خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عُمان

فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه ومن والاه:
أما بعد، فهذا بحث أعددته للمؤتمر السابع عشر «نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة النبوية» لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بالمملكة الأردنية الهاشمية.
بعنوان «خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عُمان» وقد جعلته تحت محاور رئيسة ثلاثة وتمهيد وخاتمة، والمحاور الثلاثة هي: خطاباته صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، تساؤل وإجابة،  خطابه صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عُمان، وهو الموضوع الرئيس للبحث.

تمهيد

كان لهدنة صلح الحديبية أثر إيجابي على مسيرة الإسلام، فقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بموجبها تحييد قريش عن مناصرة اليهود في خيبر.
لذلك ما أن رجع من صلح الحديبية حتى توجه إلى خيبر باعتبارها معقل الكفر الحصين، نظراً إلى احتضانها عدداً كبيراً من اليهود سواء كانوا من سكانها الأصليين أم من الذين أخرجوا من المدينة.
ونظراً إلى خصوبة أرضها ووفرة مياهها وجودة ثمارها وكثرة محاصيلها الزراعية فقد كانت مرتاداً لكثير من القبائل العربية لا سيما قبائل غطفان والقبائل الأخرى المحيطة بها، حيث كانوا يمترون منها ميرتهم ويؤمونها لمؤونتهم.
فشكّلت بذلك مأرزاً للشرك والمشركين.
فمن هناك وجّه النبي صلى الله عليه وسلم عنايته لإفتتاحها وقلع جذور الشر والشرك والكفر منها.
لأنه عليه الصلاة والسلام نتيجة استقراء الأوضاع وهو الخبير بذلك، وبتوفيق الله وتسديده له عرف قوة الإسلام الصاعدة، فقريش حيّدت بالصلح، إذن لا بد من كسر شوكة اليهود الذين كانوا يدبرون المكائد للإسلام، ونبي الإسلام حيث كانوا يحرّضون القبائل العربية المشركة على مهاجمة المدينة مراراً وتكراراً.
فتوجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر بعد عودته من الحديبية، فمكّنه الله من فتحها، وهزم اليهود شر هزيمة فمنهم كانوا بين قتيل وأسير ومشرّد وضعيف، حتى صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على القيام بشؤون الأموال التي صارت فيئاً للمسلمين مقابل بقائهم في خيبر.
إذن رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الفرصة سانحة لمخاطبة الملوك والأمراء.

خطاباته صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء
تخلط مصادر السيرة النبوية في توقيت توجيه النبي صلى الله عليه وسلم خطاباته إلى الملوك والأمراء جاعلة ذلك في وقت واحد (1)، أي قبل فتح مكة.
وقد حدد أبو الحسن الندوي ذلك بأنه كان في آخر شهر ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة (2).
وفي رأيي أن ذلك كان في وقتين مختلفين، كما أرى أنه عليه الصلاة والسلام وجّه خطاباته أولاً إلى ملوك العجم(3).
وهم:
1. كسرى ملك الفرس.
2. هرقل ملك الروم.
3. المقوقس ملك مصر.
4. النجاشي ملك الحبشة.
وذلك بعد فتح خيبر للأسباب التي ذكرتها سابقاً ولأنه من غير الممكن أن
يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام أولئك الأباطرة والملوك مع وجود اليهود قوة وشوكة فإنهم كانوا سيحولون بين النبي وبينهم في المخاطبة، وربما اعترضوا الرسل حاملي الخطابات، فخيبر الأمس إسرائيل اليوم، فكما أن العرب اليوم لا يستطيعون التحرك لمصالحهم الحقيقية مع العالم فربما كان كذلك حال المسلمين أن لو بقيت خيبر بيهودها.

أما ملوك العرب وأمراؤهم فقد وجّه النبي إليهم خطاباته بعد فتح مكة وهم:
1. جيفر وعبد ابنا الجلندى ملكا عُمان.
2. المنذر بن ساوى حاكم البحرين.
3. الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم بعض ثغور الشام.
4. الحارث بن عبد كلال الحميري حاكم اليمن.

تساؤل وإجابة

بعد أن توصلت إلى اختلاف زمني توجيه الخطابات النبوية إلى ملوك العجم وإلى ملوك العرب حسب ما قدّمت.
هناك سؤال يدور في الذهن ويجول في الخاطر ويجري على اللسان، ألا وهو لماذا وجّه النبي خطاباته إلى ملوك العجم قبل فتح مكة، وإلى ملوك وأمراء العرب بعد الفتح؟.
في رأيي أن ذلك يعود إلى احترام القبائل العربية لقريش، وتقديسهم لمكة والكعبة، معتبرين قريش أهل حرم الله، وجيران البيت المعظم، فالعرب ما كانوا يتعدون قريش ولا كانوا يتجاوزونها حتى لا يختلفوا معها وحتى لا يخالفوا أمرها.
أما غير العرب فلم تكن لديهم تلك النظرة التقديرية للعرب ولا التقديسية للحرم، فهم كانوا يحتقرون العرب، إلى حد أنهم لا يقيمون لهم وزناً، أما الكعبة وأما الحرم فلا شأن لهم بهما.
فمن هنالك اختلف الوقتان في توجيه الخطابات النبوية، الأمر الذي يدل على حكمة وحنكة وعبقرية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وحي الله له وتوفيقه له، وتسديده إيّاه.
والدليل على أن مخاطبته عليه الصلاة والسلام كانت قبل فتح مكة ما يفهم من محاورة هرقل امبراطور الروم لأبي سفيان بن حرب.
فإن هرقل لما وصله الخطاب النبوي بحث عن شخص يستخبره عن النبي محمد، فوجدوا أبا سفيان في غزة في تجارة له، فأحضر إليه.
وأخذ هرقل في طرح الأسئلة على أبي سفيان عن النبي والنبوّة، فكان أبو سفيان يجيبه بكل صدق وأمانة، حتى لا يؤثر عنه كذب، كعادة العرب، فإنهم كانوا لا يستحلون الكذب، ولو أدّى صدق الواحد منهم إلى قتله.
ومن جملة ما سأل عنه هرقل «فهل يغدر؟» فأجابه أبو سفيان «لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها(4)».
وتلك المدة التي أشار إليها أبو سفيان هي هدنة صلح الحديبية.
أما كون توجيه الخطابات النبوية إلى الملوك والأمراء العرب بعد فتح مكة فيفهم من محاورة جيفر بن الجلندى ملك عُمان مع مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص حيث قال جيفر لعمرو: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟.
قال: تبعوه إما راغب في الدين أو مقهور بالسيف، قال جيفر: ومن معه؟ قال عمرو: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إيّاهم أنهم كانوا في ضلال مبين، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الخرجة وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك ولا تدخل
عليك الخيل والرجال(5).
فمن هذه المحاورة يتبين لنا وصول عمرو بن العاص إلى عُمان حاملاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عُمان كان بعد فتح مكة، حيث أن قريشاً كانوا قد أسلموا وأسلم معهم كثير من العرب، الأمر الذي لم يكن إلا بعد فتح مكة.
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عُمان
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص ومعه خطابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندى(6) بن المستكبر ملكي عُمان ونستعرض ذلك فيما يلي:

أولاً: الخطاب.

جاء في خطابه عليه الصلاة والسلام «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ} [يس: 70 ] وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تطأ ساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما»(7).

ثانياً: مضمون الخطاب.

يتضمن الخطاب عدداً من الخطوط العريضة التي ترسم العلاقة بين الإسلام ونبيه وبين أهل عُمان وعلى رأسهم الملكان جيفر وعبد ابنا الجلندى.
ويتمثل ذلك في الآتي:
1. ذكر اسمه محمد، وذكر اسم أبيه عبدالله مجرداً من ذكر النبوّة والرسالة، ولعله عليه الصلاة والسلام رأى أن هذا هو اللائق والمناسب في مخاطبة ملكي عُمان، في حين أنه خاطب الباقين عجماً وعرباً بذكر اسمه مقروناً بالرسالة، أنه رسول.
2. الدعوة إلى الإسلام، وذلك بقوله: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما.
3. وعدهما بإقرارهما على ملكهما إن هما أسلما بقوله: وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وهذا ترغيب منه لكي يعتنقا الإسلام، فإن البقاء في السلطة أمر محبّب، وأمر الملك شيء عظيم.
4. الوعيد والإنذار لهما إن هما أبيا قبول الإسلام، وذلك بزوال الملك عنهما بقوله: وإن أبيتما أن بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما.
التهديد بالحرب في حال إمتناعهما عن قبول الإسلام حيث قال: وخيلي تطأ ساحتكما، وتظهر نبوّتي على ملككما.
ولكنه لعل سائل يسأل: كيف يكون عرض الإسلام مقترناً بالتهديد بالحرب.
فالجواب: أن أهل عُمان وعلى رأسهم جيفر وعبد عرب، والعرب لا يقبل منهم إلا الدخول في الإسلام أو القتل، فقد اختارهم الله لحمل رسالة الإسلام بكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم منهم، والقرآن نزل بلغتهم.
وهذا شرف عظيم لأمّة العرب، ولكن مقابل ذلك هناك مسؤولية يقول الله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] فليس من القبول ولا من المعقول، أن يقدّم العربي بعض المال لكي يبقى على شركه، كما هو حال الأعاجم والجزية.
على أنه كانت نتيجة الخطاب النبوي إسراع جيفر وعبد إلى الدخول في الإسلام، فأسلما وأمرا قومهما بالدخول في الإسلام فأسلموا، وبعث جيفر بن الجلندى رسله إلى جميع أنحاء عُمان يدعونهم إلى الإسلام، فما ورد رسول جيفر إلى أحد إلا وأسلم وأجاب دعوته(8)، الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يثني على أهل عُمان وأشهر ما قاله فيهم: «لو أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك»(9) كما أثنى عليهم الخليفتان الراشدان، أبو بكر وعمر. وكانت عُمان آنذاك تمتد على مساحة واسعة من الأرض.
ثالثا: وثيقة الخطاب.
الوثيقة هي كل وعاء مادي أو غير مادي يحتوي على معلومات في شكل نص أو رسم أو رمز أو جداول أو غيرها(10).
وتعتبر وثيقة الخطاب النبوي الموجهة إلى ملكي عُمان أقدم وثيقة عُمانية أو في عُمان كوثيقة مكتوبة.
وهي من مقتنيات هاوي آثار لبناني(11)،وقد انتشرت في العقود الأخيرة من السنين صور منها.
على أن هناك من الباحثين من يشكّك في صحة جسم الوثيقة (12)، وقد تواصلنا مع ذلكم الشخص اللبناني عن طريق المشايخ في دار الإفتاء اللبنانية عام 2006 بقصد اقتنائها منه.
غير أنه طلب مبلغاً كبيراً، فقد طلب مبلغ ثمانية ملايين دولار أمريكي، فوجدناه مبلغا مبالغاً فيه، لذلك لم نتمكن من اقتنائها، لاسيما وإننا غير متأكدين من صحة جسم الوثيقة(13)، أما نص الخطاب النبوي فهو الذي اتفقت عليه المصادر.
وقد أورد العوتبي وصفاً للوثيقة التي أسماها صحيفة، بقوله:
-الكاتب أبي بن كعب.
-الإملاء من النبي عليه الصلاة والسلام.
-الصحيفة مطويّة.
-حجمها أقل من الشبر.
-مختومة بختم النبي صلى الله عليه وسلم المبارك.
-نقش الخاتم «لا إله الا الله محمد رسول الله».
والجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له خاتماً، عندما أراد مخاطبة ملوك العجم، فقد قيل له:
إن الملوك لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فصنع خاتماً من فضة، ونقش فيه العبارة الآنفة الذكر(14).
الخاتمة
عرفنا مما مرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم وجّه خطاباته إلى الملوك عجماً وعرباً على مرحلتين.
الأولى: كانت إلى ملوك العجم، وهي قبل فتح مكة.
الثانية: كانت إلى ملوك العرب وكانت بعد فتح مكة.
والسبب في ذلك الذي توصلت إليه هو أن العرب كانوا ينظرون إلى قريش بأنهم أهل حرم الله وجيران البيت المعظم، فكان العرب ينظرون إلى قريش نظرة تقديرية وإلى مكة نظرة تقديسية، فلذلك لم ير النبي عليه الصلاة والسلام مخاطبتهم قبل فتح مكة، ودينونة قريش بالإسلام، أما وقد فتحت مكة ودانت قريش بالإسلام فإن العرب أو غالبهم سيقبلون على اعتناق الإسلام وهو ما حصل، أما ملوك العجم فلم تكن لديهم تلك النظرة التقديرية لقريش، ولا النظرة التقديسية لمكة، بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، فقد كانوا يحتقرون العرب فلذلك خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، ولكن كان ذلك بعد فتح خيبر، نظراً إلى القوة التي اكتسبها الإسلام من تحييد قريش وكسر شوكة اليهود في خيبر أكبر
المراكز اليهودية، وبيّنت مصدر استنتاجي لما توصلت إليه في هذا الشأن.
أما خطابه إلى ملكي عُمان جيفر وعبد ابني الجلندى، فقد كانت في المرحلة الثانية، وهي التي أعقبت فتح مكة.
وخطابه إلى ملكي عُمان يحمل مضامين كثيرة، ذكرتها تحليلاً للخطاب وخطوطه العريضة.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن عُمان كانت المملكة العربية الوحيدة آنذاك، أو على الأقل كانت أكبر الممالك العربية إن صح إطلاق كلمة ممالك على بقية المناطق العربية بالمفهوم السياسي للدولة، أما عُمان فقد كانت دولة ملكية بالمفهوم السياسي المعاصر للدولة للأسباب التالية:

– امتدادها على مساحة واسعة من الأرض تمتد من سقطرى جنوباً وإلى حدود البحرين(15) شمالًا(16).

– امتلاك جيش برّي.

– وجود أسطول بحري، وقد أنشأه الملك الجلندى بن المستكبر والد جيفر وعبد.

– التراتيب الإدارية، وقد ذكر بعضاً منها عمرو بن العاص عندما ذهب لمقابلته، حيث بقي أياماً ينتظر الدخول على الملك جيفر، ثم وصف دخوله عليه بما يدّل على أبهة الملك.

– وهذه الأمور من مقومات الدولة الملكية بالمفهوم السياسي المعاصر أرضاً وشعباً
ونظام حكم.