ذو الحجة 17 هـ
كانون الاول 638 م
ذكر فتح الجزيرة

وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- افتتحت الجزيرةفي رواية سيف وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، …

وذكر من سبب فتحها ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة عنه، أن عمر كتب إلى سعد بْن أبي وقاص: إن اللَّه قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمر عليهم أحد الثلاثة: خالد بْن عرفطة، أو هاشم بْن عتبة، أو عياض بْن غنم.
فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخر أمير المؤمنين عياض بْن غنم آخر القوم إلا انه له فيه هوى ان أوليه، وأنا موليه فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعري، وابنه عمر بْن سعد- وهو غلام حدث السن ليس إليه من الأمر شيء- وعثمان بْن أبي العاص بْن بشر الثقفي، وذلك في سنة تسع عشرة فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران حين صالحت الرهاء، فصالحه أهلها على الجزية ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، ووجه عمر بْن سعد إلى رأس العين في خيل رداء للمسلمين، وسار بنفسه في بقية الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنه تسع عشره ثم وجه عثمان بْن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شيء من قتال، أصيب فيه صفوان بْن المعطل السلمي شهيدا.
ثم صالح أهلها عثمان بْن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل.
وأما في رواية سيف، فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا:
خرج عياض بْن غنم في أثر القعقاع، وخرج القواد- يعني حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبي عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص- فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها،
فسلك سهيل بْن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه، وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة، فرأى أن يقبل منهم، فبايعوه وقبل منهم، وكان الذي عقد لهم سهيل بْن عدي عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى أتى نصيبين، فلقوه بالصلح، وصنعوا كما صنع أهل الرقة، وخافوا مثل الذي خافوا، فكتبوا إلى عياض، فرأى أن يقبل منهم، فعقد لهم عبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج الوليد بْن عقبة حتى قدم على بني تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم الا اياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقليتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بْن الخطاب.
ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلا وعبد اللَّه إليه فسار بالناس إلى حران، فأخذ ما دونها فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذمة ثم إن عياضا سرح سهيلا وعبد اللَّه إلى الرهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بْن غنم:

من مبلغ الأقوام أن جموعنا *** حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا *** عمن بحمص غيابه القدام
إن الأعزة والأكارم معشر *** فضوا الجزيرة عن فراخ الهام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا *** عن غزو من يأوي بلاد الشام

ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمد عياض بْن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مددا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بْن غنم إذ ضم خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بْن عدي وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بْن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بْن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما.
قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم:
إنه بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى، ثم لنخرجنهم إليك فأخرجهم ملك الروم، فخرجوا فتم منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبي عدي بْن زياد، وخنس بقيتهم، فتفرقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف، وأبى الوليد بْن عقبة أن يقبل من بني تغلب إلا الإسلام، فقالوا له: أما من نقب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأما من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا ينصروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا فقبل منهم على ألا ينصروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلا الجزاء، فرضي منهم بما رضي من العباد وتنوخ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَيْفٍ التغلبى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ عَاهَدَ وَفْدَهُمْ عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ عَلَى الْوَفْدِ وَعَلَى مَنْ وَفَدهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ قَالَ مُسْلِمُوهُمْ: لا تَنْفُرُوهُمْ بِالْخَرَاجِ فَيَذْهَبُوا، وَلَكِنْ أَضْعِفُوا عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونَ جَزَاءً، فَإِنَّهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا مَوْلُودًا إِذَا أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ.
فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَعَثَ الوليد اليه برءوس النصارى وبديانيهم، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا الْجِزْيَةَ، فَقَالُوا: لِعُمَرَ: أَبْلِغْنَا مَأْمَنَنَا، وَاللَّهِ لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجَزَاءَ لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ، وَاللَّهِ لَتَفْضَحَنَّا مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ فَضَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أُمَّتَكُمْ فِيمَنْ خَالَفَ وَافْتَضَحَ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ، وَتَاللَّهِ لتؤدُّنَّه وَأَنْتُمْ صَغَرَةٌ قَمَأَةٌ، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ لأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ، ثُمَّ لأُسْبِيَنَّكُمْ قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا شَيْئًا وَلا تُسَمِّهِ جَزَاءً، فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ جَزَاءً، وَسَمُّوهُ أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ [فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ يُضْعِفْ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الصَّدَقَةَ؟] قَالَ: بَلَى، وَأَصْغَى إِلَيْهِ، فَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ جَزَاءً، فَرَجَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي بَنِي تَغْلِبَ عِزٌّ وَامْتِنَاعٌ، وَلا يَزَالُونَ يُنَازِعُونَ الْوَلِيدَ، فَهَمَّ بِهِمُ الْوَلِيدُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:

إِذَا مَا عَصَبْتُ الرَّأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ *** فَغَيّكَ مِنِّي تَغْلِبَ ابْنَةَ وَائِلِ

وَبَلَغَتْ عَنْهُ عُمَرَ، فَخَافَ أَنْ يَحْرِجُوهُ وَأَنْ يَضْعُفَ صَبْرُهُ فَيَسْطُو عَلَيْهِمْ، فَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ فُرَاتَ بْنَ
حَيَّانَ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو الْجَمَلِيَّ، وَخَرَجَ الْوَلِيدُ وَاسْتَوْدَعَ إِبِلا لَهُ حُرَيْثَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ بْنِ تَيْمٍ مِنْ بَنِي تغلب، وكانت مائه من الإبل فاختانها بعد ما خَرَجَ الْوَلِيدُ.
وَكَانَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ فِي سَنَةِ سبع عشره في ذي الحجه.