37 ق.هـ
586 م
حَرْب الْفجار

سَببهَا: …


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ – هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ. وَكَانَ الّذِي هَاجَهَا أَنّ عُرْوَةَ الرّحّال بْنَ عُتْبَةَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، أَجَارَ لَطِيمَةً لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهُ الْبَرّاضُ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَتُجِيرُهَا عَلَى كِنَانَةَ؟ قَالَ نَعَمْ وَعَلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ بن الرّحّالُ، وَخَرَجَ الْبَرّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِتَيْمِنَ ذِي طَلّالٍ بِالْعَالِيَةِ غَفَلَ عُرْوَةُ فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرّاضُ فَقَتَلَهُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَلِذَلِكَ سُمّيَ الْفِجَارَ. وَقَالَ الْبَرّاضُ فِي ذَلِكَ:

وَدَاهِيَةٌ تُهِمّ النّاسَ قَبْلِي *** شَدَدْت لَهَا – بَنِي بَكْرٍ – ضُلُوعِي
هَدَمْت بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ *** وَأَرْضَعْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ
رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي *** فَخَرّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصّرِيعِ

وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ:

أَبْلِغْ – إنْ عَرَضْت – بَنِي كِلَابٍ *** وَعَامِرَ وَالْخُطُوبَ لَهَا مَوَالِي
وَبَلّغْ إنْ عَرَضْت بَنِي نُمَيْرٍ *** وَأَخْوَالَ الْقَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنّ الْوَافِدَ الرّحّالَ أَمْسَى *** مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالَا

وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْن هِشَام.
نشوب الْحَرْب بَين قُرَيْش وهوازن:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا، فَقَالَ إنّ الْبَرّاضَ قَدْ قَتَلَ عُرْوَةَ، وَهُمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بِعِكَاظِ فَارْتَحَلُوا، وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ ثُمّ بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، فَاقْتَتَلُوا حَتّى جَاءَ اللّيْلُ وَدَخَلُوا الْحَرَمَ، فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ، ثُمّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَيّامًا، وَالْقَوْمُ مُتَسَانِدُونَ عَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ وَعَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيس مِنْهُم.
حُضُور رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَغِير فِيهَا وعمره:
وَشَهِدَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعْضَ أَيّامِهِمْ أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “كُنْت أُنَبّلُ عَلَى أَعْمَامِي” أَي أرد عَلَيْهِم نَبْلَ عَدُوّهِمْ إذَا رموهم بهَا.
سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَرَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِنّمَا سُمّيَ يَوْمُ الْفِجَارِ بِمَا اسْتَحَلّ هَذَانِ الْحَيّانِ كِنَانَةُ وَقَيْسُ عَيْلَانَ فِيهِ الْمَحَارِم بَينهم.
قواد قُرَيْش وهوازن فِيهَا ونتيجتها:
وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ الظّفَرُ فِي أَوّلِ النّهَارِ لِقَيْسِ عَلَى كِنَانَةَ حَتّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِ النّهَارِ كَانَ الظّفَرُ لِكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدِيثُ الْفِجَارِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


قِصّةُ الْفِجَارِ:
وَالْفِجَارُ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى: الْمُفَاجَرَةِ كَالْقِتَالِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ قِتَالًا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَفَجَرُوا فِيهِ جَمِيعًا، فَسُمّيَ الْفِجَارَ وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ فِجَارَاتٌ أَرْبَعٌ ذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ، آخِرُهَا: فِجَارُ الْبِرَاضِ الْمَذْكُورُ فِي السّيرَةِ وَكَانَ لَكِنَانَةَ وَلِقَيْسِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَيّامٍ مَذْكُورَةٌ يَوْمُ شَمْطَةَ وَيَوْمُ الشّرْبِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا يَوْمًا، وَفِيهِ قَيّدَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ وَسُفْيَانُ وَأَبُو سُفْيَانَ أَبْنَاءُ أُمَيّةَ أَنْفُسَهُمْ كَيْ لَا يَفِرّوا، فَسُمّوا: الْعَنَابِسَ وَيَوْمُ الْحُرَيْرَةِ عِنْدَ نَخْلَةَ، وَيَوْمُ الشّرِبِ انْهَزَمَتْ قَيْسٌ إلّا بَنِي نَضْرٍ مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ ثَبَتُوا، وَإِنّمَا لَمْ يُقَاتِلْ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ أَعْمَامِهِ وَكَانَ يَنْبُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ بَلَغَ سِنّ الْقِتَالِ لِأَنّهَا كَانَتْ حَرْبَ فِجَارٍ وَكَانُوا أَيْضًا كُلّهُمْ كُفّارًا، وَلَمْ يَأْذَنْ اللهُ تَعَالَى لِمُؤْمِنِ أَنْ يُقَاتِلَ إلّا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَاللّطِيمَةُ عِيرٌ تَحْمِلُ الْبَزّ وَالْعِطْرَ.
وَقَوْلُهُ: بِذِي طَلّالٍ بِتَشْدِيدِ اللّامِ وَإِنّمَا خَفّفَهُ لَبِيدٌ فِي الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هَاهُنَا لِلضّرُورَةِ.
مَنْعُ تَنْوِينِ الْعَلَمِ:
وَقَوْلُ الْبَرّاضِ رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي. فَلَمْ يَصْرِفْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ فَتَرَكَ إجْرَاءَ الِاسْمِ لِلتّأْنِيثِ وَالتّعْرِيفِ فَإِنْ قُلْت: كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِذَاتِ طَلّالَ، أَيْ ذَاتِ هَذَا الِاسْمِ لِلْمُؤَنّثِ كَمَا قَالُوا: ذُو عَمْرٍو أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ وَلَوْ كَانَتْ أُنْثَى، لَقَالُوا: ذَاتُ هَذَا، فَالْجَوَابُ أَنّ قَوْلَهُ بِذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِطَرِيقِ أَوْ جَانِبٍ مُضَافٍ إلَى طَلّالَ اسْمِ الْبُقْعَةِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلّهِ أَنْ يَكُونَ طَلّالُ اسْمًا مُذّكّرًا عَلَمًا، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ يَجُوزُ تَرْكُ صَرْفِهِ فِي الشّعْرِ كَثِيرًا، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الشّوَاهِدِ عَلَيْهِ مَا يَدُلّك عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ وَنُؤَخّرُ الْقَوْلَ فِي كَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِيضَاحِهَا إلَى أَنْ تَأْتِيَ تِلْكَ الشّوَاهِدُ – إنْ شَاءَ اللهُ – وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْبَرّاضِ مُشَدّدًا، وَفِي شِعْرِ لَبِيَدٍ الّذِي بَعْدَ هَذَا مُخَفّفًا، وَقُلْنَا: إنّ لَبِيدًا خَفّفَهُ لِلضّرُورَةِ وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ شُدّدَ لِلضّرُورَةِ وَإِنّ الْأَصْلَ فِيهِ التّخْفِيفُ لِأَنّهُ فَعّالٌ مِنْ الطّلّ كَأَنّهُ مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الطّلّ، فَطَلَالُ بِالتّخْفِيفِ لَا مَعْنَى لَهُ وَأَيْضًا ; فَإِنّا وَجَدْنَاهُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ مُشَدّدًا، وَكَذَلِكَ تُقَيّدُ فِي كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا فِي أَصْلِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ.
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ الْبَرّاضِ:
وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثّانِي: وَأَلْحَقْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ. جَمْعُ: ضَرْعٍ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ أَلْحَقَتْ الْمَوَالِيَ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ اللّؤْمِ وَرَضَاعِ الضّرُوعِ وَأَظْهَرْت فَسَالَتَهُمْ وَهَتَكْت بُيُوتَ أَشْرَافِ بَنِي كِلَابٍ وَصُرَحَائِهِمْ وَقَوْلُ لَبِيَدٍ بَيْنَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالٍ. بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا، وَلَمْ يَصْرِفْهُ لِوَزْنِ الْفِعْلِ وَالتّعْرِيفِ لِأَنّهُ تَفْعِلُ أَوْ تَفْعَلُ مِنْ الْيُمْنِ أَوْ الْيَمِينِ.
آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ:
وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ أَنّ هَوَازِنَ وَكِنَانَةَ تَوَاعَدُوا لِلْعَامِ الْقَابِلِ بِعِكَاظِ فَجَاءُوا لِلْوَعْدِ وَكَانَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ رَئِيسَ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ فَضَنّ بِهِ حَرْبٌ وَأَشْفَقَ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَهُ فَخَرَجَ عُتْبَةُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَمْ يَشْعُرُوا إلّا وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ بَيْنَ الصّفّيْنِ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ مُضَرَ، عَلَامَ تُقَاتِلُونَ؟ فَقَالَتْ لَهُ هَوَازِنُ: مَا تَدْعُو إلَيْهِ؟ فَقَالَ الصّلْحُ عَلَى أَنْ نَدْفَعَ إلَيْكُمْ دِيَةَ قَتْلَاكُمْ وَنَعْفُوَ عَنْ دِمَائِنَا، قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ نَدْفَعُ إلَيْكُمْ رَهْنًا مِنّا، قَالُوا: وَمَنْ لَنَا بِهَذَا؟ قَالَ أَنَا. قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَرَضُوا وَرَضِيَتْ كِنَانَةُ وَدَفَعُوا إلَى هَوَازِنَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا: فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ [بْنِ خُوَيْلِدٍ] ، فَلَمّا رَأَتْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الرّهْنَ فِي أَيْدِيهمْ عَفَوْا عَنْ الدّمَاءِ وَأَطْلَقُوهُمْ وَانْقَضَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَكَانَ يُقَالُ لَمْ يَسُدْ مِنْ قُرَيْشٍ مُمْلِقٌ إلّا عُتْبَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فَإِنّهُمَا سَادَا بِغَيْرِ مَالٍ.