ربيع الأول 9 هـ
حزيران 630 م
سنة تسع

وفيها قدم وفد بنى اسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر- فقالوا: قدمنا يَا رَسُولَ اللَّهِ قبل أن ترسل إلينا رسولا، فأنزل الله عز وجل …

فِي ذَلِكَ من قولهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} [الحجرات: 17] الآية.
وفيها قدم وفد بلي فِي شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بْن ثابت البلوي.
وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشره.

أمر ثقيف وإسلامها
وفيها قدم- فِي قول الْوَاقِدِيّ- عروة بْن مسعود الثقفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما، وَكَانَ من خبره- ما حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق- ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ اتَّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم- كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُهُمْ: «إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ»، وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةً بِالامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ- فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ- وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا-. فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَرَجَا أَلا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عُلِّيةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ، رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَتَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَزْعُمُ الأَحْلافُ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتَّابِ بْنِ مَالِكٍ، يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ؟ قَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إِلا مَا فِي الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ، فَدَفَنُوهُ معهم فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ: «إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ».
وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ اهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: إِنَّهُمْ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهرا، ثُمَّ إنهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخَا بَنِي عِلاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لعبد ياليل بن عمرو، الذى بينهما سيئ- وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ- فَمَشَى إِلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ دَارَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنَّ عَمْرَو بْنِ أُمَيَّةَ يَقُولُ لَكَ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ لِلرَّسُولِ: وَيْحَكَ! أَعَمْرٌو أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ ذَا وَاقِفٌ فِي دَارِكَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْتُ أَظُنُّهُ! لِعَمْرٍو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا رَآهُ رَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْتَ، وَقَدْ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ كُلَّهَا، وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ، فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ أَنَّهُ لا يَأْمَنُ لَكُمْ سَرَبٌ، وَلا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا اقْتُطِعَ بِهِ! فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَنْ يرسلوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، كما أرسلوا عروه، فكلموا عبد ياليل ابن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ- وَكَانَ فِي سِنِّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ- وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إِذَا رَجَعَ كما يصنع بِعُرْوَةَ، فَقَالَ: لَسْتُ فَاعِلا حَتَّى تَبْعَثُوا مَعِيَ رِجَالا، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنَ الأَحْلافِ وَثَلاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ، فَيَكُونُوا سِتَّةً: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ أَخُو بَنِي يَسَارٍ، وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ أَخُو بَنِي سَالِمٍ، وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ، وَبَعَثُوا مِنَ الأَحْلافِ مَعَ عَبْدِ يَالِيلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَشَرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ- وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يخرج إِلا خَشْيَةً مِنْ مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لِيَشْغَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى الطَّائِفِ رَهْطَهُ- فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَنَزَلُوا قَنَاةً لَقُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانَتْ رَعْيَتُهَا نَوْبًا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمُغِيرَةُ تَرَكَ الرِّكَابَ وَضَبَرَ يَشْتَدُّ لِيُبَشِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنَّهُمْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالإِسْلامَ، بِأَنْ يَشْرِطَ لَهُمْ شُرُوطًا، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لا تَسْبِقَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أُحَدِّثُهُ، فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ بِقُدُومِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَرَوَّحَ الظُّهْرَ مَعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَفْعَلُوا إِلا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، ولما ان قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضُرِبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ- كَمَا يَزْعُمُونَ- وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ، وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الَّذِي كَتَبَ كِتَابَهُمْ بِيَدِهِ، وَكَانُوا لا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيَهُمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ، حَتَّى أَسْلَمُوا وَبَايَعُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ- وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدَعَ الطَّاغِيَةَ، وَهِيَ اللاتَ، لا يَهْدِمُهَا ثَلاثَ سِنِينَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فما برحوا يسالونه سنه سَنَةً، فَأَبَى عَلَيْهِمْ حَتَّى سَأَلُوهُ شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدِمِهِمْ، فَأَبَى أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا يُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَسْلَمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوِّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتَّى يُدْخِلَهُمُ الإِسْلامَ- فَأَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ إِلا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حرب والمغيره ابن شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطَّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلاةِ، وَأَنْ يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَمَّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنَعْفِيكُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّلاةُ فَلا خَيْرَ فِي دِينٍ لا صَلاةَ فِيهِ»، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَمَّا هَذِهِ فَسَنُؤْتِيكَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً.
فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَهُمْ، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ- وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا- وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال ابو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا الْغُلامَ فِيهِمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الإِسْلامِ وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ ابن عُتْبَةَ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَتَوَجَّهُوا إِلَى بِلادِهِمْ رَاجِعِينَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي هَدْمِ الطَّاغِيَةِ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا الطَّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا سُفْيَانَ، فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ادْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِكَ، وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَرْمِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ، وَقَامَ قَوْمُهُ دُونَهُ- بَنُو مُعَتِّبٍ- خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ، وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسَّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا، وَيَقُلْنَ:

أَلا ابْكِيَنْ دُفَّاعْ *** أَسْلَمَهَا الرَّضَاعْ
لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعْ

قَالَ: وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بالفاس: واها لك! واها لَكَ! فَلَمَّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ أَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيَّهَا وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحُلِيُّهَا مَجْمُوعٌ، وَمَالُهَا من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ مِنْ مَالِ اللاتِ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالأَسْوَدَ ابْنَيْ مَسْعُودٍ، فَقَضَى مِنْهُ دَيْنَهُمَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ.

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنَ الطَّائِفِ، مَا بَيْنَ ذِي الْحَجَّةِ إِلَى رَجَبٍ ثم امر الناس بالتهيؤ الغزو الرُّومِ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنَ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةَ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعَضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي هَذَا الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَأُحِبَّتِ الظِّلالُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الذى هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَنَّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ.
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُرْهِ لِذَلِكَ الْوَجْهِ لِمَا فِيهِ، مَعَ مَا عَظَّمُوا مِنْ ذِكْرِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلِمَةَ: «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلادِ بَنِي الأَصْفَرِ؟» فقال: يا رسول الله، او تاذن لي ولا تفتني! فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَرِ أَلا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] الآيَةَ، أَيْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الأَصْفَرِ- وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ- فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَعْظَمُ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ.
وَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، زَهَادَةً في الجهاد، وَشَكًّا فِي الْحَقِّ، وَإِرْجَافًا بِالرَّسُولِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] إِلَى قَوْلِهِ: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] .
ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ فِي سَفَرِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَحَمَلَ رِجَالٌ من اهل الغنى فاحتسبوا، وانفق عثمان ابن عَفَّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنْ نَفَقَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ رِجَالا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَغَيْرُهُمْ، فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ:
{لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبِ النَّضَرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا فَارْتَحَلاهُ، وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: وَجَاءَ الْمُعَذَّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ.
ثُمَّ اسْتَتَبَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَفَرُهُ، وَأُجْمِعَ السَّيْرُ، وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لا يُتَّهَمُونَ فِي إِسْلامِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولَ عَسْكَرَهُ عَلَى حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ بِحِذَاءِ ذُبَابِ، جَبَلٍ بِالْجَبَّانَةِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- لَيْسَ بِأَقَلَّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ- وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَخَا بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ أَخَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكِيدُ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ.
قَالَ: وفيهم- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن عمرو بْن عبيد، عن الحسن البصري- أنزل الله عز وجل: {لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ} [التوبة: 48]، الآية.
قَالَ ابن إسحاق: وخلف رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علي بْن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف على الْمَدِينَةِ سباع بْن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بْن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا لَهُ، وتخففا منه فلما قَالَ ذَلِكَ المنافقون، أخذ علي سلاحه ثُمَّ خرج حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجرف فَقَالَ: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني، أنك استثقلتني وتخففت مني! فَقَالَ: «كَذَبُوا، وَلَكِنِّي إِنَّمَا خَلَفْتُكَ لِمَا وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي!» فرجع علي إلى الْمَدِينَةِ، ومضى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
ثُمَّ إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع- بعد أن سَارَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أياما- إلى أهله فِي يوم حار، فوجد امرأتين لَهُ فِي عريشين لهما فِي حائط، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت لَهُ فيه ماء، وهيأت لَهُ فيه طعاما، فلما دخل فقام على باب العريشين، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا لَهُ، قَالَ: رَسُول اللَّهِ فِي الضح والريح، وأبو خيثمة فِي ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وامرأة حسناء، فِي ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثُمَّ قَالَ: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حَتَّى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا، ففعلتا ثُمَّ قدم ناضحه فارتحله، ثُمَّ خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بْن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حَتَّى إذا دنوا من تبوك قَالَ أبو خيثمة لعمير بْن وهب: إن لي ذنبا، فلا عليك أن تخلف عني حَتَّى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قَالَ الناس: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا راكب على الطريق مقبل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كن أبا خيثمة!» فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هو والله أبو خيثمة! فلما اناخ اقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ: «أولى لك يا أبا خيثمة!» ثُمَّ أخبر رَسُول اللَّهِ الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيرا»، ودعا لَهُ بخير.
وقد كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإِبِل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب لَهُ»، ففعل الناس ما أمرهم به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر فِي طلب بعير لَهُ، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب فِي طلب بعيره فاحتملته الريح حَتَّى طرحته فِي جبلي طيئ، فاخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب لَهُ!» ثُمَّ دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذى وقع بجبلي طيّئ، فان طيئا هدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم الْمَدِينَةَ.
قَالَ أبو جعفر: والحديث عن الرجلين.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ- وَلا مَاءَ مَعَهُمْ- شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا اللَّهَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ ومن أَبِيهِ وَمِنْ عَمِّهِ وَمِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ يَلْبِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ مَحْمُودٌ: لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٌ نِفَاقُهُ، كَانَ يَسِيرُ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ سَارَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَاءِ بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ دَعَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ: وَيْحَكَ! هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ ثُمَّ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا، وَهُوَ عَمُّ بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ لُصَيْبٍ الْقَيْنُقَاعِيُّ، وَكَانَ مُنَافِقًا، فَقَالَ زَيْدُ بن لصيب وهو في رحل عماره، وعماره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعماره عنده: «ان رجلا قال: ان محمدا هذا يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي مِنْ شِعْبِ كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا»، فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا، فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم آنِفًا عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا- لِلَّذِي قَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْبِ- فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ: زَيْدٌ وَاللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ على زيد يجأ في عنقه، ويقول: يَا عِبَادَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَدْرِي! اخْرُجْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي فَلا تَصْحَبْنِي! قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضٌ: لَمْ يَزَلْ مُتَّهَمًا بِشَرٍّ حَتَّى هَلَكَ.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سَائِرًا، فَجَعَل يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلانٌ، فَيَقُولُ: «دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ»، حَتَّى قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ».
قَالَ: وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَنَظَرَهُ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ!» فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَبُو ذَرٍّ! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ! يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ، فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفِّنَانِي، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ، ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَرَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا بِجِنَازَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتِ الإِبِلُ تَطَؤُهَا، وَقَامَ إِلَيْهِمُ الْغُلامُ، فقال: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ قَالَ: فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ! تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ! ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ.
ثُمَّ حَدَّثَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي مَسِيرِهِ إِلَى تَبُوكَ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِنْهُمْ وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو ابن عَوْفٍ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سلمه، يقال له مخشى ابن حمير، يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ! وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ غَدًا مُقْرَنِينَ فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشى ابن حُمَيِّرٍ: وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِينَا قُرْآنًا لِمَقَالَتِكُمْ هذه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فِيمَا بَلَغَنِي- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَامَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَسُولُ اللَّهِ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] وَقَالَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمَ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ، فَسُمِّيَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ مَكَانُهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ فَلَمَّا انْتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ، أَتَاهُ يُحَنةُ بْنُ رُؤْبَةَ، صَاحِبُ ايله، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم واعطاه الجزية، واهل جرباء واذرح اعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لِكُلٍّ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَهُ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ- وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ، فَخَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذَا؟ قَالَ: لا أَحَدٌ فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ حَسَّانٌ، فَرَكِبَ، وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوا أخاه حسان، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قِبَاءٌ لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَيْتُ قُبَاءَ أُكَيْدِرٍ حين قدم به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمَسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله: «اتعجبون من هذا! فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا!» حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الَّذِي فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ:
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ مَا يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقَّقِ، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ» قَالَ: فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ: «مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ؟» فَقِيلَ لَهُ: يا رسول الله، فلان وفلان، فقال: «او لم نَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ!» ثُمَّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ نزل صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يُصَبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ- كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ: إِنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعُنَّ بِهَذَا الْوَادِي، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ».
ثُمَّ اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانَ، بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فُتَصَلِّيَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ»، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانَ أَتَاهُ خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدَّخْشَمِ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ- أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا بَنِي الْعِجْلانِ- فَقَالَ: «انْطَلَقَا الى المسجد الظالم اهله فاهدماه وَحَرِّقَاهُ»، فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ ابن عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ، فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يشتد ان حَتَّى دَخَلا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَّقَاهُ وَهَدَّمَاهُ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ: {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عبيد بن زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ مَسْجِدَ الشِّقَاقِ- وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ- وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ من بنى ضبيعه بن زيد، وعباد ابن حُنَيْفٍ، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ، وَنَبْتَلُ بن الحارث، من بنى ضبيعه، وو بحزج- وَهُوَ إِلَى بَنِي ضُبَيْعَةَ- وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ- وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ- وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ رَهْطُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ- وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَتَخَلَّفَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا نِفَاقٍ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ- فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُكَلِّمَنَّ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ»، وَأَتَاهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ وَلا رَسُولُهُ، وَاعْتَزَلَ الْمُسْلِمُونَ كَلامَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ النَّفَرِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ: {لَقَدْ تَابَ ٱللهُ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ} [التوبة: 117] – إِلَى قَوْلِهِ- {وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَقَدْ مضى ذكر خبرهم قبل.

امر طيّئ وعدى بن حاتم
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ -أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ- وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى بِلادِ طَيِّئٍ فِي رَبِيعٍ الآخِرٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَسَبَى وَأَخَذَ سَيْفَيْنِ كَانَا فِي بَيْتِ الصَّنَمِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا: رَسُوبٌ، وَلِلآخَرِ الْمِخْذَمُ، وَكَانَ لَهُمَا ذِكْرٌ، كَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شَمِرٍ نَذَرَهُمَا لَهُ، وَسَبَى أُخْتَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا الأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عِنْدَنَا بِذَلِكَ فَبِغَيْرِ بَيَانِ وَقْتٍ، وَبِغَيْرِ مَا قَالَ الواقدي فِي سَبْيِ عَلِيٍّ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم -او قال: رسل رسول الله- فأخذوا عمتي وناسا، فاتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَصُفُّوا لَهُ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَأَى الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الْوَالِدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «وَمَنْ وَافِدُكِ؟» قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: «الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ!» قَالَتْ: فَمَنَّ عَلَيَّ وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَى أَنَّهُ عَلِيُّ عليه السلام، قال: «سليه حملانا» قال: فسألته، فامر بها فَأَتَتْنِي، فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْت فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا! قَالَتِ: ائْتِهِ رَاغِبًا وَرَاهِبًا، فَقَدْ أتاه فُلانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ.
قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصِبْيَانٌ -أَوْ صَبِيٌّ- فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم -فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلِكِ كِسْرَى وَلا قَيْصَرَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ! فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ! وَمَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ! فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ!» فَأَسْلَمْتُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ سَعْدٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ طَيِّئٍ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَ سمع به منى، اما انا لكنت امْرَأً شَرِيفًا، وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ، فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكًا فِي قَوْمِي، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٌّ وَكَانَ رَاعِيًا لإِبِلِي: لا ابالك! أَعْدِدِ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالا ذُلُلا سِمَانًا مسان، فَاحْبِسْهَا قَرِيبًا مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ قد وطيء هَذِهِ الْبِلادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ فَاصْنَعْهُ الآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: قَرِّبْ لِي جِمَالِي، فَقَرَّبَهَا، فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، فَسَلَكْتُ الْحُوشِيَّةَ وَخَلَفْتُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ أَقَمْتُ بِهَا، وَتَخَالَفَنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أُصِيبَ فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي سَبَايَا طَيِّئٍ، وَقَدْ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هَرَبِي إِلَى الشَّامِ قَالَ: فَجُعِلَتْ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ كَانَتِ السَّبَايَا يُحْبَسْنَ بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَتْ إِلَيْهِ- وَكَانَتْ امْرَأَةً جَزْلَةً- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: «وَمَنْ وَافِدُكِ؟» قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: «الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ!» قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ مَرَّ بِي وَقَدْ أَيِسْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ: أَنْ قُومِي إِلَيْهِ فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلادِكِ ثُمَّ آذِنِينِي» قَالَتْ: فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيَّ أَنْ كَلِّمِيهِ فَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: وَأَقَمْتُ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيٍّ- أَوْ مِنْ قُضَاعَةَ- قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بالشام، قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلاغٌ قَالَتْ: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَحَمَلَنِي وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشام قال عدى: فو الله، إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَيَّ تَؤُمُّنَا قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ! قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ! احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ، وَتَرَكْتَ بُنَيَّةَ وَالِدِكَ وَعَوْرَتَهُ! قَالَ: قُلْتُ: يا أخيه، لا تقولي الا خيرا، فو الله مَا لِي عُذْرٌ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا- وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَالسَّابِقُ إِلَيْهِ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ وَأَنْتَ أَنْتَ! قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لِلرَّأْيُ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجُلُ؟» فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بي الى بيته، فو الله إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَتَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفًا، فَقَذَفَهَا إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: “اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ“، قَالَ: قُلْتُ: لا بَلْ أَنْتَ، فَاجْلِسْ عَلَيْهَا قَالَ: «لا بَلْ أَنْتَ»، فَجَلَسْتُ وَجَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالأَرْضِ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِيهٍ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ! أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيًّا!» قَالَ: قلت: بلى، قال: «او لم تَكُنْ تَسِيرَ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ!» قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ- وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ- قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدين ما ترى من حاجتهم! فوالله لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ يَفِيضُ فِيهِمْ حَتَّى لا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عدوهم وقله عددهم، فوالله لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لا تَخَافُ إِلا اللَّهَ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ» قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَكَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَقُولُ: مَضَتِ الثِّنْتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ قَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتَحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لا تَخَافُ شَيْئًا حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتِ وَايْمُ اللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ لَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حتى لا يوجد من يأخذه.

قدوم وفد بنى تميم ونزول سوره الحجرات
قَالَ الواقدي: وَفِيهَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالا: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ التَّمِيمِيُّ فِي أَشْرَافٍ مِنْ تَمِيمٍ، مِنْهُمُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الأَهْتَمِ، وَالْحَتَّاتُ بْنُ فُلانٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ أَخُو بَنِي سَعْدٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، مَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْفَزَارِيُّ- وَقَدْ كَانَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بنى تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ- فَلَمَّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تميم المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ فَآذَى ذَلِكَ مِنْ صِيَاحِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، جِئْنَاكَ لِنُفَاخِرَكَ، فاذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: «نعم، أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ» فَقَامَ إِلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَهُوَ أَهْلُهُ، الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا وَأَيْسَرَهُ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النَّاسِ! أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النَّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ! فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا، وَإِنَّا لَوْ نَشَاءُ لأَكْثَرْنَا الْكَلامَ، وَلَكِنَّا نَحْيَا مِنَ الإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا، وَإِنَّا نُعْرَفُ أَقُولُ هَذَا الآنَ لِتَأْتُونَا بِمِثْلِ قَوْلِنَا، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: «قُمْ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ».
فَقَامَ ثَابِتٌ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطُّ إِلا مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولا أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيَرَةَ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الإِيمَانِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمُ النَّاسِ أَنْسَابًا، وَأَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرُ النَّاسِ فِعَالا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ الْخَلْقِ إِجَابَةً- وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ حِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللَّهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلْمُؤْمِنَاتِ، والسلام عليكم.
قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا، فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَقَالَ:

نَحْنُ الْكِرَامُ فَلا حَيٌّ يُعَادِلُنَا *** مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ البيع
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ *** عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ
وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَطْعَمَنَا *** مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْقَزَعُ
ثُمَّ تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سُرَاتُهُمُ *** مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هَوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أَرُومَتِنَا *** لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ *** إِلا اسْتَقَادُوا وَكَادَ الرَّأْسُ يُقْتَطَعُ
إِنَّا أَبَيْنَا وَلَنْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ *** إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
فَمَنْ يُقَادِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا *** فَيَرْجِعُ الْقَولُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ

وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ غَائِبًا، فبعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ حَسَّانٌ: فَلَمَّا جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَانِي لأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ، خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَا أَقُولُ:

مَنَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ حَلَّ وَسْطَنَا *** عَلَى كُلِّ بَاغٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ
مَنَعْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ بُيُوتِنَا *** بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ عَادٍ وَظَالِمِ
بِبَيْتِ حَرِيدٍ عِزُّهُ وَثَرَاؤُهُ *** بِجَابِيَةِ الْجَوْلانِ وَسْطَ الأَعَاجِمِ
هَلِ الْمَجْدُ إِلا السُّؤْدَدُ الْعُودُ وَالنَّدَى *** وَجاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ!

قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ، فَقَالَ مَا قَالَ، عَرَضْتُ فِي قَوْلِهِ وَقُلْتُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا قَالَ، فَلَمَّا فَرَغَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بدر من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانٍ: «قُمْ يَا حَسَّانُ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِيمَا قَالَ»، قَالَ: فَقَالَ حَسَّانٌ:

إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ *** قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ *** تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرَوْا عَدُوَّهُمُ *** أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ *** إِنَّ الْخَلائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ *** فَكُلُّ سَبْقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تبع
لا يرقع النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفَّهُمُ *** عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ *** أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ *** لا يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيهِمُ طَمَعُ
لا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفْضِلِهِمُ *** وَلا يَمَسَّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ *** كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ
نَسْمُو إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا *** إِذَا الزِّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عُدُوِّهِمُ *** وَإِنْ أُصِيبُوا فَلا خُورٌ وَلا هُلُعُ
كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ *** أُسْدٌ بِحَلْيَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا *** وَلا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذِي منعوا
فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ- فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ *** شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ
أَكْرَمَ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شيعتهم *** إذا تفرقت الأهواء والشيع
اهدى لهم مَدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ *** فِيمَا أَحَبَّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ *** إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمِعُوا

فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤَتَّى لَهُ! لَخَطِيبَةٌ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا فَلَمَّا فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ- وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ قَدْ خَلَفَهُ الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ- فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ- وَكَانَ يُبْغِضُ عَمْرَو بْنَ الأَهْتَمِ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنَّا رَجُلٌ فِي رِحَالِنَا وَهُوَ غُلامٌ حَدَثٌ، وَأَزْرَى بِهِ، فاعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، وَهُوَ يَهْجُوهُ:

ظَلَلْتَ مُفْتَرِشًا هلْبَاكَ تَشْتُمُنِي *** عِنْدَ الرَّسُولِ فَلَمْ تُصْدَقْ وَلَمْ تُصِبِ
إِنْ تُبْغِضُونَا فَإِنَّ الرُّومَ أَصْلُكُمُ *** وَالرُّومُ لا تملك البغضاء للعرب
سدنا فسؤددنا عود وسوددكم *** مُؤَخَّرٌ عِنْدَ أَصْلِ الْعُجْبِ وَالذَّنَبِ

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قَالَ: فأنزل الله فيهم القرآن: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] – من بني تميم- {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، قال: وهي القراءة الاولى.
قال الواقدى: وفيها مات عبد الله بْن أبي بن سلول، مرض فِي ليال بقين من شوال، ومات فِي ذي القعدة، وَكَانَ مرضه عشرين ليلة.

قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم
قال: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير فِي شهر رمضان مقرين بِالإِسْلامِ، مَعَ رسولهم الحارث بْن عبد كلال ونعيم ابن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رُعَيْن.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابُ مُلُوكِ حِمْيَرَ مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ وَرَسُولُهُمْ إِلَيْهِ بِإِسْلامِهِمُ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كَلالٍ وَنُعَيْمُ بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وَهَمْدَانَ وَمَعَافِرَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنَ مَالِكُ بْنُ مُرَّةَ الرَّهَاوِيُّ بِإِسْلامِهِ، وَمُفَارَقَتِهِمُ الشِّرْكَ واهله، فكتب اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كَلالٍ ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رُعَيْنٍ وَهَمْدَانَ وَمَعَافِرَ، أَمَّا بَعْدَ ذَلِكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مَقْفَلَنَا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَلَقِينَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ مَا أَرْسَلْتُمْ، وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ، وَأَنْبَأَنَا بِإِسْلامِكُمْ وَقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهِدَايَتِهِ، إِنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ، وَسَهْمَ نَبِيِّهِ وَصَفِيِّهِ، وَمَا كَتَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتِ الْعَيْنُ وَمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، وَكُلُّ مَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي الإِبِلِ فِي الأَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي ثَلاثِينَ مِنَ الإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَفِي كُلِّ خُمُسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلاثِينَ من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةٌ وَحْدَهَا، شَاةٌ وَإِنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ، فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إِسْلامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، له ما لهم وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ قِيمَتُهُ مِنَ الْمَعَافِرِ أَوْ عَرْضُهُ ثِيَابًا، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ أَرْسَلَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنَ أَنْ إِذَا أَتَتْكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ مُرَّةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَنِ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مُخَالِفِيكُمْ وَبَلِّغُوهَا رُسُلِي، وَإِنَّ أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلا يَنْقَلِبَنَّ الا راضيا.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّ مَالِكَ بْنَ مُرَّةَ الرَّهَاوِيَّ قَدْ حَدَّثَنِي أَنَّكَ أَسْلَمْتَ مِنْ أَوَّلِ حِمْيَرَ، وَقَتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ، وَآمُرُكَ بِحِمْيَرَ خَيْرًا، وَلا تَخُونُوا وَلا تَخْذِلُوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَوْلَى غَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَإِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لأَهْلِهِ، إِنَّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُتَزَكَّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ بَلَّغَ الْخَبَرَ وَحَفِظَ الْغَيْبَ، وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي أَهْلِي وَأُولِي دِينِي، وَأُولِي عِلْمِهِمْ، فَآمُرُكُمْ بِهِمْ خَيْرًا فَإِنَّهُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»
قال الْوَاقِدِيّ: وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا، ونزلوا على المقداد بْن عمرو.
قَالَ: وفيها قدم وفد بني البكاء.
وفيها قدم وفد بني فزارة، وهم بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بْن حصن.
قَالَ: وفيها نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين النجاشي، وأنه مات فِي رجب سنة تسع.
قَالَ: وفيها حج أبو بكر بالناس ثُمَّ خرج أبو بكر من الْمَدِينَةِ فِي ثلاثمائة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، وساق أبو بكر خمس بدنات وحج فيها عبد الرحمن بْن عوف وأهدى.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن ابى طالب ع على أثر أبي بكر رضي الله عنه، فأدركه بالعرج، فقرأ عَلِيُّ عليه براءة يوم النحر عِنْد العقبة فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتِ إِلَى رَأْسِ الأَرْبَعِينَ -يَعْنِي مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ- فَبَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحَلِيفَةِ أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ الى النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنْ لا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أَوْ رَجُلٌ مِنِّي أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ!» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَارَ أَبُو بكر على الحج، وَسَارَ عَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِبَرَاءَةَ، فَقَامَ يَوْمَ الأَضْحَى فَآذَنَ فَقَالَ: لا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ. فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ! فَأَسْلَمُوا.
حدثنى الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةَ، فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، يُؤَجِّلُ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الأَرْضِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ بَرَاءَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، أَجَّلَ الْمُشْرِكِينَ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الآخِرِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلا يَحُجَّنَّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَتِ الصدقات، وفرق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ.
وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وَكَانَ السَّبَبَ الَّذِي نَزَلَ ذَلِكَ بِهِ قِصَّةُ أَمْرِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ.
قَالَ الواقدي: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ماتت أم كلثوم ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي شَعْبَانَ، وَغَسَّلَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَصَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ: وَقِيلَ غَسَّلَتْهَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فِيهِنَّ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَطِيَّةَ، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهَا أَبُو طَلْحَةَ.
قَالَ: وفيها قدم وفد ثعلبه بن منقذ.

قدوم ضمام بن ثعلبه وافدا عن بنى سعد
وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ سَعْدِ هُذَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثعلبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ رَجُلا جَلِدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: يَا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ لَكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ! قَالَ: «لا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَم»، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ امرك ان نامرنا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِي كَانَتْ آبَاؤُنَا تَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ؟
قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَم»، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟
قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَم»، قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً، الزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الإِسْلامِ كُلَّهَا، يُنَاشِدُهُ عَنْ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا نَاشَدَهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لا أَنْقُصُ ولا ازيد ثم انصرف الى بعيره راجعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ وَلَّى: «إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»، قَالَ: فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: باست اللاتُ وَالْعُزَّى! قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ! اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ! قَالَ: وَيْحَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لا يَنْفَعَانِ وَلا يَضُرَّانِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عنه.
قال: فو الله مَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا قَالَ:
يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ من ضمام بن ثعلبه.