِرَةٌ عَنِ الْمَاءِ، وَإِذَا الْقَوْمُ جلوس بافنيه الْبُيُوتِ، فَبَثَّ غَارَتَهُ، فَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَوُا الذُّرِيَّةَ، وَاسْتَاقُوا الأَمْوَالَ، وَإِذَا هُمْ بَنُو ذِي الرُّوَيْحِلَةِ، فَاشْتَرَى مَنْ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَبِيعَةَ السَّبَايَا بِنَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَعْتَقُوا سَبْيَهُمْ، وَكَانَتْ رَبِيعَةُ لا تُسْبَى إِذِ الْعَرَبُ يَتَسَابُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَأَخْبِرَ الْمُثَنَّى أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ سَلَكَ الْبِلادَ قَدِ انْتَجَعُوا الشَّطَّ، شَاطِئَ دِجْلَةَ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي غَزَوَاتِهِ هَذِهِ بَعْدَ الْبُوَيْبِ كُلِّهَا حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغلفَانِيُّ، وَعَلى مُجَنِّبَتَيْهِ النُّعْمَانُ بْنُ عَوْفِ بْنِ النُّعْمَانِ وَمَطَرٌ الشَّيْبَانِيَّانِ، فَسَرَّحَ فِي أَدْبَارِهِمْ حُذَيْفَةَ وَأَتْبَعَهُ، فَأَدْرَكُوهُمْ بِتِكْرِيتَ دُوَيْنَهَا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوهُمْ يَخُوضُونَ الْمَاءَ، فَأَصَابُوا مَا شَاءُوا مِنَ النَّعَمِ، حَتَّى أَصَابَ الرَّجُلُ خمسًا مِنَ النَّعَمِ، وَخمسًا مِنَ السَّبْيِ، وَخُمْسَ الْمَالِ، وَجَاءَ بِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى النَّاسِ بِالأَنْبَارِ، وَقَدْ مَضَى فُرَاتُ وَعُتَيْبَةُ فِي وُجُوهِهِمَا، حَتَّى أَغَارُوا عَلَى صِفِّينَ وَبِهَا النَّمِرُ وَتَغْلِبُ مُتَسَانِدَيْنِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى رَمَوْا بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ، فَنَاشَدُوهُمْ فَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَهُمُ: الْغَرَقَ الْغَرَقَ! وَجَعَلَ عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ يَذْمُرُونَ النَّاسَ، وَيُنَادُونَهُمْ: تَغْرِيقٌ بِتَحْرِيقٍ -يُذَكِّرُونَهُمْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحْرَقُوا فِيهِ قَوْمًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْغِيَاضِ- ثُمَّ انْكَفَئُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمُثَنَّى، وَقَدْ غَرَّقُوهُمْ.
وَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ بِالأَنْبَارِ وَتَوَافَى بِهَا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا، انْحَدَرَ بِهِمُ الْمُثَنَّى إِلَى الْحِيرَةِ، فَنَزَلَ بِهَا وَكَانَتْ تَكُونُ لِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعُيُونُ فِي كُلِّ جَيْشٍ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وبلغه الذى قال عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ يَوْمَ بَنِي تَغْلِبَ وَالْمَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَسَأَلَهُمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا قَالا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ مَثَلٌ، وَأَنَّهُمَا لَمْ يَفْعَلا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ طَلَبِ ذِحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا، فَحَلَفَا أَنَّهُمَا مَا أَرَادَا بِذَلِكَ إِلا الْمَثَلَ وَإِعْزَازَ الإِسْلامِ، فَصَدَّقَهُمَا وَرَدَّهُمَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى الْمُثَنَّى.

ذكر الخبر عما هيج أمر القادسية
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّه بْن سواد بْن نويرة، عن عزيز بْن مكنف التميمي ثم الأسيدي، وطلحة بْن الأعلم الحنفي، عن المغيرة بْن عتيبة بْن النهاس العجلي، وزياد بْن سرجس الأحمري، عن عبد الرحمن بْن ساباط الأحمري، قالوا جميعا، قال أهل فارس لرستم والفيرزان -وهما على أهل فارس-: أين يذهب بكما! لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم! وإنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة، ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عبيد الله بن محفز عن أبيه، قال: قال أهل فارس لرستم والمسلمون يمخرون السواد: ما تنتظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك! والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معاشر القواد! لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: فَقَالَ الْفيرزانُ وَرُسْتُمُ لِبُورَانَ ابْنَةَ كِسْرَى: اكْتُبِي لَنَا نِسَاءَ كِسْرَى وَسَرَارِيهِ وَنِسَاءَ آلِ كِسْرَى وَسَرَارِيهِمْ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِنَّ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا أَتَوْا بِهَا، فَأَخَذُوهُنَّ بِالرِّجَالِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِنَّ الْعَذَابَ يَسْتَدِلُّونَهُنَّ عَلَى ذَكَرٍ مِنْ أَبْنَاءِ كِسْرَى، فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقُلْنَ- أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُنَّ: لَمْ يَبْقَ إِلا غُلامٌ يُدْعَى يَزْدَجَرْدُ مِنْ وَلَدِ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى، وَأُمُّهُ مِنْ أَهْلِ بَادُورِيَا فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ أَنْزَلَتْهُ فِي أَيَّامِ شِيرِي حِينَ جَمَعَهُنَّ فِي القصر الأَبْيَضِ، فَقَتَلَ الذُّكُورَ، فَوَاعَدَتْ أَخْوَالَهُ، ثُمَّ دَلَّتْهُ إِلَيْهِمْ فِي زَبِيلَ فَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَأَخَذُوهَا بِهِ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَجَاءُوا بِهِ فَمَلَّكُوهُ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّتْ فَارِسُ وَاسْتَوْثَقُوا وَتَبَارَى الرُّؤَسَاءُ فِي طَاعَتِهِ وَمَعُونَتِهِ فَسَمَّى الْجُنُودَ لِكُلِّ مَسْلَحَةٍ كَانَتْ لِكِسْرَى أَوْ مَوْضِعِ ثَغْرٍ، فَسَمَّى جُنْدَ الْحِيرَةِ وَالأَنْبَارِ والْمَسَالِحِ وَالأُبُلَّةِ وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى يَزْدَجَرْدَ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِمَا يَنْتَظِرُونَ مِمَّنْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَلَمْ يَصِلِ الْكِتَابُ إِلَى عُمَرَ حَتَّى كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ، مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ فَخَرَجَ الْمُثَنَّى عَلَى حَامِيَتِهِ حَتَّى نَزَلَ بِذِي قَارَ، وَتَنَزَّلَ النَّاسُ بِالطَّفِّ فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَاءَهُمْ كِتَابُ عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْرُجُوا مِنْ بَيْنَ ظَهْرَيِ الأَعَاجِمِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَلِي الأَعَاجِمَ عَلَى حُدُودِ أَرْضِكُمْ وَأَرْضِهِمْ، وَلا تَدَعُوا فِي رَبِيعَةَ أَحَدًا وَلا مُضَرَ وَلا حُلَفَائِهِمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ النَّجَدَاتِ وَلا فَارِسًا إِلا اجْتَلَبْتُمُوهُ، فَإِنْ جَاءَ طَائِعًا وَإِلا حَشَرْتُمُوهُ، احْمِلُوا الْعَرَبَ عَلَى الْجد إذ جد الْعَجَم، فلتلقوا جدهم بجدكم.
فَنَزَلَ الْمُثَنَّى بِذِي قَارٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ بِالجُلِّ وَشَرَافَ إِلَى غُضَيٍّ- وَغُضَيٌّ حِيَالُ الْبَصْرَةِ- فَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِغُضَيٍّ وَسَبْرَةُ بن عمرو العنبري وَمَنْ أَخَذَ أَخْذَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى سَلْمَانَ، فكانوا في امواه الطف مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مَسَالِحُ بَعْضِهِمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَيَغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ كَونٌ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: كَانَ أَوَّلُ مَا عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا يَزْدَجَرْدَ، أَنْ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِ الْعَرَبِ عَلَى الْكُورِ وَالْقَبَائِلِ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مَخْرَجَهُ الى الحج، وحج سنواته كلها: لا تدعى أَحَدًا لَهُ سِلاحٌ، أَوْ فَرَسٌ، أَوْ نَجْدَةٌ، أَوْ رَأْيٌ إِلا انْتَخَبْتُمُوهُ، ثُمَّ وَجَّهْتُمُوهُ إِلَيَّ، وَالْعَجَلَ الْعَجَلَ! فَمَضَتِ الرُّسُلُ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ مَخْرَجَهُ إِلَى الْحَجِّ، وَوَافَاهُ أَهْلُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي طُرُقُهَا عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى النِّصْفِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ، فَوَافَاهُ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَانْضَمُّوا إِلَى الْمُثَنَّى، فَأَمَّا مَنْ وَافَى عُمَرَ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ بِالْحَثِّ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ، فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عَنْهُ: الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَدْ حَدَّثَنِي الْمُقَدَّمِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْفَرْوِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي السَّنَةِ الَّتِي وَلِيَ فِيهَا، فَحَجَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ حَجَّ سِنِيهِ كُلَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- عَلَى مَا ذَكَرَ- عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وعلى اليمن يعلى بن مُنَيَّةَ، وَعَلَى عُمَانَ وَالْيَمَامَةِ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى فرجِ الْكُوفَةِ وما فتح من أرضها المثنى ابن حَارِثَةَ وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ- فِيمَا ذَكَرَ- عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقِيلَ:
لَمْ يَكُنْ لِعُمَرَ فِي أَيَّامِهِ قَاضٍ.