التاريخ غير متوفر لهذا الحدث ذكر ملك هرمز بن كسرى انوشروان

ثم ملك هرمز بن كسرى أنوشروان، وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، …

فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه عليهم مثل ذلك، ولما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه أشراف أهل مملكته، واجتهدوا في الدعاء له والشكر لوالده، فوعدهم خيرا وكان متحريا للسيرة في رعيته بالعدل، شديدا على العظماء لاستطالتهم كانت على الوضعاء، وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى ماه ليصيف، فأمر فنودي في مسيره ذلك في جنده وسائر من كان في عسكره أن يتحاموا مواضع الحروث ولا يضروا بأحد من الدهاقين فيها، ويضبطوا دوابهم عن الفساد فيها، ووكل بتعاهد ما يكون في عسكره من ذلك ومعاقبة من تعدى أمره.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه فرتع فيها وأفسد منها، فأخذ ذلك المركب، ودفع إلى الرجل الذي وكل هرمز بمعاقبة من أفسد أو دابته شيئا من المحارث وتغريمه فلم يقدر الرجل على انفاذ أمر هرمز في كسرى، ولا في أحد ممن كان معه في حشمه، فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فامر ان يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم كسرى، فخرج الرجل من عند هرمز لينفذ أمره في كسرى ومركبه ذلك، فدس له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلموه في ذلك فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلموه فيأمر بالكف عنه، ففعل فلقي أولئك الرهط هرمز وأعلموه أن بالمركب الذي أفسد ما أفسد زعارة، وأنه عار فوقع في محرثة، فأخذ من ساعة وقع فيها، وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وتبتيره لما فيها من سوء الطيرة على كسرى فلم يجبهم إلى ما سألوا من ذلك، وامر بالمركب فجدع أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى مثل ما كان يغرم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل من معسكره وكان هرمز ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن، وكان ممره على بساتين وكروم، وإن رجلا ممن ركب معه من أساورته اطلع في كرم فراى فيه حصرما، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلام كان معه، وقال له: اذهب بها إلى المنزل واطبخها بلحم واتخذ منها مرقة فإنها نافعة في هذا الإبان فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصرخ، فبلغ من إشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأ من كرمه، وافتدى نفسه بها، ورأى أن قبض الحافظ إياها منه وتخليته عنه، منة من بها عليه، ومعروف أسداه إليه وقيل إن هرمز كان مظفرا منصورا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان مع ذلك أديبا أريبا داهيا رديء النية، قد نزعه أخواله الأتراك، وكان مقصيا للأشراف، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر الف رجل وستمائه رجل، وإنه لم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم، وإنه حبس ناسا كثيرا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم ودرجاتهم، وجهز الجنود وقصر بالأساورة ففسد عليه كثير ممن كان حوله لما أراد الله من تغيير أمرهم وتحويل ملكهم، ولكل شيء سبب وإن الهرابذة رفعوا إليه قصة يبغون فيها على النصارى، فوقع فيها: إنه كما لا قوام لسرير ملكنا بقائمتيه المقدمتين دون قائمتيه المؤخرتين، فكذلك لأقوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من في بلادنا من النصارى وأهل سائر الملل المخالفة لنا، فأقصروا عن البغي على النصارى، وواظبوا على أعمال البر ليرى ذلك النصارى وغيرهم من أهل الملل والأديان، فيحمدوكم عليه، وتتوق أنفسهم إلى ملتكم وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: خرج على هرمز الترك- وقال غيره:
أقبل عليه شابة ملك الترك الأعظم- في ثلاثمائة ألف مقاتل، في سنة إحدى عشرة من ملكه، حتى صار إلى باذغيس وهراة وإن ملك الروم صار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وإن ملك الخزر صار في جمع عظيم إلى الباب والأبواب، فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب يقال لأحدهما: عباس الأحول، والآخر: عمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطئ الفرات، وشنوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداؤه عليه وغزوا بلاده، وبلغ من اكتنافهم إياها أنها سميت منخلا كثير السمام وقيل: قد اكتنف بلاد الفرس الأعداء من كل وجه كاكتناف الوتر سيتي القوس وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز وعظماء الفرس يؤذنهم بإقباله في جنوده، ويقول: رموا قناطر أنهار وأودية اجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهر من تلك الأنهار لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، لإجماعي بالمسير إليها من بلادكم فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع له على القصد لملك الترك، فوجه إليه رجلا من أهل الري يقال له بهرام بن بهرام جشنس- ويعرف بجوبين- في اثني عشر ألف رجل، اختاره بهرام على عينيه من الكهول دون الشباب ويقال: إن هرمز عرض ذلك الوقت من كان بحضرته من الديوانية، فكانت عدتهم سبعين ألف مقاتل، فمضى بهرام بمن ضم إليه مغذا حتى جاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا، فجرت بينهما رسائل وحروب، وقتل بهرام شابة برمية رماه إياها وقيل: إن الرمي في ملك العجم كان لثلاثة نفر، منها رمية أرششياطين بين منوشهر، وأفراسياب، ومنها رمية سوخرا في الترك، ومنها رمية بهرام هذه واستباح عسكره وأقام بموضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألح عليه حتى استسلم له، فوجهه إلى هرمز أسيرا، وغنم مما كان في الحصن وكانت كنوزا عظيمة.
ويقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجوهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام سطوة هرمز، وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود، فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وإن ابنه أبرويز أصلح للملك منه وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب إلى أذربيجان خوفا من هرمز، فاجتمع إليه هناك عدة من المرازبة والإصبهبذين، فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن، وفيهم بندي وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجا من قتله.
وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من أذربيجان إلى دار الملك مسابقا لبهرام، فلما صار إليها استولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهو على شاطئ النهروان، فجرت بينهما مناظره ومواقفه، ودعا أبرويز بهرام إلى أن يؤمنه ويرفع مرتبته ويسني ولايته، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروب اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثا بملكها بعد حرب شديدة وبيات كان من بعضهم لبعض وقيل إنه كان مع بهرام جماعة من الأشداء، وكان فيهم ثلاثة نفر من وجوه الأتراك لا يعدل بهم في فروسيتهم وشدتهم من الأتراك أحد، قد جعلوا لبهرام قتل أبرويز فلما كان الغد من ليلة البيات وقف أبرويز ودعا الناس إلى حرب بهرام فتثاقلوا عليه، قصده النفر الثلاثة من الأتراك، فخرج إليهم أبرويز فقتلهم بيده واحدا واحدا، ثم انصرف من المعركة وقد أحس من أصحابه بالفتور والتغير، فصار إلى أبيه بطيسبون حتى دخل عليه، وأعلمه ما قد تبينه من أصحابه وشاوره، فأشار عليه بالمصير إلى موريق ملك الروم ليستنجده، فأحرز حرمه في موضع أمن عليهم بهرام، ومضى في عدة يسيرة، منهم بندي وبسطام وكردي أخو بهرام جوبين حتى صار إلى أنطاكية، وكاتب موريق فقبله، وزوجه ابنة له كانت عزيزة عليه، يقال لها: مريم وكان جميع مدة ملك هرمز بن كسرى في قول بعضهم، إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ: كان ملكه اثنتي عشره سنه.

ذكر ملك كسرى ابرويز بن هرمز
ثم ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان، وكان من أشد ملوكهم بطشا، وأنفذهم رأيا، وأبعدهم غورا، وبلغ- فيما ذكر- من البأس والنجدة والنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز ومساعدة القدر ومساعفة الدهر إياه ما لم يتهيأ لملك أكثر منه، ولذلك سمي أبرويز، وتفسيره بالعربية: المظفر وذكر أنه لما استوحش من أبيه هرمز- لما كان من احتيال بهرام جوبين في ذلك، حتى أوهم هرمز أنه على أن يقوم بالملك لنفسه دونه- سار إلى أذربيجان مكتتما، ثم أظهر أمره بعد ذلك، فلما صار في الناحية اجتمعت إليه جماعة ممن كان هناك من الإصبهبذين وغيرهم، فأعطوه بيعتهم على نصرته، فلم يحدث في الأمر شيئا وقيل انه لما قتل آذين جشنس الموجه لمحاربة بهرام جوبين، انفض الجمع الذي كان معه حتى وافوا المدائن، واتبعهم جوبين، فاضطرب امر هرمز، وكتبت اخت آذين جشنس الى ابرويز- وكانت تربه- نخبره بضعف هرمز للحادث في آذين جشنس، وأن العظماء قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أن جوبين إن سبقه إلى المدائن قبل موافاته احتوى عليها.
فلما ورد الكتاب على أبرويز، جمع من أمكنه من أرمينية وأذربيجان، وصار بهم إلى المدائن، واجتمع إليه الوجوه والأشراف مسرورين بموافاته، فتتوج بتاج الملك، وجلس على سريره، وقال: إن من ملتنا إيثار البر، ومن رأينا العمل بالخير، وإن جدنا كسرى بن قباذ كان لكم بمنزلة الوالد، وإن هرمز أبانا كان لكم قاضيا عادلا، فعليكم بلزوم السمع والطاعة.
فلما كان في اليوم الثالث، أتى أباه فسجد له، وقال: عمرك الله أيها الملك! إنك تعلم أني بريء مما أتى إليك المنافقون، وإني إنما تواريت ولحقت بأذربيجان خوفا من إقدامك على القتل فصدقه هرمز وقال له: إن لي إليك يا بني حاجتين، فأسعفني بهما، إحداهما: أن تنتقم لي ممن عاون على خلعي والسمل لعيني، ولا تأخذك فيهم رأفة، والأخرى: أن تؤنسني كل يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأي، وتأذن لهم في الدخول علي فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أظلنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمد يدا إلى من آتى إليك ما آتى، فإن أدالني الله على المنافق، فأنا خليفتك وطوع يدك.
وبلغ بهرام قدوم كسرى وتمليك الناس إياه، فأقبل بجنده حثيثا نحو المدائن، وأذكى أبرويز العيون عليه، فلما قرب منه رأى أبرويز أن الترفق به أصلح، فتسلح وأمر بندويه وبسطام وناسا كان يثق بهم من العظماء وألف رجل من جنده، فتزينوا وتسلحوا، وخرج بهم أبرويز من قصره نحو بهرام، والناس يدعون له، وقد احتوشه بندويه وبسطام وغيرهما من الوجوه حتى وقف على شاطئ النهروان، فلما عرف بهرام مكانه، ركب برذونا له أبلق كان معجبا به، وأقبل حاسرا ومعه إيزدجشنس وثلاثة نفر من قرابة ملك الترك كانوا جعلوا لبهرام على أنفسهم أن يأتوه بأبرويز أسيرا، وأعطاهم بهرام على ذلك أموالا عظيمة ولما رأى بهرام بزة كسرى وزينته والتاج، يسايره معه درفش كابيان علمهم الأعظم منشورا، وأبصر بندويه وبسطام وسائر العظماء وحسن تسلحهم وفراهة دوابهم، اكتأب لذلك، وقال لمن معه: ألا ترون ابن الفاعلة قد ألحم وأشحم، وتحول من الحداثة إلى الحنكة، واستوت لحيته وكمل شبابه، وعظم بدنه! فبينا هو يتكلم بهذا وقد وقف غلى شاطئ النهروان.
إذ قَالَ كسرى لبعض من كان واقفا: أي هؤلاء بهرام؟ فقال أخ لبهرام يسمى كردي لم يزل مطيعا لأبرويز مؤثرا له: عمرك الله! صاحب البرذون الأبلق فبدأ كسرى فقال: إنك يا بهرام ركن لمملكتنا وسناد لرعيتنا، وقد حسن بلاؤك عندنا، وقد رأينا أن نختار لك يوما صالحا لنوليك فيه إصبهبذة بلاد الفرس جميعا، فقال له بهرام- وازداد من كسرى قربا-: لكني أختار لك يوما أصلبك فيه فامتلأ كسرى حزنا من غير أن يبدو في وجهه من ذلك شيء، وامتد بينهما الكلام، فقال بهرام لأبرويز: يا بن الزانية المربى في خيام الأكراد! هذا ومثله، ولم يقبل شيئا مما عرضه عليه، وجرى ذكر إيرش جد بهرام، فقرعه أبرويز بطاعة إيرش كانت لمنوشهر جده وتفرقا وكل واحد منهما على غاية الوحشة لصاحبه.
وكانت لبهرام أخت يقال لها كردية، من أتم النساء وأكملهن، وكان تزوجها، فعاتبت بهرام على سوء ملافظته كانت لكسرى، وأرادته على الدخول في طاعته، فلم يقبل ذلك، وكانت بين كسرى وبهرام مبايتة، فيقال إنه لما كان من غد الليلة التي كان البيات فيها، أبرز كسرى نفسه، فلما رآه الأتراك الثلاثة قصدوه، فقتلهم بيده أبرويز، وحرض الناس على القتال فتبين فشلا، فأجمع أبرويز على إتيان بعض الملوك للاستجاشة به، فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم، فأحرز نساءه وشخص في عدة يسيرة، فيهم بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام أن يرد هرمز إلى الملك ويكتب إلى ملك الروم عنه في ردهم فيتلفوا، فأعلموا أبرويز ذلك، واستأذنوه في إتلاف هرمز فلم يحر جوابا، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من كان معهم إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا: سر على خير طائر، فحثوا دوابهم وصاروا إلى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات التي في أطراف العمارة، فلما أوطنوا إلى الراحة غشيتهم خيل بهرام، يرأسها رجل يقال له بهرام بن سياوش، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك، فإن القوم قد أطلوك، قَالَ كسرى: ما عندي حيلة، فأعلمه بندويه أنه يبذل نفسه دونه، وسأله أن يدفع إليه بزته ويخرج ومن معه من الدير، ففعلوا ذلك، وبادروا القوم حتى تواروا بالجبل، فلما وافى بهرام بن سياوش، اطلع عليه من فوق الدير بندويه وعليه بزة أبرويز، فوهمه بذلك أنه أبرويز، وسأله أن ينظره إلى غده ليصير في يده سلما، فأمسك عنه، ثم ظهر بعد ذلك على حيلته، فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يدي بهرام بن سياوش.
ويقال إن بهرام دخل دور الملك بالمدائن، وقعد على سريره، واجتمع إليه الوجوه والعظماء فخطبهم ووقع في أبرويز، وذمه، ودار بينه وبين الوجوه مناظرات وكلام كان كلهم منصرفا عنه، إلا أن بهرام جلس على سرير الملك وتتوج وانقاد له الناس خوفا- ويقال إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين، وإن جوبين ظهر على ذلك فقتله، وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب موريق ملك الروم منها، وأرسل إليه بجماعة ممن كان معه وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك، وقادته الأمور إلى أن زوجه مريم ابنته وحملها إليه، وبعث إليه بثياذوس أخيه ومعه ستون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير أمرهم، ورجل آخر كانت قوته تعدل بقوة ألف رجل، واشترط عليه حياطته، وألا يسأله الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم فلما ورد القوم على أبرويز اغتبط، وأراحهم بعد موافاتهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرف عليهم العرفاء، وفي القوم ثياذوس وسرجس والكمي الذي يعدل بألف رجل، وسار بهم حتى صار إلى أذربيجان، ونزل صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذي الناحية يقال له موسيل في أربعين ألف مقاتل، وانقض الناس من فارس وأصبهان وخراسان إلى أبرويز، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمي الرومي ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردا من العسكر بأربعة عشر رجلا- منهم كردي أخو بهرام، وبندويه وبسطام، وسابور بن افريان بن فرخزاد، وفرخهرمز- حربا شديدا وصل فيها بعضهم إلى بعض والمجوس تزعم أن أبرويز صار إلى مضيق واتبعه بهرام، فلما ظن أنه قد تمكن منه، رفعه إلى الجبل شيء لا يوقف عليه وذكر أن المنجمين أجمعت أن أبرويز يملك ثمانيا وأربعين سنة وقد كان أبرويز بارز بهرام فاختطف رمحه من يده وضرب به رأسه حتى تقصف، فاضطرب على بهرام أمره ووجل، وعلم أنه لا حيلة له في أبرويز فانحاز نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرق في جنود الروم عشرين الف ألف وصرفهم إلى موريق ويقال إن أبرويز كتب للنصارى كتابا أطلق لهم فيه عمارة بيعهم وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من غير المجوس، واحتج في ذلك أن أنوشروان كان هادن قيصر في الإتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده، واتخاذ بيوت النيران هنالك وإن قيصر اشترط مثل ذلك في النصارى، ولبث بهرام في الترك مكرما عند الملك، حتى احتال له أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز، وجهه إلى الترك بجوهر نفيس وغيره حتى احتال لخاتون امراه الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتى دست لبهرام من قتله.
فيقال إن خاقان اغتم لقتله وأرسل إلى كردية أخته وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسألها أن تزوج نفسها نطرا أخاه، وطلق خاتون بهذا السبب، فيقال إن كردية أجابت خاقان جوابا لينا وصرفت نطرا، وإنها ضمت إليها من كان مع أخيها من المقاتلة وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، وإن نطرا التركي اتبعها في اثني عشر ألف مقاتل، وإن كردية قتلت نطرا بيدها ومضت لوجهها، وكتبت إلى أخيها كردي فأخذ لها أمانا من أبرويز فلما قدمت عليه تزوجها أبرويز واغتبط بها وشكر لها ما كان من عتابها لبهرام، وأقبل أبرويز على بر موريق وإلطافه.
وإن الروم خلعوا- بعد أن ملك كسرى أربع عشرة سنة- موريق وقتلوه وأبادوا ورثته- خلا ابن له هرب إلى كسرى- وملكوا عليهم رجلا يقال له قوفا.
فلما بلغ كسرى نكث الروم عهد موريق وقتلهم إياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن موريق اللاجئ إليه، وتوجه وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده في جنود كثيفة.
أما أحدهم فكان يقال له رميوزان، وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب، وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه وأما القائد الآخر- وكان يقال له شاهين، وكان فاذوسبان المغرب- فإنه سار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد نوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه وأما القائد الثالث فكان يقال له فرهان، وتدعى مرتبته شهربراز وإنه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفة الخليج القريب منها، وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبا مما انتهكوا من موريق، وانتقاما له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا قوفا الملك الذي كانوا ملكوه عليهم لما ظهر لهم من فجوره وجرأته على الله وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلا يقال له هرقل.
فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم، بكى إلى الله وتضرع إليه وسأله أن ينقذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس، عليه بزة، قائما في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إني قد أسلمته في يدك فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في حلمه جالس في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحب المجلس وأمكنه منه، وقال له: هأنذا قد دفعت إليك كسرى برمته، فاغزه فإن الظفر لك، وإنك مدال عليه ونائل أمنيتك في غزاتك فلما تتابعت عليه هذه الأحلام، قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم.
فأخبروه أنه مدال عليه، وأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنا له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذى فيه شهربراز، وسار حتى اوغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين بعد سنة، وكان شاهين- فاذوسبان المغرب- بباب كسرى حين ورد هرقل نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إياه عن ذلك الثغر، وكان شهربراز مرابطا للموضع الذي كان فيه لتقدم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسرى خبر تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين، فوجه لمحاربة هرقل رجلا من قواده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها- وكان كسرى حين بلغه خبر هرقل مقيما بدسكرة الملك- فنفذ راهزار لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره، فقطع هرقل دجلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فانصرفوا إليه وأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، وأيقن راهزار أنه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين ألف مقاتل، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدتهم، كل ذلك يجيبه كسرى في كتابه، أنه إن عجز عن أولئك الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته فلما تتابعت على راهزار جوابات كتبه إلى كسرى بذلك، عبى جنده وناهض الروم، فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزار وما نال هرقل من الظفر، فهده ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصن فيها لعجزه كان عن محاربة هرقل.
وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن، فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعد لقتاله، انصرف إلى أرض الروم وكتب كسرى إلى قواد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فيأمر أن يعاقب بقدر ما استوجب، فاحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف ما كان من أمر الروم في عمله وقد قيل: إن قول الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ، إنما نزل في أمر أبرويز ملك فارس وملك الروم هرقل، وما كان بينهما مما قد ذكرت من هذه الأخبار.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض قَالَ: وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة، فشق ذلك عليهم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم- وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» – إلى- «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال:
أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرن الله اعينكم، فو الله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا فقام إليه أبي بن خلف الجمحي، فقال: كذبت يا أبا فصيل! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله! فقال: أناحبك! عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء ابو بكر الى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، [فقال:
ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل] فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت، قَالَ:
لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قَالَ: قد فعلت.
حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، قَالَ: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى، فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيري علي أيهم أستعمل، قالت:
هذا فلان وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان وهو انفذ من سنان، وهذا شهربراز وهو أحلم من كذا، فاستعمل أيهم شئت، قال: فانى قد استعملت الحليم، فاستعمل شهربراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرب مدائنهم، وقطع زيتونهم.
قَالَ أبو بكر: فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال: أما رأيت بلاد الشام؟ قلت: لا، قَالَ: أما إنك لو أتيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته.
قَالَ عطاء الخراساني: حَدَّثَنِي يحيى بن يعمر، أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمه بجيش من الروم، وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى- وهي أدنى الشام إليكم- فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون، فأنزل الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» الآيات ثم ذكر مثل حديث عكرمة، وزاد: فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج، ثم مات كسرى فبلغهم موته، فانهزم شهربراز وأصحابه، وأديلت عليهم الروم عند ذلك فاتبعوهم يقتلونهم.
قَالَ: وقال عكرمة في حديثه: لما ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب، فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كسرى، فكتب الى شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان فكتب إليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، إن له نكاية وصوتا في العدو فلا تفعل فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفا منه، فعجل علي برأسه فراجعه، فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرخان.
ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة، وقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد له أخوه، فأعطه هذه الصحيفة فلما قرأ شهربراز الكتاب، قَالَ: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره وجلس فرخان، ودفع الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه، فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قَالَ: نعم، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! فرد الملك الى أخيه، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميا، فإني ألقاك في خمسين فارسيا، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه، إنه ليس معه إلا خمسون رجلا، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين، فدعوا ترجمانا بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي، فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك قَالَ: قد أصبتما، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال: اجل، فقتلا الترجمان جميعا بسكينهما، فأهلك الله كسرى، وجاء الخبر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ففرح ومن معه.
وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، أنه قَالَ: في سنة عشرين من ملك كسرى أبرويز، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر في سنه ثلاث وثلاثين من ملكه الى المدينة.