التاريخ غير متوفر لهذا الحدث ذكر ملك شيرويه بن ابرويز

ثم ملك من بعده ابنه شيرويه، واسمه قباذ بن أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان فذكر أن شيرويه لما ملك دخل عظماء الفرس عليه …

بعد حبسه أباه، فقالوا له: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان اثنان، فإما أن تقتل كسرى ونحن خولك الباخعون لك بالطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة على ما لم نزل نعطيه قبل أن تملك فهدت هذه المقالة شيرويه وكسرته، وأمر بتحويل كسرى من دار المملكة إلى دار رجل يقال له مارسفند فحمل كسرى على برذون، وقنع رأسه، وسير به إلى تلك الدار، ومعه ناس من الجند، فمروا به في مسيرهم على إسكاف جالس في حانوت شارع على الطريق، فلما بصر بفرسان من الجند معهم فارس مقنع، عرف أن المقنع كسرى، فحذفه بقالب، فعطف إليه رجل ممن كان مع كسرى من الجند، فاخترط سيفه فضرب عنق الإسكاف، ثم لحق بأصحابه.
فلما صار كسرى في دار مارسفند جمع شيرويه من كان بالباب من العظماء وأهل البيوتات، فقال: إنا قد رأينا أن نبدأ بالإرسال إلى الملك أبينا بما كان من إساءته في تدبيره ونوقفه على أشياء منها، ثم دعا برجل من أهل أردشير خرة يقال له اسفاذ جشنس، ولمرتبته رئيس الكتيبة، كان يلي تدبير المملكة، فقال له: انطلق إلى الملك أبينا، فقل له عن رسالتنا: إنا لم نكن للبلية التي أصبحت فيها ولا أحد من رعيتنا سببا، ولكن الله قضاها عليك جزاء منه لك بسيئ أعمالك، منها اجترامك إلى هرمز أبيك وفتكك به، وإزالتك الملك عنه، وسملك عينيه، وقتلك إياه شر قتلة، وما قارفت في أمره من الإثم العظيم ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في حظرك علينا مثافنة الأخيار ومجالستهم، وكل أمر يكون لنا فيه دعة وسرور وغبطة.
ومنها إساءتك كانت بمن خلدت السجون منذ دهر، حتى شقوا بشدة الفقر وضيق المعاش والغربة عن بلادهم وأهاليهم وأولادهم ومنها سوء نظرك في استخلاصك كان لنفسك من النساء وتركك العطف عليهن بمودة منك والصرف لهن إلى معاشرة من كن يرزقن منه الولد والنسل، وحبسك إياهن قبلك مكرهات ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة في اجتبائك إياهم الخراج، وما انتهكت منهم في غلظتك وفظاظتك عليهم ومنها جمعك الأموال التي اجتبيتها من الناس في عنف شديد، واستفساد منك إياهم، وإدخالك البلاء والمضار عليهم فيه ومنها تجميرك من جمرت في ثغور الروم وغيرهم من الجنود، وتفريقك بينهم وبين أهاليهم ومنها غدرك بموريق، ملك الروم، وكفرك إنعامه عليك فيما كان من إيوائه إياك، وحسن بلائه عندك، ودفعه عنك شر عدوك، وتنويهه باسمك في تزويجه إياك اكرم النساء من بناته عليه، وآثرهن عنده، واستخفافك بحقه، وتركك إطلابه ما طلب إليك من رد خشبة الصليب، التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة، علمته.
فإن كانت لك حجج تدلي بها عندنا وعند الرعية فأدل بها، وإن لم تكن لك حجة، فتب إلى الله من قريب، وأنب إليه حتى نأمر فيك بأمرنا.
فوعي أسفاذ جشنس رسالة كسرى شيرويه هذه، وتوجه من عنده إلى كسرى ليبلغه إياها، فلما توجه إلى الموضع الذي كان حبس فيه كسرى ألفى رجلا يقال له جيلنوس كان قائد الجند قد وكل بحراسة كسرى جالسا، فتحاورا ساعة، ثم سأل أسفاذ جشنس جلينوس أن يستأذن له على كسرى ليلقاه برسالة من شيرويه، فرجع جلينوس فرفع الستر الذي كان دون كسرى، فدخل عليه، وقال له: عمرك الله! ان اسفاذ جشنس بالباب، وذكر أن الملك شيرويه أرسله إليك في رسالة، وهو يستأذن عليك، فرأيك في الأمر فيه برأيك! فتبسم كسرى وقال مازحا: يا جلينوس اسفاذ ان، كلامك مخالف كلام أهل العقل، وذلك أنه إن كانت الرسالة التي ذكرت من شيرويه الملك فليس لنا مع ملكه إذن، وإن كان لنا إذن وحجب فليس شيرويه بملك، ولكن المثل في ذلك كما قيل: يشاء الله الشيء فيكون، ويأمر الملك بأمر فينفذ فاذن لاسفاذ جشنس يبلغ الرسالة التي حملها فلما سمع جلينوس هذه المقالة خرج من عند كسرى، وأخذ بيد اسفاذ جشنس، وقال له: قم فادخل إلى كسرى راشدا.
فنهض اسفاذ جشنس، ودعا بعض من كان معه من خدمه، ودفع اليه كساء كان لابسه، وأخرج من كمه ششتقة بيضاء نقية، فمسح بها وجهه، ثم دخل على كسرى، فلما عاين كسرى، خر له ساجدا، فأمره كسرى بالانبعاث، فانبعث وكفر بين يديه- وكان كسرى جالسا على ثلاثة أنماط من ديباج خسرواني منسوج بذهب، قد فرشت على بساط من إبريسم، متكئا على ثلاث وسائد منسوجه بذهب، وكان بيده سفرجلة صفراء شديدة الاستدارة فلما عاين اسفاذ جشنس، تربع جالسا ووضع السفرجلة التي كانت بيده على تكأته، فتدحرجت من أعلى الوسائد الثلاث لشدة استدارتها واملساس الوسادة التي كانت عليها، بامتلاء حشوها إلى أعلى تلك الأنماط الثلاثة، ومن النمط إلى البساط، ولم تلبث على البساط أن تدحرجت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخه بتراب، فتناولها اسفاذ جشنس فمسحها بكمه، وذهب ليضعها بين يدي كسرى، فأشار إليه أن ينحيها عنه، وقال له: اعزبها عنى، فوضعها اسفاذ جشنس عند طرف البساط إلى الأرض، ثم عاد فقام مقامه، وكفر بيده، فنكس كسرى، ثم قال متمثلا: الأمر إذا أدبر فاتت الحيلة في الإقبال به، وإذا أقبل أعيت الحيلة في الإدبار به، وهذان الأمران متداولان على ذهاب الحيل فيهما، ثم قال لاسفاذ جشنس: إنه قد كان من تدحرج هذه السفرجلة وسقوطها حيث سقطت، وتلطخها بالتراب وهو عندنا كالإخبار لنا بما حملت من الرسالة، وما أنتم عاملون به وعاقبته، فإن السفرجلة التي تأويلها الخير، سقطت من علو إلى سفل، ثم لم تلبث على مفرشنا أن سقطت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب، وذلك منها دليل في حال الطيرة:
أن مجد الملوك قد صار عند السوق، وأنا قد سلبنا الملك، وأنه لا يلبث في أيدي عقبنا أن يصير إلى من ليس من أهل المملكة، فدونك فتكلم بما حملت من رسالة، وزودت من الكلام.
فاندفع اسفاذ جشنس في تبليغ الرسالة التي حمله إياها شيرويه، ولم يغادر منها كلمة، ولم يزلها عن نسقها فقال كسرى في مرجوع تلك الرسالة: بلغ عني شيرويه القصير العمر، أنه لا ينبغي لذي عقل أن يبث من أحد الصغير من الذنب، ولا اليسير من السيئة إلا بعد تحقق ذلك عنده، وتيقنه إياه منه، فضلا عن عظيم ما بثثت ونشرت وادعيت منا، ونسبتنا إليه من الذنوب والجرائم، مع أن أولى الناس بالرد عن ذي ذنب، وتوبيخ ذي جرمة، من قد ضبط نفسه عن الذنوب والجرائم، ولو كنا على ما أضفتنا إليه لم يكن ينبغي أن تنشره وتؤنبنا به أيها القصير العمر القليل العلم، فإن كنت جاهلا بما يلزمك من العيوب ببثك منا ما بثثت، ونسبتك إيانا إلى ما نسبت، فاستثبت عيوبك واقتصر في الزري علينا، والعيب لنا على ما لا يزيدك بسوء مقالتك فيه إلا اشتهارا بالجهل، ونقص الرأي أيها العازب العقل، العديم العلم، فإنه إن كان لإجهادك نفسك في شهرك إيانا من الذنوب بما يوجب علينا القتل حقيقة، وكان لك على ذلك برهان، فقضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه، وينحونه عن مضامة الأخيار ومجالستهم، ومخالطتهم إلا في أقل المواطن فضلا عن أن يملك، مع أنه قد بلغ بحمد الله ونعمته من إصلاحنا أنفسنا ونيتنا فيما بيننا وبين الله وبيننا وبين أهل ملتنا وديننا، وبيننا وبينك وبين معشر أبنائنا ما ليس لنا في شيء من ذلك تقصير، ولا علينا فيه من أحد حجة ولا توبيخ، ونحن نشرح الحال فيما ألزمتنا من الذنوب، وألحقت بنا من الجرائم، عن غير التماس منا لذلك نقصا فيما أدلينا به من حجة، أو أتينا عليه من برهان، لتزداد علما بجهالتك وعزوب عقلك، وسوء صنيعك أما ما ذكرت من أمر أبينا هرمز، فمن جوابنا فيه أن الأشرار والبغاة كانوا أغروا هرمز بنا حتى اتهمنا واحتمل غمرا ووغرا ورأينا من ازوراره عنا، وسوء رأيه فينا، ما تخوفنا ناحيته، فاعتزلنا بابه لإشفاقنا منه، ولحقنا بأذربيجان، وقد استفاض، فانتهك من الملك ما انتهك فلما انتهى إلينا خبر ما بلغ منه شخصنا من أذربيجان إلى بابه، فهجم علينا المنافق بهرام في جنود عظيمة من العصاة المستوجبة القتل، مارقا من الطاعة، فأجلانا عن موضع المملكة فلحقنا ببلاد الروم، فأقبلنا منها بالجنود والعدة، وحاربناه فهرب منا، وصار من أمره في بلاد الترك من الهلكة والبوار إلى ما قد اشتهر في الناس، حتى إذا صفا لنا الملك، واستحكم لنا أمره، ودفعنا بعون الله عن رعيتنا البلاء والآفات التي كانوا أشفوا عليها، قلنا: إن من خير ما نحن بادئون به في سياستنا، ومفتتحون به ملكنا الانتقام لأبينا، والثأر به والقتل لكل من شرك في دمه، فإذا أحكمنا ما نوينا من ذلك، وبلغنا منه ما نريد تفرغنا لغيره من تدبير الملك، فقتلنا كل من شرك في دمه، وسعى فيه ومالأ عليه.
وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا، فمن جوابنا أنه ليس من ولد ولدناه- ما خلا من استأثر الله به منهم- إلا صحيحة أعضاء جسده، غير أنا وكلنا بالحراسة لكم، وكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم إرادة كف ما نتخوف من ضرركم على البلاد والرعية ثم كنا أقمنا من النفقات الواسعة في كسوتكم ومراكبكم وجميع ما تحتاجون إليه ما قد علمت، وأما أنت خاصة، فمن قصتك أن المنجمين كانوا قضوا في كتاب مولدك أنك مثرب علينا، أو يكون ذلك بسببك، فلم نأمر بقتلك، ولكن ختمنا على كتاب قضية مولدك، ودفعناه إلى شيرين صاحبتنا ومع ثقتنا بتلك القضية وجدنا فرميشا ملك الهند كتب إلينا في سنة ست وثلاثين من ملكنا، وقد أوفدهم إلينا، فكتب في أمور شتى، وأهدى لنا ولكم- معشر أبنائنا- هدايا، وكتب إلى كل واحد منكم كتابا، وكانت هديته لك- فاذكرها- فيلا، وسيفا، وبازيا أبيض، وديباجة منسوجة بذهب، فلما نظرنا فيما أهدي لكم، وكتب إليكم وجدته قد وقع على كتابه إليك بالهندية: اكتم ما فيه، فأمرنا أن يصرف إلى كل واحد منكم ما بعث إليه من هديه او كتاب، واحتبسنا كتابه إليك لحال التوقيع الذي كان عليه، ودعونا بكاتب هندي، وأمرنا بفض خاتم الكتاب وقراءته، فكان فيه: أبشر وقر عينا، وانعم بالا، فإنك متوج ماه آذر روز ديباذر سنه ثمان وثلاثين من ملك كسرى، ومملك على ملكه وبلاده، فوثقنا أنك لم تكن لتملك إلا بهلكنا وبوارنا، فلم ننتقصك- بما استقر عندنا من ذلك مما كنا أمرنا بإجرائه عليك من الأرزاق والمعاون والصلات وغير ذلك- شيئا، فضلا عن أمرنا بقتلك.
وأما كتاب فرميشا فقد ختمنا عليه بخاتمنا، واستودعناه شيرين صاحبتنا، وهي في الأحياء صحيحة العقل والبدن، فإن أحببت أن تأخذ منها قضية مولدك، وكتاب فرميشا إليك وتقرأهما لتكسبك قراءتك إياهما ندامة وثبورا فافعل وأما ما ذكرت من حال من خلد السجن فمن جوابنا فيه أن الملوك الماضين من لدن جيومرت إلى أن ملك بشتاسب، كانوا يدبرون ملكهم بالمعدلة، ولم يزالوا من لدن بشتاسب إلى أن ملكنا يدبرونه بمعدلة، معها ورع الدين، فسل إن كنت عديم عقل وعلم وأدب حملة الدين- وهم أوتاد هذه الملة- عن حال من عصى الملوك وخالفهم، ونكث عهدهم، والمستوجبين بذنوبهم القتل فيخبروك أنهم لا يستحقون أن يرحموا ويعفى عنهم واعلم مع ذلك أنا لم نأمر بالحبس في سجوننا، ولا من قد وجب عليه في القضاء العدل أن يقتل أو تسمل عينه، وتقطع يده ورجله وسائر أعضائه وكثيرا ما كان الموكلون بهم وغيرهم من وزرائنا يذكرون استيجاب من استوجب منهم القتل، ويقولون: عاجلهم بالقتل قبل أن يحتالوا لأنفسهم حيلا يقتلونك بها، فكنا لحبنا استبقاء النفوس وكراهتنا سفك الدماء نتأنى بهم، ونكلهم إلى الله، ولا نقدم على عقوبتهم بعد الحبس الذي اقتصرنا عليه، إلا على منعهم أكل اللحم وشرب الشراب، وشم الرياحين، ولم نعد في ذلك ما في سنن الملة من الحول بين المستوجبين للقتل، وبين التلذذ والتنعم بشيء مما منعناهم إياه، وكنا أمرنا لهم من المطعم والمشرب وسائر ما يقيمهم بالذي يصلحهم في اقتصاد، ولم نأمر بالحول بينهم وبين نسائهم والتوالد والتناسل في حال حبسهم وقد بلغنا أنك أجمعت على التخلية عن أولئك الدعار المنافقين المستوجبين للقتل، والأمر بهدم محبسهم، ومتى تخل عنهم تأثم بالله ربك، وتسيء إلى نفسك، وتخل بدينك وما فيه من الوصايا والسنن التي فيها صرف الرحمة والعفو عن المستوجبين للقتل، مع أن أعداء الملوك لا يحبون الملك أبدا، والعاصين لهم لا يمنحونهم الطاعة وقد وعظ الحكماء وقالوا: لا تؤخرن معاقبة المستوجبي العقوبة، فإن في تأخيرها مدفعة للعدل، ومضرة على المملكة في حال التدبير، ولئن نالك بعض السرور إن أنت خليت عن أولئك الدعار المنافقين العصاة المستوجبين للقتل لتجدن غب ذلك في تدبيرك، ودخول أعظم المضرة والبلية على أهل الملة.
وأما قولك: إنا إنما كسبنا وجمعنا وادخرنا الأموال والأمتعة والبزور وغيرها من بلاد مملكتنا بأعنف اجتباء، وأشد إلحاح على رعيتنا، وأشد ظلم، لا من بلاد العدو بالمجاهدة لهم والقهر، عن غلبة منا إياهم على ما في أيديهم، فمن جوابنا فيه إن من إصابة الجواب في كل كلام يتكلم بجهل وعنجهية ترك الجواب فيه، ولكن لم ندع- إذ صار ترك الجواب كالاقرار، وطافت حجتنا فيما غشينا أن نحتج به، قوية، وعذرنا واضحا- شرح ما سألتنا عنه من ذلك.
اعلم أيها الجاهل، أنه إنما يقيم ملك الملوك بعد الله الأموال والجنود وبخاصة ملك فارس، الذي قد اكتنفت بلاده أعداء فاغرة أفواههم لالتقام ما في يديه، وليس يقدر على كفهم عنها، وردعهم عما يريدون من اختلاس ما يرومون اختلاسه منه، إلا بالجنود الكثيفة، والأسلحة والعدد الكثيرة، ولا سبيل له إلى الكثيف من الجنود والكثير مما يحتاج إليه إلا بكثرة الأموال ووفورها، ولا يستكثر من الأموال ولا يقدر على جمعها لحاجة إن عرضت له إليها إلا بالجد والتشمير في اجتباء هذا الخراج وما نحن ابتدعنا جمع الأموال، بل اقتدينا في ذلك بآبائنا والماضين من أسلافنا، فإنهم جمعوها كجمعنا إياها، وكثروها ووفروها لتكون ظهرا لهم على تقوية جنودهم وإقامة أمورهم، وغير ذلك مما لم يستغنوا عن جمعها له فأغار على تلك الأموال وعلى جوهر كان في خزائننا، المنافق بهرام في عصابة مثله وفتاك مستوجبين القتل، فشذبوها وبذروها وذهبوا بما ذهبوا به منها، ولم يتركوا في بيوت أموالنا وخزائننا إلا أسلحة من أسلحتنا لم يقدروا على تشذيبها والذهاب بها، ولم يرغبوا فيها فلما ارتجعنا بحمد الله ملكنا، واستحكمت أمورنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة، ودفعنا عنهم البوائق التي كانت حلت بهم، ووجهنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين، وولينا دونهم على تلك النواحي فاذوسبانين، واستعملنا على ثغورنا مرازبة وولاة ذوي صرامة ومضاء وجلد، وقوينا من ولينا من هؤلاء بالكثيف من الجنود، أثخن هؤلاء الولاة من كان بإزائهم من الملوك المخالفين لنا والعدو وبلغ من غاراتهم عليهم، وقتلهم من قتلوا، وأسرهم من أسروا منهم، من سنة ثلاث عشرة من ملكنا، ما لم يقدر الرجل من أولئك على إطلاع رأسه في حرم بلاده إلا بخفير، أو خائفا، أو بأمان منا، فضلا عن الإغارة على شيء من بلادنا، والتعاطي لشيء مما كرهنا، ووصل في مدة هذه السنين إلى بيوت أموالنا وخزائننا مما غنمنا من بلاد العدو من الذهب والفضة وأنواع الجوهر، ومن النحاس والفرند والحرير والإستبرق والديباج والكراع والأسلحة والسبي والأسراء ما لم يخف عظم خطر ذلك وقدره على العامة، فلما أمرنا في آخر سنة ثلاث عشرة من ملكنا بنقش سكك حديثة، لنأمر فيستأنف ضرب الورق بها، وجد في بيوت أموالنا- على ما رفع إلينا المحصون لما كان فيها من الورق سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جنودنا من الورق- مائتا الف بدره، فيها ثمانمائه ألف ألف مثقال فلما رأينا أنا قد حصنا ثغورنا، وردعنا العدو عنها وعن رعيتنا، وجمعنا مشتت أمرنا، وكعمنا أفواههم الفاغرة كانت لالتقام ما في أيديهم، وبسطنا فيهم الأمن، وأمنا على نواحي بلادنا الأربع ما كان أهلها فيه من البوائق والمغار، أمرنا باجتباء بقايا السنين، وما انتهب من بيوت أموالنا من ذهب وفضة، ومن خزائننا من جوهر أو نحاس، ورد ذلك كله إلى موضعه، حتى إذا كان في آخر سنه ثلاثين من ملكنا أمرنا بنقش سكك حديثة، يضرب عليها الورق، فوجد في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جندنا، والأموال التي أحصيت لنا قبل ذلك من الورق أربعمائة ألف بدرة، يكون ما فيها ألف ألف الف مثقال وستمائه ألف ألف مثقال، وذلك سوى ما زادنا الله إلى تلك الأموال، مما أفاء الله بمنه وطوله علينا من أموال ملوك الروم، في سفن أقبلت بها إلينا الريح، فسميناها فيء الرياح، ولم تزل أموالنا من سنة ثلاثين من ملكنا إلى سنة ثمان وثلاثين من ملكنا، التي هي هذه السنة تزداد كثرة ووفورا، وبلادنا عمارة، ورعيتنا أمنا وطمأنينة، وثغورنا وأطرافنا مناعة وحصانة، وقد بلغنا أنك هممت- لرذولة مروءتك- أن تبذر هذه الأموال وتتويها، عن رأي الأشرار العتاة المستوجبين للقتل.
ونحن نعلمك أن هذه الكنوز والأموال لم تجمع إلا بعد المخاطرة بالنفوس، وبعد كد وعناء شديد، لندفع بها العدو المكتنفين لبلاد هذه المملكة، المتقلبين إلى غلبتهم على ما في أيديهم وإنما يقدر على كف أولئك العدو في الأزمان والدهور كلها، بعد عون الله بالأموال والجنود، ولن تقوى الجنود إلا بالأموال، ولا ينتفع بالأموال إلا على كثرتها ووفورها، فلا تهمن بتفرقة هذه الأموال، ولا تجسرن عليها، فإنها كهف لملكك وبلادك، وقوة لك على عدوك.
ثم انصرف اسفاذ جشنس إلى شيرويه فقص عليه ما قال له كسرى، ولم يسقط منه حرفا، وإن عظماء الفرس عادوا فقالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان، فإما أن تأمر بقتل كسرى، ونحن خولك، المانحوك الطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة فهدت شيرويه هذه المقالة وكسرته، وأمر بقتل كسرى، فانتدب لقتله رجال كان وترهم كسرى، فكلما أتاه الرجل منهم شتمه كسرى وزبره فلم يقدم على قتله أحد، حتى أتاه شاب يقال له مهر هرمز بن مردان شاه ليقتله، وكان مردان شاه فاذوسبانا لكسرى على ناحية نيمروذ، وكان من أطوع الناس لكسرى وأنصحهم له، وإن كسرى سأل قبل أن يخلع بنحو من سنتين منجميه وعافته عن عاقبة أمره، وأخبروه أن منيته آتيه من قبل نيمروذ فاتهم مردان شاه، وتخوف ناحيته لعظم قدره، وأنه لم يكن في تلك الناحية من يعدله في القوة والقدرة.
فكتب إليه أن يعجل القدوم عليه، حتى إذا قدم عليه أجال الرأي في طلب علة يقتله بها، فلم يجد عليه عثرة، وتذمم من قتله لما علم من طاعته إياه، ونصيحته له، وتحريه مرضاته فرأى أن يستبقيه، ويأمر بقطع يمينه، ويعوضه منها أموالا عظيمة يجود له بها، فبغى عليه من العلل ما قطع يمينه، وإنما كانت تقطع الأيدي والأرجل وتقطع الأعناق في رحبة الملك.
وإن كسرى أرسل يوم أمر بقطع يده عينا ليأتيه بخبر ما يسمع من مردان شاه وممن بحضرته من النظارة، وان مردان شاه لما قطعت يمينه قبض عليها بشماله، فقبلها ووضعها في حجره، وجعل يندبها بدمع له دار ويقول:
وا سمحتاه! وا راميتاه! وا كاتبتاه! وا ضاربتاه! وا لاعبتاه! وا كريمتاه! فانصرف إلى كسرى الرجل الذي كان وجهه عينا عليه، فأخبره بما رأى وسمع منه، فرق له كسرى، وندم على إتيانه في أمره ما أتى، فأرسل إليه مع رجل من العظماء يعلمه ندامته على ما كان منه، وأنه لن يسأله شيئا يجد السبيل إلى بذله له إلا أجابه إليه، وأسعفه به.
فأرسل إلى كسرى مع ذلك الرسول يدعو له، ويقول: إني لم أزل أعرف تفضلك علي أيها الملك، وأشكره لك، وقد تيقنت أن الذي أتيت إلي مع كراهتك إياه، إنما كان سببه القضاء، ولكني سائلك أمرا فأعطني من الأيمان على إسعافك إياي به ما اطمان إليه، وليأتني بيقين حلفك على ذلك رجل من النساك، فأفرشك إياه وأبثه لك فانصرف رسول كسرى إلى كسرى بهذه الرسالة، فسارع الى ما ساله مردان شاه، وحلف بالأيمان المغلظة ليجيبنه إلى ما هو سائله، ما لم تكن مسألته أمرا يوهن ملكه وأرسل إليه بهذه الرسالة مع رئيس المزمزمين، فأرسل اليه مردان شاه يسأله أن يأمر بضرب عنقه ليمتحي بذلك العار الذي لزمه، فأمر كسرى فضربت عنقه كراهة منه للحنث، زعم.
وان كسرى سال مهر هرمز بن مردان شاه، حين دخل عليه عن اسمه، وعن اسم ابيه ومرتبته فاخبره انه مهر هرمز بن مردان شاه، فاذوسبان نيمروذ، فقال كسرى: أنت ابن رجل شريف كثير الغناء، قد كافأناه على طاعته إيانا، ونصيحته لنا، وغنائه عنا بغير ما كان يستحقه، فشأنك وما أمرت به فضرب مهر هرمز على حبل عاتقه بطبرزين كان بيده ضربات فلم يحك فيه، ففتش كسرى فوجد قد شد في عضده خرزه لا يحيك السيف في كل من تعلقها فنزعت من عضده، ثم ضربه بعد ذلك مهر هرمز ضربة فهلك منها.
وبلغ شيرويه فخرق جيبه وبكى منتحبا، وامر بحمل جثته الى الناووس فحملت، وشيعها العظماء وأفناء الناس.
وأمر فقتل قاتل كسرى، وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، وكان قتله ماه آذر روز ماه وقتل شيرويه سبعة عشر أخا له ذوي أدب وشجاعة ومروءة، بمشورة وزيره فيروز، وتحريض ابن ليزدين- والى عشور الآفاق كان لكسرى، يقال له شمطا- اياه على قتلهم، فابتلي بالأسقام ولم يلتذ بشيء من لذات الدنيا، وكان هلاكه بدسكرة الملك، وكان مشئوما على آل ساسان، فلما قتل إخوته جزع جزعا شديدا ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من اليوم الذي قتلهم فيه، دخلت عليه بوران وآزرميدخت أختاه فأسمعتاه وأغلظتا له، وقالتا: حملك الحرص على ملك لا يتم، على قتل أبيك وجميع إخوتك، وارتكبت المحارم! فلما سمع ذلك منهما بكى بكاء شديدا، ورمى بالتاج عن رأسه، ولم يزل أيامه كلها مهموما مدنفا ويقال: إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته، وإن الطاعون فشا في أيامه حتى هلك الفرس إلا قليلا منهم وكان ملكه ثمانية اشهر.