ذو الحجة 53 ق.هـ
كانون الثاني 572 م
دخول بني هاشم وبني المطلب شعب أبي طالب

بنو هاشم وبنو المطلب جميعا في الشِّعْب

دخل بنو هاشم وبنو المطلب شعبهم، مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حمية، فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه أجمعوا على أن لا يبايعوهم، ولا يدخلوا إليهم شيئاً من الرفق، وقطعوا عنهم الأسواق، ولم يتركوا طعامًا ولا إدامًا ولا بيعاً إلا بادروا إليه واشتروه دونهم، ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صلحاً أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة، وتمادوا على العمل بما فيها من ذلك ثلاث سنين.

التفكير في نقض الصحيفة

فاشتد البلاء على بني هاشم في شعبهم وعلى كل من معهم، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم قوم من قصُيَ ممن ولدتهم بنو هاشم ومن سواهم، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فأكلت ولحست ما في الصحيفة من ميثاق وعهد، وكان أبو طالب في طول مدتهم في الشعب يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرًّا أو غائلة، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أبو بني عمه فاضطجع
على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.

المكث في الشعب ثلاث سنين

فلم يزالوا في الشِّعْب على ذلك إلى تمام ثلاث سنين، ولم تترك الأرضة في الصحيفة اسماً لله عز وجل إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله ورسوله على ذلك، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتني، فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم برمته إلى
قريش.

تسليط الأرضة على الصحيفة

فتكلم أبو طالب، فقال: قد جرت أمور بيننا وبينكم نذكرها لكم فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين، لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني، أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله عليها دابة فلم تترك فيها اسماً إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغياً وعدواناً.
وقال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم، إن ربي قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً لله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان، قال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فو الله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني، وساق الخبر بمعنى
ما ذكرناه.

الخلاف حول أول من نقض الصحيفة

وقال ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما: وندم منهم قوم، فقالوا: هذا بغي منا على إخواننا وظلم لهم، فكان أول من مشى في نقض الصحيفة هشام بن عمرو بن الحارث العامري وهو كان كاتب الصحيفة، و أبو البختري بن هشام والمطعم بن عدي. إلى هنا انتهى خبر ابن لهيعة عن أبي الأسود يتيم عروة وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب. وذكر ابن إسحاق فيهم زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي وزمعة بن الأسود .
وذكر ابن إسحاق في أول هذا الخبر، قال: وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة وهي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها، خلَّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به، فشجه ووطئه وطئاً شديدًا.
وذكر أبو عبد الله محمد بن سعد هشام بن عمرو العامري المذكور، وقال: كان أوصل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعامًا، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إليه حين أصبح، فكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم، فانصرفوا عنه، ثم عاد الثانية فأدخل عليهم ليلاً حملاً أو حملين، فغالظته قريش وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب : دعوه، رجل وصل أهل رَحِمهَ،ُ أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا.

جزاء من كتب الصحيفة الظالمة

وعن ابن سعد: وكان الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر فشلت يده.