5 هـ
627 م
حديث الإفك

النادرة الثانية: وهي أفظعُ من الأولى وأجلبُ منها للمصائب، وهي رميُ عائشة الصدّيقة، زوج رسول الله بالإفك، …

فاتَّهموها بصفوان بن المعَطَّل السلمي، وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه الصلاة والسلام ليلة بالرحيل، وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رَحْلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جزْع ظَفَارِ قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها، فحبسها ابتغاؤه، فأقبل الرهط الذين كانوا يَرْحلُونَها، فاحتملوا هودجها ظانِّين أنها فيه، لأن النساء كنَّ إذ ذاك خفافاً لم يَغْشَهُنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم خِفَّةَ الهودج، وكانت عائشة جارية حديثة السن، فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها، وليس بالمنزل داعٍ ولا مُجيب، فغلبتها عيناها فنامتْ، وكان الذي يسيرُ وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوان بن المُعَطَّل، فأصبح عند منزلها فعرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحة، فقامت قيامة أهل الإفك، وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان، والذي تَوَلى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ.

ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهراً، والناس يفيضون في قول الإفك، وهي لا تشعر بشيء، وكانت تعرف في رسول الله رقة إذا مرضت، فلم يعطها نصيباً منها في هذا المرض، بل كان يمر على باب الحجرة لا يزيد على قوله: «كيف حالكم؟» مما جعلها في ريب عظيم. فلما نَقِهَتْ خرجت هي وأُم مِسطحبن أثاثة ــــ أحد أهل الإفك ــــ للتبرّز خارج البيوت، فعثرت أُم مسطح في مِرْطها فقالت: تعس مِسطح فقالت عائشة: بئس ما قلتِ أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت يا هَنْتاهُ أو لم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر، فازدادت مرضاً على مرضها. ولما جاءها عليه الصلاة والسلام كعادته، استأذنته أن تمرّض في بيت أبيها، فأذن لها، فسألتْ أمها عمّا يقول الناس، فقالت: يا بنيّة هوِّني عليك، فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقالت عائشة: سبحان الله أوَ قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وفي خلال ذلك كان عليه الصلاة والسلام يستشير كبارَ أهل بيته فيما يفعل، فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة: أهلك أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيراً. وقال علي بن أبي طالب: لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ. فدعا عليه الصلاة والسلام بَريرة جارية عائشة، وقال لها: هل رأيت من شيء يَرِيْبُكِ؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قطّ أغمِصه غير أنها جارية حديثة السِّنِّ، تنام عن عجينها، فتأتي الداجن فتأكله.

فقام عليه الصلاة والسلام من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقال: «مَنْ يَعْذرُني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي». فقال سعدبن معاذ: أنا يا رسول الله أَعذِرُك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعدُبن عبادة الخزرجي وقال: كذبتَ لعَمْرُ الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببتَ أنه يُقتل، فقام أُسيدبن حُضير، وقال لسعد بن عبادة: كذبتَ لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادلُ عن المنافقين. وكادت تكون فتنة بين الأوس والخزرج لولا أن رسول الله نزل من فوق المنبر وخَفَّضَهم حتى سكتوا. أما عائشة فبقيت ليلتين لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وبينما هي مع أبويها إذ دخل النبي عليه الصلاة والسلام فسلّم ثم جلس فقال: «أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب، تاب الله عليه»، فتقلص دمعُ عائشة، وقالت لأبويها: أجيبا رسول الله، فقالا: والله ما ندري ما نقول، فقالت: إني والله لقد علمتُ أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر ــــ والله يعلم أني منه بريئة ــــ لتُصَدِّقُنِّي فوالله لا أجدُ لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حيث قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

ثم تحولتْ واضطجعت على فراشها، ولم يزاولْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى نزلت عليه الآيات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة الصدّيقة: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ(12) لَّوْلاَ جَآءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ(20) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَآء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 11- 21] فسُرِّيَ عن رسول الله وهو يضحك، وبشر عائشة بالبراءة، فقالت لها أمها: قومي فاشكري رسول الله، فقالتْ: لا والله! لا أشكر إلاّ الله الذي برَّأني. وبعد ذلك أمر عليه الصلاة والسلام بأن يُجلد من صرَّح بالإفك ثمانين جلدة (وهي حدّ القاذف)، وكانوا ثلاثة: حَمْنَةُ بنت جحش، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت. وكان أبو بكر ينفق على مِسطح بن أثاثة لقرابته منه، فلما تكلم بالإفك قطع عنه النفقة، فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] فقال أبو بكر: بل نحب ذلك يا رسول الله، وأعاد النفقة على مِسطح. فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون بين الأمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقداً يتربصون الفتن، فمتى رأوا باباً لها وَلَجوه فنعوذ بالله منهم.