41 ق.هـ
582 م
سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام

تحديد وقت سفره صلى الله عليه وسلم

قال أبو عمر: سنة ثلاث عشرة من الفيل وشهد بعد ذلك بثمان سنين يوم الفجار سنة إحدى وعشرين، وقال أبو الحسن الماوردي: خرج به عليه السلام عمه أبو طالب إلى الشام في تجارة له وهو ابن تسع سنين، وذكر ابن سعد بإسناد له، عن داود بن الحصين، أنه كان ابن اثنتي عشرة سنة.

لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ببحيرا الراهب

قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون؛ فرَقَ له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدًا أو كما قال، فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قطُ راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون، يتوارثونه كابراً عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم طعامًا كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنطر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم: أني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبيدكم وحركم.

دعوة بحيرا الركب للطعام

فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا، إن بك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً، ما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعامًا فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم، فلما نزل بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي! قالوا له: يا بحيرا، ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سِنًاّ، فتخلف في رحالهم، قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش: واللات والعزى إن كان للؤمًا بنا أن يتخلَفّ ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظًا شديدًا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا.

سؤال بحيرا للنبي صلى الله عليه وسلم

قام إليه بحيرا، فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه- وإنما قال له بحيرا ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما- فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما، فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًاّ، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبَغْنُهّ شرًّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.
فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام، فزعموا أن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه، فردهم عنه بحيرا في ذلك، وذكرهم الله تعالى وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.

شهادة بحيرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة

عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال الأشياخ من قريش: ما علمك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، قالوا: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم؛ فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: جئنا، إن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خِيرةَ بعُثنا لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعَوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وزوَّده الراهب من الكعك والزيت . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: فبايعوه، إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم فقريب، وإن كان غير ذلك فلا أدري ما هو.

حفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في صغره

رجع إلى خبر ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال: لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزارًا وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، قال: فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي.
قال السهيلي: وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في بنيان الكعبة: كان صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة وإزاره مشدود عليه، فقال له العباس: يا ابن أخي: لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشياً عليه، ثم قال: إزاري إزاري، فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة وفي حديث آخر: أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء أن اشدد عليك إزارك يا محمد، قال: وإنه لأول ما نودي حال صغره وعند بنيان الكعبة.
وذكر البخاري عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين.

وقاية الله لنبيه في صغره

عن الحسن بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منها، قلت: ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي، حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت، حتى غلبتني عيني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسالشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هممت بغيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى
أكرمني الله عز وجل بنبوته.
و عن أم أيمن، قالت: كانت بوانة صنماً تحضره قريش وتعظمه، وتنسك له، وتحلق عنده، وتعكف عليه يومًا إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، و يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معهم؛ فيأبى ذلك، قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، و يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدًا ولا تكَُثَرّ لهم جَمعْاً، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوباً فزعاً، فقلنا: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمَمٌ ، فقلنا: ما كان الله عز وجل ليبتلك بالشيطان وكان فيك من خصال الخير ما كان،
فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيضطو يل يصيح بي: وراءكَ يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلوات الله عليه وسلامه.