1 ق.هـ
621 م
ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس

اعلم أنه لا خلاف في الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة …

عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو الثلاثين: أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، فجعل كل حديث إسراء. واتفق العلماء على أن الإسراء كان بعد البعثة اهـ: أي الإسراء الذي كان في اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم» لأن ذلك كان في نومه بروحه، فكان هذا الإسراء توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين، واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقي بروحه، وتلك الليلة: أي التي كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة، وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي وعليه عمل الناس، وقيل في شوّال، وقيل في ذي الحجة.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كلها كانت في تلك الليلة التي وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل، وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم، وادعى فيه الإجماع، وقيل بسنتين؛ وقيل بثلاث سنين، وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق، وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وفيه نظر ظاهر.
واختلف في اليوم الذي يسفر عن ليلتهما، قيل الجمعة، وقيل السبت. وقال ابن دحية: يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين فليتأمل.
عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها: أي واسمها على الأشهر فاختة، وسيأتي في فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس: أي في الظلام بعيد الفجر وأنا على فراشي، فقال: «أي علمت أني نمت الليلة في المسجد الحرام أي عند البيت أو في الحجر» وهو المراد بالحطيم الذي وقع في بعض الروايات، وفي رواية «فرج سقف بيتي» .
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون السر في ذلك أي في انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم، فكأنّ الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفية ما سيصنع به، لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم: أي زيادة تمهيد وتثبيت له، وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة، وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ، قالت: فقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش» .
أي وحكى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه، ووصل العباس إلى ذي طوى، وجعل يصرخ يا محمد، فأجابه «لبيك لبيك»، فقال: يا بن أخي عنيت قومك فأين كنت؟ قال: «ذهبت إلى بيت المقدس» قال: من ليلتك؟ قال «نعم»، قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: «ما أصابني إلا خير» ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق في ذلك المحل.
وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها قالت «ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلم كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أقامنا من نومنا» ومن ثم جاء في رواية: نبهنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: «يا أم هانئ لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين» الحديث.
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التي كان يصليها وهي الركعتان في الوقتين المذكورين، وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التي هي صلاة الغداة لم يكونا فرضا، وفي قولها «وصلينا معه» نظر لما تقدم، ويأتي أنها لم تسلم إلا يوم الفتح، ثم رأيت في مزيل الخفاء: وأما قولها يعني أم هانئ وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة كذا أجاب.
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها، أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل، فقال صلى الله عليه وسلم «إن جبريل أتاني» وفي رواية «أسرى به من شعب أبي طالب» قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته الذي هو بيت أم هانئ لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجد وكان به أثر النعاس: أي فاضطجع فيه عند الحجر» فيصح قوله صلى الله عليه وسلم: نمت الليلة في المسجد الحرام إلى آخره.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، أي وهو مضطجع في المسجد في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر رضي الله تعالى عنهما، فقال أحدهم: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم، فاستلقوه على ظهره، فتولاه منهم جبريل، فشق من ثغرة نحره» وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين «إلى أسفل بطنه» أي وفي رواية «إلى مراق بطنه» وفي رواية «إلى شعرته» أي أشار إلى ذلك؟ فانشق فلم يكن الشق في المرات كلها بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به في بعض الروايات، لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات «ثم قال جبريل، لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح صدره، فاستخرج قلبه: أي فشقه، فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى» وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التي نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع في بني سعد بناء على تجزئتها كما تقدم في المرة الثانية، وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث، فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها. والذي ينبغي أن يكون نزع تلك العلقة إنما هو في المرة الأولى والواقع في غيرها إنما هو إخراج الأذى، وأنه غير تلك العلقة، وأن المراد به ما يكون في الجبليات البشرية، وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه، وذكر العلقة في المرة الأولى، وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة.
«واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا» أي نفس الحكمة والإيمان، لأن المعاني قد تمثل بالأجسام، أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك، والمراد كمالهما، فلا ينافي ما تقدم في قصة الرضاع أنه ملئ حكمة وإيمانا. «ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه، ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة» وتقدم في قصة الرضاع أن في رواية أن الختم كان في قلبه، وفي أخرى أنه كان في صدره، وفي أخرى أنه كان بين كتفيه، وتقدم الكلام على ذلك. وأنكر القاضي عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبي في بني سعد، وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا، أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين. ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة، أي زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم في بني سعد، وأبدى لكل من الثلاثة حكمة، وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة، وتقدم ما فيه.
أقول: ويمكن أن يكون إنكار القاضي عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذي جاء في بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء، وقال الملك: هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة، وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافي قول الملك هذا حظ الشيطان منك، إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أي بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك، والأولى ما قدمناه في ذلك. ثم لا يخفى أنه ورد «غسل صدري» وفي رواية «قلبي» .
وقد يقال: الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا، فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى، أي وتقدم في مبحث الرضاع في رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه، وفي أخرى شق صدره ثم قلبه، وفي أخرى الاقتصار على شق صدره، وفي أخرى الاقتصار على شق قلبه، وتقدم أن المراد بالبطن الصدر، وليس المراد بأحدهما القلب.
وفي كلام غير واحد ما يقتضي أن المراد بالصدر القلب، ومن ثم قيل: هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم، أو وقع لغيره من الأنبياء؟ وأجيب بأنه جاء في قصة تابوت بني إسرائيل الذي أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض «فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرسل، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من ياقوتة حمراء، ثلاثة أذرع في ذراعين» وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم كان عند إسماعيل ثم عند ابنه قيدار، فنازعه ولد إسحاق، ثم أمر من السماء أن يدفعه إلى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له، ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقاها، وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذي غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك مقتض لعدم الخصوصية «وكان هذا التابوت إذا اختلفوا في شيء سمعوا منه ما يفصل بينهم، وما قدموه أمامهم في حرب إلا نصروا، وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بدّ أن يقتل أو ينهزم الجيش» .
وفي الخصائص للسيوطي: ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله شق صدره في أحد القولين وهو الأصح. وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر، لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت في الأحاديث، وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت، وليس فيها تعرض للتكرار، ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب، وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر في كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا، إذ ليس في قصة التابوت ما يدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أثر يدلّ على ذلك، وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمه الشق، بل يجوز أن يكون غسله من خارج، وقد أحلنا على هذا الجمع في بحث الرضاع، وبهذا يردّ ما قدمناه من قول الشمس الشامي: الراجح المشاركة، ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعد الفحص الشديد فليتأمل.
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزآ سماه «نور البدر فيما جاء في شق الصدر» ولم أقف عليه، والله أعلم.
«قال فأتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فذهب بي إلى باب المسجد» أي وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا؛ فعدت لمضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فأخذ بعضدي، فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد» .
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه، إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه يعضديه، فإذا دابة أبيض» أي ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه، وقيل: قيل له ذلك لسرعته، أي فهو كالبرق، وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود، أي يقال شاة برقاء: إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء: أي وهي العفراء، ومن ثم جاء في الحديث «أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين» أي ضحوا بالبلقاء وهي العفراء لكن في الصحاح الأعفر الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء: يعلو بياضها حمرة، ولغلبة بياض شعره على سوداه أو حمرته قيل أبيض، ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر، وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك، أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك، ويدل له قول بعضهم: إنه ذو لونين، أي بياض وسواد، والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر، وهذه الرواية طوي فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر، وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر، وأنهم احتملوه إلى زمزم، وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم «وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل، مضطرب الأذنين» أي طويلهما «أي وكان مسرجا ملجما» كما في بعض الروايات «فركبته، فكان يضع حافره مد بصره» أي حيث ينتهي بصره.
وفي رواية «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها، إذا أخذ في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، إذا أخذ في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه» أي وقد ذكر هذا الوصف في فرس فرعون موسى. فقد قيل: كان لفرعون أربع عجائب، فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار، وقامته سبعة أشبار، فكانت لحيته أطول منه بشبر، وكان له فرس، وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه، وإذا انحدر يكون على ضد ذلك. وفي رواية «أن البراق خطوه مد البصر» قال ابن المنير: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة، لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات انتهى، أي لأن بصر من يكون في سماء الدنيا يقع على السماء فوقها وهكذا، وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق، وسيأتي ما فيه.
قال صلى الله عليه وسلم «فلما دنوت منه اشمأز: أي نفر» وفي رواية «فاستصعب ومنع ظهره أن يركب؛ فقال جبريل: اسكن، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد» وفي رواية «في فخذيها» أي تلك الدابة التي هي البراق «جناحان تحفز بهما» أي تدفع بهما «رجليهما» ففي اللغة: الحفز: الحث والإعجال «فلما دنوت لأركبها شمست» أي نفرت ومنعت ظهرها. وفي رواية «شمس» ، وفي رواية «صرّت أذنيها» أي جمعتهما، وذلك شأن الدابة إذا نفرت «فوضع جبريل يده على معرفتها، ثم قال: ألا تستحيين يا براق مما تصنعين؟ والله ما ركب عليك أحد» وفي رواية «عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه، فاستحيت حتى أرفضت عرقا» أي كثر عرقها وسال «ثم قرت حتى ركبها» أي وفي رواية «فقال جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله من الأنبياء» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم.
ففي البيهقي «وكانت الأنبياء تركبها قبلي» وعند النسائي «وكانت تسخر للأنبياء قبلي، وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت في الفترة بين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضي أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك في بعض الروايات، أي والمتبادر منها أنها التي بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام، فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى، وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبي.
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أي عيسى ومن قبله ركبوه. قال الإمام النووي: القول باشتراك جميع الأنبياء في ركوبها يحتاج إلى نقل صحيح، هذا كلامه.
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتي في بعض الروايات «فربطه بالحلقة التي توثق بها الأنبياء» وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة، إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها.
ثم رأيت في رواية البيهقي «فأوثقت دابتي» يعني البراق «التي كانت الأنبياء تربطها فيه» ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله: ما من رسول إلا وقد أسري به راكبا على ذلك البراق، هذا كلامه، وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعني إسماعيل على البراق إلى مكة.
وفي تاريخ الأزرقي: وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق، فعن سعيد بن المسيب وغيره «أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كان يزور عليها البيت الحرام» وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووي، فقول جبريل عليه الصلاة والسلام «ما ركبك» ونحوه لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع، ومن ثم قال في الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق في أحد القولين، أي وقيل إن الذي خص به هو ركوبه مسرجا ملجما.
وفي المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل: لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما مسيته إلا أني مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله»، فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أي لمجرد مرورك عليه، وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد.
وقال الحافظ ابن حجر: إنه من الأخبار الواهية. وقال مغلطاي: لا ينبغي أن يذكر ولا يعزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال فرس شموس: أي صعبة، ولا يقال شموسة، وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لا نطيل بذكره.
قال: وعن الثعلبي بسند ضعيف في صفة البراق عن ابن عباس «له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر» أي وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك في الرواية السابقة «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها» مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر.
وفي كلام بعضهم في صفة البراق «وجهه كوجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور، وذنبه كذنب الغزال، لا ذكر ولا أنثى» اهـ، ومن ثم وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى، فهي حقيقة ثالثة، ويكون خارجا من قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن} [الذّاريات:49] كما خرجت من ذلك الملائكة، فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا.
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذني الفيل، وعنقها كعنق البعير. وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر، فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس، وذنبها كذنب البعير. ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقني» أي وفي رواية «أنه ركب معه البراق» وفي الشفاء «ما زايلا ظهر البراق حتى رجعا» وفي رواية «ركبت البراق خلف جبريل» أي وفي صحيح ابن حبان «وحمله جبريل على البراق رديفا له» .
قال: وفي الشرف «كان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل» وفي رواية «جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره» اهـ.
أقول: ولا منافاة، لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين، وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه، وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار، ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء «ما زايلا ظهر البراق» لإمكان حمله على غالب المسافة. هذا، وفي حياة الحيوان: الظاهر عندي أن جبريل لم يركب مع النبي صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء، هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التي بالباب» أي باب المسجد «التي كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق» أي تربط «بها» أي تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقي. وفي رواية «أن جبريل خرق بأصبعه الحجر» أي الذي هو الصخرة. وفي كلام بعضهم: فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشدّ به البراق.
أقول: لا منافاة، لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده، وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التي في الباب، لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته.
وفي الإمتاع: وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه.
وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذي هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا، فأخذه جبريل فربطه في زاوية المسجد في الحجر الذي هو الصخرة التي خرقها بأصبعه، وجعله داخلا عن باب المسجد، فكأنه يقول له: إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا.
وفي حديث أبي سفيان قبل إسلامه لقيصر، أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم «ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب؟ قال: وما هو؟ قال: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة، فقال: بطريق: أنا أعرف تلك الليلة، فقال له قيصر: ما علمك بها؟ قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد: أي وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نقدر، فقالوا: إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا، فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب، أي زيادة على ما كان عليه على ما تقدم، وإذا فيه أثر مربط الدابة أي التي هي البراق: أي ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق، فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، وعند ذلك قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر، وسيأتي ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه وسلم لقيصر. ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات، وهي «فأتى جبريل الصخرة التي في بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشدّ بها البراق» لأن الذي في بابه يقال إنها فيه، ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية، وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره.
وفي رواية عن شداد بن أوس أنه قال «ثم انطلق بي» أي جبريل «حتى دخلنا المدينة» يعني مدينة بيت المقدس من بابها اليماني «فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته» .
قد يقال: لا يخالفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد، ولعل هذا الباب هو الباب اليماني الذي فيه صورة الشمس والقمر. ففي رواية «ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر» أي مثالهما فيه، والله أعلم.
وأنكر حذيفة رضي الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة. وردّ عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافي صحة التوكل.
فعن وهب بن منبه رضي الله عنه «الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك» قال وهب: وجدته في سبعين من كتب الله عز وجل القديمة: أي ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «أعقلها وتوكل» وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود في أسفاره ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد. قال وفي رواية فلما استوى النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال «نعم»، قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال: من أنتن؟ قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا» اهـ.
أقول: في كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التي يقال لها قبلة المعراج من عند يمين الصخرة. وقد جاء «صخرة بيت المقدس من صخور الجنة» وفي لفظ «سيدة الصخور صخرة بيت المقدس» وجاء «صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة» قال الذهبي:
إسناده مظلم، وهو كذب ظاهر.
قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لموطأ مالك: صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، في أعلاها من جهة الجنوب قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم، وفي الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، أي فهي معلقة بين السماء والأرض، وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها، لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب، تمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء، وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض، وهذا الذي ذكره ابن العربي، أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر في صخرة بيت المقدس حين ركب البراق، وأن الملائكة أمسكتها لما مالت، قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقي حيث قال في معراجه المسجع: ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت.
وقول ابن العربي حين ركب البراق يقتضي أنه عرج به على البراق، وسيأتي الكلام فيه، وتقدم أن الجلال السيوطي سئل عن غوض قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر هل له أصل في كتب الحديث؟ فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا رأى من خرّجه في شيء من كتب الحديث، وتقدم ما فيه.
وفي العرائس، قال أبيّ بن كعب: ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق في الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «فنشر لي» بضم النون وكسر الشين المعجمة: أي أحيا لي بعد الموت «رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأن نشر الميت إحياؤه. والرهط: ما دون العشرة من الرجال «فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام» أي وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى «فصليت بهم، وكلمتهم» أي فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين؛ ووصفهم بالنشور واضح في غير عيسى عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يمت. ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتي في قصة بدر في الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى أنهم في البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم في الدنيا، وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم في البرزخ وحجهم وغير ذلك. وفي رواية «ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين، فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير» أي مع أولئك الرهط، فلا مخالفة بين الروايتين «فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة» .
أقول: ذكر ابن حبيب أن آية {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ}[الزخرف:45] الآية، نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ويجوز أن يكون قوله وأقيمت الصلاة من عطف التفسير، فالمراد بالأذان الإقامة، وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر في الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة، وعلى أنه من عطف المغاير، ويدل له ما في بعض الروايات «فلما استوينا في المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة» فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن، لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا في المدينة: أي في السنة الأولى من الهجرة، وقيل في الثانية كما سيأتي.
وحديث «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: موضوع. وحديث «علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسري به» في إسناده متهم. وفي الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء. فقد جاء «لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان» أي الإقامة «عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن» أي يلي عرشه «خرج ملك من الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله: فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أرسلت محمدا، فقال الملك: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤمّ بأهل السموات» قال في الشفاء: والحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون. قال: فإن صح القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى به، فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد رفع الحجاب عن بصره حتى رآه.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك الملك، فقال جبريل: إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه» وفي لفظ «والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه» وفيه أن هذا يقتضي أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان معه صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وسيأتي أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى، فليتأمل، والله أعلم.
«ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه، فصلى بهم ركعتين» .
أي وأما حديث «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت بالملائكة» قال الذهبي منكر، بل موضوع. والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلوّ مقامه صلى الله عليه وسلم، وأنه المقدم لا سيما في الإمامة.
وفي رواية «ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا» أي دفعوا «حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «فأذن جبريل» أي أقام الصلاة «ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين» أي جميعهم «وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء» أي جميعهم، بدليل ما في بعض الروايات «بعث له آدم فمن دونه» فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبي لا بمعناه، وهذا هو المراد بقول الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاته إماما بهم وبالملائكة، لأن الأنبياء أحياء.
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلي بهم وقد علمت معنى إحيائهم.
«فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: «لا»، قال كل نبي بعثه الله تعالى» أي والنبي غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه.
أقول: ولا يخالف ما سبق من أنه عرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم، أو أنه عرفهم بعد هذا القول.
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف: ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين، وأربعة من سائر الأنبياء، وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل، وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» والله أعلم. وفي رواية «ثم دخل أي مسجد بيت المقدس فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، قالوا: وقد أرسل إليه، أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء، قال نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة» وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم.
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في بيت المقدس كان قبل العروج، أي كما يدل على ذلك سياق القصة. وقال الحافظ ابن كثير: صلى بهم في بيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك ولا مانع منه.
قال: ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم في السماء، أي لا في بيت المقدس، أي وهذا الزاعم هو حذيفة، فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس. قال بعضهم: والذي تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس.
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه، أي فلم يصلّ في بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم. أي ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم، بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين ما بين قائم وراكع وساجد: وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق، لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوي: أي بناء على أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وحيث كان مطلوبا لذلك، اللائق أن لا يشتغل بشيء عنه، فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه في الإمامة، هذا كلامه.
أقول: بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج، والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدا واحدا في السماء، وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر، لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه، ومجرد الاستحسان العقلي لا يردّ النقل، فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت في الحديث ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، وكونه سأل عن الأنبياء في السماء لا ينافي صلاته بهم أولا، وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أوّلا، وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه، لأنه يجوز أن يكونوا في السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس، لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم.
وبهذا يعلم ما في قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام، ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في بيت المقدس يحتمل لأن المراد أرواحهم، ويحتمل أجسادهم، ويدل للثاني «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وفي رواية «فنشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسمّ، فصليت بهم» صلى الله عليه وسلم وعليهم، والاشتغال عن الجناب العلوي المدعو له بما فيه تأنيس له، وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال، والله أعلم.
واختلف في هذه الصلاة. فقيل العشاء، أي الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج.
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة: أي وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم، وسيأتي أنه صلى الغداة بمكة، وعليه تكون معاد بمكة.
قال: والذي يظهر- والله أعلم- أنها كانت من النفل المطلق. أي ولا يضر وقوع الجماعة فيها. وبقولنا أي الركعتان إلى آخره يسقط ما قيل: القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء، لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر، ومن حمل الأولية على مكة أي ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أي دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس.
وفي زين القصص: كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات، وقيل أربع ساعات: أي بقيت من تلك الليلة. لكن في كلام السبكي أن ذلك كان في قدر لحظة حيث قال في تائيته:

وعدت وكل الأمر في قدر لحظة

أي ولا يدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الطويل لمن يشاء، وقد فسح الله في الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة، وفي ذلك حكايات شهيرة.
قال صلى الله عليه وسلم «وأتيت بإناءين أحمر وأبيض فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدّت أمتك» أي غوت وانهمكت في الشرب، بدليل الرواية الأخرى، وهي رواية البخاري «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة» أي الاستقامة «لو أخذت الخمرة غوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل» أي يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك؟ فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب، وإتيانه بذلك وهو في المسجد ببيت المقدس، وسيأتي ما يدل على أنه أتي له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج.
قال صلى الله عليه وسلم «واستويت على ظهر البراق، فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعي جبريل فصليت به الغداة، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأمّ هانئ بعد أن أخبرها بذلك: أنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت، قالت أمّ هانئ: فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم، وقلت: أنشدك الله» أي بفتح الهمزة أسألك بالله «ابن عم» أي يا بن عم، أن تحدث أي لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك» وفي رواية «إني أذكرك الله عز وجل أنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه، فانتزعه من يديّ فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه: أي طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طي القراطيس» أي الورق «وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف» بفتح الطاء وربما كسرت «بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذ هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة» أي وكانت حبشية معدودة في الصحابة رضي الله عنها «اتبعيه وانظري ماذا يقول؟ فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم» هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود. وفي كلام بعضهم: بين الركن والمقام. سمي بذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء، قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته، وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني صليت الليلة العشاء» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت في هذا المسجد «وصليت به الغداة» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت، وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت، وكذا صلاة الغداة التي هي الصبح لم تكن فرضت كما تقدم «وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس» .
أي لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت في لحظة أو ساعات، وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن. لأنا نقول وسع لهم الزمن، لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل.
قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه» أي وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى، وما هو دليل على علوّ مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه؟ فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا، فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال «نعم أسري بي الليلة»، قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس»، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: «نعم»، قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني؟ قال «نعم»، قال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، فانقضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أسري بي الليلة»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» الحديث. «فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلم وصليت بهم وكلمتهم» فقال أبو جهل كالمستهزئ صفهم لي فقال صلى الله عليه وسلم: «أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أي لا طويل ولا قصير عريض الصدر، ظاهر الدم» أي لونه أحمر. وفي رواية «يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان» وفي رواية «كأنه خرج من ديماس» أي من حمام، وأصله الكن الذي يخرج منه الإنسان وهو عرقان، وأصله الظلمة. يقال: ليل دامس.
والحمام لفظ عربي. وأول واضع له الجن، وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقيل الواضع له بقراط؛ وقيل شخص سابق على بقراط، استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن، فصار يستعمله حتى برئ.
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال: أوّاه من عذاب الله» لأن دخول الحمام يذكر النار، لأن الحمام أشبه شيء بجهنم، لأن النار أسفله، والسواد والظلمة أعلاه. وقد قيل: خير الحمام ما قدم بناؤه، واتسع فناؤه، وعذب ماؤه. قال بعضهم: ويصير قديما بعد سبع سنين. قال بعضهم: ولم يعرف الحمام في بلاد الحجاز قبل البعثة؟ وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلاد العجم.
وفيه أن في البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون بيتا يقال له الحمام» قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض قال «فاستتروا» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا بيتا يقال له الحمام»، فقالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض الوسخ، ويذكر النار، قال: «إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر» وهو صريح في أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوه في زمنه صلى الله عليه وسلم، إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم، والمنفي في كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام، وقوله صلى الله عليه وسلم «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات» .
وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة» فلا يرد لأنه على تقدير صحته، فالمراد به أنه محلّ للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد ما في معجم الطبراني الكبير عن أبي رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع، فقال: «نعم موضع الحمام هذا» فبني فيه حمام لجواز أن يكون بني ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام نبوته. قال بعضهم: ولعله قال ذلك لقبح الموضع أي فقول بعضهم ويكفي ذلك في فضيلة الحمام ليس في محله.
وفيه أن هذا البعض لم يعول في الفضيلة على هذا فقط، بل عليه وعلى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض..
ولا يرد أيضا ما في مسند أحمد عن أم الدرداء رضي الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها «من أين يا أم الدرداء؟» قالت: من الحمام لأن في سنده ضعيفا ومتروكا، ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبني على الهيئة المخصوصة كما تقدم. وبه يجاب أيضا عما في مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي تعالى عنهما، وقد خرجا من الحمام «طاب حمامكما» .
قال ابن القيم: ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط، ولعله ما رآه بعينه هذا كلامه. وعن فرقد السنجي «أنه ما دخل الحمام نبي قط» ويشكل عليه ما تقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام.
واعترض بعضهم قول ابن القيم: لعله صلى الله عليه وسلم ما رأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رآها، نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها.
وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى، وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها.
وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا» ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال، وما أحسن قول الإمام الغزالي: ورد «نعم البيت الحمام يطهر البدن، ويذهب الدرن، ويذكر النار. وبئس البيت الحمام، يبدي العورة، ويذهب الحياء» فهذا تعرض لآفته، وذلك تعرض لفائدته، ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة.
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا. والأصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر، وهو محمل ما جاء «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم، فلا يدخل الحمامات» ومع عدم ستر العورة حرام؛ وهو محمل ما جاء «الحمام حرام على نساء أمتي» .
وأول من اتخذ الحمام في القاهرة العزيز بن المعز العبيدي أحد الفواطم. قال بعضهم: ليس في شأن الحمام ما يعوّل عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة عيسى عليه الصلاة والسلام «كأنما خرج من ديماس» .
وقال غيره: أصح حديث في هذا الباب حديث «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فمن دخله فليستتر» . وقال ابن عمر في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام «إنما هو آدم» وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل في عيسى إنه أحمر، وإنما قال آدم، وإنما اشتبه على الراوي. وأجاب الإمام النووي بأن الراوي لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها: أي والحمرة المقاربة لها أي للأدمة يقال لها أدمة، أي كما يقال لها حمرة فلا منافاة، قال صلى الله عليه وسلم «جاعد الشعر» أي في شعره تثن وتكسر.
أقول: ينبغي حمل جعد الذي جاء في بعض الروايات «وإذا هو بعيسى جعد» على هذا. ثم رأيت النووي قال: قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم، وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل، والله أعلم. «تعلوه صهية» أي يعلو شعره شقرة «كأنه عروة بن مسعود الثقفي» أي رضي الله تعالى عنه، فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه. وقال صلى الله عليه وسلم في حقه «إن مثله في قومه كصاحب يس» كما سيأتي ذلك.
«وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم» أي أسمر، ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية «طويل كأنه من رجال شنوءة» طائفة من اليمن: أي ينسبون إلى شنوءة؛ وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد، لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين أهله. وقيل لأنه كان فيه شنوءة: وهو التباعد من الأدناس. وفي رواية «كأنه من رجال أزد عمان» هو أبو حي من اليمن. وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة باليمن، سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم: فبلدة بالشام؟
سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها، وكما يقال أزد عمان يقال أزد شنوءة، ورجال الأزد معروفون بالطول.
قال صلى الله عليه وسلم «كثير الشعر، غائر العنين، متراكم الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة» أي وهو اللحم الذي حول الأسنان «عابس الفم وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فو الله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا» . وفي رواية «لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه» يعني نفسه صلى الله عليه وسلم «فضجوا وأعظموا ذلك، وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا»، فقال المطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمما» أي يسيرا «غير قولك اليوم، وأنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان هذا الذي تقول قط، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته» أي استقبلته بالمكروه وكذبته، أنا أشهد أنه صادق. وفي رواية «حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا» أي وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام.
وفي رواية «سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قد قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة» أي وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس «وروحة» أي وهي اسم للوقت من الزوال إلى الليل، أي وهذا تفسير لهما بحسب الأصل، وإلا فالمراد أنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أي مجيء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أي وحينئذ يجوز أن يكون قول أبي بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول: أي قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغته مقالته، فلا مخالفة بين الروايتين، وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:

حظي المسجد الحرام بممشا *** هـ ولم ينس حظه إيلياء
ثم وافى يحدث الناس شكرا *** إذ أتته من ربه النعماء

أي جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع، ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا، ففضل على ما عدا المسجدين: أي مسجد مكة ومسجد المدينة؛ ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء في تلك الليلة.
ثم قال المطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك اظهار كذبه. وقيل القائل له ذلك أبو بكر، قال له: صفه لي فإني قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله «فقال: دخلته ليلا وخرجت منه ليلا، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوّره في جناحه» أي جاء بصورته ومثاله في جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا في موضع كذا، وباب منه كذا في موضع كذا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه» أي ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا.
وفي رواية «لما كذبتني قريش» أي وسألتني عن أشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أي قالوا له كم للمسجد من باب؟ «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، قمت في الحجر فجلى الله عز وجل لي بيت المقدس» أي وجلى بتشديد اللام وربما خففت: كشفه لي أي بوجود صورته ومثاله في جناح جبريل.
وفي رواية «فجيء بالمسجد» أي بصورته «وأنا أنظر إليه حتى وضع» أي بوضع محله الذي هو جناح جبريل، فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل، ومنه رؤية الجنة والنار في عرض الحائط لا من باب طيّ المسافة وزوي الأرض، ورفع الحجب المانعة من الاستطراق، الذي ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما يحمل عليه حديث «رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء» إذ ذلك لا يجامع مجيء صورته في جناح جبريل، وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم، فرفعه إنما هو برفع محله الذي هو جناح جبريل.
ثم رأيت ابن حجر الهيتمي قال: الأظهر أنه رفع بنفسه كما جيء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام في أسرع من طرفة عين، ولك أن تتوقف فيه، فإن عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس، وكان ذلك التجلي عند دار عقيل، وتقدم أنها عند الصفا، وأنها استمرت في يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخي الحجاج، وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم ما فيه، قال صلى الله عليه وسلم «فطفقت» أي جعلت «أخبرهم عن آياته» : أي علاماته، «وأنا أنظر إليه» أي وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجر تلك الدار، أي لقوله صلى الله عليه وسلم «فقمت في الحجر» وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع.
وأما قول المواهب: ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أي في السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضي سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء، وسيأتي ما يخالفه. على أنه سيأتي أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء في ليلة أخرى. وقيل في حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة، يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه، ويقال عليه وإن سلم ذلك، لكن لم يكن الباب في تلك الجهة فإن ثبت أن في السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله.
قالت نبعة جارية أم هانئ: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: «يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق» أي ومن ثم كان علي رضي الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبي ليلى الغفاري: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين» قال في الاستيعاب: إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه، هذا كلامه. وفي مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: «أنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل» .
وفي رواية «أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم، قالوا له ما آية ذلك يا محمد» أي ما العلامة الدالة على هذا الذي أخبرت به «فإنا لم نسمع بمثل هذا قط» أي: هل رأيت في مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أي لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه، قال صلى الله عليه وسلم «آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا فأنفرهم» أي أنفر عيرهم حس الدابة، يعني البراق «فندّ لهم بعير» أي شرد «فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان» أي وفي كلام بعضهم «فعثرت الدابة يعني البراق: فقلب بحافره القدح الذي فيه الماء الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة» وشرب الماء الذي للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن. مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل، على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه، ويجب على مالكه حينئذ بذله.
وأما الجواب عن ذلك بأنه مال حربي غير صحيح، لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد، ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم، لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولا تتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم، قاله ابن حجر في شرح الهمزية: لكن في قطعة التفسير للجلال المحلي في تفسير قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا}[القصص:13] أن أمة أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها، لأنها مال حربي: أي من مال فرعون، إلا أن يقال ذاك: أي أخذ مال الكافر كان جائزا في شريعتهم، قال صلى الله عليه وسلم «وآية ذلك» أي علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم «أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق» وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب، وأخسها عملا عندهم: أي ليس بمحمود عندهم، في عمله وسيره «عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء» أي فيها بياض وسواد، كما تقدم، فابتدر القوم الثنية فأوّل ما لقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء، وعن نفار العير، وعن ندّ البعير، وعن الشخص الذي دلهم عليه فصدقوا قوله.
أقول: قد علم أن البعير التي نفرت وندّ منها البعير ودلهم عليه مرّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام، والعير كان بها الإناء الذي شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة، وهي التي صوبت من الثنية، وحينئذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، إلا أن يقال: يجوز أن تكون هذه العير التي مر عليها صلى الله عليه وسلم في العود اجتمعت في عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام، وأخبروهم بما ذكر، والله تعالى أعلم.
وفي رواية: «قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس» أي فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم ببيت المقدس «يا محمد أخبرنا عن عيرنا» : أي عيراتنا الذاهبة والآتية «هل لقيت منها شيئا، فقال نعم أتيت على عير بني فلان بالروحاء» أي وهو محل قريب من المدينة، أي بينه وبين المدينة ليلتان «قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك، فقالوا هذه واللات والعزى آية» أي علامة.
أقول: وهذه العير هي التي مر صلى الله عليه وسلم عليها في العود وهي قادمة إلى مكة، وفي هذه الرواية: زيادة أنهم أضلوا ناقة، وتقدم في تلك الرواية، أنه صلى الله عليه وسلم وجدهم نياما، وفي هذه الرواية: إنه ليس بها منه أحد. وقد يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون الراوي أسقط منها هذه الزيادة وهي إضلال الناقة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد، أي مستيقظ، بل بعضهم ذهب في طلب تلك الناقة، وبعضهم كان نائما، لكن في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهي بالروحاء، وهو لا يناسب قوله في تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتي من الروحاء إلى مكة في ليلة واحدة من أبعد البعيد، إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة، والله أعلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فانتهيت إلى عير بني فلان فنفرت منها» أي من الدابة التي هي البراق «الإبل» أي التي هي العير «وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق مخطط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا؟» وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة. ويمكن أن تكون هي الأولى، أسقط من تلك قوله في هذه: وبرك منها جمل إلى آخره، كما أسقط من هذه قوله: في تلك: فندّ لهم بعير.
وفي رواية: «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر، أي وأضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان أي بدلالتي لهم عليه فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك» فعلم أن هذه الرواية والتي قبلها هي الأولى، غاية الأمر أنه زيد في هذه قوله: فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية، قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالأبواء» أي وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة «يقدمها جمل أورق أي بياضه إلى سواد كما تقدم ها هي تطلع عليكم من الثنية، فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أي في قوله إنه ساحر، وأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}[الإسراء:60] وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين، وأنه يقال في مصدرها رؤيا بالألف كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك، إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه في ذلك: أي وقيل نزلت وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبي العاص أبي مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة، وقد ورد «رأيت بني مروان يتعاورون منبري» وفي لفظ «ينزون على منبري نزو القردة» زاد في رواية «فما استجمع صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات» وأنزل الله تعالى في ذلك {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وفي رواية: فنزل {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ}[الكوثر: 1] وفي رواية: فنزل {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ} * {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ} * {لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 1- 3] قال بعضهم: أي خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية، فإن مدة ملك بني أمية كانت اثنتين وثمانين سنة، وهي ألف أشهر وكان جميع من ولي الخلافة منهم أربعة عشر رجلا، أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد.
وقد قيل لبعضهم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالي؟ فقال: أبعدوا أصدقاءهم ثقة بهم، وقربوا أعداءهم جهلا منهم، فصار الصديق بأبعاد عدوا، ولم يصر العدوّ صديقا بالتقريب له، وحديث «رأيت بني مروان» إلى آخره. قال الترمذي: هو حديث غريب، وقال غيره منكر، قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك: وقيل إن هذه الآية أي آية. {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] إنما نزلت في رؤيا الحديبية، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين، ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون، وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم: ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتي ذلك في قصة الحديبية.
وقيل: إنما نزلت هذه الآية في رؤيا وقعة بدر، حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم، فتسامعت بذلك قريش فسخروا منه، أي ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور، فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها.
قال ابن حجر الهيتمي: إن اتحاد النزول لا ينافي تعدد أسبابه: أي وذلك إذا تقدمت الأسباب، ويروى أنه عين لهم اليوم الذي تقدم فيه العير: أي قالوا له: متى تجيء؟ قال لهم: يأتوكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولي النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أي دنت للغروب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير: أي كما وصف صلى الله عليه وسلم.
أقول: يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التي مرّ عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال في بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية، وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:

وشمس الضحى طاعتك وقت مغيبها *** فما غربت بل وافقتك بوقفة

وجاء في بعض الروايات: أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع، ففي رواية: أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا «قال مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها ومن فيها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك، ثم قيل له ذلك فأخبر بعدتها وعدة أحمالها وعدة من فيها، وقال: تطلع عليكم عند طلوع الشمس، فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت تلك العير» .
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول: هذه الشمس قد طلعت، وقال آخر:
وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم» . وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمثل ما تقدم والله أعلم، وحبس الشمس وقوفها عن السير: أي عن الحركة بالكلية، وقيل بطء حركتها، وقيل ردها إلى ورائها، قالوا: ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال «شغلونا عن الصلاة الوسطى» كما سيأتي، ثم رأيت في كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب، وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس في بعض تلك الأيام إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذ، وفي بعضها لم تحبس بلى صلى بعد الغروب قال ذلك البعض: ويؤيده أن راوي التأخير إلى الغروب غير راوي التأخير إلى الحمرة أو الصفرة.
وجاء في رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة والسلام. وذكر البغوي أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام.
أي فعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه «أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر في وقتها» وهذا ردّ لها لا حبس لها عن غروبها الذي الكلام فيه. والذي في كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله وأعناقها حيث ألهاه عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، ولم يتصدق بها مبادرة لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة في وقتها لأن التصدق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها. وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، أي وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بني إسرائيل الأرض المقدسة التي هي أرض الشام، وكان سكنها الكنعانيون الجبارون، وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق، سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم وهي أريحا، فبعث إليهم اثني عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم. فقد ذكر بعضهم أنه رأى في فجاج: أي نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة، أي جالسة هي وأولادها حولها، والفجاج في الأصل الطريق الواسع، واستظل سبعون رجلا من قوم موسى في قحف رجل منهم، أي في عظم أمّ رأسه، وفي العرائس: وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم، ويدخل في قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة، وإن رجلا من العماليق أخذ الاثني عشر ووضعهم في كمه مع فاكهة كانت فيه، وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه. وفي العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه، ويقال إنها أول بغيّ في الأرض.
وفي العرائس: أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب، وأخذ الاثني عشر في حجره وانطلق بهم لامرأته، وقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لها: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا ولكن خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك، فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: اكتموا خوفا من بني إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا، وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل، ففشلوا وجبنوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف، وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين، وقالوا لموسى {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فدعا عليهم و {قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}[المائدة:25] أي: فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هارون وكالب ويوشع، وهما المذكوران بقوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23] لأن الله منجز وعده وإنا قد خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم {وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23] وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخي من واخاه ووافقه لا خصوص هارون، ثم دعا بقوله {فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ} [المائدة:25] أي باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا، أي تحيروا في ستة فراسخ من الأرض، يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وأنزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى، لأنهم شغلوا عن المعاش، وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ، وتطول مع الصغير إذا طال، وظلل عليهم الغمام من الشمس، ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم.
وفي حياة الحيوان: لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة، فأوحى الله تعالى له {فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ} [المائدة:26] أي الذين فسقوا: أي خرجوا عن أمرك.
قال في أنس الجليل: ومن عجب الاتفاق أن أريحا هذه كانت في زمن بني إسرائيل منزل الجبارين، وفي زمن الإسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس. ثم مات موسى وهارون بالتيه، مات هارون أولا ثم موسى بعد سنتين. وفي ذلك رد على من قال إن قبر هارون أخي موسى بأحدكما سيأتي. وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هارون وأنه دفنه، وقيل إن هارون رأى سريرا في بعض الكهوف فقام عليه فمات، وإن بني إسرائيل قالوا قتل موسى هارون حسدا له على محبة بني إسرائيل له، فقال لهم موسى: ويحكم كان أخي ووزيري أفتراني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذي قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وعلى الأول أن موسى انطلق ببني اسرائيل إلى قبره، ودعا الله أن يحييه فأحياه الله تعالى، وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى، وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور؛ أي فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وإن الله أمره بقتال الجبارين، فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة، ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس: «أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور، بحرمتي عليك إلا ركدت، أي مكثت ساعة من النهار» .
وفي رواية «قال اللهم احبسها عليّ فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة» أي قال ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة، وقد عبر الإمام السبكي عن حبسها ليوشع بردها في قوله:

وردت عليك الشمس بعد مغيبها *** كما أنها قدما ليوشع ردّت

ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل، وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها، ومن ثم ذكر ابن كثير في تاريخه، أن في حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخاري «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه الصلاة والسلام، ليالي سار إلى بيت المقدس» وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس، لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق.
وفي العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت في التيه، بل سار ببني إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع، فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض، ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد، قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق. وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب ادنني من الأرض المقدسة برمية حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» .
قال ابن كثير: وقوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر، يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت أي بعد مغيبها أي في خيبر كما سنذكره هنا حتى صلى عليّ بن أبي طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، وهو حديث منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه، وسيأتي قريبا ما فيه. على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أي غيره صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت، فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال:

لا تغربي يا شمس حتى ينتهي *** مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن *** هذا الوقوف لولده ولنسله

فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب هذا كلامه.
ولما افتتحوا المدينة التي هي أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة، وكانوا: أي الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها، فتجيء النار تأكلها أي إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم، فمجيء النار وأكلها دليل على قبولها، ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار، فقالوا له: يا نبي الله ما لها لا تأكل قرباننا؟ قال: فيكم الغلول، فدعا رأس كل سبط وصافحه، فلصق كف واحد منهم في كف يوشع عليه السلام، فقال: الغلول في سبطك، فقال: كيف أعلم ذلك؟ قال: تصافح واحدا بعد واحد، فلصقت كفه بكف واحد منهم، فسئل فقال نعم: رأيت رأس بقرة من ذهب، عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتني فغللتها فجاء بها ووضعها في الغنيمة فجاءت النار فأكلتها.
وذكر البغوي أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له. فعن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة، أي وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام.
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة، أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف، فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر، قال أفعل، وفي لفظ: إنها قالت أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها.
وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام، ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة في ناحية من النيل، وفي لفظ في مستنقعة ماء أي وتلك المستنقعة في ناحية من النيل، فقالت لهم أنضبوا عنها الماء: أي ارفعوه عنها ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا وأخرجوه. وفي لفظ: أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل، أي في ناحية منه فلا يخالفه ما سبق في أصله سكة من حديد فيها سلسلة؛ أي ويجوز أن يكون حفرهم الواقع في تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة، ووجدوه في صندوق من حديد وسط النيل في الماء، فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في صندوق من مرمر أي داخل ذلك الصندوق الذي من الحديد فاحتمله.
وفي أنس الجليل: أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلاثمائة سنة، فقال له يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي، فقال له موسى: قم معي إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ فقالت: نعم ولا أدلك على قبره إلا إذا دعوت الله تعالى أن يرد عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى فدعا موسى لها، وقال لها كم عمرك؟ قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة، فأرته قبر يوسف وكان في وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء في بركته.
وأما عود الشمس بعد غروبها، فقد وقع له صلى الله عليه وسلم في خيبر، فعن أسماء بنت عميس أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ، ولم يسر عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى غربت الشمس وعليّ لم يصل العصر أي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصليت العصر؟» فقال لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس». قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت.
قال بعضهم: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث، لأنه من أجلّ أعلام النبوّة وهو حديث متصل. وقد ذكر في الإمتاع: أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها، وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، وبه يرد على ابن الجوزي، حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك لكن في الإمتاع ذكر في خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ صليت العصر؟» قال لا يا رسول الله، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس في المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق، إلا أن يدعي أن هذه الطريق فيها حذف، والأصل اشتغل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم خيبر، ثم وضع رأسه في حجر علي ونام فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة.
قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل؛ فقال له جبريل: انزل فصلّ هنا ففعل، ثم ركب فقال: أتدري أين صليت؟ قال «لا»، قال: صليت بطيبة وإليها المهاجرة» وسيأتي ما فيه في الكلام على الهجرة «فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب، فقال له جبريل أتدري أين صليت؟ قال «لا»، قال: صليت بمدين» أي وهي قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى، سميت باسم مدين ابن إبراهيم لما نزلها «ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال انزل فصل، ففعل ثم ركب، فقال له: أتدري أين صليت؟ قال «لا»، قال: صليت ببيت لحم» أي وهي قرية تلقاء بيت المقدس «حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام» أي وفي الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة «وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخرّ لفيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم «بلى»، فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن، أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته. ورأى حال المجاهدين في سبيل الله» أي كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثاله، فرأى قوما يزرعون في يوم أي في وقت «ويحصدونه في يوم» أي في ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال «كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: «يا جبريل ما هذا؟» قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه» هذا الثاني هو المناسب لحالهم دون الأول، فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعي أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذي هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين. فقد جاء «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف، وفي غيرهم بخلافه.
«ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ما شطة بنت فرعون، ووجد داعي اليهود وداعي النصارى، فأما الأول، فقد رأى عن يمينه داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل، فقال: داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك» أي لتمسكوا بالتوراة، والمراد غالب الأمة «وأما الثاني فقد رأى عن يساره داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك» أي لتمسكت بالإنجيل، وحكمة كون داعي اليهود على اليمين وداعي النصارى على اليسار لا تخفى.
«ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أي كشف له عن حالتها بضرب مثال «فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها» كأن ذلك شأن المقتص لغيره «وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى» أي ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه، فكيف بوجود سائر أنواع الزينة «فقالت يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: «من هذه يا جبريل؟» قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ورأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: «من هذا يا جبريل؟» فقال: إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز «أي فزينتها لا ينبغي الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل» ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره؟.
وفي كلام بعضهم: الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز، بمعنى يتعلق بذاتها، وبمعنى يتعلق بغيرها، الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة، ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا.
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون في الحيوان.
ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال «فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: «من هذا يا جبريل؟» قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء «فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: «من هذا يا جبريل؟» قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة» أي المفروضة عليهم.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه «ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع» وهو اليابس من الشوك «والزقوم» ثم شجر مر له زفرة، قيل إنه لا يعرف بشجر الدنيا وإنما هو بشجرة من النار، وهي المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ}[الصّافات:64] أي منبتها في أصل الجحيم، وتقم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أي حجاراتها المحماة، لأن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التي يكون بها «من هذا يا جبريل؟» قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة، بضرب مثال «ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيء أيضا في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: «من هذا يا جبريل؟» قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال «وَثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته، فقال: «من هذا يا جبريل؟» قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقاعدون على الطريق فيقطعونه وتلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف:86] .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أي حالته التي يكون عليها في دار الجزاء «فرأى رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة، فقال له: «من هذا؟» قال: آكل الربا» وقد شبهه الله تعالى في القرآن بقوله: {ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ} [البقرة:275] أي إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم، إلا آكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذي يصرعه الشيطان، فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم، كما أن المصروع حاله ذلك، أي فهذه حالته في الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التي تكون في دار الجزاء.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ «ثم أتي على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟» فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس «فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم، فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟» فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال «فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع، فقال: «ما هذا الرجل يا جبريل؟» فقال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة «فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك وسمع صوتا، فقال: «يا جبريل ما هذا؟» قال: هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادي.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار «فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة، فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: هذا صوت جهنم، تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي وليست جهنم بذلك الوادي كما سيأتي أن الوادي التي هي به هو الذي ببيت المقدس، ولعل هذا الوادي مقابل لذلك الوادي، وينبغي أن لا يكون هذا هو المراد بما في الخصائص الصغرى للسيوطي.
وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار، بل المراد بذلك رؤية ذلك في المعراج، وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادي الذي ببيت المقدس بالنسبة للنار. «ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن» أي وهو من هلك في الجاهلية أي قبل البعثة.
«ومرّ صلى الله عليه وسلم على شخص منتحيا على الطريق، يقول: هلم يا محمد، قال: «جبريل»: سر يا محمد، قال: «من هذا؟» قال: هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه» اهـ.
وفي رواية «لما وصلت بيت المقدس وصليت فيه ركعتين أي إماما بالأنبياء والملائكة أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين في إحداهما لبن وفي الأخرى عسل، فهداني الله تعالى، فأخذت اللبن فشربت، وبين يديّ شيخ متكئ على منبر له، فقال: أي مخاطبا لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة، إنه لمهديّ، فلما خرجت منه جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة» أي الاستقامة التي سببها الإسلام، ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي على الإسلام.
وفي رواية أخرى «فأتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا. وفي رواية: أنه لم يشرب منه شيئا، وأنه قيل له لو شربت الماء» أي جميعه أو بعضه «لغرقت أمتك» أي وفي رواية: «أنه سمع قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روي» .
أي وفي رواية «سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدي وهديت أمته، ثم رفع إليه إناء فيه خمر، فقيل له اشرب، فقال: لا أريده فقد رويت، فقال له جبريل: إنها ستحرم على أمتك» أي بعد إباحتها لهم.
وفي رواية أخرى «أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك» أي لا يكون على طريقتك منهم إلا قليل. أي وفي رواية «أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته» .
أقول: وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو في بيت المقدس، ولأن تكون وهو خارج عنه، ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس وخارجه، ولا مانع من تكرر عرض آنيتي الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج.
ولا تعارض بين الأخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن، وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن. ولا بين الإخبار بإناءين، والإخبار بأواني ثلاثة، لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين. ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء، لأنه يجوز أن يكون إحدى الأواني الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل، أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل، أو تكون الأواني أربعة وبعض الرواة اقتصر.
وقد قال ابن كثير: مجموع الأواني أربعة، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى، ولكن لم يسقط اللبن. وفي رواية بخلاف غيره، فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط، وتارة ذكر معه العسل فقط، وتارة ذكر معه الماء والخمر.
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم.
قال «ومرّ على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته: أكرمته، فضلته» اهـ.
وفي رواية «سمعت صوتا وتذمرا» هو بالذال المعجمة: الحدة «فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: «يا جبريل من هذا؟» قال: هذا موسى بن عمران، قال: «ومن يعاتب؟» قال: يعاتب ربه فيك، قال: أو يرفع صوته على ربه» والعتاب مخاطبة فيها إدلال، وهذا يدل على أن الصوت الذي سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه. وفي رواية «على من كان تذمره» أي حدته «قال على ربه، قلت: «أعلى ربه؟» قال جبريل: إن الله عز وجل قد عرف له حدته» وهذا كما علمت كان كالذي بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم.
وجاء «وليلة أسري بي مر بي جبريل على قبر أبي إبراهيم، فقال: انزل فصل ركعتين قال: ومرّ على شجرة تحتها شيخ وعياله، فقال: ومن هذا يا جبريل؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ فقال: هذا ابنك أحمد، قال: مرحبا بالنبي العربي الأمي، ودعا له بالبركة» أي فموسى عرفه فلم يسأل عنه، وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه، لكن في السيرة الهشامية «أن موسى سأل عنه أيضا، فقال: من هذا يا جبريل. فقال: هذا أحمد، فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح أمته، ودعا له بالبركة. وقال: اسأل لأمتك اليسير» والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانت تحت تلك الشجرة أو قريبا منها، فلا مخالفة بين الروايتين.
«وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابيّ» أي وهي النمارق. أي الوسائد «فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: مثل الحممة» أي الفحمة اهـ.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم عرج بنا إلى السماء» أي من الصخرة كما تقدم «أي على المعراج» بكسر الميم وفتحها «الذي تعرج أرواح بني آدم فيه» وهو كما في بعض الروايات «سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب» أي عشر مراقي. وهو المراد بقول بعضهم: «كانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة: سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى، والعاشر إلى العرش والرفرف» أي فأطلق على كل مرقاة معراجا «وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه. أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء» أي بعد خروج روحه «فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه، وذلك شامل للمؤمن والكافر، إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فتردّ بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له. وذلك المعراج أتي به من جنة الفردوس وإنه منضد باللؤلؤ» أي جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض «عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام» قال الحافظ ابن كثير: ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس، أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه «حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا، أي ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسماعيل، أي وهذا يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثني عشر ألف ملك»
أي وفي رواية «أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت» وفي رواية «فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا أي حفظتها من هذا؟ قال جبريل، فقيل: ومن معك؟ أي فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما، ولعل جبريل لم يكن على الصورة التي يعرفونه بها «قال محمد» وفي رواية «قال معك أحد» يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائي له معظم الحفظة «قال: نعم معي محمد، قيل: وقد بعث إليه» أي للإسراء والعروج، أي لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة.
وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا وقد بعث ولم يقولوا إليه.
فإن قيل قد جاء في حديث أنس «إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث» قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه، وأنه كان مناما لا يقظة. قال السهيلي: ولم نجد في رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا في هذا الحديث.
وفي رواية بدل بعث إليه «أرسل إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير» .
واختلف في لفظ آدم؟ فقيل أعجمي، ومن ثم منع الصرف. وقيل عربي، لأنه مشتق من الأدمة التي هي السّمرة، والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافي كونه أحسن الناس، أو هو مشتق من أديم الأرض أي وجهها لأنه مخلوق منه.
وعلى أنه عربي يكون مع صرفه للعلمية ووزن الفعل.
وفي رواية «تعرض عليه أرواح بنيه فيسرّ بمؤمنها» أي عند رؤيته «ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها» .
قال وفي رواية «فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته» أي على غاية من الحسن والجمال «فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، خرجت من جسد طيب، اجعلوها في عليين. وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجين» .
أقول: وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين في عليين كأرواح الطائعين منهم، لكن لا يقتضي تساويهما في الدرجة كما لا يخفى.
وفي رواية «تعرض عليه أعمال ذريته» وهو إما على حذف المضاف: أي صحف أعمالهم التي وقعت منهم، وهي التي في صحف الحفظة، أو التي ستقع منهم وهي ما في صحف الملائكة غير الحفظة. أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتي أن المعاني تجسم، ففي كل من الروايتين اقتصار، والله أعلم.
وفي رواية سندها ضعيف، كما قاله الحافظ ابن حجر «وعن يمينه أسودة، وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله أسودة، وباب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه أي إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله أي إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: هذا أبوك آدم» أي وزاد في الجواب قوله «وهذه الأسودة نسيم» أي أرواح «بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى» وزاد في الجواب أيضا قوله «وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى» اهـ أي إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما، وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار في الأرض السابعة، وهي محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما في السماء الدنيا، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم.
وأجيب عن الثاني بأن عرضها: أي أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهي دون السماء لأنها شفاقة أو من ذلك الباب، أي وكونها عن يساره الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم:
أي في جهة يساره.
ويجاب عن الأول بأن الباب الذي على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة، ولهذا قيل له باب الجنة، وكذا يقال في باب جهنم، لأن الاضافة تأتي لأدنى ملابسة، وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة في الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هي الأرواح التي لم تدخل الأجساد بعد: أي الآن، ومستقرها عن يمين آدم وشماله. وقد أعلم بما سيصيرون إليه، بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها. على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره.
ولا حاجة لما نقل عن القرطبي في الجواب عن ذلك، من أن الكفار التي لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب، فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب، إذ هو يقتضي أن المراد بأرواح بنيه في الروايتين السابقتين الأرواح التي خرجت من أجسادها.
قال صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل» أي كشفاه الإبل «أي وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار» أي الحجارة التي كل واحد منها ملء الكف «يقذفونها في أفواهم تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلا آكلة أموال اليتامى ظلما» وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض: أي ولعل المراد بالرجال الأشخاص، أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم: «ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط» وفي رواية «أمثال البيوت» زاد في رواية «فيها حيات، ترى من خارج البطون بسبيل» أي طريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك: أي فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر، المقتضي لشدة وطئهم لهم. والمهيومة: التي أصابها الهيام، وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض ولا ترعى، وفي كلام السهيلي: الإبل المهيومة العطاش، والهيام: شدة العطش. أي وفي رواية «كلما نهض أحدهم خر» أي سقط «قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء آكلة الربا» وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض، لا بهذا الوصف، بل إن الواحد منهم يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة: أي ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم: أي فيخرجون من ذلك النهر ويلقون في طريق من ذكر، وهكذا عذابهم دائما.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن، يأكلون من الغث أي الخبيث المنتن، ويتركون السمين الطيب، قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن» أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف.
وفي رواية «رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام» أي من الأموال، أعمّ مما قبله: أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم، أي بسبب زناهن: أي وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن في الأرض، والذي تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد، وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم، على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات، لأن الزنا سبب في حصول ما ذكر غالبا، ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن.
قال «ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه، فيقال له أي لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك، اللمازون: أي المغتابون للناس النمامون لهم» اهـ أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين في الأرض بغير هذا الوصف. أي وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في هذه السماء النيل والفرات يطردان أي يجريان وعنصرهما: أي أصلهما» وهو يخالف ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران» وأن الظاهرين النيل والفرات.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذي هو أصلهما في السماء الدنيا: أي بعد مرورهما في الجنة، ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض. فقد جاء «في تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ} [المؤمنون:18] أنهما النيل والفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال» ثم إن الله سبحانه وتعالى سيرفعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان، وذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ} [المؤمنون:18] وذكره السهيلي وفي زيادة الجامع الصغير «أن النيل ليخرج من الجنة، ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها» .
قال صلى الله عليه وسلم: «ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: قد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما، أي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما، ومعهما نفر من قومهما، فرحبا بي ودعوا لي بخير» وفي بعض الروايات التي حكم عليها بالشذوذ «أنهما في السماء الثالثة» وقد ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس، والشذوذ لا ينافي الصحة المطلقة.
فقد قال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي عند قوله من غير ما شذوذ: خرج الشاذ، وهو ما خالف فيه الراوي من هو أرجح منه، ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم، لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه.
وفي كلام السخاوي نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد فيهما أمثلة من ذلك، أي من الصحيح الموصوف بالشذوذ.
أقول: وكونهما ابني الخالة: أي أن أم كل خالة الآخر هو المشهور. وعليه قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة، ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال؛ لكن في عيون المعارف للقضاعي أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى، لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم.
وكذا في كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام، وأنهما تزوجا أختين؛ فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى، وزوجة عمران ولدت مريم، فأم يحيى أخت أم مريم، فعيسى ابن بنت خالة يحيى، وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم «فإذا أنا بابني الخالة» على التجوّز، وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما في تفسير التستري على التجوز.
ففيه: حكي عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنهما خرجا يمشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن الخالة، لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك، قال: وما هي؟ قال: صدمت امرأة قال: والله ما شعرت بها، قال عيسى: سبحان الله: بدنك معي فأين قلبك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أني ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت. قال بعضهم: وهو كثير شائع في كلامهم.
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين، وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم، وأخت مريم من الأب، فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون في شريعتهم جواز ذلك.
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت أشياع: أي التي هي أم يحيى، ثم تزوج حنة بعد ذلك التي هي ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم، بناء على جواز ذلك في شريعتهم.
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم، إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة، ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصاري جيء به للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة؛ وقال: لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى.
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعته إلى السماء، وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم؟ بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء؛ أي فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له، فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا همّ بها» أي ففي الحديث «ما من أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد همّ بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهمّ بها ولم يعملها» فليتأمل ما في ذلك.
وقد ذكر «أن والد زكريا لأمه على كثرة العبادة والبكاء، فقال له: أنت أمرتني بذلك يا أبت، ألست أنت القائل: إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله عز وجل؟ فقال: بلى، فجدّ واجتهد» .
وقد جاء في الحديث «أن يحيى هو الذي يذبح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشعرة تكون في يده والناس ينظرون إليه، أي فإن الموت يكون في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ويقال لأهلهما: أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت» أي يلقي الله عز وجل معرفته في قلوبهم، وتجسم المعاني جاء به الحديث الصحيح.
على أنه جاء في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ} [الملك:2] أن الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات. وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي، وهو يدل على أن الموت جسم، وأن الميت يشاهد حلول الموت به.
وقيل الذي يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل إن في هذه السماء الثانية إدريس، وهو قول شاذ. وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر فيها أن ابني الخالة في السماء الثالثة كما تقدم، وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس.
قال أبو حيان: وعيسى لفظ أعجمي. والظاهر أن مثله يحيى، هذا كلامه. وفي كلام غيره أن يحيى عربي، ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل.
وقيل في عيسى إنه عربي مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه صفرة. وعلى أنه أعجمي قيل عبراني. وقيل سرياني.
«ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، أي ومعه نفر من قومه، وإذا هو أعطي شطر الحسن» أي وفي رواية «صورته صورة القمر ليلة البدر» والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذي أعطيه الناس.
وفي الحديث: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا، وأعطي الناس الثلثين» ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء في رواية «قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثي حسن الخلق، وقسم بين سائر الخلق الثلث» وعن وهب بن منبه: الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس.
وفي كلام بعضهم «كان فضل يوسف في الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران» والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك في شيء كما أشار إليه صاحب البردة بقوله: فجوهر الحسن فيه غير منقسم
خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكي.
وعبارته «فإذا هو أي يوسف عليه الصلاة والسلام أعطي شطر الحسن الذي أعطيه كله صلى الله عليه وسلم» .
هذا، وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذي هو جده، وإسحاق ورث الحسن من سارة التي هي أمه، وسارة أعطيت سدس الحسن، ورثت ذلك من حواء.
أي وفي رواية «وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» أي كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية، والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لما علمت أنه أعطي شطر الحسن الذي لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه على ما فيه.
وقد جاء «إن يوسف أعطي نصف حسن آدم» وفي رواية «ثلث حسن آدم» وقد جاء «كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه» .
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتي كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره، فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها.
وقد جاء «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا» .
قال: «فرحب بي ودعا لي بخير» وفي بعض الروايات «إن في هذه السماء الثالثة ابني الخالة يحيى وعيسى» كما مر «ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير» وفي رواية «قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح» .
وفي رواية قتادة «مرحبا بالابن الصالح» قال بعضهم: وهو القياس، لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث، بينه وبين شيث أربعة آباء؛ أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة. وهو أول من أعطي الرسالة من ولد آدم، وهو يقتضي أن شيثا لم يكن رسولا.
ونوح من ولده، بينه وبينه ابنان، فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قوله بالأخ الصالح في تلك الرواية محمول على التواضع منه، خلافا لمن تمسك بذلك.
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] أي حال حياته لأنه رفع إلى السماء.
قيل من مصر بعد أن خرج منها ودار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة، خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم.
وهو أوّل من استخرج علم النجوم: أي علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي: وهو علم صحيح لا يخطئ في نفسه؛ وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطئ لعدم استيفاء النظر. ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا. وفي كلام الشيخ محيي الدين: لم يجئ نص في القرآن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا.
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه، فمن شاء دخل معه في شرعه، ومن شاء لم يدخل؛ فمن دخل ثم رجع كان كافرا.
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب أبدا. الناس اثنان: طالب لا يجد، وواجد لا يكتفي. من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها. خير الإخوان من نسي ذنبك ومعروفه عندك. وقد قبضت روحه في هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة، ومدفنه بها، تصلي عليه الملائكة كلما هبطت.
وحينئذ لا يقال: من كان في السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه. على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة، وهو فيها الآن: أي غالب أحواله في الجنة، فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة في تلك الليلة، لأن الجنة أرفع من السموات، لأنها فوقها السماء السابعة، ولا ما جاء في الحديث أنه في السماء حيّ كعيسى عليهما الصلاة والسلام. وفي بعض الروايات أن في هذه السماء الرابعة هارون.
«ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون أي ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرّته من طولها وحوله قوم من بني إسرائيل وهو يقص عليهم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران» أي لأنه كان ألين لهم من موسى عليهما الصلاة والسلام، لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم، ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء.
«ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «جعل يمر بالنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مر بسواد عظيم فقال: من هذا؛ قيل موسى وقومه» المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى «لكن ارفع رأسك، فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل: هؤلاء أمتك، هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» أي منهم بدليل ما جاء في رواية «قيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أنا منهم؟ قال نعم، ثم قال رجل آخر: أنا منهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة» لأن هذا الرجل كان منافقا، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافق، بل أجابه بما فيه ستر عليه. والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود. وهذا تمثيل: أي مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أي وأمة موسى أيضا، إذ يبعد وجودها حقيقة في السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذي مر بهم من النبي والنبيين في السماء السادسة «فلما خلصا» أي جاوز ما ذكر من النبي والنبيين والسواد العظيم «فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر» أي مع صلابته «لو كان عليه قميصان لنفذ الشعر منهما» أي وكان إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته نارا لشدة غضبه.
وفي كلام بعضهم: كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل، ولشدة غضبه لما فرّ الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له. ووجه بأنه لما فر صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب «فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له ولأمته بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا؟ بل هذا أكرم على الله مني، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي» أي وبل من سائر الأمم.
فقد ذكر الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته في الآخرة أن أهل الجنة: أي من الأمم مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون.
وجاء في المرفوع «كل أمة بعضها في الجنة وبعضها في النار إلا هذه الأمة، فإنها كلها في الجنة» .
وفي العرائس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفا، من مسيرة عشرة فراسخ» .
وفي الحديث «ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا، واسم الأرض السابعة جريبا» .
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال: من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا «فاستفتح جبريل، قيل: من هذا قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أي رجل أشمط» وفي لفظ «كهل» ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعني نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا «جالس عند باب الجنة» أي في جهتها كما تقدم، وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور: أي وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفي آخره حاء مهملة، من ضرح: إذا بعد، ومنه الضريح.
أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: يقال له الضراح والضريح. وجاء «إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخرّ عليها» أي فهو في تلك السماء في محل يحاذي الكعبة، أي وقيل في السماء الرابعة» وبه جزم في القاموس، وقيل في السادسة، وقيل في الأولى، وتقدم أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن كل بيت منها بحيال الكعبة «وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه» .

أقول: عن بعضهم «أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وفي رواية «سبعون وجيها، مع كل وجيه سبعون ألف ملك» والوجيه: الرئيس، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل، وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضي ذلك.
ثم رأيت الشيخ عبد الوهاب الشعراني أشار إلى ذلك حيث قال «وسما له البيت المعمور، فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرّفه» أي جبريل «أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد، ويخرجون من الباب الآخر» فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها. والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذي في السماء السابعة.
وقال السهيلي: وقد ثبت في الصحيح «أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رآهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا، قال له: وأولاد الكافرين؟ قال له: وأولاد الكافرين» أخرجه البخاري في الحديث الطويل في كتاب الجنائز، وخرجه في موضع آخر فقال «فيه أولاد الناس» .
وقد روي في أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة، هذا كلامه. وجاء في حديث مرفوع، لكن سنده ضعيف «إن في السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم» أي سحرا كما في بعض الروايات «فينغمس ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا» وفي لفظ «يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه، فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا، يولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم في السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة» وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن جبريل أخبره بذلك في تلك الليلة، والله أعلم.
وفي رواية «وإذا أنا بأمتي شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطرا عليهم ثياب رمدة، فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور» أي والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين، وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود، ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين «وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له: يا نبي الله إنك ملاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك في أمتك فافعل» .
وفي السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال له صلى الله عليه وسلم ذلك في الأرض قبل وصول بيت المقدس، وقال له: هنا «مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله» وفي رواية أخرى «أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» .
وقال يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر.
قال صلى الله عليه وسلم «واستقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة» أي ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة، لكن في رواية «فرأيت فيها أي في الجنة جارية» الحديث.
وقد يقال: يجوز أن يكون رآها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها في المرة الأولى. واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك مستملح قاله في الصحاح.
وفي رواية «فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق» أي وهذه الرواية ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها، وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين.
وعند عرض تلك الأواني عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة: أي بأخذك اللبن الذي هو الفطرة، أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة: أي أوجدهم على الفطرة ببركتك. وفي رواية «هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك» أي وتقدم أن المراد بها الإسلام.
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة، وموسى في السماء السابعة، وهذه الرواية في البخاري عن أنس، وتقدم أن ذلك كان في الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده، وفيه أن رؤيا الأنبياء حق.
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال، وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده، وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه، فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه في سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا، والحافظ ابن حجر لا يرى الجمع، بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به. قال: والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغي المصير إليه هذا كلامه.
وعندي فيه نظر ظاهر، والجمع أولى من اثبات المعارضة لا سيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا، لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل.
وعلى المشهور من الروايات الذي صدّرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذي لقيه فيها حكمة يطول ذكرها.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم ذهب بي: أي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا أوراقها كآذان الفيلة» وفي رواية «مثل آذان الفيول» وفي رواية «الورقة منها تظل الخلق» وفي رواية «تكاد الورقة تغطي هذه الأمة» وفي رواية «لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا» وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة في الشكل، وهو الاستدارة لا في السعة «وإذا ثمرها كالقلال» وفي رواية «كقلال هجر» قرية بقرب المدينة، والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز، والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادي، فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت» أي صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التي كانت عليها «فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها» أي لأن رؤية الحسن تدهش الرائي، وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة: أي وهو قول الأكثر، وفي بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسي، وعن وهب أن العرش والكرسي فوق السماء السابعة. قال: ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة في أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط، أي فلا يؤكل اهـ.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ» أي بالمعجمة «قباب اللؤلؤ» وفي لفظ «حبائل اللؤلؤ أي المعقود والقلائد، وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت» فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة.
وفي الحديث «ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، والذي نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها» وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل، وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة: أي تؤكل من غير قطع: أي يؤكل منها، فالأكل موجود، والعين باقية في غصن الشجرة، وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة في شتاء ولا صيف، أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم، فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد، وأطال في ذلك، وكأنه لم يقف على هذا الحديث، أو لم يثبت عنده فليتأمل.
قال «ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار: نهران باطنان» أي يبطنان ويغيبان في الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة «ونهران ظاهران» أي يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة «فقال: ما هذه، أي الأنهار يا جبريل؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» انتهى.
أقول: قول جبريل أما الباطنان ففي الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال: أي الذي هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها، فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا، وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران في الجنة ويجاوزانها، وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها، والنيل نهر مصر، والفرات نهر الكوفة. ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان، يبطنان في الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما في الخارج، بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها.
وقد جاء في حديث «ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة في الفرات» قال بعضهم: ومصداقه أن الفرات مد في بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير، فيقال إنه رمان الجنة. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الأحاديث الواهية.
وفي حديث موقوف على ابن عباس «إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل، فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم، والحجر والمقام، وتابوت موسى بما فيه إلى السماء» .
هذا، وفي بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى، فليسا هما المراد بالباطنين.
وعن مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، أي ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا. ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها.
وفي «السيرة الشامية» : لم يثبت في سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطان المذكوران: أي في الحديث فهما غير سيحان وجيحان. قال القرطبي: ولعل ترك ذكرهما: أي سيحان وجيحان في حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات، هذا كلامه، ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة، فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان في الجنة أصلا.
قال «وإذا فيها» في تلك الشجرة «عين» أي في أصلها أيضا «يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، فاغتسلت منه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» انتهى: أي فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، لكن لا من المحل الذي يخرج من النيل والفرات، وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. وفي جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل، فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة؛ فالأنهار التي تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها.
وعلى الأول لا ينافي قول القرطبي: ما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذي يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات.
ولا ينافي ما عند مسلم «يخرج من أصلها يعني سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل والفرات وسيحان وجيحان» ولا ما عند الطبراني «سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار: من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى» وعن كعب الأحبار: إن نهر العسل نهر النيل، أي ويدل لذلك قول بعضهم: لولا دخول بحر النيل في البحر الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته. ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان، لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة. ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من أصلها، فصح أنها من الجنة، هكذا ذكره العارف ابن أبي جمرة، ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال: أي أن سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، ولا حاجة لهذا الاحتمال في تصحيح هذه الرواية، لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة، ثم تكون خارجة من الجنة؛ ثم لا يخفى أن في كلام القاضي عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون.
ويخالفه قول صاحب النهاية: اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان، وسيحون غير سيحان، ومن ثم أنكر الإمام النووي على القاضي عياض حيث قال: الثاني أي من وجوه الإنكار على القاضي قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون، فجعل الأسماء مترادفة، وليس كذلك، فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه.
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ، وسكت عن بيان سيحون فليتأمل.
قال «والذي غشي الشجرة فراش من ذهب» والفراش: هو الحيوان الذي يلقي نفسه في السراج ليحترق» وملائكة على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى، وملائكة أي آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة» اهـ.
«ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عز وجل عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سدّ الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وغشيت تلك السدرة سحابة، فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به صلى الله عليه وسلم: أي في تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام» وفي رواية «صريف» أي صوت حركتها حال الكتابة: أي ما تكتبه الملائكة من الأقضية، وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم، وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش.
وفي رواية «ثم انطلق بي أي جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم «وماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشدّ رائحة من المسك» .
أقول: قد تقدم أن هذا النهر من العين التي تخرج من سدرة المنتهى التي يقال لها السلسبيل: أي فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر، ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافي كون الكوثر نهرا في الجنة، وأن السلسبيل عين في الجنة، لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر، والله أعلم.
وفي رواية «إنها» أي سدرة المنتهى «في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها، ومن ثم سميت سدرة المنتهى.
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال: إنما سميت سدرة المنتهى، لأن روح المؤمن ينتهي بها إليها، فتصلي عليها هناك الملائكة المقرّبون وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهى في السادسة، وكونها في السابعة بأن أصلها في السادسة وأغصانها في السابعة: أي فوق السابعة: أي جاوزت السابعة، فلا ينافي القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم، وهذا الحمل المقتضي لكون أصلها في السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم.
ويروى «أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم: ها أنت وربك، هذا مقامي لا أتعداه، فزج بي في النور» أي لما غشيته تلك السحابة، ويعبر عن تلك السحابة بالرفرف. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو نظير المحفة عندنا.
وفي تاريخ الشيخ العيني شارح البخاري عن مقاتل بن حيان، قال «انطلق بي جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى، قال جبريل: تقدم يا محمد، قال: فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة، فنادى جبريل من خلفي: يا محمد إن الله يثني عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه، فبدأت بالثناء على الله عز وجل» الحديث، أي وفي ذلك النور المستوي الذي يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب.
وفي رواية «أنه لما وقف جبريل، قال له صلى الله عليه وسلم: في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ قال: إن تجاوزت احترقت بالنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك؟ قال: يا محمد سل الله عز وجل لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال: ثم زج بي في النور فخرق بي إلى سبعين ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا، غلظ كل حجاب خمسمائة عام، وانقطع عني حس كل ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر رضي الله تعالى عنه: قف إن ربك يصلي، فبينا أنا أتفكر في ذلك» أي في وجود أبي بكر في هذا المحل وفي صلاة ربي، فأقول: هل سبقني أبو بكر وكيف يصلي ربي وهو غني عن أن يصلي كما يدل على ذلك ما يأتي «فإذا النداء من العلي الأعلى: ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد، ادن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنت كما قال عز وجل {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ} * {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} [النجم: 8] .
وفي الخصائص الصغرى «وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلوّ إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون معنى تدلى زاد في القرب. وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلّى الحق سبحانه وتعالى: أي دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقي أنه روي بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك، ومعلوم أن معنى الدنو والتدلي الواقعين من الله سبحانه وتعالى، كمعنى النزول منه في «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير» وهو أي ذلك كعند أهل الحقائق من مقام التنزل؛ بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم، فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة، وفي حقه تعالى مجاز.
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل، وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم: أي سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطي من الزلفى.
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف، وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم: أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه، ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى: أي قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه عز وجل، فوضع يده عز وجل بين كتفيّ بلا تكييف ولا تحديد» أي يد قدرته تعالى، لأنه سبحانه منزه عن الجارحة «فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري. وعلم خيرني فيه. وعلم أمرني بتبليغه إلى العامّ والخاص من أمتي، وهي الإنس والجن» أي وكذلك الملائكة على ما تقدم.
أقول: هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هي هذه العلوم الثلاثة، إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم قلت: اللهم إنه لما لحقني استيحاش سمعت مناديا ينادي بلغة تشبه لغة أبي بكر، فقال لي قف فإن ربك يصلي، فعجبت من هاتين هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيّ أن يصلي! فقال تعالى: أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي، اقرأ يا محمد {هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] فصلاتي رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ} {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17- 18] وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة، وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبي بكر خلقنا ملكا على صورته ينادي بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة» .
أقول: لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته، لأنه ليس في الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبي بكر، وإنما سمع صوته والله أعلم.
«ثم قال الله عز وجل: يا محمد وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم؛ فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك» .
أقول: لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك في دينك عاملا بسنتك: أي وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم في قوله أن أبسط جناحي لأمتك على الصراط، والله أعلم.
وفي رواية «إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا، قال صلى الله عليه وسلم: فأوحى الله عز وجل إليّ ما أوحى» .
وقد ذكر الثعلبي والقشيري في تفسير قوله تعالى {فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ} [النّجم:10] أن من جملة ما أوحي إليه «إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» قال القشيري: وأوحي إليه «خصصتك بحوض الكوثر، فكلّ أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة» .
أقول: تقدم أن من جملة ما أوحي إليه في هذا الموطن من القرآن: خواتيم سورة البقرة، وبعض سورة الضحى، وبعض ألم نشرح، وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحي، وقدمنا أنه يضم لذلك {هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] الآية على ما تقدم.
هذا. وفي حديث رواته ثقات «لما وصلت إلى السماء السابعة، قال لي جبريل عليه السلام: «رويدا» أي قف قليلا «فإن ربك يصلي، قلت: أهو يصلي؟» وفي لفظ «كيف يصلي» وفي لفظ آخر «قلت: يا جبريل أيصلي ربك؟ قال نعم، قلت: وما يقول؟ قال: يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي» ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره في السماء السابعة وفيما فوقها، لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلي في المرة الثانية وما بعدها.
وورد أن بني إسرائيل سألوا موسى هل يصلي ربك؟ فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك، فقال الله تعالى: يا موسى ما قالوا لك؟ فقال: قالوا الذي سمعت، قال: أخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفئ غضبي، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «فنزلت إلى موسى» أي وفي رواية «ثم انجلت تلك السحابة» أي عند وصوله إلى سدرة المنتهى الذي هو المحل الذي وقف فيه جبريل «فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتى على موسى وهذا يدل على ما هو المشهور في الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السابعة، وموسى كان في السادسة، لا على غير ما هو المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السادسة وموسى كان في السابعة كما تقدم.
«ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له: ما فرض ربك عليك» أي وفي لفظ «بم أمرت؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم» أي وفي البخاري «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، أي فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما: أي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وقيل فرض ركعتان عند الزوال: أي فما قاموا بذلك» .
وفي «تفسير البيضاوي» أن الذي فرض على بني إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات.
ويرده قولهم: إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التي هي المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم.
ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} [البقرة:286] أن من ذلك الإصر الذي كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة. وكتب عليه الجلال السيوطي في الحاشية أن كون بني إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة في اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك.
«ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» أي وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه، لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها، لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبي ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية.
قال «فرجعت إلى ربي أي انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا، فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله تعالى: يا محمد إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه» أي وفي رواية «أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات» وجاء في الحديث «أكثروا من الصلاة على موسى، فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتي منه» .
أقول في الوفاء أن رواية «وضعت خمس صلوات» من أفراد مسلم، ورواية «وضع عنه عشر صلوات» أصح، لأنه قد اتفق البخاري ومسلم عليها، والرواية التي فيها «حط خمسا خمسا» غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل.
والمتبادر من قوله «إلى أن أمر بخمس صلوات» أنه رفع التعلق بجميع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين، فالمنسوخ جميع الخمسين.
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع اثبات التعلق بخمسة منها التي هي بعضها، فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين. قيل، وفي هذا وقوع النسخ قبل البلاغ. وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه.
وردّ بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كلف بذلك ثم نسخ، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: وما قيل إن الخمس في ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو في حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له، لا في حق الأمة: أي لعدم بلوغه لهم، هذا كلامه. وإذا نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم نسخ في حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح، وهذا يردّ ما في الخصائص الصغرى للسيوطي رحمه الله تعالى، من أن وجوب الخمسين لم ينسخ في حقه صلى الله عليه وسلم، وإنما نسخ في حق الأمة، ولعل مستنده في ذلك رواية «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا في كل يوم وليلة» أي على الأمة كما هو المتبادر، وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم «إن أمتك لا تطيق ذلك» وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكي في تائيته:

وقد كان ربّ العالمين مطالبا *** بخمسين فرضا كل يوم وليلة
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة *** وخففت الخمسون عنا بخمسة

وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل، وهو يردّ قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته.
والظاهر من الخمسين التي فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد الخمس مساو لها.
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس، ولم أقف على بيان تلك الصلوات.
وعلى أن الخمسين لم تنسخ في حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم لها، وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله:

وطوى الأرض سائرا والسموا *** ت العلا فوقها له إسراء
فصف الليلة التي كان للمختار *** فيها على البراق استواء
وترقى به إلى قاب قوسين *** وتلك السيادة القعساء
رتب تسقط الأماني حسرى *** دونها ما وراءهن وراء
وتلقى من ربه كلمات *** كل علم في شمسهن هباء
زاخرات البحار يغرق في قط *** رتها العالمون والحكماء

أي وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء: أي ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها في أسرع وقت، فصف تلك الليلة التي كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار، وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين، وتلك الرتبة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم هي السعادة الثابتة التي لا يعتريها نقص ولا زوال، وهذه رتب تسقط دونها الأماني حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام، أي ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم، وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء، وهو ما يرى في ضوء الشمس، وبث سبحانه وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء والحكماء شذرة منها؛ وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما في حياة الحيوان.
إن قيل: لم عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق؛ ولم ينزل عند منصرفه عليه. فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى، هذا كلامه فليتأمل.
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق، وقد جاء «كان موسى أشدهم عليّ حين مررت عليه، وخيرهم إليّ حين رجعت، ونعم الصاحب كان لكم أي فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى، فنودي ما يبكيك؟ قال: رب هذا غلام» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم، هذا هو المناسب للمقام «بعثته بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي» وفي رواية «تزعم بنو إسرائيل» أي وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام، ومعنى إسرائيل عبد الله، وقيل صفوة الله. وفي لفظ «تزعم الناس أنه أكرم على الله مني، ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى» أي انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم.
أقول: والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته، بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم. وفي رواية عن ابن عمر «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة» .
قال: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» انتهى. هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض.
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما جاء في بعض الروايات، ودرهم الصدقة بعشر تصير الجملة عشرين، ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر.
«وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار، فإذا فيها غضب الله تعالى» أي نقمته «لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما» وفي هذه الرواية زيادة على ما تقدم، وهي «فإذا قوم يأكلون الجيف، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» أي وتقدم «أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء في الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم، ورآهم في السماء الدنيا، وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه» ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم في الأرض وفي السماء الدنيا، ولعل الحكمة في ذلك المبالغة في الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها.
«ورأى فيها رجلا أحمر أرزق، فقال: من هذا يا جبريل؟ فقال: هذا عاقر الناقة» أي ولعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به في النور، ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهي في الأرض السابعة.
أقول: ونقل القرطبي في تفسيره عن الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه، ويقولون في تسبيحهم: اللهم اغفر لمن شهد الجمعة» أي صلاتها «اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة» أي لصلاتها، وهذا يفيد أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم، وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤيّ كما تقدم، ويخالف ما سيأتي من أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة، وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها في ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة، بل اقتصر على قوله اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، أي في أكثر الروايات، وإلا فقد رأيت السهيلي ذكر حديثا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سمي ذلك اليوم بيوم الجمعة، ونصه «كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين» فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا: أي في قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة، وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم، فيكون الذي سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا، والله أعلم.
قال «ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار، فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم أي بالسلام ثم أغلقت دونه» انتهى.
وفي الأصل: وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «وقد رأيتني: أي يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه في جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة» أي حضرت إرادة الصلاة فأممتهم، أي صليت بهم إماما «قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأني بالسلام. قال: وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما لي لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فردّ عليّ السلام ورحب بي ودعا لي ولم يضحك لي؟ قال: ذلك مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك» انتهى.
أقول: وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة في السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج، إذ لم يذكر في شيء منها على ما علمت. ويدل على أن مالكا خازن النار وجده في السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، ومرة بدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، والمناسب أن يكون في المرة الأولى هو الذي بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام وهو عند الباب. ثم رأيت الطيبي صرح بذلك حيث قال: إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه، ليزيل ما استشعر من الخوف منه، لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب في وجهه، فلا ينافيه ما ذكره السهيلي من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة، ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم «لم آت أهل سماء إلى آخره» قد يعارضه ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم، قال لجبريل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار» وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها، وهذا لا ينافي أن ميكائيل ضحك بعد ذلك، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة، فسأل عن ذلك، فقال: رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم، أي يوم بدر، وعلى جناحه الغبار فضحك إليّ فتبسمت إليه» .
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال لجبريل: إني لم أر ميكائيل ضاحكا قط، قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار» ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما في مسند أحمد عن أنس بن مالك، قال: قال صلى الله عليه وسلم لجبريل «لم تأتني إلا رأيتك صارّا بين عينيك، قال: إني لم أضحك منذ خلقت النار» وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يردّ على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي هاشم، حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار، وأنهما ليستا موجودتين الآن، وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء، مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما، وبأنهما لو كانا مخلوقتين في السماء والأرض لفنيا بفنائهما.
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء، لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد في العبادة لتحصيل ذلك الثواب، وإذا علم عقابا مخلوقا اجتهد في اجتناب المعاصي لئلا يصيبه ذلك العقاب، فليتأمل.
وأجيب عن الثاني بأن الله استثناهما من قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ} [الزمر:68] .
وفيه أن هذه صعقة الموت، ولا يتصف بالموت غير ذي الروح، ولأن الجنة كما قيل ليست في السماء السابعة بل فوقها، والنار ليست في الأرض السابعة بل تحتها، وحينئذ يكون القول بأن الجنة في السماء السابعة والنار في الأرض السابعة فيه تجوّز والله أعلم.
قال: واختلف في رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك: أي أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه. واستدل له بحديث «رأيت ربي في أحسن صورة» . وردّ بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن.
وقد قال بعض العارفين: شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة، وأنكرتها عائشة رضي الله تعالى عنها. وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه أي بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، أي أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل، ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما وجمع من العلماء.

ونقل عن الدارمي الحافظ أنه نقل اجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه. وذهب إلى الرؤية: أي المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين، بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:

ورآه وما رآه سواه *** رؤية العين يقظة لا المرائي

واحتجت عائشة رضي الله تعالى عنها على منع الرؤية بقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ} [الأنعام:103] قال: وروي أن مسروقا قال لها: ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ} [النّجم:13] أي مرة أخرى، أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى؛ فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطا: أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل.
وفي رواية قال لها: «ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين: أي مرة في الأرض ومرة في السماء» في هذه الليلة كما تقدم، وعلى ظاهر الآية: أي من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى، وقطع النظر عن هذه الرواية التي جاءت عن عائشة رضي الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين: مرة في قاب قوسين، ومرة عند سدرة المنتهى، ولا مانع من ذلك، ولعل ذلك هو المعنيّ بقول الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للباري عز وجل مرتين، وفيها:
وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه عند سدرة المنتهى، وكلم موسى بالجبل.
قال بعضهم: يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضي الله تعالى عنها بما ذكر أي بقوله: إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أي في ذلك الوقت انتهى، وأيد قولها بما روي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه «قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا» أي حجبني ومنعني عن رؤيته عز وجل، ومن ثم جاء في رواية «نور أني أراه؟» أي كيف أراه مع وجود النور، لأن النور إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما وراءه، أي وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئي له خلافا لمن فهم ذلك، وأيده بما روي «نوراني» أي لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف، ومن ثم قال القاضي عياض: لم أرها في أصل من الأصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض: أي لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الاجرام الكثيفة المحاذية لهما، والله تعالى يتعالى عن ذلك، أي فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم:
أي ومن ثم قيل في قوله تعالى {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ} [النور: 35] أي ذو نور، أو هو على المبالغة: أي وجاء «رأيته في صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ» وجاء «رأيت ربي في أحسن صورة» قال الكمال بن الهمام: إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة.
قال: وقيل رآه بفؤاده مرتين لا بعيني رأسه؛ فعن بعض الصحابة «قلنا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني، رأيته بفؤادي مرتين، ثم تلا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ} [النّجم:8] الآية» وهذا السياق يدل على أن فاعل دَنا فَتَدَلَّى لحق سبحانه وتعالى، والمراد بالفؤاد القلب: أي خلقت الرؤية في القلب، أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى.
أقول: وكون الفؤاد له بصر واضح، لقوله تعالى: {مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ}[النّجم:17] . وأجيب عما احتجت به عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى {لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ}[الأنعام:103] بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك: أي الذي هو الإحاطة، فالنور إنما منع من الإحاطة به لا من أصل الرؤية. وقد قال بعضهم للإمام أحمد: بأي معنى تدفع قول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية؟ فقال: يدفع بقول النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي» وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها.
هذا، وقد قال أبو العباس بن تيمية: الإمام أحمد إنما يعني رؤية المنام، فإنه لما سئل عن ذلك، قال نعم رآه؟ فإن رؤيا الأنبياء حق، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك.
أقول: وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يردّ عليها، وقد ضعف حديث أبي ذر المتقدم، وهو «قلت يا رسول الله رأيت ربك؟ فقال: نوراني أراه؟» وهو من جملة الأحاديث التي في مسلم التي نظر فيها والله أعلم.
قال أبو العباس بن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي، ولم يقع النزاع إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث.
وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها» .
وقد نقل القرطبي عن جماعة من المحققين القول بالوقف في هذه المسألة، لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، وهو من المعتقدات، فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه.
ونازع فيه السبكي بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي، وهي التي تكلف باعتقادها كالحشر والنشر، بل من المعتقدات التي يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح، وهي التي لم نكلف باعتقادها. كما نحن فيه.
وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه، حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري مرتين.
وفي كلام بعضهم قال العلماء في قوله تعالى {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ} [النّجم:18] رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة.
وفي كلام ابن دحية: خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة، منها الرؤية والدنوّ والقرب. قال بعضهم: قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إثبات الرؤية، وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها، ولا يجترئ أحد أن يظن في ابن عباس أن يتكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
قال الإمام النووي: والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، أي وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة في الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء، المؤمن والكافر، والملائكة جبريل وغيره.
وأما رؤيته عز وجل في الجنة، فقيل لا تراه الملائكة، وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة. قال بعضهم: وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك.
واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى في الجنة، فقيل لا يرينه لأنهن مقصورات أي محبوسات في الخيام. وقيل يرينه في أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه في كل يوم جمعة.
فقد جاء «أنه تعالى يتجلى في مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما» ومن أهل الجنة مؤمنو الجن على الراجح.
وجاء «إن كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة، يجتمعون فيه على زيارة ربهم، ويتجلى لهم فيه، ويدعي يوم الجمعة في الجنة بيوم المزيد» قال بعضهم: هذا لعموم أهل الجنة، وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعشيا.
وأما رؤية الله عز وجل في النوم، ففي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل في المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم في أحد القولين، وهو اختياري، وعليه أبو منصور الماتريدي. وفي كلام الإمام النووي قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها: أي وقوعها قال:
وإن رآه حينئذ إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى والله أعلم.
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا في ليلة واحدة، أي وقيل كان الإسراء وحده في ليلة، ثم كان هو والمعراج في ليلة أخرى.
قال: وقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان وأصوات، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون» أي وذلك مانع لهم من التفكر في ملكوت السموات والأرض أي لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك «لولا ذلك لرأوا العجائب» أي أدركوها.
«ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا» أي بناء على أنه لم يعرج على البراق «فمرّ بعير لقريش» إلى آخر ما تقدم انتهى.
أقول: ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أي عند نزوله من السماء قوله تعالى{وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصّافات:164] الآيات الثلاث، وقوله تعالى {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} [الزّخرف:45] الآية، والآيتان من آخر سورة البقرة، وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين، والله أعلم.
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى {أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ} * {عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ} [العلق:9 و 10] وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجنّ:19] ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده، ولأن الدواب التي منها البراق لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجساد.
واستدل على أن الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ} [النّجم:17] لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضي أن ذلك يقظة، ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه.
أقول: فيه أن لقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه، لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا، والله أعلم.
وقيل كان الإسراء بجسده، والمعراج بروحه الشريفة، أي بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد، وكان حالها في ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته في صعودها في السموات حتى بين يدي الله تعالى، وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم، لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها. قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج.

أقول: الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء، بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان في ليلة واحدة، وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذي أخبر به كفار قريش قال: إذ لو كان أي في تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالإسراء، أي ولم يخبر به حينئذ، إذ لو أخبر به حينئذ لنقل، ولذكره سبحانه تعالى مع الإسراء، لأن المعراج أبلغ في المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى.
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان في ليلة الإسراء الذي أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت لهم امارات صدقه على تلك الآية الخارقة التي هي الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك: أي وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أي لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء.
وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لعدم علمهم ومعرفتهم بشيء في السماء، والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك: أي إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا، حيث لم ينزل قصة المعراج في سورة الإسراء» بل أنزل ذلك في سورة النجم.
ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول الإمام البخاري في صحيحه «باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء» لأن من المعلوم أن فرض الصلاة: أي الصلوات الخمس إنما هو في المعراج.
وأما افراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك، لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة، لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا.
وقد خالف الحافظ الدمياطي في سيرته، فذكر أن المعراج كان في رمضان، والإسراء كان في ربيع الأول، والله أعلم.
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أي بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أي فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة، وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع في الأحاديث، أي فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم مناما بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة.
وعلى هذا لا يشكل قول شريك: فلما استيقظت، لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة، ففي رواية «وذلك قبل أن يوحى إليّ» وقد أنكر الخطابي عليه ذلك، وعدّه من جملة أوهامه الواقعة في حديث الإسراء والمعراج. ورد على الخطابي الحافظ ابن حجر في ذلك بما ينبغي الوقوف عليه.
وقيل كان المعراج يقظة، ولم يكن ليلا، ولم يكن من بيت المقدس، بل كان من مكة وكان نهارا، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار، فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل، فقالا: انطلق إلى ما سألت الله تعالى، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا بي إلى السموات سماء سماء» الحديث. ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما، فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة.
وقد جاء عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما في صدري، ثم أخذ بيدي فعرج إلى السماء» الحديث. وقد يدعى أن في رواية أبي ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة.
أي وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب: إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه، وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي، وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة، وأما مناما فلا بعد في تكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أي وهذا منشأ اختلاف الروايات، أدخل بعض الرواة ما وقع في المنام ما وقع في اليقظة كما تقدم نظيره في الإسراء، وتعدد روايات الإسراء لا يقتضي تعدده في اليقظة خلافا لمن زعمه. ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، أي فالحق أنه إسراء واحد بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة، وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان له إسراآت أربعة وعشرون مرة، وقيل ثلاثون مرة، منها مرة واحدة بروحه وجسده يقظة، والباقي بروحه، رؤيا رآها: أي ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهو محمل قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما فقدت جسده الشريف.
وفي صبيحة ليلة المعراج أي حين زالت الشمس من اليوم الذي يلي الليلة التي فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه أوقات الصلوات أي وكيفيتها أي لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين، فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر، لأنها أول صلاة ظهرت، أو لأنها فعلت عند قيام الظهيرة: أي شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس، وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.
ففي بعض الروايات «لما نودي بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل، ثم يصلي كذلك في العصر. ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات، يقرأ في الركعتين علانية، وركعة لا يقرأ فيها علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل» .
وفي كلام الإمام النووي قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة، ويوضحه قوله في الحديث «نزل جبريل فأمني» واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره، لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك.
وأجيب عنه من جانب أئمتنا، بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له في الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل، فلا يشكل على أئمتنا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها، ولا يكفي علمها بالمشاهدة.
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم اتبع القول بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك.
وبما تقرر يسقط الاستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل، لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل، لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك.
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل، لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وكان ذلك عند البيت: أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أي صخرته، واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس. قيل كان باجتهاد منه، وقيل كان بأمر من الله تعالى له، قيل بقرآن وقيل بغيره أي وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته: وقد قال أئمتنا: ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه، فيصلي بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود، أي كما صلى به جبريل الركعتين أوّل البعث كما تقدم.
وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم: لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها: أي من مكة: أي لم يستدبرها، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس:
أي تمحض استقباله واستدبر الكعبة. وظاهر إطلاقهم أن هذا: أي استقباله بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا، وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها.
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا، وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم.
وروى الطحاوي عند باب البيت مرتين، أي وذلك في المحل المنخفض الذي تسميه العامة المعجنة كما تقدم، وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة في المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة، بل تكون على يساره، لأن لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم.
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أي في بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها مع استقباله لبيت المقدس.
ولا ينافي ذلك ما في زبدة الأعمال: أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة، وكان يصلي إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة، يجعلها: أي الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة اقامته على غالبها.
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة، ما سيأتي عن البراء بن معرور «أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك، قال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» .
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين: مرة أوّل الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقي ليعلمه الوقت: أي ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، كما تقدم، أي لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتي.
قال: فقد جاء «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به في أول يوم الظهر حين زالت الشمس» كما تقدم، أي عقب زوالها، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، أي زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم: أي دخل وقت فطره وهو غروب الشمس. وصلى به العشاء حين غاب الشفق. وصلى به أي في غد ذلك وهو اليوم الثاني الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أي حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر.
أي فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذي هو رمضان فرض.
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتي، جاز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كان بعد فرض رمضان «وصلى به الظهر حين كان ظل الشيء مثله. وصلى به العصر حين كان ظلّ الشيء مثليه. وصلى به المغرب حين أفطر الصائم. وصلى به العشاء ثلث الليل الأول. وصلى به الفجر، أي في اليوم الثالث فأسفر، ثم التفت وقال: يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» اهـ.
وأما رواية صلى بي الظهر إلى أن قال وصلى بي الفجر، فلما كان الغد صلى بي الظهر المقتضي ذلك، لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله.
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون، أي ولا يخفى أن قوله «والوقت ما بين هذين الوقتين» محمول عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه على الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والفجر، وإلا فوقت العصر لا يخرج إلا بغروب الشمس، ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر، ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخري حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشيء مثليه، والعشاء بثلث الليل، والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث. والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات. وروي «أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر» وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته في وقته والصبح لم تتبين كيفيتها في وقتها فلم تجب. فلا يقال: هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجاب الإمام النووي بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، كأنه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة، فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهي غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها.
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات في اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته. قال أبو بكر بن العربي: ظاهر قوله «هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك» أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها أي فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر، فصلى ركعتين فصارت الصبح. وفدي إسحاق عند الظهر» أي على القول بأنه الذبيح، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزير فقيل له كم لبثت؟ قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب، قال أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر.
وغفر لداود عند المغرب أي الغروب فقام يصلي أربع ركعات فجهد أي تعب فجلس في الثالثة أي سلم منها فصارت المغرب ثلاثا، وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فصلاتها من خصائصه.
وفي شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه للإمام الرافعي رحمه الله تعالى: كانت الصبح صلاة آدم. والظهر صلاة داود، أي فقد اشترك داود وإسحاق في صلاة الظهر. والعصر صلاة سليمان أي فقد اشترك سليمان وعزير في صلاة العصر. والمغرب صلاة يعقوب، أي فقد اشترك يعقوب وداود في صلاة المغرب.
والعشاء صلاة يونس وأورد في ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم. والأصل أن ما ثبت في حق نبيّ ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية، فليست من خصائص هذه الأمة.
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى، أي وكانت أربعا: ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه؛ أي فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود في صلاة المغرب.
وفي كلام بعضهم: أوّل من صلى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر. وأوّل من صلى العصر يونس، أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزير ويونس في صلاة العصر. وأوّل من صلى المغرب عيسى. وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى، أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء.
وفي الخصائص الكبرى: خص صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من صلى العشاء، ولم يصلها نبي قبله، ومن لازمه أنه لم يصلها أحد من الأمم. وقد جاء التصريح به في بعض الروايات «إنكم فضلتم بها» أي العشاء «على سائر الأمم» وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل.
قال قيل: «فرضت الصلوات الخمس في المعراج ركعتين ركعتين» أي حتى المغرب «ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر» أي في غير يوم الجمعة «وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب، وأقرت صلاة السفر على ركعتين» أي حتى في المغرب.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين» أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء «فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة» أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة «زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر» أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة: أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل «وصلاة المغرب» أي تركت صلاة المغرب «فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار» أي كما في الحديث، فتعود عليه بركة الوترية «إن الله وتر يحب الوتر» والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار «وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء» أي في غير المغرب، هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو يفيد أن صلاة السفر استمرّت على ركعتين أي في غير المغرب، أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لا رخصة، ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ}[النساء:101] .
وفي كلام الحافظ ابن حجر: المراد بقول عائشة «فأقرت صلاة السفر» باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، أي لأنه لما استقرّ فرض الرباعية خفف منها أي في السفر لأنه استقرّ أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما، ثم نزلت آية القصر في ربيع الأوّل من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
وقيل فرضت أي الصلوات الخمس في المعراج أربعا، إلا المغرب ففرضت ثلاثا، وإلا الصبح ففرضت ركعتين، أي وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت الأربع في السفر، أي وهو المناسب لقوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ} [النساء:101] ومن ثم قال بعضهم: إن هذا هو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء.
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام.
وفيه أن هذا لا يأتي في الصبح والمغرب. وقال بعضهم: ويبعد هذا الحمل ما روي عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أي الصلوات الخمس التي فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين، فلما قدم المدينة أي وأقام شهرا أو عشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أي تامة للمسافر.
وعن يعلي بن أمية، قال «قلت لعمر بن الخطاب {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] وقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أي فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف.
وهذا قد يخالف ما في الإتقان «سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ} [النّساء:101] ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ} [النّساء:101] إلى قوله {عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء:102] فنزلت صلاة الخوف» فتبين بهذا الحديث أن قوله {إِنْ خِفْتُمْ} [النّساء:101] شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف لا في صلاة القصر. قال ابن جرير:
هذا تأويل في الآية حسن لو لم يكن في الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة.
قلت: ويكون من اعتراض الشرط على الشرط. وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل.
وقيل فرضت: أي الرباعية أربعا في الحضر وركعتين في السفر فعن عمر رضي الله تعالى عنه «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الغد ركعتان غير قصر» أي تامة «على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أي وفيه في صلاة السفر ما تقدم، وقوله في الخوف ركعة أي يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك في صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أوّل، ويحرس الصف الثاني، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه في الركعة الثانية وحرس الآخرون، فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة، فلا يقال إن في كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر، وفرض التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة.
فعن ابن مسعود «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان» أي من الملائكة «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، وقال له بعض الصحابة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال قولوا: اللهم صل على محمد» إلى آخره ولم أقف على الوقت الذي فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه، ولا على أن قولهم السلام على الله إلى آخره هل كان واجبا أو مندوبا.
قال بعضهم: والحكمة في جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصي تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ماحية لما يقع في اليوم والليلة من المعاصي أي بسبب تلك الحواس، وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» .
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع، ليوافق أجنحة الملائكة، كأنها جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى.
وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى؟ فقال نعم وتلا قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} * {وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17- 18] أراد بحين تمسون المغرب والعشاء؛ وبحين تصبحون الفجر، وبعشيا العصر، وبحين تظهرون الظهر.
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ} [الصّافات:143] قال القرطبي: أي من المصلين. وفي الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب