32 هـ
652 م
ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة

فمن ذَلِكَ غزوة مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ المضيق، مضيق القسطنطينية، وَمَعَهُ زوجته عاتكة ابنة قرطة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف …

وقيل: فاختة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق، عن أبي معشر، وَهُوَ قول الْوَاقِدِيّ.
وفي هَذِهِ السنة استعمل سَعِيد بن الْعَاصِ سلمان بن رَبِيعَةَ عَلَى فرج بلنجر، وأمد الجيش الَّذِي كَانَ بِهِ مقيما مع حُذَيْفَة بأهل الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة الفهري- فِي قول سيف- فوقع فيها الاختلاف بين سلمان وحبيب فِي الأمر، وتنازع فِي ذَلِكَ أهل الشام وأهل الْكُوفَة.
ذكر الخبر بِذَلِكَ:
فَمِمَّا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة قَالا: كَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ أَغْزِ سلمان الباب، وكتب الى عبد الرحمن ابن رَبِيعَةَ وَهُوَ عَلَى الْبَابِ: أَنَّ الرَّعِيَّةَ قَدْ أَبْطَرَ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْبِطْنَةُ، فَقَصِّرْ، وَلا تَقْتَحِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي خَاشٍ أَنْ يُبْتَلَوْا، فَلَمْ يَزْجُرْ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ غَايَتِهِ، وَكَانَ لا يُقَصِّرُ عَنْ بَلَنْجَرَ، فَغَزَا سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَلَنْجَرَ، حَصَرُوهَا ونَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَادَاتِ، فَجَعَلَ لا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلا أَعْنَتُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ، فَأَسْرَعُوا فِي النَّاسِ، وَقُتِلَ مِعْضَدٌ فِي تِلَكَ الأَيَّامِ.
إِنَّ التُّرْكَ اتَّعَدُوا يَوْمًا، فَخَرَجَ أَهْلُ بَلَنْجَرَ، وَتَوَافَتْ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا، فَأُصِيبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ- وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَتَفَرَّقُوا، فَأَمَّا مَنْ أَخَذَ طَرِيقَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَحَمَاهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ طَرِيقَ الْخَزَرِ وَبِلادِهَا، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى جَيْلانَ وَجَرْجَانَ وَفِيهِمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَخَذَ الْقَوْمُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَجَعَلُوهُ فِي سَفَطٍ، فَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ وَيَسْتَنْصِرُونَ به.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن يَزِيدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَاللَّهِ لسلمان بن رَبِيعَة كَانَ أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بني كنانة، قال: لما تتابعت الغزوات على الخزر، وتذامروا وتعايروا وَقَالُوا: كنا أمة لا يقرن لنا أحد حَتَّى جاءت هَذِهِ الأمة القليلة، فصرنا لا نقوم لها فَقَالَ بعضهم لبعض: إن هَؤُلاءِ لا يموتون، ولو كَانُوا يموتون لما اقتحموا علينا وما أصيب فِي غزواتها أحد إلا فِي آخر غزوة عبد الرَّحْمَن، فَقَالُوا: أفلا تجربون! فكمنوا فِي الغياض، فمر بأولئك الكمين مرار من الجند، فرموهم منها، فقتلوهم، فواعدوا رءوسهم، ثُمَّ تداعوا إِلَى حربهم، ثُمَّ اتعدوا يَوْمًا، فاقتتلوا، فقتل عبد الرَّحْمَن، وأسرع فِي الناس فافترقوا فرقين، فرق نحو الباب فحماهم سلمان حَتَّى أخرجهم، وفرق أخذوا نحو الخزر، فطلعوا عَلَى جيلان وجرجان، فِيهِمْ سلمان الفارسي وأبو هُرَيْرَة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بن يَزِيدَ، عن أخيه قيس، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ كَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفزر التميمي فِي خباء، وعمرو بن عتبة وخالد بن رَبِيعَة والحلحال بن ذري والقرثع فِي خباء، وكانوا متجاورين فِي عسكر بلنجر، وَكَانَ القرثع يقول: مَا أحسن لمع الدماء عَلَى الثياب! وَكَانَ عَمْرو بن عتبة يقول لقباء عَلَيْهِ أبيض: مَا أحسن حمرة الدماء فِي بياضك! وغزا أهل الْكُوفَة بلنجر سنين من إمارة عُثْمَان لم تئم فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبي من قتل، حَتَّى كَانَ سنة تسع، فلما كَانَ سنة تسع قبل المزاحفة بيومين رَأَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة أن غزالا جيء بِهِ إِلَى خبائه، لم ير غزالا أحسن مِنْهُ حَتَّى لف فِي ملحفته، ثُمَّ أتى بِهِ قبر عَلَيْهِ أربعة نفر لم ير قبرا أشد استواء مِنْهُ وَلا أحسن مِنْهُ، حَتَّى دفن فِيهِ، فلما تغادى الناس عَلَى الترك رمي يَزِيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زين ثوبه بالدماء زينة، وليس يتلطخ، فكان ذَلِكَ الغزال الَّذِي رَأَى، وَكَانَ بذلك الدم على ذلك القباء الْحسن، فلما كَانَ قبل المزاحفة بيوم تغادوا، فَقَالَ معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب بِهِ رأسي، ففعل، فأتى البرج الَّذِي أصيب فِيهِ يَزِيد، فرماهم فقتل مِنْهُمْ، ورمي بحجر فِي عرادة، ففضخ هامته، واجتره أَصْحَابه فدفنوه إِلَى جنب يَزِيد، وأصاب عَمْرو بن عتبة جراحة، فرأى قباءه كما اشتهى.
وقتل، فلما كَانَ يوم المزاحفة قاتل القرثع حَتَّى خرق بالحراب، فكأنما كَانَ قباؤه ثوبا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، وما زال الناس ثبوتا حَتَّى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة النخعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعمرو بن عتبة ومعضد أصيبوا يوم بلنجر، فأما معضد فإنه اعتجر ببرد لعلقمة، فأتاه شظية من حجر منجنيق فأمه، فاستصغره، ووضع يده عَلَيْهِ فمات فغسل دمه عَلْقَمَة، فلم يخرج، وَكَانَ يحضر فِيهِ الجمعة، وَقَالَ يحرضني عَلَيْهِ: إن فِيهِ دم معضد فأما عَمْرو فلبس قباء أبيض، وَقَالَ: مَا أحسن الدم عَلَى هَذَا! فأتاه حجر فقتله، وملأه دما، وأما يَزِيد فدلي عليه شيء فقتله، وَقَدْ كَانُوا حفروا قبرا فأعدوه، فنظر إِلَيْهِ يَزِيد، فَقَالَ: مَا أحسنه! وأرى فِيمَا يرى النائم أن غزالا لم ير غزال أحسن مِنْهُ، جيء بِهِ حَتَّى دفن فِيهِ، فكان هُوَ ذَلِكَ الغزال وَكَانَ يَزِيد رقيقا جميلا رحمه اللَّه، وبلغ ذَلِكَ عُثْمَان، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! انتكث أهل الْكُوفَة اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِم وأقبل بهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: استعمل سَعِيد عَلَى ذَلِكَ الفرج سلمان بن رَبِيعَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الغزو بأهل الْكُوفَة حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ، وَكَانَ عَلَى ذلك الفرج قبل ذلك عبد الرحمن ابن رَبِيعَة، وأمدهم عُثْمَان فِي سنة عشر بأهل الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة القرشي، فتأمر عَلَيْهِ سلمان، وأبى عَلَيْهِ حبيب، حَتَّى قَالَ أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الناس: إذا وَاللَّهِ نضرب حبيبا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا.
وَقَالَ أوس بن مغراء فِي ذَلِكَ:

إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ***وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا *** وهذا أَمِير فِي الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته *** ليالي نرمي كل ثغر وننكل

فأراد حبيب أن يتأمر عَلَى صاحب الباب كما كَانَ يتأمر أَمِير الجيش إذا جَاءَ من الْكُوفَة، فلما أحس حُذَيْفَة اقر وأقروا، فغزاها حذيفة ابن الْيَمَانِ ثلاث غزوات، فقتل عُثْمَان فِي الثالثة، ولقيهم مقتل عُثْمَان، فَقَالَ: اللَّهُمَّ العن قتلة عُثْمَان وغزاة عُثْمَان وشناة عُثْمَان اللَّهُمَّ إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، متى مَا كَانَ من قبله يعاتبنا ونعاتبه! فاتخذوا ذَلِكَ سلما إِلَى الفتنة، اللَّهُمَّ لا تمتهم إلا بالسيوف وفي هَذِهِ السنة مات عبد الرَّحْمَن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، زعم الْوَاقِدِيّ أن عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر حدثه بِذَلِكَ عن يَعْقُوب بن عتبة، وأنه يوم مات كَانَ ابن خمس وسبعين سنة.
قَالَ: وفيها مات العباس بن عبد المطلب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن ثمان وثمانين سنة، وَكَانَ أسن مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.
قَالَ: وفيها مات عَبْد اللَّهِ بن زَيْد بن عبد ربه رحمه اللَّه، الَّذِي أري الأذان قَالَ: وفيها توفي عَبْد اللَّهِ بن مسعود بِالْمَدِينَةِ، فدفن بالبقيع رحمه اللَّه فَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ عمار، وَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ عثمان.
وفيها مات ابو طلحه رحمه الله.

ذكر الخبر عن وفاه ابى ذر
قال: وفيها مات أَبُو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية سيف ذكر الخبر عن وفاته:
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال: لما حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةَ ثَمَانٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، نُزِلَ بِأَبِي ذَرٍّ، فَلَمَّا أَشْرَفَ قَالَ لابْنَتِهِ: اسْتَشْرِفِي يَا بُنَيَّةُ فَانْظُرِي هَلْ تَرِينَ أَحَدًا! قَالَتْ: لا، قَالَ: فَمَا جَاءَتْ سَاعَتِي بَعْدُ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَذَبَحَتْ شَاةً، ثُمَّ طَبَخَتْهَا، ثُمَّ قال: إذا جاءك الذين يدفنون فَقُولِي لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلَمَّا نَضَجَتْ قَدْرُهَا قَالَ لَهَا: انْظُرِي هَلْ تَرَيْنَ أَحَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَؤُلاءِ رَكْبٌ مُقْبِلُونَ، قَالَ: اسْتَقْبِلِي بِي الْكَعْبَةَ فَفَعَلَتْ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَرَجَتِ ابْنَتُهُ فَتَلَقَّتْهُمْ وَقَالَتْ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ! اشْهَدُوا أَبَا ذَرٍّ- قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ- فَادْفِنُوهُ، قَالُوا: نَعَمْ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ! لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا رَكْبٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَمَالُوا إِلَيْهِ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: «صَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ،» فَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا قَالَتْ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَفَعَلُوا، وَحَمَلُوهُمْ حَتَّى أَقْدَمُوهُمْ مَكَّةَ، وَنَعَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَضَمَّ ابْنَتَهُ إِلَى عِيَالِهِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أبا ذر، ويغفر لرافع ابن خَدِيجٍ سُكُونَهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ الْحَلْحَالِ، عَنِ الْحَلْحَالِ بْنِ ذُرَيٍّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَنَحْنُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى الرَّبَذَةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ تَلَقَّتْنَا، فَقَالَتْ: اشْهَدُوا أَبَا ذَرٍّ- وَمَا شَعَرْنَا بِأَمْرِهِ وَلا بَلَغَنَا- فَقُلْنَا: وَأَيْنَ أَبُو ذر؟ فأشارت الى خباء، فَقُلْنَا: مَا لَهُ؟ قَالَتْ: فَارَقَ الْمَدِينَةَ لأَمْرٍ قَدْ بَلَغَهُ فِيهَا، فَفَارَقَهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا دَعَاهُ إِلَى الأَعْرَابِ؟ فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هِيَ بعد، وَهِيَ مَدِينَةٌ فَمَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَيْهِ وَهُوَ يَبْكِي، فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَإِذَا خِبَاءٌ مَنْضُوخٌ بِمِسْكٍ، فَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: كَانَتْ مِسْكَةً، فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَحْضُرُهُ شُهُودٌ يَجِدُونَ الرِّيحَ، وَلا يَأْكُلُونَ، فدوفى تِلَكَ الْمِسْكَةِ بِمَاءٍ، ثُمَّ رُشِّي بِهَا الْخِبَاءَ فَاقْرِيهِمْ رِيحَهَا، وَاطْبُخِي هَذَا اللَّحْمَ، فَإِنَّهُ سَيَشْهَدُنِي قَوْمٌ صَالِحُونَ يَلُونَ دَفْنِي، فَاقْرِيهِمْ، فَلَمَّا دَفَنَّاهُ دَعَتْنَا إِلَى الطَّعَامِ فَأَكَلْنَا، وَأَرَدْنَا احْتِمَالَهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرِيبٌ، نَسْتَأْمِرْهُ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، وَيَغْفِرُ لَهُ نُزُولَهُ الرَّبْذَةَ! وَلَمَّا صَدَرَ خَرَجَ فَأَخَذَ طَرِيقَ الرَّبَذَةَ، فَضَمَّ عِيَالَهُ إِلَى عِيَالِهِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَتَوَجَّهْنَا نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَعُدَّتُنَا: ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مِفْزَرٍ التَّمِيمِيُّ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النخعى وعلقمه بن قيس النخعى، والحلحال ابن ذُرَيٍّ الضَّبِّيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ رَبِيعَةَ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو رَافِعٍ الْمُزَنِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ مَثْعَبَةَ التَّمِيمِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، وَأَخُو الْقَرْثَعِ الضبي، وأخو معضد الشيبانى.

فتح مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان
وَفِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ مرو روذ وَالطَّالَقَانَ وَالْفَارِيَابَ وَالْجَوْزِجَانَ وَطَخَارِسْتَانَ.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:قَالَ علي: أَخْبَرَنَا سلمة بن عُثْمَانَ وغيره، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن مسلم، عن ابن سيرين، قَالَ: بعث ابن عَامِر الأحنف بن قيس الى مرو روذ، فحصر أهلها، فخرجوا إِلَيْهِم فقاتلوهم، فهزمهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اضطروهم إِلَى حصنهم، فأشرفوا عَلَيْهِم، فَقَالُوا: يَا معشر العرب، مَا كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هَذِهِ، فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إِلَى عسكركم فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وَقَدْ أعدوا لَهُ الحرب، فخرج رجل من العجم مَعَهُ كتاب مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إني رسول فآمنوني، فآمنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إِلَى الأحنف، فقرأ الكتاب، قَالَ: فإذا هُوَ: إِلَى أَمِير الجيش، إنا نحمد اللَّه الَّذِي بيده الدول، يغير مَا شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة.
إنه دعاني إِلَى مصالحتك وموادعتك مَا كَانَ من إسلام جدي، وما كَانَ رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إِلَى الصلح فِيمَا بينكم وبيننا، عَلَى أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي مَا كَانَ ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حَيْثُ قتل الحية الَّتِي أكلت الناس، وقطعت السبل من الأرضين والقرى بِمَا فِيهَا من الرجال، وَلا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شَيْئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبه من اهل بيتى الى غيركم، فإن جعلت ذَلِكَ لي خرجت إليك، وَقَدْ بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق مِنْكَ بِمَا سألت.
قَالَ: فكتب إِلَيْهِ الأحنف: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من صخر بن قيس امير الجيش الى باذان مرزبان مرو روذ ومن مَعَهُ من الأساورة والأعاجم.
سلام عَلَى من اتبع الهدى، وآمن واتقى أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن أخيك ماهك قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وَقَدْ عرضت ذَلِكَ عَلَى من معي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأنا وهم فِيمَا عَلَيْك سواء، وَقَدْ أجبناك إِلَى مَا سألت وعرضت عَلَى أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء الْمُسْلِمِينَ، إلا مَا كَانَ من الأرضين الَّتِي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كَانَ من قتله الحية الَّتِي أفسدت الأرض وقطعت السبل والأرض لِلَّهِ ولرسوله {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]، وإن عَلَيْك نصرة الْمُسْلِمِينَ وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة، إن أحب الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وأرادوه، وإن لك عَلَى ذَلِكَ نصرة الْمُسْلِمِينَ عَلَى من يقاتل من وراءك من أهل ملتك، جار لك بِذَلِكَ مني كتاب يكون لك بعدي، وَلا خراج عَلَيْك وَلا عَلَى أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كَانَ لك مِنَ الْمُسْلِمِينَ العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بِذَلِكَ ذمتي وذمة أبي وذمم الْمُسْلِمِينَ وذمم آبائهم شهد عَلَى مَا فِي هَذَا الكتاب جزء ابن مُعَاوِيَة- أو مُعَاوِيَة بن جزء السعدي- وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيان، وعياض بن ورقاء الأسيدي وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر اللَّه المحرم وختم أَمِير الجيش الأحنف بن قيس ونقش خاتم الأحنف: نعبد اللَّه.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مصعب بن حيان، عن أخيه مقاتل بن حيان، قَالَ:
صالح ابن عَامِر أهل مرو، وبعث الأحنف فِي أربعة آلاف إِلَى طخارستان فأقبل حَتَّى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمع لَهُ أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب، فكانوا ثلاثة زحوف، ثَلاثِينَ ألفا.
وأتى الأحنف خبرهم وما جمعوا لَهُ، فاستشار الناس فاختلفوا، فبين قائل: نرجع إِلَى مرو، وقائل: نرجع الى ابرشهر، وقائل: نقيم نستمد، وقائل: نلقاهم فنناجزهم.
قَالَ: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي فِي العسكر، ويستمع حديث الناس، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يتحدثون ويذكرون العدو، فَقَالَ بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح، حتى يلقى القوم حَيْثُ لقيهم- فإنه أرعب لَهُمْ- فيناجزهم فَقَالَ صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذَلِكَ فقد أخطأ وأخطأتم، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فِي بلادهم، فيلقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكن الرأي لَهُ أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أَصْحَابه فرجع الأحنف وَقَدِ اعتقد مَا قَالَ، فضرب عسكره، وأقام فأرسل اليه اهل مرو يعرضون عليه ان يقاتلو مَعَهُ، فَقَالَ إني أكره أن أستنصر بالمشركين، فأقيموا عَلَى مَا أعطيناكم، وجعلنا بيننا وبينكم، فإن ظفرنا فنحن عَلَى مَا جعلنا لكم، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.
قَالَ: فوافق الْمُسْلِمِينَ صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم، وصبر الفريقان حَتَّى أمسوا والأحنف يتمثل بشعر ابن جؤية الأعرجي:

أحق من لم يكره المنيه *** حزور ليست لَهُ ذريه

قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو الأشهب السعدي، عَنْ ابيه، قال: لقى الأحنف اهل مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان فِي الْمُسْلِمِينَ ليلا، فقاتلهم حَتَّى ذهب عامة الليل، ثُمَّ هزمهم اللَّه، فقتلهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى انتهوا إِلَى رسكن- وَهِيَ على اثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف- وَكَانَ مرزبان مرو روذ، قَدْ تربص بحمل مَا كَانُوا صالحوه عَلَيْهِ، لينظر مَا يكون من أمرهم.
قَالَ: فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إِلَى المرزبان، وأمرهما أَلا يكلماه حَتَّى يقبضاه ففعلا فعلم أَنَّهُمْ لم يصنعوا ذاك بِهِ إلا وَقَدْ ظفروا، فحمل مَا كَانَ عَلَيْهِ.
قَالَ علي: وأخبرنا المفضل الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سار الأقرع بن حابس إِلَى الجوزجان، بعثه الأحنف فِي جريدة خيل إِلَى بقية كَانَتْ بقيت من الزحوف الَّذِينَ هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال الْمُسْلِمُونَ جولة، فقتل فرسان من فرسانهم، ثُمَّ أظفر اللَّه الْمُسْلِمِينَ بهم فهزموهم وقتلوهم، فَقَالَ كثير النهشلي:

سقى مزن السحاب إذا استهلت *** مصارع فتية بالجوزجان
إِلَى القصرين من رستاق خوط *** اقادهم هناك الاقرعان
وهي طويله

ذكر صلح الأحنف مع اهل بلخ
وفي هَذِهِ السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ.
ذكر الخبر بِذَلِكَ:
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلب، قَالَ:
سار الأحنف من مرو الروذ إِلَى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها عَلَى أربعمائة ألف، فرضي مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ ابن عمه، وَهُوَ أسيد بن المتشمس ليأخذ مِنْهُمْ مَا صالحوه عَلَيْهِ، ومضى إِلَى خارزم، فأقام حَتَّى هجم عَلَيْهِ الشتاء، فَقَالَ لأَصْحَابه: مَا ترون؟ قَالَ لَهُ حصين: قَدْ قَالَ لك عَمْرو بن معديكرب، قَالَ: وما قَالَ؟ قَالَ: قَالَ:

إذا لم تستطع أمرا فدعه *** وجاوزه إِلَى مَا تستطيع

قَالَ: فأمر الأحنف بالرحيل، ثُمَّ انصرف إِلَى بلخ، وَقَدْ قبض ابن عمه مَا صالحهم عَلَيْهِ، وَكَانَ وافق وَهُوَ يجيبهم المهرجان، فأهدوا إِلَيْهِ هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فَقَالَ ابن عم الأحنف: هَذَا مَا صالحناكم عَلَيْهِ؟ قَالُوا: لا، ولكن هَذَا شَيْء نصنعه فِي هَذَا الْيَوْم بمن ولينا نستعطفه بِهِ، قَالَ: وما هَذَا الْيَوْم؟ قَالُوا: المهرجان، قَالَ: مَا أدري مَا هَذَا؟ وإني لأكره أن أرده، ولعله من حقي، ولكن أقبضه وأعزله حتى انظر فيه، فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فَقَالُوا لَهُ مثل مَا قَالُوا لابن عمه، فَقَالَ: آتي بِهِ الأمير، فحمله إِلَى ابن عَامِر، فأخبره عنه، فَقَالَ: اقبضه يَا أَبَا بحر، فهو لك؟ قَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، فَقَالَ ابن عَامِر: ضمه إليك يَا مسمار، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: فضمه القرشي وَكَانَ مضما.
قَالَ علي: وأخبرنا عَمْرو بن مُحَمَّد المري، عن أشياخ من بني مرة، أن الأحنف استعمل عَلَى بلخ بشر بن المتشمس.
قَالَ علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعث ابن عَامِر- حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ- خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي إِلَى هراة وباذغيس، فافتتحهما، ثُمَّ كفروا بعد فكانوا مع قارن.
قَالَ على: وأخبرنا مسلمه، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إِلَى ابن عَامِر قَالَ الناس لابن عَامِر: مَا فتح عَلَى أحد مَا قَدْ فتح عَلَيْك، فارس وكرمان وسجستان وعامة خُرَاسَان! قَالَ: لا جرم، لأجعلن شكري لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أن أخرج محرما معتمرا من موقفي هَذَا فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم عَلَى عُثْمَانَ لامه عَلَى إحرامه من خُرَاسَان، وَقَالَ: ليتك تضبط ذَلِكَ من الوقت الَّذِي يحرم مِنْهُ الناس! قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مسلمة، عن السكن بن قَتَادَة العريني، قَالَ: استخلف ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عَامِر منها فِي سنة اثنتين وثلاثين قَالَ: فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل فِي أربعين ألفا، فَقَالَ لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟
قَالَ: أَرَى أن تخلي البلاد فإني أميرها، ومعي عهد من ابن عَامِر، إذا كَانَتْ حرب بخراسان فأنا أميرها- وأخرج كتابا قَدِ افتعله عمدا- فكره قيس مشاغبته، وخلاه والبلاد، وأقبل إِلَى ابن عَامِر، فلامه ابن عَامِر، وَقَالَ: تركت البلاد حربا وأقبلت! قَالَ: جاءني بعهد مِنْكَ فَقَالَتْ لَهُ أمه: قَدْ نهيتك أن تدعهما فِي بلد، فإنه يشغب عَلَيْهِ.
قَالَ: فسار ابن خازم إِلَى قارن فِي أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك، فلما قرب من عسكره أمر الناس، فَقَالَ: ليدرج كل رجل مِنْكُمْ عَلَى زج رمحه مَا كَانَ مَعَهُ من خرقة أو قطن أو صوف، ثُمَّ أوسعوه من الودك من سمن أو دهن أو زيت أو إهالة ثُمَّ سار حتى إذا امسى قدم مقدمته ستمائه، ثُمَّ أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران فِي أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض قَالَ: وانتهت مقدمته إِلَى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل، ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس عَلَى دهش، وكانوا آمنين فِي أنفسهم من البيات، ودنا ابن خازم مِنْهُمْ، فرأوا النيران يمنة ويسرة، وتتقدم وتتأخر، وتتخفض وترتفع، فلا يرون أحدا فهالهم ذَلِكَ، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثُمَّ غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدو فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا، فزعم شيخ من بني تميم، قَالَ: كَانَتْ أم الصلت بن حريث من سبي قارن، وأم زياد بن الربيع مِنْهُمْ، وأم عون أبي عَبْد اللَّهِ بن عون الفقيه مِنْهُمْ.
قَالَ علي: حَدَّثَنَا مسلمة، قَالَ: أخذ ابن خازم عسكر قارن بِمَا كَانَ فِيهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فرضي وأقره عَلَى خُرَاسَان، فلبث عَلَيْهَا حَتَّى انقضى أمر الجمل، فأقبل إِلَى الْبَصْرَة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وَكَانَ مَعَهُ فِي دار سبيل.
قَالَ علي: وأخبرنا الْحَسَن بن رشيد، عن سُلَيْمَان بن كثير العمي الخزاعي، قَالَ: جمع قارن لِلْمُسْلِمِينَ جمعا كثيرا، فضاق المسلمون بامرهم، فقال قيس ابن الهيثم لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟ قَالَ: أَرَى أنك لا تطيق كثرة من قَدْ أتانا، فاخرج بنفسك إِلَى ابن عَامِر فتخبره بكثرة من قَدْ جمعوا لنا، ونقيم نحن فِي هَذِهِ الحصون ونطاولهم حَتَّى تقدم ويأتينا مددكم.
قَالَ: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا، وَقَالَ: قَدْ ولاني ابن عَامِر خُرَاسَان، فسار إِلَى قارن، فظفر بِهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فأقره ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان، فلم يزل أهل الْبَصْرَةِ يغزون من لَمْ يَكُنْ صالح من أهل خُرَاسَان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كانت الفتنة.