جمادي الثاني 8 هـ
تشرين الاول 629 م
ذِكْرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ الْمَسِيرَ إلَى مَكّةَ وَذِكْرُ فَتْحِ مَكّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سنة ثَمَان

الْقِتَال بَين بكر وخزاعة
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: …


ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ إلَى مُؤْتَة جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا.
ثُمّ إنّ بَنِي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكّةَ يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ، وَكَانَ الّذِي هَاجَ مَا بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيّ وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَبّادٍ – وَحِلْفُ الْحَضْرَمِيّ يَوْمَئِذٍ إلَى الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ – خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمّا تَوَسّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنِ
الدّيلِيّ – وَهُمْ مَنْخِرُ بَنِي كِنَانَةَ وَأَشْرَافُهُمْ – سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ – فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدّيلِ، قَالَ:
كَانَ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ يُؤَدّونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ دِيَتَيْنِ دِيَتَيْنِ وَنُودِيَ دِيَةً دِيَةً لِفَضْلِهِمْ فِينَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ عَلَى ذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَهُمْ الْإِسْلَامُ وَتَشَاغَلَ النّاسُ بِهِ. فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، كَانَ فِيمَا شَرَطُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَطَ لَهُمْ كَمَا حَدّثَنِي الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا:
أَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ فَلْيَدْخُلْ فِيهِ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ فَلْيَدْخُلْ فِيهِ فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو الدّيلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النّفَرِ الّذِينَ أَصَابُوا مِنْهُمْ بِبَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فِي بَنِي الدّيلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَائِدُهُمْ وَلَيْسَ كُلّ بَنِي بَكْرٍ تَابَعَهُ حَتّى بَيْتِ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ، مَاءٍ لَهُمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلًا، وَتَحَاوَزُوا وَاقْتَتَلُوا، وَرَفَدَتْ بَنِي بَكْرٍ قُرَيْشٌ بِالسّلَامِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللّيْلِ مُسْتَخْفِيًا، حَتّى حَازُوا خُزَاعَةَ إلَى الْحَرَمِ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ، إلَهَك إلَهَك، فَقَالَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ
أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُنَبّهٌ وَكَانَ مُنَبّهٌ رَجُلًا مَفْئُودًا خَرَجَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ تَمِيمُ بْنِ أَسَدٍ، وَقَالَ لَهُ مُنَبّهٌ يَا تَمِيمُ اُنْجُ بِنَفْسِك، فَأَمّا أَنَا فَوَاَللهِ إنّي لَمَيّتٌ قَتَلُونِي أَوْ تَرَكُونِي لَقَدْ أَنّبْت فُؤَادِي، وَانْطَلَقَ تَمِيمٌ فَأَفْلَتَ وَأَدْرَكُوا مُنَبّهًا فَقَتَلُوهُ فَلَمّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَكّةَ، لَجَئُوا إلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَدَارِ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رَافِعٌ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ يَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ عَنْ مُنَبّهٍ.
شِعْرُ تَمِيمٍ فِي الِاعْتِذَارِ مِنْ فِرَارِهِ عَنْ مُنَبّهٍ

لَمّا رَأَيْت بَنِي نُفَاثَةَ أَقْبَلُوا *** يَغْشَوْنَ كُلّ وَتِيرَةٍ وَحِجَابِ
صَخْرًا وَرَزْنًا لَا عَرِيبَ سِوَاهُمْ *** يُزْجُونَ كُلّ مُقَلّصٍ خِنّابِ
وَذَكَرْت ذَحْلًا عِنْدَنَا مُتَقَادِمًا *** فِيمَا مَضَى مِنْ سَالِفِ الْأَحْقَابِ
وَنَشَيْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ *** وَرَهِبْت وَقْعَ مُهَنّدٍ قَضّابِ
وَعَرَفْت أَنّ مَنْ يَثْقُفُوهُ يَتْرُكُوا *** لَحْمًا لِمُجْرِيَةِ وَشِلْوَ غُرَابِ
قَوّمْت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا *** وَطَرَحْت بِالْمَتْنِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
وَنَجَوْت لَا يَنْجُو نَجَائِي أَحْقَبُ *** عِلْجٌ أَقَبّ مُشَمّرُ الْأَقْرَابِ
تَلْحَى وَلَوْ شَهِدَتْ لَكَانَ نَكِيرُهَا *** بَوْلًا يَبُلّ مَشَافِرَ الْقَبْقَابِ
الْقَوْمُ أَعْلَمُ مَا تَرَكْت مُنَبّهًا *** عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَاسْأَلِي أَصْحَابِي

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِحَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ [الْأَعْلَمِ] الْهُذَلِيّ وَبَيْتُهُ “وَذَكَرْت ذَحْلًا عِنْدَنَا مُتَقَادِمًا” عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَوْلُهُ “خِنّابِ” و”عِلْجٌ أَقَبّ مُشَمّرُ الْأَقْرَابِ” عَنْهُ أَيْضًا.
شِعْرُ الْأَخْزَرِ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الْأَخْزَرُ بْنُ لُعْطٍ الدّيلِيّ فِيمَا كَانَ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ:

أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى الْأَحَابِيشِ أَنّنَا *** رَدَدْنَا بَنِي كَعْبٍ بِأَفْوَقَ نَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمْ فِي دَارَةِ الْعَبْدِ رَافِعٍ *** وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
بِدَارِ الذّلِيلِ الْآخِذِ الضّيْمِ بَعْدَمَا *** شَفَيْنَا النّفُوسَ مِنْهُمْ بِالْمَنَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ *** نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ
نُذَبّحْهُمُ ذَبْحَ التّيُوسِ كَأَنّنَا *** أُسُودٌ تَبَارَى فِيهُمُ بِالْقَوَاصِلِ
هُمْ ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا فِي مَسِيرِهِمْ *** وَكَانُوا لَدَى الْأَنْصَابِ أَوّلَ قَاتِلِ
كَأَنّهُمْ بِالْجِزْعِ إذْ يَطْرُدُونَهُمْ *** قَفَا ثَوْرَ حَفّانُ النعام الجوافل

شعر بُدَيْلٌ يَرُدّ عَلَى الْأَخْزَرِ
فَأَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَجَبّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَدِيلُ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ، فَقَالَ

تَفَاقَدَ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ وَلَمْ نَدَعْ *** لَهُمْ سَيّدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَافِلِ
أَمِنْ خِيفَةِ الْقَوْمِ الْأُلَى تَزْدَرِيهِمْ *** تُجِيزُ الْوَتِيرَ خَائِفًا غَيْرَ آيِلِ
وَفِي كُلّ يَوْمٍ نَحْنُ نَحْبُو حِبَاءَنَا *** لِعَقْلِ وَلَا يُحْبَى لَنَا فِي الْمَعَاقِلِ
وَنَحْنُ صَبَحْنَا بِالتّلَاعَةِ دَارَكُمْ *** بِأَسْيَافِنَا يَسْبِقْنَ لَوْمَ الْعَوَاذِلِ
وَنَحْنُ مَنَعْنَا بَيْنَ بَيْضٍ وَعِتْوَدٍ *** إلَى خَيْفِ رَضْوَى مِنْ مَجَرّ الْقَنَابِلِ
وَيَوْمَ الْغَمِيمِ قَدْ تَكَفّتَ سَاعِيًا *** عُبَيْسٌ فَجَعْنَاهُ بِجَلْدِ حُلَاحِلِ
أَإِنْ أَجْمَرْت فِي بَيْتِهَا أُمّ بَعْضِكُمْ *** بِجُعْمُوسِهَا تَنْزُونَ أَنْ لَمْ نُقَاتِلْ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ مَا إنْ قَتَلْتُمْ *** وَلَكِنْ تَرَكْنَا أَمْرَكُمْ فِي بَلَابِلِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَوْلُهُ ” غَيْرَ نَافِلِ “، وَقَوْلُهُ ” إلَى خَيْفِ رَضْوَى ” عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
شِعْرُ حَسّانٍ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ

لَحَا اللهُ قَوْمًا لَمْ نَدَعْ مِنْ سَرَاتِهِمْ *** لَهُمْ أَحَدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَاقِبِ
أَخُصْيَيْ حِمَارٍ مَاتَ بِالْأَمْسِ نَوْفَلًا *** مَتَى كُنْت مِفْلَاحًا عَدُوّ الْحَقَائِبِ

شِعْرُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ لِلرّسُولِ يَسْتَنْصِرُهُ وَرَدّهُ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا تَظَاهَرَتْ بَنُو بَكْرٍ وَقُرَيْشٌ عَلَى خُزَاعَةَ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَا أَصَابُوا، وَنَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ بِمَا اسْتَحَلّوا مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانَ فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا هَاجَ فَتْحَ مَكّةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانِيّ النّاسِ فَقَالَ

يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا *** ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللهُ نَصْرًا أَعْتَدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرّدَا *** إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا *** إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا *** وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا *** وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا

يَقُولُ قُتِلْنَا وَقَدْ أَسْلَمْنَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى [أَيْضًا] :

فَانْصُرْ هَدَاك اللهُ نَصْرًا أَيّدَا

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى أَيْضًا:

[نَحْنُ وَلَدْنَاك فَكُنْت وَلَدًا]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نُصِرْت يَا عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ» ثُمّ عُرِضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ «إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بني كَعْب»
ذهَاب ابْنُ وَرْقَاءَ إلَى الرَّسُول بِالْمَدِينَةِ شاكيا وتعرف أبي سُفْيَان أمره
ثُمّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَكّةَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنّاسِ «كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ». وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى لَقَوْا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ وَقَدْ رَهِبُوا الّذِي صَنَعُوا. فَلَمّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت يَا بُدَيْلُ؟ وَظَنّ أَنّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَسَيّرْت فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السّاحِلِ، وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي، قَالَ أَوَ مَا جِئْت مُحَمّدًا؟ قَالَ لَا ; فَلَمّا رَاحَ بُدَيْلٌ إلَى مَكّةَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَئِنْ جَاءَ بُدَيْلٌ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النّوَى فَأَتَى مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتّهُ فَرَأَى فِيهِ النّوَى، فَقَالَ أَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ جَاءَ بديل مُحَمَّدًا.
خُرُوج أبي سُفْيَان إِلَى الْمَدِينَة للصلح وإخفاقه
ثُمّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا بُنَيّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْت بِهِ عَنّي؟ قَالَ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ وَلَمْ أُحِبّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَاَللهِ لَقَدْ أَصَابَك يَا بُنَيّةُ بَعْدِي شَرّ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلّمَهُ لَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمّ ذَهَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَلّمَهُ أَنْ يُكَلّمَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ ثُمّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَكَلّمَهُ فَقَالَ أَأَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَوَاَللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ. ثُمّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا، وَعِنْدَهَا حَسَنُ
بْنُ عَلِيّ غُلَامٌ يَدِبّ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ يَا عَلِيّ، إنّك أَمَسّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا، وَإِنّي قَدْ جِئْت فِي حَاجَةٍ فَلَا أَرْجِعَن كَمَا جِئْت خَائِبًا، فَاشْفَعْ لِي إلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاَللهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلّمَهُ فِيهِ. فَالْتَفَتَ إلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ يَا ابْنَةَ مُحَمّدٍ، هَلْ لَك أَنْ تَأْمُرِي بُنَيّك هَذَا فَيُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ فَيَكُونَ سَيّدَ الْعَرَبِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ؟ قَالَتْ وَاَللهِ مَا بَلَغَ بُنَيّ ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَبَا الْحَسَنِ إنّي أَرَى الْأُمُورَ قَدْ اشْتَدّتْ عَلَيّ فَانْصَحْنِي ; قَالَ وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ لَك شَيْئًا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا، وَلَكِنّك سَيّدُ بَنِي كِنَانَةَ فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ ثُمّ الْحَقْ بِأَرْضِك ; قَالَ أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا؟ قَالَ لَا وَاَللهِ مَا أَظُنّهُ وَلَكِنّي لَا أَجِدُ لَك غَيْرَ ذَلِكَ. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ. ثُمّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ جِئْت مُحَمّدًا فَكَلّمْته، فَوَاَللهِ مَا رَدّ عَلَيّ شَيْئًا، ثُمّ جِئْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرًا، ثُمّ جِئْت ابْنَ الْخطاب فَوَجَدته أدنى الْعَدُوّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَعْدَى الْعَدُوّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
ثُمّ جِئْت عَلِيّا فَوَجَدْته أَلْيَنَ الْقَوْمِ وَقَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِشَيْءِ صَنَعْته، فَوَاَللهِ مَا أَدْرِي
هَلْ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا أَمْ لَا؟ قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَك؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ فَفَعَلْت، قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ؟ قَالَ لَا، قَالُوا: وَيْلَك وَاَللهِ إنْ زَادَ الرّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِك، فَمَا يُغْنِي عَنْك مَا قُلْت. قَالَ لَا وَاَللهِ مَا وَجَدْت غير ذَلِك
تجهيز الرّسُولُ لِفَتْحِ مَكّةَ
وَأَمَر رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَازِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهّزُوهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَهِيَ تُحَرّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ أَأَمَرَكُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُجَهّزُوهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَتَجَهّزَ قَالَ فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ (لَا) وَاَللهِ مَا أَدْرِي. ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النّاسَ أَنّهُ سَائِرٌ إلَى مَكّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالتّهَيّؤِ وَقَالَ «اللهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا» فَتَجَهّزَ النّاسُ.
فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ النّاسَ وَيَذْكُرُ مُصَابَ رجال خُزَاعَة:
شعر حسان فِي تحريض النَّاس

عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكّةَ *** رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ *** وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنّ ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَن نُصْرَتِي *** سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَخْزُهَا وَعُقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حَنّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ *** فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدّ عُصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنّا يَا ابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ *** إذَا اُحْتُلِبَتْ صِرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
وَلَا تَجْزَعُوا مِنّا فَإِنّ سُيُوفَنَا *** لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
قَوْلُ حَسّانٍ بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا، “وَابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ”يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ.
كِتَابُ حَاطِبٍ إِلَى قُرَيْش وَعلم الرَّسُول بأَمْره
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالُوا:
لَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إلَى مَكّةَ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَمْرِ فِي السّيْرِ إلَيْهِمْ ثُمّ أَعْطَاهُ
امْرَأَةً زَعَمَ مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ لِي غَيْرُهُ أَنّهَا سَارّةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمّ خَرَجَتْ بِهِ وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ أَدْرَكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابِ إلَى قُرَيْشٍ، يُحَذّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ فَخَرَجَا حَتّى أَدْرَكَاهَا بِالْخُلَيْقَةِ خُلَيْقَةِ بَنِي أَبِي أَحْمَدَ فَاسْتَنْزَلَاهَا، فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنّي أَحْلِفُ بِاَللهِ مَا كُذِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كُذِبْنَا، وَلَتُخْرِجَن لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ فَلَمّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَعَتْهُ إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا، فَقَالَ «يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا»؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا وَاَللهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت، وَلَكِنّي كُنْت امْرِئِ لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتهمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّ الرّجُلَ قَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللهَ قَدْ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ» فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلَى قَوْلِهِ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.
خُرُوجُ الرّسُولِ فِي رَمَضَان واستخلافه أَبَا رهم
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، قَالَ:
ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَفَرِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيّ وَخَرَجَ لِعَشْرِ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَامَ النّاسُ مَعَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِالْكُدَيْدِ بَيْنَ عُسْفَانَ وأمج أفطر.
نزولهم مر الظهْرَان وتحسس قُرَيْش أَخْبَار الرَّسُول
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
ثُمّ مَضَى حَتّى نَزَلَ مَرّ الظّهْرَانِ فِي عَشْرَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَسَبّعَتْ سُلَيْمٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَلّفَتْ سُلَيْمٌ وَأَلّفَتْ مُزَيْنَةُ. وَفِي كُلّ الْقَبَائِلِ عَدَدٌ وَإِسْلَامٌ وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ،
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الظّهْرَانِ، وَقَدْ عُمّيَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَأْتِهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَحَسّسُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ وَقَدْ كَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْض الطَّرِيق.
هِجْرَة الْعَبَّاس
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
لَقِيَهُ بِالْجُحْفَةِ مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِمَكّةَ عَلَى سِقَايَتِهِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ رَاضٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ.
إِسْلَام أبي سُفْيَان بن الْحَارِث وَعبد الله بن أُميَّة
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِنِيقِ الْعُقَابِ، فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالْتَمَسَا الدّخُولَ عَلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ فِيهِمَا، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ ابْنُ عَمّك وَابْنُ عَمّتِك وَصِهْرُك ; قَالَ «لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمّا ابْنُ عَمّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمّا ابْنُ عَمّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ
الّذِي قَالَ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ». قَالَ فَلَمّا خَرَجَ الْخَبَرُ إلَيْهِمَا بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيّ لَهُ. فَقَالَ وَاَللهِ لَيَأْذَنَن لِي أَوْ لَآخُذَن بِيَدِيّ بُنَيّ هَذَا، ثُمّ لَنَذْهَبَنّ فِي الْأَرْضِ حَتّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجَوْعًا، فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقّ لَهُمَا، ثُمّ أَذِنَ لَهُمَا، فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَسْلَمَا وَأَنْشَدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ قَوْلَهُ فِي إسْلَامِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ مِمّا كَانَ مَضَى مِنْهُ فَقَالَ:
شعر أبي سُفْيَان فِي الِاعْتِذَار عَمَّا كَانَ فِيهِ قبل إِسْلَامه

لَعَمْرُك إنّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً *** لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللّاتِي خَيْلَ مُحَمّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ *** فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي *** مَعَ اللهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ
أَصُدّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمّدٍ *** وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمّدِ
هُمْ مَا هُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمْ *** وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنّدْ
أُرِيدُ لِأَرْضِيهِمْ وَلَسْت بِلَائِطِ *** مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلّ مَقْعَدِ
فَقُلْ لِثَقِيفِ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا *** وَقُلْ لِثَقِيفِ تِلْكَ غَيْرِي أَوْعِدِي
فَمَا كُنْت فِي الْجَيْشِ الّذِي نَالَ عَامِرًا *** وَمَا كَانَ عَنْ جَرّا لِسَانِي وَلَا يَدِي
قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ *** نَزَائِعَ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى “وَدَلّنِي عَلَى الْحَقّ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ”.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنّهُ حِينَ أَنْشَدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ «وَنَالَنِي مَعَ اللهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ» ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ «أَنْتَ طَرّدْتَنِي كُلّ مُطَرّدِ».
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الطّهْرَانِ قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقُلْت: وَاصَبَاحَ
قُرَيْشٍ، وَاَللهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إنّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إلَى آخِرِ الدّهْرِ. قَالَ فَجَلَسْت عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ فَخَرَجْت عَلَيْهَا. قَالَ حَتّى جِئْت الْأَرَاكَ، فَقُلْت: لَعَلّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطّابَةِ أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكّةَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجُوا إلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً. قَالَ فَوَاَللهِ إنّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا، وَأَلْتَمِسُ مَا خَرَجْت لَهُ إذْ سَمِعْت كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ نِيرَانًا قَطّ وَلَا عَسْكَرًا قَالَ يَقُولُ بُدَيْلٌ هَذِهِ وَاَللهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ. قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ خُزَاعَةُ أَذَلّ وَأَقَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانَهَا وَعَسْكَرَهَا، قَالَ فَعَرَفْت صَوْتَهُ فَقُلْت: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ؟ قَالَ قُلْت: نَعَمْ قَالَ مَا لَك؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي قَالَ قُلْت: وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّاسِ وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاَللهِ قَالَ فَمَا الْحِيلَةُ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي؟ قَالَ قُلْت وَاَللهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِك لَيَضْرِبَن عُنُقَك، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتّى آتِي بِك رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْمَنَهُ لَك ; قَالَ فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ
قَالَ فَجِئْت بِهِ كُلّمَا مَرَرْت بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا، قَالُوا: عَمّ رَسُولِ اللهِ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إلَيّ فَلَمّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدّابّةِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْك بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَضْت الْبَغْلَةَ فَسَبَقْته بِمَا تَسْبِقُ الدّابّةُ الْبَطِيئَةُ الرّجُلَ الْبَطِيءَ قَالَ فَاقْتَحَمْت عَنْ الْبَغْلَةِ فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إنّي قَدْ أَجَرْته، ثُمّ جَلَسْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْت بِرَأْسِهِ فَقُلْت: وَاَللهِ لَا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي
شَأْنِهِ قَالَ قُلْت: مَهْلًا يَا عُمَرُ فَوَاَللهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا، وَلَكِنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَ مَهْلًا يَا عَبّاسُ فَوَاَللهِ لَإِسْلَامُك يَوْمَ أَسْلَمْت كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ، وَمَا بِي إلّا أَنّي قَدْ عَرَفْت أَنّ إسْلَامَك كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اذْهَبْ بِهِ يَا عَبّاسُ إلَى رَحْلِك، فَإِذَا أَصْبَحْت فَأْتِنِي بِهِ»، قَالَ فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَحْلِي، فَبَاتَ عِنْدِي، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَوْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ؟» قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك، وَاَللهِ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ قَالَ «وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللهِ؟» قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك أَمّا هَذِهِ وَاَللهِ فَإِنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا حَتّى الْآنَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ وَيْحَك أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُك. قَالَ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ فَأَسْلَمَ قَالَ الْعَبّاسُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ هَذَا الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ «نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ» فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا عَبّاسُ احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا». قَالَ فَخَرَجْت حَتّى حَبَسْته بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَحْبِسَهُ. عرض الْجَيْش
عرض جيوش الرَّسُول أَمَام أبي سُفْيَان
قَالَ: وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلّمَا مَرّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ يَا عَبّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ سُلَيْمٌ فَيَقُولُ مَا لِي وَلِسُلَيْمِ ثُمّ تَمُرّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ يَا عَبّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟
فَأَقُولُ مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ حَتّى نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ مَا تَمُرّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلّا يَسْأَلُنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْته بِهِمْ قَالَ مَا لِي وَلِبَنِي فُلَانٍ حَتّى مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَإِنّمَا قِيلَ لَهَا الْخَضْرَاءُ لِكَثْرَةِ الْحَدِيدِ وَظُهُورِهِ فِيهَا.
قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حَمْزَةَ الْيَشْكُرِيّ:

ثَمّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمّ قَطَامٍ *** وَلَهُ فَارِسِيّةٌ خَضْرَاءُ

يَعْنِي الْكَتِيبَةَ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ:

لَمّا رَأَى بَدْرًا تَسِيلُ جِلَاهُهُ *** بِكَتِيبَةِ خَضْرَاءَ مِنْ بَلْخَزْرَجِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ قَدْ كَتَبْنَاهَا فِي أَشْعَارِ يَوْمِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللهِ يَا عَبّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ قُلْت: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; قَالَ مَا لِأَحَدِ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ وَاَللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا، قَالَ قُلْت: يَا أَبَا سُفْيَانَ إنّهَا النّبُوّةُ. قَالَ فَنعم إِذن
رُجُوع ابي سُفْيَان إِلَى أهل مَكَّة يُحَذرهُمْ
قَالَ قُلْت: النّجَاءَ إلَى قَوْمِك، حَتّى إذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَامَتْ إلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَسَ قُبّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ قَالَ وَيْلَكُمْ لَا تَغُرّنكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَإِنّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا: قَاتَلَك اللهُ وَمَا تُغْنِي عَنّا دَارُك، قَالَ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَتَفَرّقَ النّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ
وُصُولُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذِي طُوًى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشِقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَضَعُ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ حَتّى إنّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ.
إِسْلَام أبي قُحَافَة
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ:
لَمّا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي طُوًى قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةِ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ أَيْ بُنَيّةُ اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ قَالَتْ وَقَدْ كُفّ بَصَرُهُ قَالَتْ فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا، قَالَ تِلْكَ الْخَيْلُ قَالَتْ وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، قَالَ أَيْ بُنَيّةُ ذَلِكَ الْوَازِعُ يَعْنِي الّذِي يَأْمُرُ الْخَيْلَ وَيَتَقَدّمُ إلَيْهَا، ثُمّ قَالَتْ قَدْ وَاَللهِ انْتَشَرَ السّوَادُ قَالَتْ فَقَالَ قَدْ وَاَللهِ إذَنْ دُفِعَتْ الْخَيْلُ فَأَسْرِعِي بِي إلَى بَيْتِي، فَانْحَطّتْ بِهِ وَتَلَقّاهُ الْخَيْلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَتْ وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرِقٍ فَتَلَقّاهَا رَجُلٌ فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا، قَالَتْ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «هَلّا تَرَكْت الشّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ أَحَقّ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْك مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إلَيْهِ أَنْتَ قَالَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ «أَسْلِمْ» فَأَسْلَمَ قَالَتْ فَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَأَنّ
رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «غَيّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ» ثُمّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ وَقَالَ أُنْشِدُ اللهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَتْ فَقَالَ أَيْ أُخَيّة، احْتَسِبِي طَوْقَك، إنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ الْيَوْم لقَلِيل
دُخُول جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى، أَمَرَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ
الزّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النّاسِ مِنْ كَدَاءٍ.
تخوف الْمُهَاجِرُونَ على قُرَيْش من سعد وَمَا أَمر بِهِ الرَّسُول
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ سَعْدًا حِينَ وَجّهَ دَاخِلًا، قَالَ:
الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ –
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الّذِي تدخل بهَا»
طَرِيق الْمُسلمين فِي دُخُول مَكّةَ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ:
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ مِنْ اللّيطِ، أَسْفَلَ مَكّةَ، فِي بَعْضِ النّاسِ وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ بِالصّفّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْصِبُ لِمَكّةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَاخِرَ، حَتّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكّةَ وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالك قُبَّته.
تعرض صَفْوَان فِي نفر مَعَه لِلْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ:
أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ مَا أَرَى؟ قَالَ
لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ قَالَتْ وَاَللهِ مَا أَرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ

إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّةٌ *** هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ

ثُمّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلِ وَعِكْرِمَةَ، فَلَمّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ فَقَتَلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ، أَحَدَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَخُنَيْسَ بْنَ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقَذٍ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَشَذّا عَنْهُ فَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلَا جَمِيعًا قُتِلَ خُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ قَبْلَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ، فَجَعَلَهُ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ثُمّ قَاتَلَ عَنْهُ حَتّى قُتِلَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ

قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهِرْ *** نَقِيّةَ الْوَجْهِ نَقِيّةَ الصّدِرْ
لَأَضْرِبَن الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخِرْ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ خُنَيْسٌ يُكَنّى أَبَا صَخْرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ قَالَا:
وَأُصِيبَ مِنْ جُهَيْنَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَاسٌ قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ ثُمّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَغْلِقِي عَلَيّ بَابِي، قَالَتْ فَأَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ؟ فَقَالَ

إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ *** إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتِمَهْ *** واستقبلتهم بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ *** ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ *** لَمْ تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ ” كَالْمُوتِمَهْ ” وَتُرْوَى لِلرّعَاشِ الْهُذَلِيّ.
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْم الْفَتْح وحنين والطائف:
وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِفِ، شِعَارُ
الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللهِ.
عهد الرَّسُول إِلَى أمرائه وَأمره بقتل نفر سماهم:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَهِدَ إلَى أُمَرَائِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكّةَ، أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلّا مَنْ قَاتَلَهُمْ إلّا أَنّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ أَخُو بَنِي عَامِرِ بن لؤَي.
سَبَب أَمر الرَّسُول بقتل سعد وشفاعة عُثْمَان فِيهِ
وَإِنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ لِأَنّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ فَارْتَدّ مُشْرِكًا رَاجِعًا إلَى قُرَيْشٍ، فَفَرّ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ، وَكَانَ أَخَاهُ لِلرّضَاعَةِ فَغَيّبَهُ حَتّى أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ اطْمَأَنّ وَأَهْلُ مَكّةَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَمَتَ طَوِيلًا، ثُمّ قَالَ «نَعَمْ»، فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ «لَقَدْ صَمَتّ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: فَهَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ «إنّ النّبِيّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ».
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَوَلّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ أَعْمَالِهِ ثُمّ وَلّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بَعْدَ عُمَرَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ:
إنّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ أَنّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدّقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدُمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا، فَنَزَلَ مَنْزِلًا، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا، فَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ ارْتَدَّ مُشْركًا.
أَسمَاء من أَمر الرَّسُول بِقَتْلِهِم وَسبب ذَلِك
وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا وَكَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ.
وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ، وَكَانَ مِمّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ، فَنَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثَ بْنَ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ [أَوْ ضَبَابَةَ أَوْ صُبَابَةَ] وَإِنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ لِقَتْلِ الْأَنْصَارِيّ الّذِي كَانَ قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً وَرُجُوعُهُ إلَى قُرَيْشٍ مُشْرِكًا وَسَارّةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
وَكَانَتْ سَارّةُ مِمّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ فَأَمّا عِكْرِمَةُ فَهَرَبَ إلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمّنَهُ فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ إلَى الْيَمَنِ، حَتّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ. وَأَمّا عَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيّ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ، اشْتَرَكَا فِي دَمْعٍ وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ فِي قَتْلِهِ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ *** وَفَجّعَ أَضْيَافَ الشّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ *** إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ

وَأَمّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا، وَهَرَبَتْ الْأُخْرَى، حَتّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فَأَمّنَهَا.
وَأَمّا سَارّةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمّنَهَا، ثُمّ بَقِيَتْ حَتّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنْ النّاسِ فَرَسًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا.
وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أبي طَالب.
حَدِيث الرجلَيْن اللَّذين أمنتهما أُمّ هَانِئٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُرّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنّ أُمّ هَانِئِ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ:
لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكّةَ، فَرّ إلَيّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ، قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي، فَقَالَ وَاَللهِ لَأَقْتُلَنهُمَا، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ، فَوَجَدْته يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إنّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ صَلّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ «مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك؟» فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيّ فَقَالَ «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت، وَأَمّنّا مَنْ أَمّنْت، فَلَا يَقْتُلْهُمَا»
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
طواف الرَّسُول بِالْبَيْتِ وكلمته فِيهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا نَزَلَ مَكّةَ، وَاطْمَأَنّ النّاسُ خَرَجَ حَتّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِ فِي يَدِهِ فَلَمّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا
فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمّ طَرَحَهَا، ثُمّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اسْتَكَفّ لَهُ النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ «لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ اللهَ قَدْ
أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الْحُجُرَاتِ 13] . الْآيَةَ كُلّهَا. ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ»
إقْرَارُ الرّسُولِ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللهُ عَلَيْك;
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟» فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ «هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ».
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيّ «إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا ترزءون».
أَمر الرَّسُول بطمس مَا بِالْبَيْتِ من صور:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرَهُمْ فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 67] ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كلهَا فطمست.
صَلَاة الرَّسُول بِالْبَيْتِ وتوخي ابْن عمر مَكَانَهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخَلّفَ بِلَالٌ فَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى بِلَالٍ فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمْ صَلّى، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ، ثُمّ يُصَلّي يَتَوَخّى بِذَلِكَ الْمَوْضِعَ الّذِي قَالَ لَهُ بِلَال.
سَبَب إسْلَامُ عَتّابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ أَسِيدًا أَلَا يَكُونُ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ. فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاَللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ مُحِقّ لَاتّبَعْته، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا: لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «قَدْ عَلِمْت الّذِي قُلْتُمْ» ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ وَاَللهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا، فَنَقُول أخْبرك.
سَبَب تَسْمِيَة الرَّسُول لخراش بِالْقِتَالِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَنْدَرَ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ.
كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا، وَكَانَ رَجُلًا شُجَاعًا، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانَهُ فَكَانَ إذَا بَاتَ فِي حَيّهِ بَاتَ مُعْتَنِزًا، فَإِذَا بُيّتَ الْحَيّ صَرَخُوا يَا أَحْمَرُ فَيَثُورُ مِثْلَ الْأَسَدِ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ. فَأَقْبَلَ غَزِيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُرِيدُونَ حَاضِرَهُ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَاضِرِ قَالَ ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ: لَا تَعْجَلُوا عَلَيّ حَتّى أَنْظُرَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاضِرِ أَحْمَرُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ فَإِنّ لَهُ غَطِيطًا لَا يَخْفَى، قَالَ فَاسْتَمَعَ فَلَمّا سَمِعَ غَطِيطَهُ مَشَى إلَيْهِ حَتّى وَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ ثُمّ أَغَارُوا عَلَى الْحَاضِرِ فَصَرَخُوا يَا أَحْمَرُ وَلَا أَحْمَرَ لَهُمْ فَلَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ يَنْظُرُ وَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ النّاسِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ فَرَأَتْهُ خُزَاعَةُ، فَعَرَفُوهُ فَأَحَاطُوا بِهِ وَهُوَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ، يَقُولُونَ أَأَنْتَ قَاتِلُ أَحْمَرَ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا قَاتِلُ أَحْمَرَ
فَمَه؟ قَالَ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ وَوَاللهِ مَا نَظُنّ إلّا أَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفْرِجَ النّاسُ عَنْهُ. فَلَمّا انْفَرَجْنَا عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالسّيْفِ فِي بَطْنِهِ. فَوَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ وَحِشْوَتُهُ تَسِيلُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتُرَنّقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ؟ حَتّى انْجَعَفَ فَوَقَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه»
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ،
قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ، قَالَ «إنّ خِرَاشًا لَقَتّالٌ» يعِيبهُ بذلك.
مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْن سعد حِين ذكره بِحرْمَة مَكَّة
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ:
لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، جِئْته، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ،مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْن سعد حِين ذكره بِحرْمَة مَكَّة
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ:
لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، جِئْته، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا، فَقَالَ «يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تُحْلَلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تُحْلَلْ لِي إلّا هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا أَلَا: ثُمّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَمَنْ قَالَ لَكُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ قَاتَلَ فِيهَا، فَقُولُوا: إنّ اللهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ» ثُمّ وَدَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك، إنّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إنّي كُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا، وَلَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا، وَقَدْ أَبْلَغْتُك، فَأَنْتَ وشأنك.
أول قَتِيل وداه الرَّسُول يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنّ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ، فَوَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ.
تخوف الْأَنْصَار من بَقَاء الرَّسُول فِي مَكَّة وطمأنة الرَّسُول لَهُم
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ وَدَخَلَهَا، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو [اللهَ] وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا؟ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ «مَاذَا قُلْتُمْ؟» قَالُوا: لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَعَاذَ اللهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَات مماتكم»
سُقُوط أصنام الْكَعْبَة بِإِشَارَة من الرَّسُول
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرّوَايَةِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ {جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الْإِسْرَاءِ 81] فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ

وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ *** لِمَنْ يَرْجُو الثّوَابَ أَو العقابا

كَيفَ أسلم فَضَالَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي
أَنّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفَضَالَةَ؟» قَالَ نَعَمْ فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ «مَا كَانَتْ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك؟» قَالَ لَا شَيْءَ كُنْت أَذْكُرُ اللهَ قَالَ فَضَحِكَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ «اسْتَغْفِرْ اللهَ»، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللهِ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي، فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت: لَا. وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ:

قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت لَا *** يَأْبَى عَلَيْك اللهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْ مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ *** بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكْسَرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْت دِينَ أَضْحَى بَيّنًا *** وَالشّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ

أَمَانُ الرّسُولِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ
خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُرِيدُ جدة ليركب مِنْهَا إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَا نَبِيّ اللهِ إنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ سَيّدُ قَوْمِهِ وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْك لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَأَمّنْهُ صَلّى اللهُ عَلَيْك ; قَالَ «هُوَ آمِنٌ»؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَك ; فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتّى
أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ يَا صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي، اللهَ اللهَ فِي نَفْسِك أَنْ تُهْلِكَهَا، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جِئْتُك بِهِ قَالَ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي فَلَا تُكَلّمْنِي ; قَالَ أَيْ صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي، أَفْضَلُ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَأَحْلَمُ النّاسِ وَخَيْرُ النّاسِ ابْنُ عَمّك، عِزّهُ عِزّك، وَشَرَفُهُ شَرَفُك، وَمُلْكُهُ مُلْكُك ; قَالَ إنّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي، قَالَ هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَاكَ وَأَكْرَمُ فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَفْوَانُ إنّ هَذَا يَزْعُمُ أَنّك قَدْ أَمّنْتنِي، قَالَ «صَدَقَ»، قَالَ فَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ «أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ صَفْوَانَ قَالَ لِعُمَيْرِ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي، فَلَا تُكَلّمْنِي، فَإِنّك كَذّابٌ لِمَا كَانَ صَنَعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ يَوْمِ بَدْرٍ.
إسْلَامُ عِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ: أَنّ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ – وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا ; فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى النّكَاحِ الْأَوّلِ.
إسْلَامُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ
قَالَ رَمَى حَسّانُ ابْنَ الزّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتِ وَاحِدٍ مَا زَادَهُ عَلَيْهِ

لَا تَعْدَمْنَ رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ *** نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ

فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزّبَعْرَى خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ

يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي *** رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيّ *** وَمَنْ مَالَ مَيْلُهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبّي *** ثُمّ قَلْبِي الشّهِيدُ أَنْتَ النّذِيرُ
إنّنِي عَنْك زَاجِرٌ ثَمّ حَيّا *** مِنْ لُؤَيّ وَكُلّهُمْ مَغْرُورُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ

مَنَعَ الرّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ *** وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
مِمّا أَتَانِي أَنّ أَحْمَدَ لَامَنِي *** فِيهِ فَبِتّ كَأَنّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا *** عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْك مِنْ الّذِي *** أَسْدَيْت إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ *** سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي *** أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ *** قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا *** وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدِيّ كِلَاهُمَا *** زَلَلِي، فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْك مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةُ *** نُورٍ أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاك بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ *** شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَك صَادِقٌ *** حَقّ وَأَنّك فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى *** مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانَهُ مِنْ هَاشِمٍ *** فَرْعٌ تَمَكّنَ فِي الذّرَا وَأُرُومُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.
بَقَاءُ هُبَيْرَةَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِعْرُهُ فِي إسْلَامِ زَوْجِهِ أُمّ هَانِئٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى مَاتَ كَافِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إسْلَامُ أُمّ هَانِئٍ

أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ أَتَاك سُؤَالُهَا *** كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرَقّتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ *** بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلِ تَلُومُنِي *** وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْت عَشِيرَتِي *** سَأَرْدَى. وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَرْمٍ إذَا جَدّ جَدّهُمْ *** عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي *** إذَا كَانَ مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا *** مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ *** عَلَى اللهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ *** لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ *** وَعَطَفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ *** مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيُرْوَى: “وَقَطَعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا”
عُدّةُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ. وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُ
مِائَةٍ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْفٌ وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفُ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ.
شِعْرُ حَسّانٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ

عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ *** إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خِلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ *** تُعْفِيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ *** خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لِطَيْفِ *** يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ *** يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا *** فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
فَوَلِيّهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا *** إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لَحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا *** وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرْوِهَا *** تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ *** عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ *** يَلْطُمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا *** وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ *** يُعِينُ اللهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللهِ فِينَا *** وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ أَرْسَلْت عَبْدًا *** يَقُولُ الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْت بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ *** فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ سَيّرْت جُنْدًا *** هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ *** سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا *** وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي *** مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْك عَبْدًا *** وَعَبْدُ الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْت مُحَمّدًا وَأَجَبْت عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءِ *** فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْت مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا *** أَمِينَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ *** وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي *** لِعَرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ *** وَبَحْرِي لَا تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا حَسّانُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَيُرْوَى: لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَتْبَ فِيهِ ” وَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
شِعْرُ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ فِي الِاعْتِذَارِ إلَى الرّسُولِ
مِمّا قَالَ ابْنُ سَالِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّنْ كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ:

أَأَنْتَ الّذِي تُهْدِي مَعَدّ بِأَمْرِهِ *** بَلْ اللهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا *** أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا *** إذَا رَاحَ كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ *** وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك مُدْرِكِي *** وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك قَادِرٌ *** عَلَى كُلّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ *** هُمْ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللهِ أَنّي هَجَوْته *** فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت وَيْلَ أُمّ فِتْيَةٍ *** أُصِيبُوا بِنَحْسِ لَا يُطْلَقُ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ *** كِفَاءُ فَعَزّتْ عِبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّك قَدْ أَخْفَرْت إنْ كُنْت سَاعِيًا *** بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا *** جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ *** وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْت وَلَا دَمًا *** هَرَقْت تَبِين عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ

شِعْرُ بُدَيْلٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ زُنَيْمٍ
فَأَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ابْنُ أُمّ أَصْرَمَ، فَقَالَ

بَكَى أَنَسٌ رَزْنًا فَأَعْوَلَهُ اُلْبُكَا *** فَأَلّا عَدِيّا إذْ تُطَلّ وَتُبْعَدُ
بَكَيْت أَبَا عَبْسٍ لِقُرْبِ دِمَائِهَا *** فَتُعْذِرَ إذْ لَا يُوقِدُ الْحَرْبَ مُوقَدُ
أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْخَنَادِمِ فِتْيَةٌ *** كِرَامٌ فَسَلْ مِنْهُمْ نُفَيْلُ وَمَعْبَدُ
هُنَالِكَ إنْ تَسْفَحْ دُمُوعُك لَا تُلَمْ *** عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ الْعَيْنُ فَاكْمَدُوا

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ

نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ *** مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فتح النـ *** ـبِي الْخَيْر بالبيض الْخفاف
صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعِ مِنْ سُلَيْمٍ *** وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَا أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا *** وَرَشْقًا بِالْمَرِيشَةِ اللّطَافِ
نَرَى بَيْنَ الصّفُوفِ لَهَا حَفِيفًا *** كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ *** بِأَرْمَاحِ مُقَوّمَةِ الثّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا *** وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللهِ مِنّا *** مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمّوا *** غَدَاةَ الرّوْعِ مِنّا بِانْصِرَافِ

شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ ابْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي فَتْحِ مَكّةَ:

مِنّا بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمّدٍ *** أَلْفٌ تَسْهِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوّمُ
نَصَرُوا الرّسُولَ وأشاهدا أَيّامِهِ *** وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللّقَاءِ مُقَدّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ *** ضَنْكٍ كَأَنّ الْهَامَ فِيهِ الحنتم
الله مكنه لَهُ وَأَذَلّهُ *** حُكْمُ السّيُوفِ لَنَا وَجْدٌ مُزْحِم
عُودُ الرّيَاسَةِ شَامِخٌ عُرَنِيّتُهُ *** مُتَطَلّعٌ ثَغْرَ الْمَكَارِمِ خَضْرَمُ

إسْلَامُ عَبّاسِ بن مرداس
سَبَب إسْلَامُ بن مرداس
قَالَ ابْن هِشَام: وَكَانَ إِسْلَام عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ أَنّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مِرْدَاسٍ وَثَنٌ يَعْبُدُهُ وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ ضِمَارٌ، فَلَمّا حَضَرَ مِرْدَاسٌ قَالَ لِعَبّاسِ أَيْ بُنَيّ اُعْبُدْ ضَمَارِ فَإِنّهُ يَنْفَعُك وَيَضُرّك، فَبَيْنَا عَبّاسٌ
يَوْمًا عِنْدَ ضَمَارِ، إذْ سَمِعَ مِنْ جَوْفِ ضمار مناديا يَقُوله:

قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلّهَا *** أَوْدَى ضِمَارٌ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى *** بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارٌ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً *** قَبْلَ الْكِتَابِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدِ

فَحَرَقَ عَبّاسٌ ضَمَارِ، وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ.
شِعْرُ جَعْدَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ جَعْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْخُزَاعِيّ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ:

أَكَعْبُ بْنُ عَمْرٍو دَعْوَةٌ غَيْرُ بَاطِلٍ *** لِحَيْنِ لَهُ يَوْمَ الْحَدِيدِ مُتَاحِ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ *** لِتَقْتُلَهُ لَيْلًا بِغَيْرِ سِلَاحِ
وَنَحْنُ الْأُلَى سَدّتْ غَزَالَ خُيُولُنَا *** وَلَفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجّ طِلَاحِ
خَطَرْنَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِجَحْفَلِ *** ذَوِي عَضُدٍ مِنْ خَيْلِنَا وَرِمَاحِ

وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
شِعْرُ بُجَيْدٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحَ
وَقَالَ بُجَيْدُ بْنُ عِمْرَانَ الْخُزَاعِيّ:

وَقَدْ أَنْشَأَ اللهُ السّحَابَ بِنَصْرِنَا *** رُكَامَ صِحَابِ الْهَيْدَبِ الْمُتَرَاكِبِ
وَهِجْرَتُنَا فِي أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا *** كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍ وَكَاتِبِ
وَمِنْ أَجْلِنَا حَلّتْ بِمَكّةَ حُرْمَةٌ *** لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسّيُوفِ الْقَوَاضِبِ


بَدْءُ فَتْحِ مَكّةَ
ذَكَرَ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ الْكِنَانِيّ بِفَتْحِ الرّاءِ وَذَكَرَ الشّيْخُ الْحَافِظُ أَبُو بَحْرٍ أَنّ أَبَا الْوَلِيدِ أَصْلَحَهُ رِزْنًا بِكَسْرِ الرّاءِ قَالَ وَالرّزْنُ نُقْرَةٌ فِي حَجَرٍ يُمْسِكُ الْمَاءَ وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ الرّزْنُ أَكَمَةٌ تُمْسِكُ الْمَاءَ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَذَكَرَ أَنّ بَنِي رِزْنٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ الدّئِلُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَمَا قَالَهُ اللّغَوِيّونَ وَالنّسّابُونَ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ كُلّ دِيلٍ فِي الْعَرَبِ، وَكُلّ دُوَلٍ وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
حَوْلَ شِعْرِ تَمِيمٍ:
وَذَكَرَ شِعْرَ تَمِيمِ بْنِ أَسَدٍ، وَفِيهِ
يُزْجُونَ كُلّ مُقَلّصٍ خِنّابِ
الْخِنّابُ الطّوِيلُ مِنْ الْخَيْلِ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْجَمْهَرَةِ وَيُقَالُ الْخِنّابُ الْوَاسِعُ الْمَنْخِرَيْنِ وَالْخِنّابَةُ جَانِبُ الْأَنْفِ وَفِي الْعَيْنِ الْخِنّابُ الرّجُلُ الضّخْمُ وَهُوَ الْأَحْمَقُ أَيْضًا، وَالْمُقَلّصُ مِنْ الْخَيْلِ الْمُنْضَمّ الْبَطْنِ وَالْقَوَائِمِ وَإِنْ قُلْت: الْمُقَلّصُ بِكَسْرِ اللّامِ فَهُوَ مِنْ قَلَصَتْ الْإِبِلُ إذَا شَمّرَتْ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ.
وَفِيهِ ظِلّ عُقَابِ وَهِيَ الرّايَةُ وَكَانَ اسْمُ رَايَةِ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْعُقَابَ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ يُقَالُ لِكُلّ رَايَةٍ عُقَابٌ قَوْلُ قَطَرِيّ بْنِ الْفُجَاءَةِ وَيُكَنّى أَبَا نَعَامَةَ رَئِيسَ الْخَوَارِجِ:

يَا رُبّ ظِلّ عُقَابٍ قَدْ وَفَيْت بِهَا *** مُهْرِي مِنْ الشّمْسِ وَالْأَبْطَالُ تَجْتَلِدُ

وَفِيهِ يَبُلّ مَشَافِرَ الْقَبْقَابِ الْقَبْقَابُ أَرَادَ بِهِ الْفَرْجَ وَالْقَبْقَبُ وَالْقَبْقَابُ الْبَطْنُ أَيْضًا.
حَوْلَ شِعْرِ الْأَخْزَرِ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْأَخْزَرِ وَفِيهِ

قَفَا ثَوْرَ حَفّانُ النّعَامِ الْجَوَافِلِ

قَفَا ثَوْرَ يَعْنِي: الْجَبَلَ وَقَفَا ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الّذِي قَبْلَهُ وَقَالَ قَفَا ثَوْرَ وَلَمْ يُنَوّنْ لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ مَعَ ضَرُورَةِ الشّعْرِ وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى هَذَا فِيمَا قَبْلُ وَلَوْ قَالَ قَفَا ثَوْرَ بِنَصْبِ الرّاءِ وَجَعَلَهُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ لَمْ يَبْعُدْ لِأَنّ مَا لَا تَنْوِينَ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْرَبٍ بِأَلِفِ وَلَامٍ وَلَا إضَافَةٍ فَلَا يَدْخُلُهُ الْخَفْضُ لِئَلّا يُشْبِهَ مَا يُضِيفُهُ الْمُتَكَلّمُ إلَى نَفْسِهِ وَقَفَا ثَوْرَ بِهَذَا اللّفْظِ تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَرْقِيّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ أَنّهُ بِفَاثُورَ لِأَنّهُ قَالَ الْفَاثُورُ سَبِيكَةُ الْفِضّةِ وَكَأَنّهُ شَبّهَ الْمَكَانَ بِالْفِضّةِ لِنِقَائِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ كَمَا قَالَ فَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ وَالْفَاثُورُ خِوَانٌ مِنْ فِضّةٍ وَيُقَالُ. إبْرِيقٌ مِنْ فِضّةٍ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ جَمِيلٍ
وَصَدْرٍ كَفَاثُورِ اللّجَيْنِ وَجِيدُ
وَفِي قَوْلِ لَبِيَدٍ

حَقَائِبُهُمْ رَاحٌ عَتِيقٌ وَدَرْمَكٌ *** وَمِسْكٌ وَفَاثُورِيّةٌ وَسُلَاسِلُ

وَكَمَا قَالَ الْبَرْقِيّ: أَلْفَيْته فِي نُسَخٍ صَحِيحَةٍ سِوَى نُسْخَةِ الشّيْخِ وَإِنْ صَحّ مَا فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ فَهُوَ كَلَامٌ حُذِفَ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ قَفَا فَاثُورَ، وَحَسُنَ حَذْفُ الْفَاءِ الثّانِيَةِ كَمَا حَسُنَ حَذْفُ اللّامِ الثّانِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ عُلَمَاءُ بَنِي فُلَانٍ لَا سِيّمَا مَعَ ضَرُورَةِ الشّعْرِ وَتَرْكِ الصّرْفِ لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ وَمِنْ الشّاهِدِ عَلَى أَنّ فَاثُورَ اسْمُ بُقْعَةٍ قَوْلُ لَبِيَدٍ

وَيَوْمَ طَعَنْتُمْ فَاسْمَعَدّتْ وُفُودُكُمْ *** بِأَجْمَادِ فَاثُورٍ كَرِيمِ مُصَابِرِ

أَيْ أَنَا كَرِيمٌ مُصَابِرٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الْبَكْرِيّ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَالَ هُوَ اسْمُ جَبَلٍ يَعْنِي فَاثُورَ، وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ

حَيّ مَحَاضِرُهُمْ شَتّى وَجَمْعُهُمْ *** دَوْمُ الْإِيَادِ وَفَاثُورٌ إذَا انْتَجَعُوا

وَقَالَ لَبِيدٌ

وَلَدَى النّعْمَانِ مِنّي مَوْطِنٌ *** بَيْنَ فَاثُورِ آفَاقٍ فَالدّخَلْ

وَحَقّانُ النّعَامِ صِغَارُهَا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِأَنّهُ خَبَرُ كَأَنّ.
حَوْلُ شِعْرِ بُدَيْلٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ بُدَيْلِ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ، وَفِيهِ غَيْرُ آيِلٍ هُوَ فَاعِلٌ مِنْ آلَ إذَا رَجَعَ وَلَكِنّهُ قَلَبَ الْهَمْزَةَ الّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ يَاءً لِئَلّا تَجْتَمِعَ هَمْزَتَانِ وَكَانَتْ الْيَاءُ أَوْلَى بِهَا لِانْكِسَارِهَا.
وَفِيهِ ذِكْرُ عُيَيْسٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْكِتَابِ عُبَيْسٌ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ مِنْ أَسْفَلَ. وَفِيهِ

أَإِنْ أَجْمَرْت فِي بَيْتِهَا أُمّ بَعْضِكُمْ بِجُعْمُوسِهَا

أَيْ رَمَتْ بِهِ بِسُرْعَةِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْحَرْثِ يَسْمُجُ وَصْفُهُ.
حَوْلَ شِعْرِ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ
وَذَكَرَ أَبْيَاتِ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ وَفِيهَا:

قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا

يُرِيدُ أَنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أُمّهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَذَلِكَ قُصَيّ أُمّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدٍ الْخُزَاعِيّةُ وَالْوُلْدُ بِمَعْنَى الْوَلَدِ.
وَقَوْلُهُ ثُمّتَ أَسْلَمْنَا، هُوَ مِنْ السّلْمِ لِأَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بَعْدُ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ رُكّعًا وَسُجّدَا، فَدَلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ صَلّى لِلّهِ فَقُتِلَ وَاَللهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ فِيهِ الْوَتِيرَ، وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ مَعْرُوفٍ فِي بِلَادِ خُزَاعَةَ، وَالْوَتِيرُ فِي اللّغَةِ الْوَرْدُ الْأَبْيَضُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ بَرّيّ، فَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَاءُ سُمّيَ بِهِ وَأَمّا الْوَرْدُ الْأَحْمَرُ فَهُوَ الْحَوْجَمُ وَيُقَالُ لِلْوَرْدِ كُلّهِ جَلّ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَكَأَنّ لَفْظَ الْحَوْجَمِ مِنْ الْحَجْمَةِ وَهِيَ حُمْرَةٌ فِي الْعَيْنَيْنِ يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَحْجَمُ
مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَمَعْنَاهُ
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَوَاَللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ وَهُوَ كَلَامٌ مَفْهُومُ الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِكَذِبِ وَإِنْ كَانَ الذّرّ لَا يُقَاتَلُ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ “وَاَللهِ لَيَمُرّن بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِك “، يَعْنِي الْجَدْوَلَ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يُعَدّ كَذِبًا، لِأَنّهُ جَرَى فِي كَلَامِهِمْ كَالْمَثَلِ.
شَرْحُ قَوْلِ فَاطِمَةَ لِأَبِي سُفْيَانَ
وَذَكَرَ قَوْلَ فَاطِمَةَ وَاَللهِ مَا بَلَغَ بُنَيّ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا مُحْتَجّا بِهِ عَلَى مَنْ أَجَازَ أَمَانَ الصّبِيّ وَجِوَارَهُ وَمَنْ أَجَازَ جِوَارَ الصّبِيّ إنّمَا أَجَازَهُ إذَا عَقَلَ الصّبِيّ، وَكَانَ كَالْمُرَاهِقِ.
وَقَوْلُهَا: وَلَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ «يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم»، فَمَعْنَى هَذَا – وَاَللهُ أَعْلَمُ – كَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ جِوَارُهُ فِيمَا قَلّ مِثْلَ أَنْ يُجِيرَ وَاحِدًا مِنْ الْعَدُوّ أَوْ نَفَرًا يَسِيرًا، وَأَمّا أَنْ يُجِيرَ عَلَى الْإِمَامِ قَوْمًا يُرِيدُ الْإِمَامُ غَزْوَهُمْ وَحَرْبَهُمْ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ وَهَذَا هُوَ الّذِي أَرَادَتْ فَاطِمَةُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – وَاَللهُ أَعْلَمُ وَأَمّا جِوَارُ الْمَرْأَةِ وَتَأْمِينُهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ إلّا سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فَإِنّهُمَا قَالَا: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ هَانِئٍ «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمّ هَانِئٍ»، وَرُوِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَأَمّا جِوَارُ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ إلّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَمَا كَانَ فِي كِتَابِهِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كِتَابَ حَاطِبٍ إلَى قُرَيْشٍ، وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَالْبَلْتَعَةُ فِي اللّغَةِ التّظَرّفُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَاسْمُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَمْرٌو، وَهُوَ لَخْمِيّ، فِيمَا ذَكَرُوا، وَمِنْ ذُرّيّتِهِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ [بْنِ زِيَادٍ] الْأَنْدَلُسِيّ الّذِي رَوَى الْمُوَطّأَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ زِيَادُ شَبْطُونَ وَكَانَ قَاضِي طُلَيْطِلَةَ وَكَانَ شَبْطُونُ زَوْجًا لِأُمّهِ فَصُرِفَ بِهِ رَحِمَهُ اللهُ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجّهَ إلَيْكُمْ بِجَيْشِ كَاللّيْلِ يَسِيرُ كَالسّيْلِ وَأُقْسِمُ بِاَللهِ لَوْ سَارَ إلَيْكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ فَإِنّهُ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ وَفِي تَفْسِيرِ [يَحْيَى] بْنِ سَلّامٍ أَنّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ حَاطِبٌ أَنّ النّبِيّ مُحَمّدًا قَدْ نَفَرَ إمّا إلَيْكُمْ وَإِمّا إلَى غَيْرِكُمْ فَعَلَيْكُمْ الْحَذَرَ.
تَصْحِيفُ هُشَيْمٍ لِخَاخٍ:
وَذَكَرَ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ أَدْرَكُوهَا بِرَوْضَةِ خَاخٍ بِخَاءَيْنِ مَنْقُوطَتَيْنِ وَكَانَ هُشَيْمٌ يَرْوِيهِ حَاجٍ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ وَهُوَ مِمّا حُفِظَ مِنْ تَصْحِيفِ هُشَيْمٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَرْوِي: سَدّادًا مِنْ عَوْنِ [بْنِ أَبِي شَدّادٍ] بِفَتْحِ السّينِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ يَقُولُ فِيهِ
بَرْزَةُ بِالزّايِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فِي تَصْحِيفِ كَثِيرٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَبْتٌ مُتّفَقٌ عَلَى عَدَالَتِهِ عَلَى أَنّ الْبُخَارِيّ، قَدْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ فِيهِ حَاجٍ كَمَا قِيلَ عَنْ هُشَيْمٍ، فَاَللهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا أُغَرْبِلُ حِنْطَةً لَنَا، فَسَأَلَنِي وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَكْلُهُمْ لِلْبُرّ وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِمْ أَكْلَ الشّعِيرِ وَلَا يُقَالُ حِنْطَةٌ إلّا لِلْبُرّ.
تَفْسِيرُ {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ عَزّ وَجَلّ فِي حَاطِبٍ {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] أَيْ تَبْذُلُونَهَا لَهُمْ وَدُخُولُ الْبَاءِ وَخُرُوجُهَا عِنْدَ الْفَرّاءِ سَوَاءٌ وَالْبَاءُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْبَصْرِيّينَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ النّصِيحَةَ بِالْمَوَدّةِ قَالَ النّحّاسُ: مَعْنَاهُ تُخْبِرُونَهُمْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الرّجُلُ أَهْلَ مَوَدّتِهِ وَهَذَا التّقْدِيرُ إنْ نَفَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَنْفَعْ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلْقَى إلَيْهِ بِوِسَادَةِ أَوْ بِثَوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقَالُ إِذا إنْ أَلْقَيْت تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرِيدَ وَضْعَ الشّيْءِ فِي الْأَرْضِ فَتَقُولَ أَلْقَيْت السّوْطَ مِنْ يَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالثّانِي: أَنْ تُرِيدَ مَعْنَى الرّمْيِ بِالشّيْءِ فَتَقُولَ أَلْقَيْت إلَى زَيْدٍ بِكَذَا: أَرْمَيْته بِهِ وَفِي الْآيَةِ إنّمَا هُوَ إلْقَاءٌ بِكِتَابِ وَإِرْسَالٌ بِهِ فَعَبّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَوَدّةِ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْمَوَدّةِ فَمِنْ ثَمّ حَسُنَتْ الْبَاءُ لِأَنّهُ إرْسَالٌ بِشَيْءِ فَتَأَمّلْهُ.
قَتْلُ الْجَاسُوسِ:
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ الْجَاسُوسِ فَإِنّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللهَ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ»، الْحَدِيثَ فَعَلّقَ حُكْمَ الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِهِ بِشُهُودِ بَدْرٍ فَدَلّ عَلَى أَنّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ وَلَيْسَ بِبَدْرِيّ أَنّهُ يُقْتَلُ.
زَادَ الْبُخَارِيّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَ فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وَقَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَعْنِي حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مَا قَالَ وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ أَنّ حَاطِبًا قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ كُنْت عَزِيزًا فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ أُمّي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَأَرَدْت أَنْ يَحْفَظُونِي فِيهَا أَوْ نَحْوَ هَذَا، ثُمّ فَسّرَ الْعَزِيزَ وَقَالَ هُوَ الْغَرِيبُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ:
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمّ سَلَمَةَ حِينَ اسْتَأْذَنَتْهُ فِي أَخِيهَا عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيّةَ وَأَمّا ابْنُ عَمّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الّذِي قَالَ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ يَعْنِي حِينَ قَالَ لَهُ وَاَللهِ لَا آمَنْت بِك حَتّى تَتّخِذَ سُلّمًا إلَى السّمَاءِ فَتَعْرُجَ فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ ثُمّ تَأْتِيَ بِصَكّ وَأَرْبَعَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَك وَقَدْ تَقَدّمَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ.
وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ هُوَ أَخُو أُمّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا، وَأُمّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ سَلَمَةَ أُمّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ جِذْلِ الطّعَانِ وَهُوَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ الْفِرَاسِيّ، وَاسْمُ أَبِي أُمَيّةَ حُذَيْفَةُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ عَوَاتِكَ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُنّ هَهُنَا ثِنْتَيْنِ.
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِهِ وَقَصِيدَتِهِ
وَقَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ لَآخُذَن بِيَدِ بُنَيّ هَذَا، ثُمّ لَنَذْهَبَنّ فِي الْأَرْضِ. لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ اسْمَ ابْنِهِ ذَلِكَ وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ جَعْفَرًا، فَقَدْ كَانَ إذْ ذَاكَ غُلَامًا مُدْرِكًا، وَشَهِدَ مَعَ أَبِيهِ حُنَيْنًا، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَذَكَرَ الزّبَيْرَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَلِذَا يُكَنّى أَبَا الْهِيَاجِ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ لَا أَدْرِي: أَهُوَ جَعْفَرٌ أَمْ غَيْرُهُ وَمَاتَ أَبُو سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا تَبْكُنّ عَلَيّ فَإِنّي لَمْ أَنْتَطِفْ بِخَطِيئَةِ مُنْذُ أَسْلَمْت، وَمَاتَ مِنْ ثُؤْلُولٍ حَلَقَهُ الْحَلّاقُ فِي حَجّ فَقَطَعَهُ مَعَ الشّعْرِ فَنَزَفَ مِنْهُ وَقِيلَ فِي اسْمِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَقِيلَ بَلْ الْمُغِيرَةُ أَخُوهُ قَالَ الْقُتَبِيّ: إخْوَتُهُ الْمُغِيرَةُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَرَبِيعَةُ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ.
وَزْنُ فُعْلَلٍ:
وَقَوْلُهُ: نَزَائِعَ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُرْدَدِ بِضَمّ أَوّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَيَعْقُوبُ وَبِفَتْحِ الدّالِ ذَكَرَهُ غَيْرُهُمَا، وَهُمَا مَوْضِعَانِ مِنْ أَرْضِ عَكّ وَذَلِكَ أَنّ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَصْلِهِ أَنّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فُعْلَلٌ بِالْفَتْحِ وَحَكَاهُ الْكُوفِيّونَ فِي جُنْدُبٍ وَسُرْدَدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَنْبَغِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ الْفَتْحُ فِي سُرْدَدٍ لِأَنّ إحْدَى الدّالَيْنِ زَائِدَةٌ مِنْ أَجْلِ الضّعِيفِ وَإِنّمَا الّذِي يَمْتَنِعُ فِي الْأَبْنِيَةِ مِثْلُ جُعْفُرٍ بِضَمّ أَوّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ فَمِثْلُ سُرْدَدٍ وَالسّودَدِ وَالْحُولَلِ جَمْعُ حَائِلٍ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ طُحْلُبٍ وَيُرْفَعُ وَجُؤْذَرٍ فَهُوَ دَخِيلٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا جُنْدَبٌ بِفَتْحِ الدّالِ لِأَنّ النّونَ زَائِدَةٌ.
عَوْدٌ إلَى أَبِي سُفْيَانَ:
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ رَضِيعَ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَرْضَعَتْهُمَا حَلِيمَةُ وَكَانَ آلَفَ النّاسِ لَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ لَا يُفَارِقُهُ فَلَمّا نُبّئَ كَانَ أَبْعَدَ النّاسِ عَنْهُ وَأَهْجَاهُمْ لَهُ إلَى أَنْ أَسْلَمَ، فَكَانَ أَصَحّ النّاسِ إيمَانًا، وَأَلْزَمَهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي سُفْيَانَ هَذَا قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ كَمَا قِيلَ كُلّ الصّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا»، وَقِيلَ بَلْ قَالَهَا لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَالْأَوّلُ أَصَحّ.
وَقَوْلُ بُدَيْلٍ حَمَشَتْهُمْ الْحَرْبُ يُقَالُ حَمَشْت الرّجُلَ إذَا أَغْضَبْته، وَحَمَشْت النّارَ أَيْضًا إذَا أَوْقَدْتهَا، وَيُقَالُ. حَمَسْت بِالسّينِ.
عَنْ إسْلَامِ سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ:
وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنّ الْعَبّاسَ لَمّا احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى قُبّتِهِ فَأَصْبَحَ عِنْدَهُ رَأَى النّاسَ وَقَدْ ثَارُوا إلَى ظُهُورِهِمْ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا أَبَا الْفَضْلِ مَا لِلنّاسِ أَأُمِرُوا فِيّ بِشَيْءِ؟
قَالَ لَا، وَلَكِنّهُمْ قَامُوا إلَى الصّلَاةِ فَأَمَرَهُ الْعَبّاسُ فَتَوَضّأَ ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الصّلَاةِ كَبّرَ فَكَبّرَ النّاسُ بِتَكْبِيرِهِ ثُمّ رَكَعَ فَرَكَعُوا، ثُمّ رَفَعَ فَرَفَعُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ طَاعَةَ قَوْمٍ جَمَعَهُمْ مِنْ هَهُنَا وَهَهُنَا، وَلَا فَارِسَ الْأَكَارِمِ وَلَا الرّومِ ذَاتِ الْقُرُونِ بِأَطْوَعَ مِنْهُمْ لَهُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْعُزّى؟ فَسَمِعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ وَرَاءِ الْقُبّةِ فَقَالَ لَهُ نَخْرَا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَيْحَك يَا عُمَرُ إنّك رَجُلٌ فَاحِشٌ دَعْنِي مَعَ ابْنِ عَمّي، فَإِيّاهُ أُكَلّمُ.
وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي سُفْيَانَ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا، وَقَوْلَ الْعَبّاسِ لَهُ إنّهَا النّبُوّةُ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ إنّمَا أَنْكَرَ الْعَبّاسُ عَلَيْهِ أَنْ ذَكَرَ الْمُلْكَ مُجَرّدًا مِنْ النّبُوّةِ مَعَ أَنّهُ كَانَ فِي أَوّلِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِلّا فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمّى مِثْلُ هَذَا مُلْكًا، وَإِنْ كَانَ لِنَبِيّ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20] وَقَالَ سُلَيْمَان. {وَهَبْ لِي مُلْكاً} [ص: 35] غَيْرَ أَنّ الْكَرَاهِيَةَ أَظْهَرُ فِي تَسْمِيَةِ حَالِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلْكًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيّا عَبْدًا، أَوْ نَبِيّا مَلِكًا، فَالْتَفَتَ إلَى جِبْرِيلَ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوْضَعْ فَقَالَ بَلْ نَبِيّا عَبْدًا أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا وَإِنْكَارُ الْعَبّاسِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ يُقَوّي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَمْرُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَهُ يَكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُسَمّى مَلِكًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «يَكُونُ بَعْدَهُ خُلَفَاءُ ثُمّ يَكُونُ أُمَرَاءُ ثُمّ يَكُونُ مُلُوكٌ ثُمّ جَبَابِرَةٌ»، وَيُرْوَى: ثُمّ يَعُودُ الْأَمْرُ بَزَيْزِيّا، وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَالَ الْخَطّابِيّ: إنّمَا هُوَ بِزّيزَيّ، أَيْ قَتْلٌ وَسَلْبٌ.
قَوْلُ هِنْدٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
وَقَوْلُ هِنْدٍ: اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَسَ. الْحَمِيتُ الزّقّ، نَسَبَتْهُ إلَى الضّخْمِ وَالسّمَنِ وَالْأَحْمَسُ أَيْضًا الّذِي لَا خَيْرَ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ عَامٌ أَحْمَسُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَطَرٌ وَزَادَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ أَنّهَا قَالَتْ يَا آلَ غَالِبٍ اُقْتُلُوا الْأَحْمَقَ فَقَالَ لَهَا أَبُو سُفْيَانَ وَاَللهِ لَتُسْلِمَن أَوْ لَأَضْرِبَن عُنُقَك
وَفِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ قَبْلَ هِنْدٍ وَإِسْلَامُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدّتِهَا، ثُمّ اسْتَقَرّا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَكَذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَعَ امْرَأَتِهِ حُجّةٌ لِلشّافِعِيّ فَإِنّهُ لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ تُسْلِمَ قَبْلَهُ أَوْ يُسْلِمَ قَبْلَهَا، مَا دَامَتْ فِي الْعِدّةِ. وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى مَا فِي الْمُوَطّأِ وَغَيْرِهِ.
إسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ
وَذَكَرَ إسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ وَاسْمُ أُمّهِ قَيْلَةُ بِنْتُ أَذَاةَ.
وَقَوْلُهُ لِبِنْتِ لَهُ وَهِيَ أَصْغَرُ وَلَدِهِ يُرِيدُ وَاَللهُ أَعْلَمُ أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ الّذِينَ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنّ أَبَا قُحَافَةَ لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ إلّا أَبُو بَكْرٍ وَلَا تُعْرَفُ لَهُ بِنْتٌ إلّا أُمّ فَرْوَةَ الّتِي أَنْكَحَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ تَمِيمٍ الدّارِيّ فَهِيَ هَذِهِ الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ أُخْرَى تُسَمّى قُرَيْبَةَ تَزَوّجَهَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَالْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي قُحَافَةَ هِيَ إحْدَى هَاتَيْنِ عَلَى هَذَا، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ وَكَانَ رَأْسُهُ ثَغَامَةً وَالثّغَامُ مِنْ نَبَاتِ الْجِبَالِ وَهُوَ مِنْ الْجَنَبَةِ وَأَشَدّ مَا يَكُونُ بَيَاضًا إذَا أَمْحَلَ وَالْحَلِيّ مِثْلُهُ يُشَبّهُ بِهِ الشّيْبُ قَالَ الرّاجِزُ
وَلِمّتِي كَأَنّهَا حَلِيّةٌ
حُكْمُ الْخِضَابِ
وَقَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ ” غَيّرُوا هَذَا ” مِنْ شَعْرِهِ هُوَ عَلَى النّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ لِمَا دَلّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ لَمْ يُغَيّرْ شَيْبَهُ وَقَدْ رَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ خَضَبَ. وَقَالَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إنّمَا كَانَتْ شَيْبَاتٍ يَسِيرَةً يُغَيّرُهَا بِالطّيبِ. وَقَالَ أَنَسٌ لَمْ يَبْلُغْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدّ الْخِضَابِ وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ أَرَتْنِي أُمّ سَلَمَةَ شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَوْهَبٍ قَالَ بَعَثَنِي أَهْلِي بِقَدَحِ إلَى أُمّ سَلَمَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ اطّلَعْت فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْت شَعَرَاتٍ حُمْرًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُشْكِلٌ وَشَرْحُهُ فِي مُشْكِلِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ قَالَ كَانَ جُلْجُلًا مِنْ فِضّةٍ صُنِعَ صِيوَانًا لِشَعَرَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ مَخْضُوبَ الشّيْبِ وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ أَنْ يَخْضِبَ إنّمَا كَانَتْ شَعَرَاتٍ تُعَدّ.
فَالْجَوَابُ أَنّهُ لَمّا تُوُفّيَ خَضَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ تِلْكَ الشّعَرَاتِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهَا، كَذَلِكَ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطّأِ لَهُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ عُمَرُ يَخْضِبُ بِالصّفْرَةِ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَخْضِبُ بِالْخِطْرِ وَهُوَ الْوَسْمَةُ وَأَمّا الصّفْرَةُ فَكَانَتْ مِنْ الْوَرْسِ أَوْ الْكُرْكُمِ وَهُوَ الزّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لِجَيّدِهِ بَادِرَةُ الْوَرْسِ وَمِنْ أَنْوَاعِهِ الْعَسْفُ وَالْحَبَشِيّ وَهُوَ آخِرُهُ وَيُقَالُ مِنْ الْحِنّاءِ حَنّا شَيْبَهُ وَرَقّنَهُ وَجَمْعُ الْحِنّاءِ حِنّانٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ قَالَ الشّاعِرُ

وَلَقَدْ أَرُوحُ بِلِمّةِ فَيْنَانَةٍ *** سَوْدَاءَ قَدْ رُوِيَتْ مِنْ الْحِنّانِ

مِنْ كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَزِيدُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ وَجَنّبُوهُ السّوَادَ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسّوَادِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْ أَجْلِ حَدِيثٍ آخَرَ جَاءَ فِي الْوَعِيدِ وَالنّهْيِ لِمَنْ خَضَبَ بِالسّوَادِ وَقِيلَ أَوّلُ مَنْ خَضَبَ بِالسّوَادِ فِرْعَوْنُ، وَقِيلَ أَوّلُ مَنْ خَضَبَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ، وَتَرَخّصَ قَوْمٌ فِي الْخِضَابِ بِالسّوَادِ مَعَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ اخْضِبُوا بِالسّوَادِ فَإِنّهُ أَنْكَى لِلْعَدُوّ وَأَحَبّ لِلنّسَاءِ
وَقَالَ ابْنُ بَطّالٍ فِي الشّرْحِ إذَا كَانَ الرّجُلُ كَهْلًا لَمْ يَبْلُغْ الْهَرَمَ جَازَ لَهُ الْخِضَابُ بِالسّوَادِ لِأَنّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوّ وَالتّحَبّبِ إلَى النّسَاءِ وَأَمّا إذَا قَوّسَ وَاحْدَوْدَبَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لَهُ السّوَادُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي قُحَافَةَ غَيّرُوا شَيْبَهُ وَجَنّبُوهُ السّوَادَ.
كَدَاءُ وَكُدًى
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدّ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ، وَكُدًى وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ عَرَفَةَ وَبِمَكّةَ مَوْضِعٌ ثَالِثٌ يُقَالُ كُدَا بِضَمّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ وَأَنْشَدُوا فِي كَدَاءٍ وَكُدًى:

أَقْفَرَتْ بَعْدَ عَبْدِ شَمْسٍ كَدَاءُ *** فَكُدَيّ فَالرّكْنُ وَالْبَطْحَاءُ

وَالْبَيْتُ لِابْنِ قَيْسٍ الرّقَيّاتِ يَذْكُرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ الْعَامِرِيّينَ رَهْطَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو.
مَوْقِفُ إبْرَاهِيمَ بِكَدَاءَ:
وَبِكَدَاءَ وَقَفَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ دَعَا لِذُرّيّتِهِ بِالْحَرَمِ كَذَلِكَ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، فَقَالَ {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إِبْرَاهِيم: 37] فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ وَقِيلَ لَهُ {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الْحَج: 27] أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ يَأْتُوك، وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي، لِأَنّهَا اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَتِهِ فَمِنْ ثَمّ – وَاَللهُ أَعْلَمُ – اسْتَحَبّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَى لِمَكّةَ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ كَدَاءَ، لِأَنّهُ الْمَوْضِعُ الّذِي دَعَا فِيهِ إبْرَاهِيمُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنْ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ.
مَوْقِفُ الرّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَعْدٍ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نَزْعَ الرّايَةِ مِنْ سَعْدٍ حِينَ قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ.
وَزَادَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي الْخَبَرِ أَنّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ يَوْمَئِذٍ شِعْرًا حِينَ سَمِعَ قَوْلَ سَعْدٍ اسْتَعْطَفَ فِيهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ شِعْرٍ لَهُ

يَا نَبِيّ الْهُدَى إِلَيْك لجا حَيّ *** قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الْأَرْ *** ضِ وَعَادَاهُمْ إلَهُ السّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا البطان على الْقَوْم *** وَنُودُوا بِالصّيْلَمِ الصّلْعَاءِ
إنّ سَعْدًا يُرِيد قاصمة الظّهْر *** بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيّ لَوْ يَسْتَطِيع من الغيظ *** رَمَانَا بِالنّسْرِ وَالْعَوّاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللّوَاءَ وَنَادَى *** يَا حُمَاةَ اللّوَاءِ أَهْلَ اللّوَاءِ
لَتَكُونَن بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ *** بُقْعَةُ الْقَاعِ فِي أَكُفّ الْإِمَاءِ

فَحِينَئِذٍ انْتَزَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّايَةَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِيمَا ذَكَرُوا، وَاَللهُ أَعْلَمُ وَمَدّ فِي هَذَا الشّعْرِ الْعَوّاءَ وَأَنْكَرَ الْفَارِسِيّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مَدّهَا، وَقَالَ لَوْ مُدّتْ لَقِيلَ فِيهَا: الْعَيّاءُ كَمَا قِيلَ فِي: الْعَلْيَاءِ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةِ كَالْعَشْوَاءِ قَالَ وَإِنّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ كَالشّرْوَى وَالنّجْوَى، وَغَفَلَ عَنْ وَجْهٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي، فَإِنّهُ قَالَ عَنْ مَدّ الْعَوّاءِ فَهِيَ عِنْدَهُ فَعّالٌ مِنْ عَوَيْت الشّيْءَ إذَا لَوَيْت ظَرَفَهُ وَهَذَا حَسَنٌ جِدّا لَا سِيّمَا، وَقَدْ صَحّ مَدّهَا فِي الشّعْرِ الّذِي تَقَدّمَ وَغَيْرِهِ وَالْأَصَحّ فِي مَعْنَاهَا: أَنّ الْعَوّاءَ مِنْ الْعَوّةِ وَالْعَوّةُ هِيَ الدّبُرُ فَكَأَنّهُمْ سَمّوْهَا بِذَلِكَ لِأَنّهَا دُبُرُ الْأَسَدِ مِنْ الْبُرُوجِ.
خُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُنَيْسَ بْنَ خَالِدٍ وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ: خُنَيْسٌ مِنْ خُزَاعَةَ، لَمْ يَخْتَلِفُوا عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ خُنَيْسٌ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَالنّونِ وَأَكْثَرُ مَنْ أَلّفَ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ يَقُولُ الصّوَابُ فِيهِ حُبَيْشٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ وَالشّيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَكَذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ أَنّ الصّوَابَ فِيهِ حُبَيْشٌ وَأَبُوهُ خَالِدٌ هُوَ الْأَشْعَرُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَدْ رَفَعْنَا نَسَبَهُ عِنْدَ ذِكْرِ أُمّ مَعْبَدٍ لِأَنّهَا بِنْتُهُ وَهُوَ بِالشّيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَأَمّا الْأَسْعَرُ بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْأَسْعَرُ الْجُعْفِيّ، وَاسْمُهُ ” مَرْثَدُ بْنُ عِمْرَانَ وَسُمّيَ الْأَسْعَرُ لِقَوْلِهِ

فَلَا يَدْعُنِي قَوْمِي لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ *** لَئِنْ أَنَا لَمْ أَسْعَرْ عَلَيْهِمْ وَأُثْقِبِ

يَعْنِي بِمَالِكِ مَذْحِجٍ. وَذَكَرَ الرّجَزَ الّذِي لِكُرْزِ

قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهِرْ

أَشَارَ بِقَوْلِهِ صَفْرَاءَ إلَى صُفْرَةِ الْخَلُوقِ وَقِيلَ بَلْ أَرَادَ مَعْنَى: قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ

كَبِكْرِ مُقَانَاةِ الْبَيَاضُ بِصُفْرَةِ *** غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرَ مُحَلّلِ

وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى:

نُرْضِيك مِنْ دَلّ وَمِنْ *** حُسْنٍ مُخَالِطُهُ غَرَارَة
حَمْرَاءُ غَدْوَتهَا، وَصَفْرَ *** اءُ الْعَشِيّةِ كَالْعَرَارَةِ

وَقَوْلُهُ مِنْ بَنِي فِهِرْ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَكَذَلِكَ الصّدِرْ فِي الْبَيْتِ الثّانِي، وَأَبُو صَخْرٍ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا أَوْسَطُهُ سَاكِنٌ فَإِنّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْقُلُ حَرَكَةَ لَامِ الْفِعْلِ إلَى عَيْنِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْفِ وَذَلِكَ إذَا كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا أَوْ مَخْفُوضًا، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي النّصْبِ وَعِلَلُهُ مُسْتَقْصَاةٌ فِي النّحْوِ.
حَوْلَ لِمَاذَا وَمُوتِمَةِ
وَذَكَرَ خَبَرَ حِمَاسٍ وَقَوْلَ امْرَأَتِهِ لَهُ لِمَاذَا تُعِدّ السّلَاحَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا مِنْ أَجْلِ تَرْكِيبِ ذَا مَعَهَا، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَا إذَا كَانَتْ اسْتِفْهَامًا مَجْرُورَةً أَنْ تُحْذَفَ مِنْهَا الْأَلِفُ فَيُقَالُ لِمَ وَبِمَ قَالَ ابْنُ السّرّاجِ الدّلِيلُ عَلَى أَنّ ذَا جُعِلَتْ مَعَ مَا اسْمًا وَاحِدًا أَنّهُمْ اتّفَقُوا عَلَى إثْبَاتِ الْأَلِفِ مَعَ حَرْفِ الْجَرّ فَيَقُولُونَ لِمَاذَا فَعَلْت، وَبِمَاذَا جِئْت، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ.
حَوْلَ رَجَزَيْ حِمَاسٍ
وَقَوْلُهُ: وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ بِكَسْرِ السّينِ هُوَ الرّوَايَةُ يُرِيدُ الْحَالَةَ مِنْ سَلّ السّيْفِ وَمَنْ أَرَادَ الْمَصْدَرَ فَتَحَ.
وَقَوْلُهُ وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتِمَهْ
يُرِيدُ الْمَرْأَةَ لَهَا أَيْتَامٌ وَالْأَعْرَفُ فِي مِثْلِ هَذَا مُوتِمٌ ثُمّ مُطْفِلٌ وَجَمْعُهَا مَيَاتِمُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ الْمُوتِمَةُ الْأُسْطُوَانَةُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ وَهُوَ أَصَحّ مِنْ التّفْسِيرِ الْأَوّلِ لِأَنّهُ تَفْسِيرُ رَاوِي الْحَدِيثِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا يَكُونُ لَفْظُ الْمُوتِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَتَمّ وَأَتَمّ إذَا ثَبَتَ لِأَنّ الْأُسْطُوَانَةَ تَثْبُتُ مَا عَلَيْهَا، وَيُقَالُ فِيهَا عَلَى هَذَا مُوتِمَةٌ بِالْهَمْزِ وَتُجْمَعُ مَآتِمُ وَمُوتِمَةٌ بِلَا هَمْزٍ وَتُجْمَعُ مَوَاتِمُ.
وَقَوْلُهُ وَأَبُو يَزِيدَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَبُو أَلِفًا سَاكِنَةً فِيهِ حُجّةٌ لِوَرْشِ [وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ حَيْثُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا سَاكِنَةً وَهِيَ مُتَحَرّكَةٌ وَإِنّمَا قِيَاسُهَا عِنْدَ النّحْوِيّينَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَ بَيْنَ.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَأَبُو يَزِيدَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
وَإِنّمَا هُوَ هَنَأَكِ بِالْهَمْزِ وَتَسْهِيلِهَا بَيْنَ بَيْنَ فَقَلْبُهَا أَلِفًا عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْمَعْرُوفِ فِي النّحْوِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمِنْسَاةِ وَهِيَ الْعَصَا، وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ لِأَنّهَا مِفْعَلَةٌ مِنْ نَسَأْت، وَلَكِنّهَا فِي التّنْزِيلِ كَمَا تَرَى، وَأَبُو يَزِيدَ الّذِي عَنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ هُوَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو خَطِيبُ قُرَيْشٍ.
وَقَوْلُهُ لَهُمْ نَهِيتٌ النّهِيتُ صَوْتُ الصّدْرِ وَأَكْثَرُ مَا تُوصَفُ بِهِ الْأُسْدُ قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ

كَأَنّهُمْ أُسْدٌ لَدَى أَشْبُلٍ *** يَنْهِتْنَ فِي غِيلٍ وَأَجْزَاعِ

وَالْغَمْغَمَةُ أَصْوَاتٌ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ مِنْ اخْتِلَاطِهَا
طَرَفٌ مِنْ أَحْكَامِ أَرْضِ مَكّةَ
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا طَرَفًا مِنْ أَحْكَامِ أَرْضِ مَكّةَ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ افْتَتَحَهَا
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، لِيَبْتَنِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمُ هَلْ أَرْضُهَا مِلْكٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِنَزْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكّةَ إذَا قَدِمَ الْحَاجّ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَامِلِهِ بِمَكّةَ أَنْ يُنْهِيَ أَهْلَهَا عَنْ كِرَاءِ دُورِهَا إذَا جَاءَ الْحَاجّ فَإِنّ ذَلِكَ لَا يَحِلّ لَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ – إنْ كَانَ النّاسُ لَيَضْرِبُونَ فَسَاطِيطَهُمْ بِدُورِ مَكّةَ لَا يَنْهَاهُمْ أَحَدٌ، وَرُوِيَ أَنّ دُورَ مَكّةَ كَانَتْ تُدْعَى السّوَائِبُ، وَهَذَا كُلّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ} [الْحَجّ 25] وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الْحَرَمُ كُلّهُ مَسْجِدٌ وَالْأَصْلُ الثّانِي: أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا عَنْوَةً غَيْرَ أَنّهُ مَنّ عَلَى أَهْلِهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ الْبِلَادِ كَمَا ظَنّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَإِنّهَا مُخَالِفَةٌ لِغَيْرِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا خَصّ اللهُ بِهِ نَبِيّهُ فَإِنّهُ قَالَ {قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} [الْأَنْفَالِ 1] وَالثّانِي فِيمَا خَصّ اللهُ تَعَالَى بِهِ مَكّةَ فَإِنّهُ جَاءَ لَا تَحِلّ غَنَائِمُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، وَهِيَ حَرَمُ اللهِ تَعَالَى وَأَمْنُهُ فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْضُهَا أَرْضَ خَرَاجٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ افْتَتَحَ بَلَدًا أَنْ يَسْلُكَ بِهِ سَبِيلَ مَكّةَ، فَأَرْضُهَا إِذا وَدُورُهَا لِأَهْلِهَا، وَلَكِنْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ التّوْسِعَةَ عَلَى الْحَجِيجِ إذَا قَدِمُوهَا، وَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُمْ كِرَاءً فِي مَسَاكِنِهَا، فَهَذَا حُكْمُهَا فَلَا عَلَيْك بَعْدَ هَذَا، فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً.
الْهُذَلِيّ الْقَتِيلُ
وَذَكَرَ الْهُذَلِيّ الّذِي قُتِلَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَقَالَ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ أَنّ النّبِيّ قَالَ لَوْ كُنْت قَاتِلَ مُسْلِمٍ بِكَافِرِ لَقَتَلْت خِرَاشًا بِالْهُذَلِيّ يَعْنِي بِالْهُذَلِيّ قَاتِلَ ابْنِ أَثْوَعَ وَخِرَاشٌ هُوَ قَاتِلُهُ وَهُوَ مِنْ خُزَاعَةَ.
هَلْ تُعِيذُ الْكَعْبَةُ عَاصِيًا
فَصْلٌ وَذَكَرَ قِصّةَ ابْنِ خَطَلٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللهِ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ هِلَالٌ وَقَدْ قِيلَ هِلَالٌ كَانَ أَخَاهُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا: الْخَطَلَانِ وَهُمَا مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَأَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَفِي هَذَا أَنّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا تَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ حَدّ وَاجِبٍ وَأَنّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمرَان:97] إنّمَا مَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي الْجَاهِلِيّةِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ} [الْمَائِدَةِ 97] إلَى آخِرِ الْآيَةِ [الْمَائِدَةِ 97] فَكَانَ فِي ذَلِكَ قِوَامٌ لِلنّاسِ وَمَصْلَحَةٌ لِذُرّيّةِ إسْمَاعِيلَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُمْ قُطّانُ الْحَرَمِ، وَإِجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ اجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النّاسَ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَعِنْدَمَا قَتَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ خَطَلٍ قَالَ لَا يُقْتَلُ قُرَشِيّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا كَذَلِكَ قَالَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ.
صَلَاةُ الْفَتْحِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ صَلَاةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ وَهِيَ صَلَاةُ الْفَتْحِ تُعْرَفُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَ الْأُمَرَاء يصلونها إذَا افْتَتَحُوا بَلَدًا. قَالَ الطّبَرِيّ: صَلّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، حِينَ افْتَتَحَ الْمَدَائِنَ، وَدَخَلَ إيوَانَ كِسْرَى، قَالَ فَصَلّى فِيهِ صَلَاةَ الْفَتْحِ قَالَ وَهِيَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا، وَلَا تُصَلّى بِإِمَامِ فَبَيّنَ الطّبَرِيّ سُنّةَ هَذِهِ الصّلَاةِ وَصِفَتَهَا، وَمِنْ سُنّتِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُجْهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَصْلُ مَا تَقَدّمَ مِنْ صَلَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُمّ هَانِئٍ وَذَلِكَ ضُحًى.
أُمّ هَانِئٍ
وَأُمّ هَانِئٍ اسْمُهَا: هِنْدٌ تُكَنّى بِابْنِهَا هَانِئِ بْنِ هُبَيْرَةَ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ هُبَيْرَةَ اسْمُهُ يُوسُفُ وَثَالِثٌ وَهُوَ الْأَكْبَرُ اسْمُهُ جَعْدَةُ وَقِيلَ إيّاهُ عَنَتْ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ زَعَمَ ابْنُ أُمّي عَلَى أَنّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْته فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِ أُمّ هَانِئٍ فَاخِتَةُ.
عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ يُكَنّى أَبَا يَحْيَى، وَكَانَ كَاتَبَ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ بِمَكّةَ ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَعُرِفَ فَضْلُهُ وَجِهَادُهُ وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ، وَهُوَ الّذِي افْتَتَحَ إفْرِيقِيّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَغَزَا الْأَسَاوِدَ مِنْ النّوْبَةِ ثُمّ هَادَنَهُمْ الْهُدْنَةَ الْبَاقِيَةَ إلَى الْيَوْمِ فَلَمّا خَالَفَ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ عَلَى عُثْمَانَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ وَدَعَا اللهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يَقْبِضَهُ وَيَجْعَلَ وَفَاتَهُ بِأَثَرِ صَلَاةِ الصّبْحِ فَصَلّى بِالنّاسِ الصّبْحَ وَكَانَ يُسَلّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَلَمّا سَلّمَ التّسْلِيمَةَ الْأُولَى عَنْ يَمِينِهِ وَذَهَبَ لِيُسَلّمَ الْأُخْرَى، قُبِضَتْ نَفْسُهُ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِعُسْفَانَ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ فِي حِصَارِ عُثْمَانَ

أَرَى الْأَمْرَ لَا يَزْدَادُ إلّا تَفَاقُمًا *** وَأَنْصَارُنَا بِالْمَكّتَيْنِ قَلِيلُ
وَأَسْلَمْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْهَوَى *** إلَى أَهْلِ مِصْرَ وَالذّلِيلُ ذَلِيلُ

نُمَيْلَةُ:
وَأَمّا نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فَهُوَ لَيْثِيّ أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثٍ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ كَثِيرًا مِنْ مَشَاهِدِهِ وَغَزَوَاتِهِ.
عَنْ ابْنِ نُقَيْذٍ وَالْقَيْنَتَيْنِ:
وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ الّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ مَعَ ابْنِ خَطَلٍ، فَهُوَ الّذِي نَخَسَ بِزَيْنَبِ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْرَكَهَا، هُوَ وَهَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَسَقَطَتْ عَنْ دَابّتِهَا، وَأَلْقَتْ جَنِينَهَا.
وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ اللّتَانِ أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، وَهُمَا سَارّةُ وَفَرْتَنَى فَأَسْلَمَتْ فَرْتَنَى، وَآمَنَتْ سَارّةُ وَعَائِشَةُ إلَى زَمَنِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ ثُمّ وَطِئَهَا فَرَسٌ فَقَتَلَهَا
عَنْ الدّيَاتِ فِي خُطْبَةِ الرّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُطْبَةَ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَفِيهَا ذِكْرُ الدّيَاتِ وَذِكْرُ قَتِيلِ الْخَطَأِ وَذِكْرُ شِبْهِ الْعَمْدِ وَتَغْلِيظِ الدّيَةِ فِيهِ وَهِيَ أَنْ يُقْتَلَ الْقَتِيلُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا، فَيَمُوتَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنْ لَا قَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ الشّافِعِيّ أَنّ فِيهِ الدّيَةَ مُغَلّظَةً أَثْلَاثًا، وَلَيْسَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ إلّا قَوَدٌ فِي عَمْدٍ فِي خَطَإِ تُؤْخَذُ أَخْمَاسًا عَلَى مَا فَسّرَ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إنّ الْقَوَدَ لَا يَكُونُ إلّا بِالسّيْفِ وَاحْتَجّوا بِأَثَرِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا أَنْ لَا قَوَدَ إلّا بِحَدِيدَةِ وَعَنْ عَلِيّ مَرْفُوعًا أَيْضًا: لَا قَوَدَ إلّا بِالسّيْفِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا قَوَدَ إلّا بِحَدِيدَةِ وَهُوَ يَدُورُ عَلَى أَبِي مُعَاذٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُورُ عَلَى الْمُعَلّى بْنِ هِلَالٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيّ لَا تَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجّةٌ وَحُجّةُ الْآخَرِينَ فِي أَنّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ 194] ، وَحَدِيثُ الْيَهُودِيّ الّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ الصّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ
وَأَمّا دُخُولُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ الْكَعْبَةَ وَصَلَاتُهُ فِيهَا، فَحَدِيثُ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى فِيهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ فِيهَا، وَأَخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ بِلَالٍ لِأَنّهُ أَثْبَتَ الصّلَاةَ وَابْنُ عَبّاسٍ نَفَى، وَإِنّمَا يُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الْمُثْبِتِ لَا بِشَهَادَةِ النّافِي، وَمَنْ تَأَوّلَ قَوْلَ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى، أَيْ دَعَا، فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنّهُ صَلّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَلَكِنّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبّاسٍ وَرِوَايَةَ بِلَالٍ صَحِيحَتَانِ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَهَا يَوْمَ النّحْرِ فَلَمْ يُصَلّ وَدَخَلَهَا مِنْ الْغَدِ فَصَلّى، وَذَلِكَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ مِنْ فَوَائِدِهِ.
عَنْ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَصَاحِبَيْهِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ كَسْرَ الْأَصْنَامِ وَطَمْسَ التّمَاثِيلِ وَمَقَالَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ، فَتَكَلّمُوا فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِاَلّذِي قَالُوهُ فَصَحّ بِذَلِكَ يَقِينُهُمْ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَعَنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 128] قَالَ فَتَابُوا بَعْدُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَرُوِينَا بِإِسْنَادِ مُتّصِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ خَرَجَ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ فِي نَفْسِهِ لَيْتَ شِعْرِي بِأَيّ شَيْءٍ غَلَبْتنِي، فَأَقْبَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ «بِاَللهِ غَلَبْتُك يَا أَبَا سُفْيَانَ» فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ مِنْ مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَرَوَى الزّبَيْرُ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ إلَى مَنْ سَمِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَازِحُ أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِ أُمّ حَبِيبَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ لَهُ «تَرَكْتُك، فَتَرَكَتْك الْعَرَبُ، وَلَمْ تَنْتَطِحْ بَعْدَهَا جَمّاءُ وَلَا قَرْنَاءُ» وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ «أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا حَنْظَلَة» وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ جَلّ وَعَزّ {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} [الْمُمْتَحِنَةِ 7] قَالَ هِيَ مُعَاهَدَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ أَهْلُ التّفْسِيرِ رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ أَسِيدَ بْنَ أَبِي الْعِيصِ وَالِيًا عَلَى مَكّةَ مُسْلِمًا، فَمَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَتْ الرّؤْيَا لِوَلَدِهِ عَتّابٍ حِينَ أَسْلَمَ، فَوَلّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ، وَهُوَ ابْنُ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَرَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ الْحَدِيثَ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَاَللهِ مَا اكْتَسَبْت فِي وِلَايَتِي كُلّهَا إلّا قَمِيصًا مُعَقّدًا كَسَوْته غُلَامِي كَيْسَانَ وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَسَمِعَ بِلَالًا يُؤَذّنُ عَلَى الْكَعْبَةِ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ أَسِيدًا، يَعْنِي: أَبَاهُ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مَعَهُ مَا يَغِيظُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَتّابٍ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ الّتِي خَطَبَهَا عَلِيّ عَلَى فَاطِمَةَ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا آذَنُ ثُمّ لَا آذَنُ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي» الْحَدِيثَ فَقَالَ عَتّابٌ أَنَا أُرِيحُكُمْ مِنْهَا فَتَزَوّجَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ الْمَقْتُولَ يَوْمَ الْجَمَلِ يُرْوَى أَنّ عَتّابًا طَارَتْ بِكَفّهِ يَوْمَ قُتِلَ وَفِي الْكَفّ خَاتَمُهُ فَطَرَحَتْهَا بِالْيَمَامَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ.
الْحَنْفَاءُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ:
وَكَانَتْ لِأَبِي جَهْلٍ بِنْتٌ أُخْرَى، يُقَالُ لَهَا: الْحَنْفَاءُ كَانَتْ تَحْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، يُقَالُ إنّهَا وَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ أَنَسًا الّذِي كَانَ يَضْعُفُ وَفِيهِ جَرَى الْمَثَلُ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً وَيُقَالُ إنّهُ نَظَرَ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ عَلَى نَاقَةٍ يَتْبَعُهَا خَرُوفٌ فَقَالَ يَا أَبَتْ أَذَاكَ الْخَرُوفُ مِنْ تِلْكَ النّاقَةِ؟ فَقَالَ أَبُوهُ صَدَقَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ حِينَ خَطَبَهَا قَالَتْ إنْ جَاءَتْ مِنْهُ حَلِيلَتُهُ بِوَلَدِ أَحْمَقَتْ وَإِنْ أَنْجَبَتْ فَعَنْ خَطَأٍ مَا أَنْجَبَتْ وَقَدْ قِيلَ فِي بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ الْحَنْفَاءِ إنّ اسْمَهَا صَفِيّةُ فَاَللهُ أَعْلَمُ.
إسْلَامُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ:
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ مُحَمّدٌ مِنْ كَسْرِ الْآلِهَةِ وَنِدَاءِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ إنْ كَانَ اللهُ يَكْرَهُ هَذَا، فَسَيُغَيّرُهُ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدُ وَهَاجَرَ إلَى الشّامِ، فَلَمْ يَزَلْ جَاهِدًا مُجَاهِدًا، حَتّى اُسْتُشْهِدَ هُنَالِكَ رَحِمَهُ اللهُ.
إسْلَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ:
وَأَمّا بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَتْ حِينَ سَمِعَتْ الْأَذَانَ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمّا قَالَ الْمُؤَذّنُ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ قَالَتْ عَمْرِي لَقَدْ أَكْرَمَك اللهُ وَرَفَعَ ذِكْرَك، فَلَمّا سَمِعَتْ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ قَالَتْ أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُؤَدّيهَا، وَلَكِنْ وَاَللهِ مَا تُحِبّ قُلُوبُنَا مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ ثُمّ قَالَتْ إنّ هَذَا الْأَمْرَ لَحَقّ، وَقَدْ كَانَ الْمَلَكُ جَاءَ بِهِ أَبِي، وَلَكِنْ كَرِهَ مُخَالَفَةَ قَوْمِهِ وَدِينَ آبَائِهِ.
وَأَمّا أَبُو مَحْذُورَةَ الْجُمَحِيّ، وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ مِعْيَرٍ وَقِيلَ سَمُرَةُ فَإِنّهُ لَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ مَعَ فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ خَارِجَ مَكّةَ أَقْبَلُوا يَسْتَهْزَؤُونَ وَيَحْكُونَ صَوْتَ الْمُؤَذّنِ غَيْظًا، فَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ صَوْتًا، فَرَفَعَ صَوْتَهُ مُسْتَهْزِئًا بِالْأَذَانِ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مَقْتُولٌ فَمَسَحَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِيَتَهُ وَصَدْرَهُ بِيَدِهِ قَالَ فَامْتَلَأَ قَلْبِي وَاَللهِ إيمَانًا وَيَقِينًا وَعَلِمْت أَنّهُ رَسُولُ اللهِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْأَذَانَ وَعَلّمَهُ إيّاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ لِأَهْلِ مَكّةَ، وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَانَ مُؤَذّنَهُمْ حَتّى مَاتَ ثُمّ عَقِبَهُ بَعْدَهُ يَتَوَارَثُونَ الْأَذَانَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَفِي أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ الشّاعِرُ

أَمَا وَرَبّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ *** وَمَا تَلَا مُحَمّدٌ مِنْ سُورَهْ
وَالنّغَمَاتِ مِنْ أَبِي مَحْذُورَهْ *** لَأَفْعَلَن فِعْلَةً مَذْكُورَهْ

هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
وَأَمّا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنّ مِنْ حَدِيثِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ أَنّهَا بَايَعَتْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الصّفَا، وَعُمَرُ دُونَهُ بِأَعْلَى الْعَقَبَةِ، فَجَاءَتْ فِي نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُبَايِعْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُمَرُ يُكَلّمُهُنّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا أَخَذَ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللهِ شَيْئًا قَالَتْ هِنْدُ: قَدْ عَلِمْت أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ غَيْرُهُ لَأَغْنَى عَنّا، فَلَمّا قَالَ وَلَا يَسْرِقْنَ قَالَتْ وَهَلْ تَسْرِقُ الْحُرّةُ، لَكِنْ يَا رَسُولَ اللهِ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ رُبّمَا أَخَذْت مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يُصْلِحُ وَلَدَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ»، ثُمّ قَالَ «إنّك لَأَنْتِ هِنْدُ؟» قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ اُعْفُ عَنّي، عَفَا اللهُ عَنْك، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا، فَقَالَ أَنْتِ فِي حِلّ مِمّا أَخَذْت فَلَمّا قَالَ وَلَا يَزْنِينَ، قَالَتْ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرّةُ يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمّا قَالَ «وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ»، قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَكْرَمَك، وَأَحْسَنَ مَا دَعَوْت إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَتْ «وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنّ»، قَالَتْ وَاَللهِ قَدْ رَبّيْنَاهُمْ صِغَارًا، حَتّى قَتَلْتهمْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك بِبَدْرِ كِبَارًا، قَالَ فَضَحِكَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهَا حَتّى مَالَ
عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ بِمَكّةَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ، وَصَوَابُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ، وَهُوَ الْأَشْدَقُ وَيُكَنّى أَبَا أُمَيّةَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُسَمّى لَطِيمَ الشّيْطَانِ وَكَانَ جَبّارًا شَدِيدَ الْبَأْسِ حَتّى خَافَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكّةَ، فَقَتَلَهُ بِحِيلَةِ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ وَرَأَى رَجُلٌ عِنْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ

أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلسّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ *** وَلِلْعَاجِزِ الْمَوْهُونِ وَالرّأْيِ فِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ *** عَلَى قَدَمَيْهِ خَرّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ
رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنْ الْمَوْتِ فَالْتَجَا *** إلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيّةُ فِي الْحِصْنِ

فَقَصّ رُؤْيَاهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا، حَتّى كَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَعَفَ حَتّى سَالَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَعْنَى حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الّذِي يُرْوَى عَنْهُ «كَأَنّي بِجَبّارِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ يَرْعُفُ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا حَتّى يَسِيلَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ» أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُرِفَ الْحَدِيثُ فِيهِ فَالصّوَابُ إِذا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الصّحِيحَيْنِ.
ذَكَرَ هَذَا التّنْبِيهَ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَبُو عُمَرَ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي كِتَابِ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَغْرَبَةِ وَهِيَ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيّ تَكَلّمَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِنّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَوْ عَلَى الْبَكّائِيّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنّ عَمْرَو بْنَ الزّبَيْرِ، كَانَ مُعَادِيًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللهِ وَمُعِينًا لِبَنِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَاَللهُ أَعْلَمُ
أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَنّهَا اتّبَعَتْهُ حِينَ فَرّ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ عِكْرِمَةُ بِالشّامِ فَخَطَبَهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَخُطِبَتْ إلَى خَالِدٍ فَتَزَوّجَهَا، فَلَمّا أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا، وَجُمُوعُ الرّومِ قَدْ احْتَشَدَتْ قَالَتْ لَهُ لَوْ أَمْهَلْت حَتّى يَفُضّ اللهُ جَمْعَهُمْ قَالَ إنّ نَفْسِي تُحَدّثُنِي أَنّي أُصَابُ فِي جُمُوعِهِمْ فَقَالَتْ دُونَك، فَابْتَنَى بِهَا، فَلَمّا أَصْبَحَ الْتَقَتْ الْجُمُوعُ وَأَخَذَتْ السّيُوفُ مِنْ كُلّ فَرِيقٍ مَأْخَذَهَا فَقُتِلَ خَالِدٌ وَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ أُمّ حَكِيمٍ وَإِنّ عَلَيْهَا لِلرّدْعِ الْخَلُوقَ وَقَتَلَتْ سَبْعَةً مِنْ الرّومِ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ بِقَنْطَرَةِ تُسَمّى إلَى الْيَوْمِ بِقَنْطَرَةِ أُمّ حَكِيمٍ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أَجْنَادِينَ.
دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
وَذَكَرَ فِي خُطْبَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ. كَانَ لِرَبِيعَةَ ابْنٌ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيّةِ اسْمُهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
حَوْلَ التّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الدّيَةِ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا، فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ. إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الرّوَاةِ وَظَاهِرُهُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ وَلِيّ الدّمِ هُوَ الْمُخَيّرُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدّيَةَ وَهُوَ الْعَقْلُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ وَلِيّ الْمَقْتُولِ أَخْذَ الدّيَةِ وَيَأْبَى الْقَاتِلُ إلّا أَنْ يُقْتَصّ مِنْهُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْقَاتِلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ وَتَأَوّلُوا الْحَدِيثَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَقَالَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ، وَأَشْهَبَ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ} [الْبَقَرَةِ 178] فَاحْتَمَلَتْ الْآيَةُ عِنْدَ قَوْمٍ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَمِنْ أَخِيهِ أَيْ مِنْ وَلِيّهِ الْمَقْتُولِ أَيْ مِنْ دِيَتِهِ وَعُفِيَ لَهُ أَيْ يُسّرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى الْقَاتِلِ وَعُفِيَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الدّمِ وَلَا خِلَافَ أَنّ الْمُتّبِعَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ وَلِيّ الدّمِ وَأَنّ الْمَأْمُورَ بِأَدَاءِ بِإِحْسَانِ هُوَ الْقَاتِلُ وَإِذَا تَدَبّرْت الْآيَةَ عَرَفْت مَنْشَأَ الْخِلَافِ مَعَهَا، وَلَاحَ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ أَيّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالصّوَابِ.
وَأَمّا مَا ذَكَرْت مِنْ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النّقَلَةِ فِي الْحَدِيثِ فَيَحْصُرُهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ
أَحَدُهَا: إمّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمّا أَنْ يُفَادِيَ.
وَالثّانِي: إمّا أَنْ يُعْقَلَ أَوْ يُقَادَ.
الثّالِثُ إمّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمّا أَنْ يُقْتَلَ.
الرّابِعُ إمّا أَنْ تُعْطَى الدّيَةُ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ.
الْخَامِسُ إمّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ.
السّادِسُ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى.
السّابِعُ مَنْ قَتَلَ مُتَعَمّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدّيَةَ. خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ.
وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ ثَامِنَةٌ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرّوَايَاتِ قُوّةٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَفِي بَعْضِهَا قُوّةٌ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فَتَأَمّلْهَا.
النّهْيُ عَنْ اشْتِمَالِ الصّمّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ
وَخُطْبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَفِيهَا مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ: نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ وَصَلَاةِ سَاعَتَيْنِ يَعْنِي طُلُوعَ الشّمْسِ وَغُرُوبَهَا، وَأَنْ لَا يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلّتَيْنِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ وَطُعْمَتَيْنِ وَفُسّرَتَا فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اللّبْسَتَانِ اشْتِمَالُ الصّمّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرّجُلُ وَلَيْسَ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَالسّمَاءِ حِجَابٌ وَالطّعْمَتَانِ الْأَكْلُ بِالشّمَالِ وَأَنْ يَأْكُلَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ شِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ ابْنِ الزّبَعْرَى: الزّبَعْرَى: الْبَعِيرُ الْأَزَبّ مَعَ قِصَرٍ وَفِيهِ
رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
قَوْلُهُ فَتَقْت يَعْنِي: فِي الدّينِ فَكُلّ إثْمٍ فَتْقٌ وَتَمْزِيقٌ وَكُلّ تَوْبَةٍ رَتْقٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلتّوْبَةِ نَصُوحٌ مِنْ نَصَحْت إذَا خِطْته، وَالنّصَاحُ الْخَيْطُ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ

نُرَقّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا *** فَلَا دِينُنَا يَبْقَى، وَلَا مَا نُرَقّعُ

وَقَوْلُهُ إذْ أَنَا بُورُ أَيْ هَالِكٌ يُقَالُ رَجُلٌ بُورٌ وَبَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ
وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ فُعُلٌ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ وَأَمّا رَجُلٌ بُورٌ فَوَزْنُهُ فُعْلٌ
بِالسّكُونِ لِأَنّهُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قِيلَ أَرْضٌ بُورٌ مِنْ الْبَوَارِ وَهُوَ هَلَاكُ الْمَرْعَى وَيُبْسُهُ.
وَقَوْلُ ابْنِ الزّبَعْرَى:

وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ

الِاعْتِلَاجُ شِدّةٌ وَقُوّةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهَا. وَالْبَهِيمُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ لَوْنٌ يُخَالِطُ لَوْنَهُ.
وَقَوْلُهُ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ. الْغَشُومُ الّتِي لَا تُرَدّ عَنْ وَجْهِهَا، وَيُرْوَى سَعُومُ وَهِيَ الْقَوِيّةُ عَلَى السّيْرِ.
حَوْلَ شِعْرِ حَسّانٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَأَوّلُهُ

عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ

ذَاتُ الْأَصَابِعِ: مَوْضِعٌ بِالشّامِ وَالْجِوَاءُ كَذَلِكَ وَبِالْجِوَاءِ كَانَ مَنْزِلُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ، وَكَانَ حَسّانُ كَثِيرًا مَا يَرِدُ عَلَى مُلُوكِ غَسّانَ بِالشّامِ يَمْدَحُهُمْ فَلِذَلِكَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَنَازِلَ.
وَقَوْلُهُ إلَى عَذْرَاءَ، هِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ دِمَشْقَ، فِيهَا قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيّ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَوْلُهُ نَعَمٌ وَشَاءُ. النّعَمُ الْإِبِلُ فَإِذَا قِيلَ أَنْعَامٌ دَخَلَ فِيهَا الْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ. وَالشّاءُ وَالشّوِيّ: اسْمٌ لِلْجَمِيعِ كَالضّأْنِ وَالضّئِينِ وَالْإِبِلِ وَالْإِبِيلِ وَالْمَعْزِ وَالْمَعِيزِ وَأَمّا الشّاةُ فَلَيْسَتْ مِنْ لَفْظِ الشّاءِ لِأَنّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْهَا هَاءٌ. وَبَنُو الْحَسْحَاسِ: حَيّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ.
وَقَوْلُهُ الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ يَعْنِي: الرّيَاحَ وَالْمَطَرَ. وَالسّمَاءُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى الْمَطَرِ وَعَلَى السّمَاءِ الّتِي هِيَ السّقْفُ وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ وَلَا مِنْ قَوْلِهِ

إذَا سَقَطَ السّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ *** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

لِأَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَطَرَ السّمَاءِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَلَكِنْ إنّمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِهِ سُمَيّ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي جَمْعِ السّمَاءِ سَمَوَاتٌ وَأَسْمِيَةٌ فَعَلِمْنَا أَنّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ. الطّيْفُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِلْخَيَالِ هُوَ طَائِفٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ طَافَ لِأَنّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْخَيَالِ فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنّهُ هُوَ الطّيْفُ وَهُوَ تَوَهّمٌ وَتَخَيّلٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَهُ حَقِيقَةٌ قُلْت فِيهِ طَائِفٌ وَفِي مَصْدَرِهِ طَيْفٌ كَمَا فِي التّنْزِيلِ {طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ} [الْأَعْرَافِ 201] وَقَدْ قُرِئَ أَيْضًا “طَيْفٌ مِنْ الشّيْطَان”، لِأَنّ غُرُورَ الشّيْطَانِ وَأَمَانِيّهُ تُشَبّهُ بِالْخَيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَمّا قَوْلُهُ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [الْقَلَمِ 19] فَلَيْسَ فِيهِ إلّا اسْمُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَصْدَرِ لِأَنّ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفِعْلِ يُقَالُ إنّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَتَحَصّلَ مِنْ هَذَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْخَيَالُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فَلَا يُعَبّرُ عَنْهُ إلّا بِالطّيْفِ وَحَدِيثُ الشّيْطَانِ وَوَسْوَسَتُهُ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ وَطَيْفٌ وَكُلّ طَائِفٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُعَبّرُ عَنْهُ بِطَيْفِ وَلَا بِطَوَافِ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ النّكْتَةِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ
يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ أَيْ يُسَهّرُنِي، فَيُقَالُ كَيْفَ يُسَهّرُهُ.
الطّيْفُ وَالطّيْفُ حُلْمٌ فِي الْمَنَامِ؟.
فَالْجَوَابُ أَنّ الّذِي يُؤَرّقُهُ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا عِنْدَ زَوَالِهِ كَمَا قَالَ [حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ أَبُو تَمّامٍ] الطّائِيّ:

ظَبْيٌ تَقَنّصْتُهُ لَمّا نَصَبْت لَهُ *** مِنْ آخِرِ اللّيْلِ أَشْرَاكًا مِنْ الْحُلْمِ
ثُمّ انْثَنَى، وَبِنَا مِنْ ذِكْرِهِ سَقَمٌ *** بَاقٍ وَإِنْ كَانَ مَعْسُولًا مِنْ السّقَمِ

وَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنّهُ سَهِرَ لَيْلَهُ كُلّهُ إلّا سَاعَةً جَاءَ الْخَيَالُ مِنْ آخِرِهِ فَكَأَنّهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ حَسّانٍ
وَخَيَالٌ إذَا تَقُومُ النّجُومُ
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ يُؤَرّقُنِي، أَيْ يُؤَرّقُنِي بِزَوَالِهِ عَنّي قَوْلُ الْبُحْتُرِيّ

أَلَمّتْ بِنَا بَعْدَ الْهُدُوّ فَسَامَحَتْ *** بِوَصْلِ مَتَى تَطْلُبْهُ فِي الْجِدّ تَمْنَعْ
وَوَلّتْ كَأَنّ الْبَيْنَ يَخْلُجُ شَخْصَهَا *** أَوَانَ تَوَلّتْ مِنْ حِشَائِي وَأَضْلُعِي

وَقَوْلُهُ: لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ شَعْثَاءُ الّتِي يُشَبّبُ بِهَا حَسّانُ هِيَ بِنْتُ سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيّ وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَ بِهَا شَعْثَاءُ ابْنَتِي لَتَبِعْته، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ حَسّانٍ أَيْضًا امْرَأَةٌ اسْمُهَا شَعْثَاءُ بِنْتُ كَاهِنٍ الْأَسْلَمِيّةُ وَلَدَتْ لَهُ أُمّ فِرَاسٍ.
وَقَوْلُهُ

كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ

إلَى آخِرِهِ خَبَرُ كَأَنّ فِي هَذَا الْبَيْتِ
مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنّ فِي فِيهَا خَبِيئَةً وَمِثْلُ هَذَا الْمَحْذُوفِ فِي النّكِرَاتِ حَسَنٌ كَقَوْلِهِ

إنّ مَحَلّا وَإِنّ مُرْتَحِلًا

أَيْ إنّ لَنَا مَحَلّا، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ

وَلَكِنّ زِنْجِيّا طَوِيلًا مَشَافِرُهْ

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ فِي صِفَةِ الدّجّالِ أَعْوَرَ كَأَنّ عِنَبَةً طَافِيَةً أَيْ كَأَنّ فِي عَيْنِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتًا فِيهِ الْخَبَرُ وَهُوَ

عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمُ غَضّ *** مِنْ التّفّاحِ هَصَرَهُ اجْتِنَاءُ

وَهَذَا الْبَيْتُ مَوْضُوعٌ لَا يُشْبِهُ شِعْرَ حَسّانٍ وَلَا لَفْظَهُ. وَقَوْلُهُ

نُوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا

أَيْ إنْ أَتَيْنَا بِمَا نُلَامُ عَلَيْهِ صَرَفْنَا اللّوْمَ إلَى الْخَمْرِ وَاعْتَذَرْنَا بِالسّكْرِ. وَالْمَغْتُ الضّرْبُ بِالْيَدِ وَاللّحَاءُ الْمُلَاحَاةُ بِاللّسَانِ وَيُرْوَى أَنّ حَسّانًا مَرّ بِفِتْيَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمْ فَقَالُوا: وَاَللهِ لَقَدْ أَرَدْنَا تَرْكَهَا فَيُزَيّنُهَا لَنَا قَوْلُك:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا فَقَالَ وَاَللهِ لَقَدْ قُلْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَمَا شَرِبْتهَا مُنْذُ أَسْلَمْت، وَكَذَلِكَ قِيلَ إنّ بَعْضَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ آخِرَهَا فِي الْإِسْلَامِ.
مَعْنَى التّفْضِيلِ فِي شَرّكُمَا:
وَفِيهَا يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ:

فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

وَفِي ظَاهِرُ اللّفْظِ بَشَاعَةٌ لِأَنّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يُقَالَ هُوَ شَرّهُمَا إلّا وَفِي كِلَيْهِمَا شَرّ، وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْك، وَلَكِنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي كِتَابِهِ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلِ شَرّ مِنْك، إذَا نَقَصَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَهَذَا يَدْفَعُ الشّنَاعَةَ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوّلِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ «شَرّ صُفُوفِ الرّجَالِ آخِرُهَا» يُرِيدُ نُقْصَانَ حَظّهِمْ عَنْ حَظّ الْأَوّلِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ التّفْضِيلَ فِي الشّرّ وَاَللهُ أَعْلَمُ.
يَلْطِمُ أَوْ يُطَلّمُ
وَفِيهَا قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْخَيْلِ
يَلْطِمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ كَانَ الْخَلِيلُ رَحِمَهُ اللهُ يَرْوِي بَيْتَ حَسّانٍ يُطَلّمُهُنّ بِالْخُمُرِ وَيُنْكِرُ يُلَطّمُهُنّ وَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى: يَنْفُضُ النّسَاءُ بِخُمُرِهِنّ مَا عَلَيْهِنّ مِنْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَتْبَعَ بِذَلِكَ ابْنُ دُرَيْدٍ قَوْلُهُ الطّلْمُ ضَرْبُك خُبْزَةَ الْمَلّةِ بِيَدِك لِتَنْفُضَ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرّمَادِ وَالطّلْمَةُ الْخُبْزَةُ وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرَرْنَا بِقَوْمِ يُعَالِجُونَ طَلْمَةً لَهُمْ فَنَفَرْنَاهُمْ عَنْهَا، فَاقْتَسَمْنَاهَا، فَأَصَابَتْنِي مَعَهَا كِسْرَةٌ وَكُنْت أَسْمَعُ فِي بَلَدِي أَنّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ فَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي عِطْفِي: هَلْ ظَهَرَ فِيّ السّمَنُ بَعْدُ. وَمِمّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَقَالَ «عُوتِبْت اللّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ»
وَفِيهَا:

وَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا

نُحْكِمُ أَيْ نَرُدّ وَنَقْرَعُ هُوَ مِنْ حَكَمَةِ الدّابّةِ وَهُوَ لِجَامُهَا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَيْضًا: نُفْحِمُهُمْ وَنُخْرِسُهُمْ فَتَكُونُ قَوَافِينَا لَهُمْ كَالْحَكَمَاتِ لِلدّوَابّ قَالَ زُهَيْرٌ

قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْقَدّ وَالْأَبْقَا

وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ يَسِيلُ بِهَا كُدَيّ أَوْ كَدَاءُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كُدَيّا وَكَدَاءَ، وَذَكَرْنَا مَعَهُمَا كُدًى، وَزَادَ الشّيْبَانِيّ فِي رِوَايَتِهِ أَبْيَاتًا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَهِيَ

وَهَاجَتْ دُونَ قَتْلِ بَنِي لُؤَيّ *** جَذِيمَةُ إنّ قَتْلَهُمْ شِفَاءُ
وَحِلْفُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ *** وَحِلْفُ قُرَيْظَةَ فِينَا سَوَاءُ
أُولَئِكَ مَعْشَرٌ أَلّبُوا عَلَيْنَا *** فَفِي أَظْفَارِنَا مِنْهُمْ دِمَاءُ
سَتُبْصِرُ كَيْفَ نَفْعَلُ بِابْنِ حَرْبٍ *** بِمَوْلَاك الّذِينَ هُمْ الرّدَاءُ

حَوْلَ شِعْرِ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ الدّيلِيّ وَفِيهِ

وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ

الْخَالُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ رَفِيعِ الثّيَابِ وَأَحْسَبُهُ سُمّيَ بِالْخَالِ الّذِي بِمَعْنَى الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: الْبَرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ وَفِيهِ

تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك مُدْرِكِي *** وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ

وَهَذَا الْبَيْتُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ كَذَا أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَانِي يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ النّابِغَةِ

فَإِنّك كَاللّيْلِ الّذِي هُوَ مُدْرِكِي *** وَإِنْ خِلْت أَنّ الْمُنْتَأَى عَنْك وَاسِعُ
خَطَاطِيفُ حُجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ *** تُمَدّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْك نَوَازِعُ

فَالْقَسِيمُ الْأَوّلُ كَالْبَيْتِ الْأَوّلِ مِنْ قَوْلِ النّابِعَةِ وَالْقَسِيمُ الثّانِي كَالْبَيْتِ الثّانِي، لَكِنّهُ أَطْبَعُ مِنْهُ وَأَوْجَزُ. وَقَوْلُ النّابِغَةِ كَاللّيْلِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ التّشْبِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الدّيلِيّ إلّا أَنّهُ يَسْمُجُ مِثْلُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنّهُ نُورٌ وَهُدًى، فَلَا يُشَبّهُ بِاللّيْلِ وَإِنّمَا حَسُنَ فِي قَوْلِ النّابِغَةِ أَنْ يَقُولَ كَاللّيْلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالصّبْحِ لِأَنّ اللّيْلَ تُرْهَبُ غَوَائِلُهُ وَيُحْذَرُ مِنْ إدْرَاكِهِ مَا لَا يَحْذَرُ مِنْ النّهَارِ وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الأندلسيين هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي هَرَبِهِ مِنْ ابْنِ عَبّادٍ

كَأَنّ بِلَادَ اللهِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ *** تَشُدّ بِأَقْصَاهَا عَلَيّ الْأَنَامِلَا
فَأَيْنَ مَفَرّ الْمَرْءِ عَنْك بِنَفْسِهِ *** إذَا كَانَ يَطْوِي فِي يَدَيْك الْمَرَاحِلَا

وَهَذَا كُلّهُ مَعْنًى مُنْتَزَعٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ. رَوَى الطّبَرِيّ أَنّ “منوشهر بْنَ إيرج بْنِ أفريدون بْنِ أَثَفَيَانِ” وَهُوَ الّذِي بُعِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي زَمَانِهِ أَعْنِي زَمَانَ منوشهر قَالَ حِينَ عَقَدَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فِي خُطْبَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ «أَيّهَا النّاسُ إنّ الْخَلْقَ لِلْخَالِقِ وَإِنّ الشّكْرَ لِلْمُنْعِمِ وَإِنّ التّسْلِيمَ لِلْقَادِرِ وَإِنّهُ لَا أَضْعَفَ مِنْ مَخْلُوقٍ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا، وَلَا أَقْوَى مِنْ طَالِبٍ طِلْبَتُهُ فِي يَدِهِ وَلَا أَعْجَزَ مِنْ مَطْلُوبٍ هُوَ فِي يَدِ طَالِبِهِ».
حَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
وَأَنْشَدَ لِبُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ

نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ *** مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خفاف

الحبلق أَرْضٌ يَسْكُنُهَا قَبَائِلُ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَقَيْسٍ: وَالْحَبَلّقُ الْغَنَمُ الصّغَارُ وَلَعَلّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَهْلَ الْحَبَلّقِ أَصْحَابَ الْغَنَمِ وَبَنُو عُثْمَانَ هُمْ مُزَيْنَةُ وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ لَاطِمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ وَمُزَيْنَةُ أُمّهُمْ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأُخْتُهَا: الْحَوْأَبُ الّتِي عُرِفَ بِهَا مَاءُ الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَصْلُ الْحَوْأَبِ فِي اللّغَةِ الْقَدَحُ الضّخْمُ الْوَاسِعُ وَبَنُو خِفَافٍ بَطْنٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَقَوْلُهُ

ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ *** ـبِي الْخَيْر بالبيض الْخفاف

فِي الْبَيْتِ مُدَاخَلَةٌ وَهُوَ انْتِهَاءُ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ فِي بَعْضِ كَلِمَةٍ مِنْ الْقَسِيمِ الثّانِي، وَهُوَ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ إلّا فِي الْخَفِيفِ وَالْهَزَجِ وَمَعْنَى الْخَيْرِ أَيْ ذُو الْخَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْخَيّرَ فَخَفّفَ كَمَا يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ. وَفِي التّنْزِيلِ {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرّحْمَنِ 70] .
وَقَوْلُهُ

كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ

أَيْ ذَهَبَ وَالرّصَافُ عَصَبَةٌ تُلْوَى عَلَى فَوْقِ السّهْمِ وَأَرَادَ بِالْفُوَاقِ الْفَوْقَ وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي الْفُوَاقِ صَوْتَ الصّدْرِ وَهُوَ بِالْهَمْزِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ، لِأَنّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ.
عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَاَلّذِينَ حَرّمُوا الْخَمْرَ
وَذَكَرَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُكَنّى أَبَا الْفَضْلِ وَقِيلَ أَبَا الْهَيْثَمِ وَمِنْ ذُرّيّتِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فَقِيهُ الْأَنْدَلُسِ وَنَسَبُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ كَانَ أَبُوهُ حَاجِبًا لِحَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ وَقَتَلَتْهُمَا الْجِنّ فِي خَبَرٍ مَشْهُورٍ وَعَبّاسٌ مِمّنْ حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَرّمَهَا أَيْضًا عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ حَرّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُدْعَانَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ الْعُدْوَانِيّ.
وَذَكَرَ فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ مَا سَمِعَ مِنْ جَوْفِ الصّنَمِ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ وَهُوَ ضَمَارِ بِكَسْرِ الرّاءِ وَهُوَ مِثْلُ حَذَامِ وَرَقَاشِ وَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ إلّا فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَنّثِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ إنَاثًا كَاَللّاتِي وَالْعُزّى وَمَنَاةَ لِاعْتِقَادِهِمْ الْخَبِيثَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنّهَا بَنَاتٌ. وَفِي ضَمَارِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنِيّ تَمِيمٍ الْبِنَاءُ عَلَى الْكَسْرِ لَا غَيْرُ مِنْ أَجْلِ أَنّ آخِرَهُ رَاءٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِهِ رَاءٌ كَحَذَامِ وَرَقَاشِ فَهُوَ مَبْنِيّ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمُعْرَبٌ غَيْرُ مُجْرًى فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السّلْمَانِيّ عَنْ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنّهُ كَانَ فِي لِقَاحٍ لَهُ نِصْفَ النّهَارِ فَاطّلَعَتْ عَلَيْهِ نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ لِي: يَا عَبّاسُ أَلَمْ تَرَ أَنّ السّمَاءَ كَفّتْ أَحْرَاسَهَا، وَأَنّ الْحَرْبَ جَرَعَتْ أَنْفَاسَهَا، وَأَنّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا، وَأَنّ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْبِرّ وَالتّقَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثّلَاثَاءِ صَاحِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ. قَالَ فَخَرَجْت مَرْعُوبًا قَدْ رَاعِنِي مَا رَأَيْت، وَسَعَيْت، حَتّى جِئْت وَثَنًا لِي، يُقَالُ لَهُ الضّمَارِ كُنّا نَعْبُدُهُ وَنُكَلّمُ مِنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْت مَا حَوْلَهُ ثُمّ تَمَسّحْت بِهِ فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِهِ

قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ كُلّهَا *** هَلَكَ الضّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِد
هَلَكَ الضّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً *** قَبْلَ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى *** بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي

قَالَ فَخَرَجْت مَذْعُورًا حَتّى جِئْت قَوْمِي، فَقَصَصْت عَلَيْهِمْ الْقِصّةَ وَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ فَخَرَجْت فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي جَارِيَةَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمّا رَآنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسّمَ وَقَالَ «إلَيّ يَا عَبّاسُ كَيْفَ إسْلَامُك؟»
فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ «صَدَقْت،» فَأَسْلَمْت أَنَا وَقَوْمِي.
شِعْرُ جَعْدَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي شِعْرِ جَعْدَةَ الْخُزَاعِيّ غَزَالَ، وَهُوَ اسْمُ طَرِيقٍ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقَالَ كُثَيّرُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَذْكُرُ غَزَالَ:

أُنَادِيك مَا حَجّ الْحَجِيجُ وَكَبّرَتْ *** بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلّتْ

وَكَذَلِكَ لَفْتٌ اسْمُ مَوْضِعٍ وَفِي لَفْتٍ يَقُولُ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ

لَعَمْرُك مَا خَشِيت وَقَدْ بَلَغْنَا *** جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ *** لِحَيّ بَيْنَ أُثْلَةَ وَالنّجَامِ

وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْبَيْتُ الْأَخِيرُ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ.